Telegram Web Link
النمط الجمالي الثاني لا يتعلق بالإتقان بقدر ما يتعلق بالتناغم الحركي Kinetic Symmetry والانسيابية والنعومة Flow & Smoothness. تلك الراحة الداخلية الناتجة عن رؤية أنماط متناغمة ومتماثلة.
حركة بندولين متعامدين بشكل تداخلي ومتناغم، الأضواء المعكوسة من بركة مائية تبدو وكأنها ألعاب نارية سماوية، الحركة المتدفقة لمجموعة من المفاتيح المعدنية بشكل متموج، الأمواج الدائرية المتماثلة الناتجة عن نقيق ضفدع في مستنقعه، الحركات الهندسية لأشكال نمطية متكررة، الانسيابية التناظرية لحركة ثعبان على نسيج مخملي، أو الطريقة التي يتحكم بها لاعب البلياردو الماهر هذا في توقع المسارات الحركية المتكررة.
نعومة وانسيابية الماء في دوامة، أو حين ينشق بشجرة مقطوعة تسقط على سطحه، أو سلاسة مسار البط الصغير في الشق الجليدي المتموج، أو تلك الطريقة الرائعة التي ينسكب بها الشراب الحلو فوق الحلوى الناعمة!
الحركة المتناظرة والمتكررة تشعرنا بالانتظام الداخلي للعالم. شيء نرغب داخليًا فيه بشكل أكبر مما نظن!
في 1979 اقترح عالم النفس الإدراكي الأمريكي (جيمس جيبسون) James J. Gibson نظرية الإدراك البصري البيئي Ecological Optics، في كتابه: The Ecological Approach to Visual Perception ثم مات في نفس السنة.
يرى جيبسون أن الحركات التي تشبه الواقع الطبيعي مثل انزلاق الماء، وحركة الرياح، وتموّج العسل، تكون أكثر جاذبية لإدراكها.
تطابق الحركة الانسيابية الإيقاع البيولوجي المنتظم للجسم مثل دقات القلب وتدفق الأوعية الدموية، لذا تنشط منطقة الراحة الحسية في الدماغ: Insula + Default Mode Network.
هذه المنطقة هي أيضًا ما ينشط في مخ الإنسان حين يشاهد مشهدًا جميلًا!
أكمل عالم البيولوجيا السلوكية (إدوارد ويلسون) الفكرة في 1984 حين اقترح نظرية البيوفيليا أو حب الطبيعة في كتابه: Biophilia والتي تفترض أن البشر يميلون فطريًا لأي شيء يحاكي الطبيعة، الحركات الدائرية والمتناظرة والمتماثلة مثل حركة الأمواج أو ارتعاش الأوراق مع الرياح.
ظهرت البحوث السيكولوجية التي تربط بين التماثل البصري Symmetry Preference والتفضيل الجمالي منذ أوائل القرن العشرين. نربط بشكل لا شعوري بين التماثل وبين السلامة والصحة والتوان والنظام. عدم وجود التماثل قد يعني عطبًا ما أصاب أحد الجوانب.
ودراسات جوديث لانجلويس Judith Langlois على الرضع في 1991 بيّنت أنهم يفضلون ويرتاحون للأشكال المتماثلة والوجوه المتناظرة قبل أن يتعلموا أي سياق ثقافي للجمال.
تثير الحركات المنتظمة المتناغمة السلسة إحساس الجمال بداخلنا لأنها تبدو (طبيعية)، تبدو كصورة من هندسة الطبيعة التي تجذبنا بشكل فطري، وتدغدغ أعصابنا المتوترة.
النمط الثالث يبدو أغرب، الجمال المتكشّف Emergence، رؤية الجمال وهو يتكشّف تدريجيًا يمنحنا لذة الترقب وانتظار الوصول للمكافأة، الفهم التدريجي للجمال بالنسبة لعقولنا هدف هام في حد ذاته ولا يتعلق الأمر فقط بالنتيجة النهائية.
مشاهدة خاتم ذهبي لا يثير في النفس ذات مقدار الجمال حين تشاهد رحلة تحويله من معادن قبيحة الشكل، التحفة الفنية اليدوية التي يصنعها ذلك الرجل الصيني تكشّف جمالها بالتدريج، تمامًا كذلك البازل الخشبي المعقد لنموذج بناء معماري صيني شديد التركيب والتداخل، أو مراقبة كيف قام الفنان بإضافة خطوط بسيطة غيرت من السياق الزمني للّوحة من نهارية إلى ليلية، أو أعطت الإيحاء بلوحة مضيئة بسبب خطوط أخرى أكثر بساطة!
هناك متعة خاصة في اكتشاف الجمال التدريجي! في التكشّف المتدرج البطيء من حالة الفوضى إلى الصورة الكاملة.
في أوائل القرن العشرين أسس ثلاثة علماء نفس ألمان ماكس فيرتهايمر (Max Wertheimer)، وولفغانغ كوهلر (Wolfgang Köhler)، وكورت كوفكا (Kurt Koffka) لنظرية الجشطالت.
وهي كلمة ألمانية تعني البنية الكلية.
كانوا يردون على أصحاب المدرسة السلوكية الذين كانوا يُجزِّئون عملية الإدراك العقلي إلى مجموعة من الروابط البسيطة.
الجشطالت كانت ترى أن العقل يحب الكل أكثر من الجزء. العقل لا يرى العالم كأجزاء متفرقة، ولكن يسعى دومًا إلى بناء شكل كامل، و(كل) موحد.
الجمال المتكشف يجعل عقلك لا ينفعل فقط بما يراه، ولكن بما يتوقع أن يراه، بالجزء الصغير والخط الدقيق الذي سيكمل الصورة والمنتج النهائي لصورته الجمالية.
وفي أوائل الألفية الجديدة نظّر فيلسوف العقل البريطاني آندي كلارك Andy Clark لفكرة صارت مهمة اليوم في الإدراك المعرفي وهي (المعالجة التنبؤية) Predictive Processing.
الدماغ لا ينتظر أن تصله المعلومات الحسية، ولكن يتنبأ بشكل نشط بالواقع، يبني نموذجًا داخليًا خاص به عن العالم. لا يرى الأشياء كما هي ولكن كما يتوقع أن تكون. وحين يحدث الشيء فعلًا كما يتوقعه يشعر بالراحة.
حين ترى شيئًا يتكون جماله بالتدريج، يستمد عقلك المتعة حينها لا من جمال المنتج النهائي ولكن من لعبة التوقع والتأكد التي يقوم بها مع كل خطوة يقوم بها الفنان أمامك.
النمط الرابع يتعلق أيضًا بكشف جمالي، ولكن مفاجئ! كشف الجمال الخفي Revealing Hidden Beauty. والذي لم يكن يظهر أنه موجود أبدًا من البداية!
حين تنكشف لنا طبقة داخلية من الجمال لم تكن واضحة، نشعر بدفقة من الدهشة المبهجة،
طبقات الخشب وأنماط شكله والذي ظهر فقط بعد تلميع الوعاء بالزيت، الشكل الخلاب لانتظام حبات الرمان أسفل القشرة التي كانت تبدو عادية، تجمد فقاعة صابون وظهور بلورات الثلج على جدرانها التي كانت تبدو شفافة، جمال هذه النبتة التي كانت مغلفة، أو روعة حجر (السبج) الكريم Obsidian Rock من الداخل.
عالم النفس الإدراكي (دانيال كانمان) Daniel Kahneman الحاصل على جائزة نوبل التذكارية في الاقتصاد لاحظ أن البشر لا يتذكرون تجربة ما كما هي كاملة، ولكن يتذكرون منها الذروة peak والنهاية end. وسمى هذه القاعدة: قاعدة الذروة والنهاية Peak-End Rule.
حين يتفاجأ الدماغ بشيء جميل ومثير لم يكن متوقعًا فهو يُكافَأ بشحنة من الدوبامين في دوائر المكافأة العصبية، والمفاجأة لو كانت إيجابية وجميلة تفعل كل من مركز المكافأة: النواة المتكئة Nucleus Accumbens ومركز العاطفة: الجهاز الحوفي Limbic System.
نحب الأشياء التي يظهر جمالها فجأة في النهاية بشكل غير متوقع لأنها لذة مفاجئة.
أما النمط الخامس فهو أغربها من وجهة نظري. ففي هذا النمط الخاص بالجاذبية المادية Textural Appeal نشعر بالانفعال الجماعي حين نرى شيئًا نحب أن نلمسه، لأنه ناعم، أو ليّن، أو يصدر صوتًا ساحرًا منتظمًا، أو له بنية بصرية قوية تعطي لعقلك الانطباع بأن له مقاومة معتدلة! ليس صلبًا ولا مائعًا! مثل الرمل، السلايم، تشقق الطين، هذه الرغبة تفعّل في الدماغ ما يعرف بـ الرغبة منخفضة المخاطر!
تسوية ذرات هذا التراب الناعم في مبخرة فاخرة، أو الطريقة التي يتم بها دهس كيان رملي متماسك ولكنه هش وكأنه عجين، أو سحق مجموعة من الشمع بمكبس هيدروليكي، أو الطريقة التي يتم بها كشط هذه الزبدة الفرنسية الخفيفة بمنتهى النعومة، أو طباعة الزخارف على الأطباق الصينية باستخدام مادة ذات قوام غريب جدًا يعطيك نشوة برغبة غير مفهومة لديك بلمس هذا الشيء!
حتى أصوات تهشم ورق الشجر اليابس، أو أصوات أجهزة شفرة مورس، أو الطريقة الناعمة التي يتم تصوير قص وقطع وتهذيب هذه المواد اليابسة، أو تلك المواد الخشبية التي يتم التلاعب بطبيعتها المادية الصلبة بطريقة غير معهودة في الطبيعة، وكأن المسمار يدخل إلى عجين!
الدماغ البشري مصمم بطريقة تجعله يحب التفاعل الجسدي مع المواد بحسب أمانها، طراوتها، لينها ومقاومتها المتوسطة! حين نرى شيئًا تنطبق عليه هذه الصفات تنشط دوائر المكافأة في أدمغتنا dopaminergic pathways لأن المادة أمامنا توحي بالأمان والمتعة الجسدية.
هنا ننفعل جماليًا مع الجاذبية المادية، لأن الجمال في أحد جوانبه هو مجرد رغبة في الاقتراب!
في الثمانينات، اشتركت (سوزان ليدرمان) Susan Lederman، و (روبن كلاتزكي) Roberta Klatzky في أبحاث تدمج الاستجابة العصبية للرؤية مع تلك الخاصة باللمس، ليبتكرا مفهوم: الإحساس اللمسي المتخيل Implied Haptics، حيث خلصت دراساتهما إلى أن القشرة الحسية الجسدية Somatosensory Cortex لا تنشط فقط باللمس الحقيقي، بل من الممكن أن تنشط بمشهد بصري يذكّر باللمس.
لدي زوجة حبيبة بالمناسبة هي وجميع أفراد عائلتها يشعرون بالقشعريرة لمجرد رؤية الخوخ. تنشط الأعصاب الناقلة لإحساس الجلد بمجرد رؤية الخوخ ليشعرهم أن هناك من يمرر ثمرة خوخ فوق جسدهم. أؤكد لكم أن زوجتي شعرت بالقشعريرة الآن وهي تقرأ لمجرد وصفي للإحساس بدون حتى الاحتياج لرؤيته.
ولأن ملاحظات الخوخ لا بد أنه قد تم رصدها في أماكن أخرى من العالم، فقد ابتكر الإنترنت في 2010 مصطلح ASMR أو الاستجابة الحسية الذاتية التلقائية Autonomous Sensory Meridian Response. هناك الكثيرون ممن يأكلون عيشهم من هذا الـ(أسمر) بالمناسبة! فكر في كم القنوات على يوتيوب تيكتوك وإنستجرام والتي فقط تضع فيديوهات لصوت تمشيط الشعر أو طي الورق، أو منظر لمس السلايم أو تقطيع الصابون.
بدأت الأبحاث العلمية الجادة في الـ ASMR منذ 2012 توضح أنها ليست ظاهرة يتحدث الناس عنها على الإنترنت بل لها أسس فسيولوجية وعصبية قابلة للقياس. ويبحثون في إمكانية استخدامها لتحسين الصحة النفسية!
تخطيط كهربية الدماغ EEG أظهرت أن مشاهدة مقاطع الـ ASMR تزيد من ذبذبات ألفا وثيتا، وتقلل من ذبذبات بيتا. المرتبطة بالتوتر.
التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI يكشف عن تنشيط مناطق عصبية مرتبطة بالمكافأة والعاطفة مثل النواة المتكئة والجزيرة والقشرة الجبهية المتوسطة أثناء مشاهدة مقاطع ASMR.
بل حتى ضربات القلب تنخفض، ويزيد التوصيل الكهربي للجلد وهي من العلامات الفسيولوجية على الاسترخاء العميق.
نحصل على لذة جسدية وهمية حين يحاكي دماغنا التجربة لمشاهدة مادة تشعر بها قبل أن تراها!
2025/07/06 18:20:56
Back to Top
HTML Embed Code: