أفضل ما يُمكن أن يحدث للإنسان في حياته، أن يجد شخصاً يُذكّره دائماً بأحلامه وقوته، و يُذكّره بتفاصيل عن نفسه ينساها عادةً عند أقرب حفرة حزن ولا يتركه وحيداً فيها .
إنه لشيء في غاية الغرابة أن تواجه الأيام وأنت تبتسم ثم لفرط تحمّلك تسقط جاثياً على نفسك، أن تنظر خلفك فترى بأنهُ لا يوجد أحد بجوارك، تنظر إلى يمينك ويسارك أيضاً لا يوجد أحد، تعرف تماماً أنك إنسان لست قادر على تصديق شيء، تعلم تماماً أنه حتى شخصك المُفضل لم يكن أهلاً لقلبك، لن تجد أبداً شخصاً أهلاً لقلبك سواك، عندما تؤمن بكل هذا سترى الأمور بوضوحٍ تام، و عندما تسقط أفواجاً من الناس حولك رُغم كونهم قلّة ولكنهم يتساقطون بكثرة، عندها فقط ستُكمل المسير وحدك وأنت تُلقي الكلمات على من تحب، والنكات على من يجاوروك، لن تشعر بالنقص أبداً على الرغم من أنك تعلم تماماً كنور الشمس أنهم كاذبون، حتى من راهنت عليه سيخذلك في النهاية، لكنك ستمضي ولن تُصدق هذا ولن تُعر اهتماماً لذاك، أظن أنني شخصياً كنتُ هكذا، لربما أيضا سأرجع هكذا، لا أُريد أن أظل بالمنتصف أبداً، ربما هي أيام عجاف، أن تكون في المنتصف تماماً، تُصدق هذا وأنت تعلم أنه كاذب، وتنكر الآخر وأنت تعلم أنه صادق، تجاور شخصك المفضل بكل ما وددته من حب وأنت تعرف تماماً أنك لا تهمه، وتبتعد عن من أحبوك وأنت تعرف تماماً أنك كل همهم، هكذا ببساطة تسير الحياة عكس ما نُريد، تركض وتركض وتركض تُلقي الكذبات كإختبار فنحن نُصدقها كالأغبياء، نُصدقها ونحن نعرف أنها اختبار، كنا أغبياء جداً عندما رافقنا وتوددنا للأشخاص الخطأ، وإن ظللت أقول أنني استعدت ثقتي تجاه كل هذا العالم لن أكون دقيقاً تماماً، لأنني أنا أيضاً سأكون كاذباً حينها، لم أثق بأحد بعد، إن كان ببقائه أم بغيابه أم بحبه أو كرهه، رُبما راهنت على بعض الأشخاص لكنني دفعت ثمن هذا الرهان غالياً، فالرهان لعبة كاذبة، فقدت قدرتي على تصديق أي شيء، وكل من راهنت عليهم يوماً أفقدوني يقيني تماماً وزرعوا مكانه الشك والشوك، حتى بتُّ وحيداً في رحلة الحياة .
الأحياء يموتون أو يسافرون والموتى دائماً يجيئون، كنتُ أظنّ أنّ الحياة والموت عالمان مُنفصلان بينهما حدود واضحة، لكنني الآن أعرف أنهما مُتلاحمان، ينحتان بعضهما البعض، الواحد يسقي الآخر كأسه، أبي كان يعرف هذا جيداً، وشجرة الرمان تعرف هذا جيداً، أنا مثل شجرة الرمّان، لكن كل أغصاني قُطِعَت وكُسرت ودفنت مع جثث الموتى، أما قلبي فقد صار رمّانة يابسة تنبض بالموت، وتسقط مني كل لحظة في هاوية بلا قرار، لكن لا أحد يعرف، لا أحد ..
وحدها شجرة الرمّان تعرف .
وحدها شجرة الرمّان تعرف .
حلمت أنني أمضي حياتي وحدي، في قطارات تنقلني إلى مُدن بعيدة، لا أحمل إلا ذاكرتي وفرشاة أسناني، أختار المقعد المُجاور للنافذة في النهار، أنظر إلى ما لا يُرى إلا من مكاني، وفي الليل أبحث عن وجهي في انعكاس الزجاج المُعتم ولا أراه .
مشاعر .
هويتك الحقيقية ليست موجودة في عالمك الداخلي ولا في عالمك الخارجي، إنك أنت من يُوجد الاثنين كليهما، فالمصدر الذي يولّد الأفكار، والمشاعر، والذكريات، والإنفعالات، وكل التجارب الخاصة بنا، هو نفسه الذي يولّد العالم المُجرّد من أيّة خصوصية، العالم الذي يُلائم حالتك…
إن الصورة القصوى للتحفيز الداخلي تتحقق حين تصير العادة جزءاً من هويتك، فالقول بأنك تريد شيئًا ما، يختلف تماماً عن القول بأنك من نوعية الأشخاص التي تؤمن بهذا الشيء، وكلما صرت فخورًا بجانب معين من هويتك صرت مدفوعاً أكثر إلى الحفاظ على العادات المُرتبطة بهذهِ الهوية .
تسلل إليه شعور عميق بالخيبة، و أحس بوخزٍ في مكان خفي في قلبه، معاناته لا تزول، وعليه أن يتعايش معها .
أتساءل أحياناً : لماذا لا يُوجد شيء حقيقي مئة بالمئة في هذا الكون؟ لماذا كل شيء يحتمل فكرة نقيضه أو أن يكون معاكساً لما نظنه؟ هذا يبدو واضحاً لي الآن وأنا أتحسّس بقايا أساسات الجدران في ذاكرتي، وألمس على نحو جلّي مدى قدرة الإنسان على بناء السدود في رأسه ليحجب فكرةً ما - كالشمس مثلاً - عن الرؤية، هذا ما جعلني أفقد ثقتي بعقلي، الذي بدوره فقد ثقته بحواسي، التي بدأت تشك بحقيقة العالم الذي لا نرى منه إلا ما نُريد أن نرى، ولا نشعر منه إلا بما نريد أن نشعر، بحيث يكون لكل منّا عالمه الخاص المختلف، بكل شيء فيه، عن عالم الآخر .
أحس بتعب عميق يشلّ أطرافي وفكري ..
لا يُشبه تعب المرض ولا تعب من قام بمجهودٍ جسماني، أود لو أكون وحيداً في هذا العالم حتى لا أضطر للتواصل وتبرير تصرفاتي، إذ لا قدرة لي على التبرير أبداً، أود لو أنزوي في ركن قصي مُظلم لو أمكن، لأستمع إلى صمت الكون وأنين أعضائي، تؤلمني أعضائي، تتنكر لي، لا أستطيع التحكم فيها كما لو أنها كانت لغيري، أحياناً أتصبب عرقاً، وأحياناً أُخرى تُسرع دقات قلبي دون مبرر، حتى عيناي تدمعان دون سبب، و كل تفكير في الغد يُضاعف إرهاقي .
لا يُشبه تعب المرض ولا تعب من قام بمجهودٍ جسماني، أود لو أكون وحيداً في هذا العالم حتى لا أضطر للتواصل وتبرير تصرفاتي، إذ لا قدرة لي على التبرير أبداً، أود لو أنزوي في ركن قصي مُظلم لو أمكن، لأستمع إلى صمت الكون وأنين أعضائي، تؤلمني أعضائي، تتنكر لي، لا أستطيع التحكم فيها كما لو أنها كانت لغيري، أحياناً أتصبب عرقاً، وأحياناً أُخرى تُسرع دقات قلبي دون مبرر، حتى عيناي تدمعان دون سبب، و كل تفكير في الغد يُضاعف إرهاقي .
الأشخاص الخياليون شاردون دائماً، يسبحون في عالمهم الخاص، وقصصهم الخاصه، وأحلامهم التي لا يُشاركهم فيها أحد ! ستجدهم دائماً يهيمون برؤوسهم مستمعين لأغنية وهمية، أو يُحدقون في السماء لساعاتٍ دون انتباه، ولا يمانعون في البقاء وحدهم لأن هذا يُحرر أفكارهم أكثر .
المُزعج في اليأس أنهُ بديهي وموثّق وذو أسباب وجيهة، والآن أمعنوا النظر في الأمل، تأمَلُوا سَخاءَهُ في الغش، رُسُوخَهُ في التدجيل رفضه للأحداث، إنّه تيّه وخيال، وفي هذا التيّه تكمن الحياة، ومن هذا الخيال تتغذى .
بعض الأشخاص، على أيّ حال، يفضلون أن يعيشوا وحدهم، يجدون الرفقة في أكواب القهوة، في هواتفهم، في مُطالعة كتابٍ ما، أو في الصمت، ولا يحتاجون إلى أي شيء آخر في الحقيقة .
أُريد أن أُحدث غريباً لم تُنهكه معرفتي، شخصاً لم يُشاهد تاريخي يحدث أمام عينيه، لم نكبر معاً ولم يكن له نصيب في قصصي وصراعاتي، أُريد أن أُحدث شخصاً لا يعرف على ماذا انتصرت ولا ماذا خسرت، ولا يفق شيئاً عن خيباتي، شخصاً لم يرني أبكي، ولم يُجرب البهجة التي تثيرها ضحكتي العالية، ولم تروعه حدة غضبي، شخصاً لا يعرف شيئاً عن ملايين الوجوه التي رأيتها على مدى السنين، ولا عن مئات الأشخاص الذين صافحتهم، أو العشرات الذين أعرتهم عناقاً أو تربيتةً على الكتف, ولا يُعرف بالضرورة عن القلّة القليلة التي أدين لها بإطمئناني، أو الوجه الوحيد الذي يرتبك له قلبي، شخصاً ليس مدفوعاً إليّ بعاطفة عظيمة أو حنين عقيم، شخصاً لا يستفزه أي شيء في وجودي ولا يهمه كل هذا، أُريد شخصاً يُبادلني الحديث للمرة الأولى، وأخبره كل شيء للمرة الأولى، لينظر إليّ للمرة الأولى، ليصفق لي أو ليشتمني دفعةً واحدة، ليخبرني أن هذه الحياة الشاسعة التي أضعها في حقيبة صغيرة جداً تساوي الكثير، شخصاً لا يُخيفني امتعاضه ولا يهزني جحوده، ولا أُصاب بفزع تبادل التحية معه إذا التقيت به بعد ذلك عرضاً في شارع مزدحم، أُريد شخصاً واحداً ولمرةٍ واحدة يمكنه أن يعطيني رأياً صائباً وحيادياً في كل هذا الذي حدث، رأياً مُنزّهاً تماماً عن إجحاف الأعداء أو تحيّز الأصدقاء .
إن المقايضة مع الناس من أجل الحبّ أو الإحترام أمر غير جدير بالإحترام ولا قيمة له، إنه يُؤدّي إلى خراب مشروعك كله، إذا أردت إقناع شخص بأن يُحبك، فهذا يعني أنه لا يحبك، وإذا كنت في حاجة إلى استرضاء شخص حتى يحترمك، فهذا يعني أنه لن يحترمك أبداً، وإذا كنت مُضطرًا إلى إقناع شخص ما بأن يثق بك، فهذا يعني أنه لا يثق بك في حقيقة الأمر، إن الأشياء الأكثر قيمة وأهمية في الحياة، بالتأكيد تكون غير خاضعة لصفقات التبادل، وإذا حاولت المُقايضة عليها فإنك تدمّرها على الفور.