Telegram Web Link
أما النمط الخامس فهو أغربها من وجهة نظري. ففي هذا النمط الخاص بالجاذبية المادية Textural Appeal نشعر بالانفعال الجماعي حين نرى شيئًا نحب أن نلمسه، لأنه ناعم، أو ليّن، أو يصدر صوتًا ساحرًا منتظمًا، أو له بنية بصرية قوية تعطي لعقلك الانطباع بأن له مقاومة معتدلة! ليس صلبًا ولا مائعًا! مثل الرمل، السلايم، تشقق الطين، هذه الرغبة تفعّل في الدماغ ما يعرف بـ الرغبة منخفضة المخاطر!
تسوية ذرات هذا التراب الناعم في مبخرة فاخرة، أو الطريقة التي يتم بها دهس كيان رملي متماسك ولكنه هش وكأنه عجين، أو سحق مجموعة من الشمع بمكبس هيدروليكي، أو الطريقة التي يتم بها كشط هذه الزبدة الفرنسية الخفيفة بمنتهى النعومة، أو طباعة الزخارف على الأطباق الصينية باستخدام مادة ذات قوام غريب جدًا يعطيك نشوة برغبة غير مفهومة لديك بلمس هذا الشيء!
حتى أصوات تهشم ورق الشجر اليابس، أو أصوات أجهزة شفرة مورس، أو الطريقة الناعمة التي يتم تصوير قص وقطع وتهذيب هذه المواد اليابسة، أو تلك المواد الخشبية التي يتم التلاعب بطبيعتها المادية الصلبة بطريقة غير معهودة في الطبيعة، وكأن المسمار يدخل إلى عجين!
الدماغ البشري مصمم بطريقة تجعله يحب التفاعل الجسدي مع المواد بحسب أمانها، طراوتها، لينها ومقاومتها المتوسطة! حين نرى شيئًا تنطبق عليه هذه الصفات تنشط دوائر المكافأة في أدمغتنا dopaminergic pathways لأن المادة أمامنا توحي بالأمان والمتعة الجسدية.
هنا ننفعل جماليًا مع الجاذبية المادية، لأن الجمال في أحد جوانبه هو مجرد رغبة في الاقتراب!
في الثمانينات، اشتركت (سوزان ليدرمان) Susan Lederman، و (روبن كلاتزكي) Roberta Klatzky في أبحاث تدمج الاستجابة العصبية للرؤية مع تلك الخاصة باللمس، ليبتكرا مفهوم: الإحساس اللمسي المتخيل Implied Haptics، حيث خلصت دراساتهما إلى أن القشرة الحسية الجسدية Somatosensory Cortex لا تنشط فقط باللمس الحقيقي، بل من الممكن أن تنشط بمشهد بصري يذكّر باللمس.
لدي زوجة حبيبة بالمناسبة هي وجميع أفراد عائلتها يشعرون بالقشعريرة لمجرد رؤية الخوخ. تنشط الأعصاب الناقلة لإحساس الجلد بمجرد رؤية الخوخ ليشعرهم أن هناك من يمرر ثمرة خوخ فوق جسدهم. أؤكد لكم أن زوجتي شعرت بالقشعريرة الآن وهي تقرأ لمجرد وصفي للإحساس بدون حتى الاحتياج لرؤيته.
ولأن ملاحظات الخوخ لا بد أنه قد تم رصدها في أماكن أخرى من العالم، فقد ابتكر الإنترنت في 2010 مصطلح ASMR أو الاستجابة الحسية الذاتية التلقائية Autonomous Sensory Meridian Response. هناك الكثيرون ممن يأكلون عيشهم من هذا الـ(أسمر) بالمناسبة! فكر في كم القنوات على يوتيوب تيكتوك وإنستجرام والتي فقط تضع فيديوهات لصوت تمشيط الشعر أو طي الورق، أو منظر لمس السلايم أو تقطيع الصابون.
بدأت الأبحاث العلمية الجادة في الـ ASMR منذ 2012 توضح أنها ليست ظاهرة يتحدث الناس عنها على الإنترنت بل لها أسس فسيولوجية وعصبية قابلة للقياس. ويبحثون في إمكانية استخدامها لتحسين الصحة النفسية!
تخطيط كهربية الدماغ EEG أظهرت أن مشاهدة مقاطع الـ ASMR تزيد من ذبذبات ألفا وثيتا، وتقلل من ذبذبات بيتا. المرتبطة بالتوتر.
التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI يكشف عن تنشيط مناطق عصبية مرتبطة بالمكافأة والعاطفة مثل النواة المتكئة والجزيرة والقشرة الجبهية المتوسطة أثناء مشاهدة مقاطع ASMR.
بل حتى ضربات القلب تنخفض، ويزيد التوصيل الكهربي للجلد وهي من العلامات الفسيولوجية على الاسترخاء العميق.
نحصل على لذة جسدية وهمية حين يحاكي دماغنا التجربة لمشاهدة مادة تشعر بها قبل أن تراها!
النمط السادس هو نمط جمالي شهير جدًا، وهو الترتيب والتنظيم Order & Predictability، والشعور بالاكتمال والختام Closure!
العقل البشري يحب الترتيب والنمط الواضح الذي يقلل الجهد الإدراكي ويوهمنا بالسيطرة والفهم الكامل.
السلاسة التي تبدو في عملية الحصاد الآلي بكل هذا النظام المحكم، ملء كبسولات الدواء بالمادة العلاجية بطريقة يدوية تشبه الميكانيكا، ضبط حدود الضوء تمامًا على أبعاد اللوحة في المتحف، عملية جمع فعالة لبذور عباد الشمس وتعبئته بكثافة منظمة، أو تنظيم بديع لكابلات الكهرباء الكثيفة.
رؤية شيء يُختَم بسلاسة تشعرنا بالراحة النفسية وإنهاء التوتر، وكأننا تخلصنا من دائرة ذهنية كانت معلّقة!
مثل ذلك الارتياح الداخلي حين ترى اكتمال هذا البازل المُلوّن، أو انغلاق سقف سيارة مثقل بالثلوج بهذه الانسيابية، أو الطريقة التي ينغلق بها هذا الأرماديللو على نفسه، أو تلك العلبة الكرتونية للملابس حين يتم طيها وغلقها بطريقة نهائية، أو وصول الكرة بالظبط لمكان ضربة البداية في منتصف الملعب، أو نجاح السائق في الانزلاق بشاحنته العملاقة في ذلك المكان الضيق تمامًا.
كما تحدث أصحابنا الألمان الثلاثة عن الجشطالت، العقل البشري الذي يحب (الكل) أكثر من (الجزء)، ويكمل النقص من مخيلته وتوقعاته، فحين نحصل على نمط مغلق كنا نسعى له نشعر بالراحة الإدراكية بعد التوتر الناجم عن النقص.
هذا التوتر الإدراكي الناتج عن الأشياء غير المكتملة لاحظته عالمة النفس السوفييتية (بلوما زيجارنيك) Bluma Zeigarnik في 1927 أثناء تناول طعامها في مطعم في فيينا، حيث لاحظت أن النادل يتذكر بدقة الطلبات الناقصة الجارية التي لم تنتهِ وينسى بسهولة الطلبات المنتهية والمدفوعة.
أثار ذلك فضول زيجارنيك، وفي ذات العام أجرت سلسلة من التجارب في معهد برلين لعلم النفس، حيث المشاركين مهامًا بسيطة مثل حل الألغاز وتوقف بعضهم عن العمل فجأة قبل إنهاء المهام. وتسألهم بعد ذلك عما يتذكرونه.
وجدت زيجارنيك أن المشاركين كانوا بتذكرون المهام غير المكتملة أكثر بمعدل 90% مقارنة بالمكتملة.
عُرِفَ هذا الميل التلقائي للعقل بتأثير زيجارنيك Zeigarnik Effect.
المهمة غير المنتهية تحدث نوعًا من التوتر المعرفي Cognitive tension، يبقى العقل منشغلًا بدون وعي لأنه يسعى لإكمال الدائرة المفتوحة. يلعب صناع الدراما كثيرًا على هذه السمة البشرية حين ينهون الحلقة بمشهد مُعلّق Cliffhanger يحفز على متابعة الحلقة التالية.
وفي 1988 طوّر عالم النفس التربوي الأسترالي (جون سويلر) John Sweller نظرية لتحسين التصميم التعليمي، سماها بنظرية العبء المعرفي Cognitive Load Theory.
تقوم النظرية على فكرة محدودية السعة الإدراكية لنا (الذاكرة العاملة)، بالتالي كلما زاد التعقيد، زاد الضغط. كلما زاد الفوضى وما هو غير متوقع، زاد شعور العقل بالتعب.
المشهد المنظم يبدو لعقولنا أجمل من الفوضى.
وصلت ذروة اكتمال كل هذه الأبحاث النفسية في 2004 حين نشر (نوربرت شفارتز) Norbert Schwarz، و(رولف ريبر) Rolf Reber دراستهما عن فكرة السلاسة المعرفية: Processing Fluency and Aesthetic Pleasure.
في بحثهما قاما بقياس تفضيل الناس للجمل القصيرة الواضحة، التصاميم المرتبة وسهلة التفسير، أسماء المنتجات سهلة النطق.
عندما ترى فيديو لترتيب ألوان، أو تنسيق أدوات، أو جمع بذور، فإن دماغك لا يجهد نفسه لفهم ما يرى، السلاسة الإدراكية الناتجة عن التنظيم يولد انفعالًا مريحًا ولذة هادئة وتشعر أن عقلك مرتاح أخيرًا!
حين يكتمل المشهد وتُغلَق المهمة ينخفض التوتر ونشعر بالانفعال الجمالي في ذروته.
النمط الجمالي السابع: ترويض الفوضى Taming Chaos، والجمال الترميمي Restorative Beauty.
2025/07/08 22:10:17
Back to Top
HTML Embed Code: