Telegram Web Link
مسائل رمضانية (7)
تذوّق الطعام

كان المشهور ونحن صغار أن حواسّ الإنسان خمس، البصر والسمع والشم واللمس والتذوق. ثم أضاف لها العلماء حواسَّ أخرى غيرَها (على خلاف بينهم في تحديد الفاصل الدقيق بين الحاسّة والاستجابة) كحواسّ الحرارة والضغط والتوازن والحركة والتسارع والاهتزاز، بل عَدّوا الجوع والعطش (اللذين أحس بهما وأنا أكتب هذه الكلمات) من الحواس البشرية.

ما يهمنا الآن هو حاسة التذوق، وهي القدرة على تمييز الطعوم المختلفة، من حلو ومالح ومُرّ وحامض، وأداتُها اللسان الذي تنتشر عليه حلمات التذوق التي تقوم بالمهمة كلها بمساعدة الدماغ.

إذن فإن التذوق عملية مستقلة عن "الأكل"، فاللسان قادر على تذوق أي مادة دون أن تعبر البلعوم إلى الجوف، وبهذا الاعتبار أباحه الفقهاء (في حالة الضرورة، كالطبخ والشراء، وكرهوه في غيرها) بشرط أن يتمضمض المرء بعده حتى يضمن عدم تسرب شيء من المادة التي ذاقها إلى جوفه.

هذا هو رأي جمهور أهل العلم، ودليلهم حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري في الصحيح (معلّقاً) وصحّح إسنادَه النووي في "المجموع": "لا بأس أن يتطعّم القِدْرَ". قال الحافظ في "الفتح": أي طعام القدر. وقال محمد المختار الشنقيطي في شرح الحديث: "لا بأس أن تذوق المرأة الطعام لتعرف: هل هو مالح أو غير مالح وهل ملوحته مناسبة؟ لأن حَدَّ التذوق الفمُ ولا يصل إلى الجوف". وقال ابن تيمية في الفتاوى: "ذوق الطعام يُكرَه لغير حاجة، لكن لا يفطر، وأما للحاجة فهو كالمضمضة".

الخلاصة: كره أكثر العلماء تذوّقَ الطعام لغير حاجة، لا لأن التذوق يفسد صيام الصائم، بل لأنه ربما وصل شيء منه إلى جوفه من غير أن يشعر به. فإذا احتاط ولم يتذوق إلا عند الحاجة وحرص على المضمضة بعده فصيامُه صحيحٌ إن شاء الله.
مسائل رمضانية (8)
الغرغرة والسواك ومعجون الأسنان

السواك (رَطباً ويابساً) جائز في كل وقت؛ قال ابن القيم في "زاد المعاد": "ويُستَحبّ للمفطر والصائم في كل وقت، لعموم الأحاديث فيه ولحاجة الصائم إليه، ولأنه مَرضاةٌ للرب، ومرضاتُه مطلوبة في الصوم أشدَّ من طلبها في الفطر، ولأنه مَطهَرة للفم، والطهور للصائم من أفضل أعماله". وفي قوله "لحاجة الصائم إليه" لفتة جميلة من ابن القيم تدلّ على الذوق الرفيع.

ومثل السواك الفرشاة ومعجون الأسنان والغرغرة بالسوائل المطهِّرة، كلها مباحة للصائم بشرط الحذر من ابتلاع أي من آثارها، فلو تسرب شيء ضئيل من الطعم عبر الحلق فهو مَعفوٌّ عنه قياساً على ما يتسرب من مادة السواك المنحلّة باللعاب؛ قال ابن باز (في مجموع الفتاوى): "تنظيف الأسنان بالمعجون لا يفطر به الصائم، كالسواك، وعليه التحرز من ذهاب شيء منه إلى جوفه، فإن غلبه شيء من ذلك بدون قصد فلا قضاء عليه".

ومثله علاج الأسنان في رمضان: قلعها وحفرها وحشوها ومداواتها، وهو قول أكثر العلماء، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي (في دورته العاشرة المنعقدة بجدة سنة 1997)؛ جاء في قراره: "الأمور التالية ليست من المفطرات: حفر السن، وقلع الضرس، وتنظيف الأسنان، والسواك وفرشاة الأسنان، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، كل ذلك إذا اجتنب الصائم ابتلاع ما يصل منه إلى الحلق".

الخلاصة: الفم ليس جزءاً من "الجوف" المفطر بالاصطلاح الفقهي، فلا يفطر الصائم بما يدخل فمه بل بما "يعبر" حلقه إلى جوفه (على الصحيح، وهو قول الجمهور، خلافاً لمن ذهب إلى أن مجرد وصول الطعام أو الطعم إلى الحلق مفطر، وهو خلافٌ قديم ليس هنا محل تفصيله). ولكنّ الأولى بلا ريب أن يؤجل الصائم علاج أسنانه إلى المساء لو استطاع، وأن يتجنب الغرغرة والبخاخ الموضعي خشية تسرب مادته إلى الجوف.
الاتّباع الأعمى والاتّباع المُبصر

فكّرت بعد انتهاء صلاة التراويح: الذين توجهوا هذه الليلة إلى الجوامع وصلّوا وراء الأئمة في طول العالم الإسلامي وعرضه لا يقلّون عن نصف مليار إنسان، وكذلك يفعلون في كل ليلة في هذا الشهر الفضيل. نصف مليار أو مليار، أين أثرهم في الدنيا التي نعيش فيها، وماذا قدموا للإنسانية التي بُعث رسولهم إليها برسالة الهدى والاستخلاف؟

ثم فكرت: إن المسلمين لا يختلفون عن أصحاب الديانات الأخرى، ففيهم مَن يتّبع دينه اتباعاً خالياً من التفكير، هو أقرب إلى أن يكون اتّباعَ عادة، فهو مسلم لأن أباه مسلم وأمّه مسلمة وأسرته مسلمة ومجتمعه مسلم، وهو ما نسميه "اتباع العوام".

هذا هو الذي سمّاه الإمام محمد رشيد رضا "المسلم الجغرافي"، وهو ناجٍ عند الله من الناحية القانونية، لكنه جزء من "الغُثاء" الذي نعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، وهو وإنْ نجا بنفسه إلا أنه لا خيرَ فيه للأمة ولا يستحق حمل رسالة السماء.

النوع الثاني هو من اتّبعَ دينه على بصيرة، اتباعَ عقل وفهم ووعي كامل بالرسالة، وهذا هو النوع الأصلي الذي يريده منا الله أن نكونه: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}. ولا ريب أن الصحابة الذين غيّروا الدنيا كانوا من هذا النوع، ما ورثوا الإسلام عن آبائهم ولا تديَّنوا تديُّنَ العوام، فمِن أي النوعين تحبون أن تكونوا أيها القراء الكرام؟
مسائل رمضانية (9)
القبلة والمعانقة والمباشرة

لمّا صام أولادي صغاراً كنت أشفق عليهم فأشاغلهم وأبعدهم عن المطبخ في الساعات الأخيرة من اليوم التي يُعَدّ فيها الطعام ويشتد فيها الجوع، لأن معاناة الصغير الجائع تزداد عندما يشاهد الطعام اللذيذ ويشم روائحه الشهية، أما الكبار فإنهم أصبَرُ عن الطعام الذي يُعِدّونه وأقدر على الاحتمال.

وفي المتزوجين صغار وكبار، وليس صبر الأوّلين عن الأمر الذي يفسد الصيام (من غير الشراب والطعام) كصبر الآخرين، لذلك قدم النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الفريق وصيةً غيرَ التي قدمها لذاك الفريق. روى أبو هريرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه. ثم قال الراوي (وهنا الشاهد): فإذا الذي رخّصَ له شيخ والذي نهاه شاب.

من هذا الحديث ذهب العلماء إلى أن القبلة والملامسة مكروهة للشبان والشابات ولا بأس بها للكهول والشيوخ، ليس لأنها محرَّمة في ذاتها، بل هي حلال لا شك فيه، وإنما خوفاً من تبعاتها، خشيةَ أن تجرّ المعانقةُ والقبلة إلى ما بعدها، فتزداد الرغبة ويصبح الزوجان مثل سيارة اندفعت في منحدر بلا كوابح، يُخشَى أن يكون مصيرها الاصطدام!

الخلاصة: لا يَفسد صيام الأزواج إلا بالعملية الزوجية الكاملة التي يكون منها الولد (وهي المخالفة الوحيدة التي توجب الكفارة من كل مفسدات الصيام) أما التقبيل والمعانقة والمباشرة (الملامسة بأي شكل تكون) فلا تفسد الصوم، إلا أنها تزيد رغبة الزوجين بالتقارب. والزوج الشاب وزوجته الشابة أكثرُ رغبةً وأقل قدرةً على المقاومة من الكهول، لذلك كره الفقهاء لهما هذا كله، ولو فعلاه ولم يجاوزاه فصيامُهما صحيح. في حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه" (أي أكثركم سيطرة على نفسه وغريزته).

وأنا أعلم أنّ مَن يفقد السيطرة على نفسه ويُفسد صومه قد لا يزيد عن واحد من كل مئة أو مئات من الشباب، ولكن لماذا يعذب المرء نفسَه في غير طائل؟ نصيحتي لأبنائي وبناتي من الشبّان والشوابّ المتزوجين الصائمين: اتركوا ما يرغّب بعضَكم ببعض كما تصرفون صغيركم عن الطعام الشهي شفقةً عليه. ولتكن المبادرة من الزوجة الشابة مساعَدةً لنفسها ولزوجها الذي تحب: غطي القِدْر -يا ابنتي- واحجبي عن الصائم روائحَ الطبخ الشهية، ثم إذا أذن المؤذن وأفطر الصائمون فلكل مقام مقال.
من ذكريات الأمس المجيد: إضراب دمشق

روى الأخ الصديق أحمد فؤاد شميس قصة سمعها من أبيه رحمه الله، قال: عندما قرر تجار دمشق إعلان الإضراب العام ضد فرنسا عام 1936 (الذي استمر ستين يوماً وسُمّي في التاريخ "الإضراب الستيني") خاف بعض التجار أن تُنهَب محلاتهم، فعلم بذلك شخصٌ اسمه "أبو أحمد الزيبق"، وهو شاب مفتول العضلات مسؤول عن اللصوص! فأخذته الحميّة، واستأذن من خطيب الجامع الأموي وقتها ليتكلم بعد خطبة الجمعة، فأذن له، فوقف وقال: يا أهل الشام، أنا فلان الفلاني، أتعهّد لكم بشرفي وبشواربي أني سأحرس لكم وجماعتي محلاتكم من أي سرقة، فأضربوا ولا تخافوا. وفعلاً نُفِّذَ الإضراب ونَفّذَ هو وعده، فلم يغادر الأسواق حارساً لها حتى انتهى الاضراب.

ذكّرتني هذه القصة بمقالة كتبها جدي علي الطنطاوي في تلك الأيام، وكان وقتَها رئيس اللجنة العليا لطلاب سوريا التابعة للكتلة الوطنية، وهي التي تنظم الإضرابات وتشرف عليها. قال في مقالة "حوادث دمشق" التي نشرها سنة 1936 (قلت: وهي منشورة في كتابه "هتاف المجد"):

أحلفُ لو أن ما جرى في دمشق في هذه الأيام جرى في فرنسا أو ألمانيا أو إنكلترا لكُتبت فيه عشرات الكتب والروايات ومئات القصائد والمقالات، ولخُلّدت حوادثه وصارت حديثاً يَسري في الأجيال الآتية فيبثّ فيها العزّة والكرامة وينفخ فيها روح البطولة والتضحية.

هذي دمشق لبثت خمسين يوماً مُضربة، مغلقة حوانيتها مقفرة أسواقها، كأنها موسكو حين دخلها نابليون، فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب الفقير على الخبز وطوى ليله جائعاً من لم يجد الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بالشكوى ولم يفكّر رجل أو امرأة أو طفل بالتذمّر والضجر، بل كانوا جميعاً، من العالِم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير ومن الرجل إلى المرأة ومن الشيوخ إلى الأطفال، كانوا جميعاً راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية اعتزازاً وفخراً.

ولم يُسمَع أن دُكّاناً من هذه الدكاكين قد مُسّت أو تعدّى عليها أحد، ولم يُسمَع أن لصاً قد مدّ يده إلى مال، حتى اللصوص شملهم الإضراب فانقطعوا عن صناعتهم، برغم أن أغنى الأسواق وأعظمها في دمشق بقيَت أياماً وليالي مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير! فهل قرأ أحد أو علم أحد، أن بلداً في أوربّا أو أميركا أو المرّيخ، يسير فيه اللصوص جياعاً ولا يمدّون أيديهم إلى المال المعروض حُرْمةً للواجب الوطني ومراقبة لله واحتساباً لثوابه؟

وأطفال دمشق، مَن رأى كالأطفال؟ من فَعَل فِعْل الأطفال؟ من ذا الذي لم يسمع بأعمال الأطفال ويرَ مظاهرات الأطفال؟ لقد رأينا طفلاً يسيل الدم من رأسه، رأيتُه أنا وقد وضع يسراه على رأسه يمنع بها الدم وأخذ الحجر بيمينه يضرب به جند المستعمرين، وعمره أقلّ من عشر سنين! لقد حدّثني أحد الأصدقاء أنه كان ماراً في سوق مدحت باشا، وهو من الأسواق التجارية الكبيرة في دمشق، فسأل الأطفال وكانوا مرابطين فيه يحرسونه: هل تسمحون لي يا أولادي أن أمرّ؟ قالوا: إذا كنت تستطيع أن تمشي بين العسكر مرفوع الرأس فَمُرْ، وإذا كنت تخفض رأسك وتنحني وتخاف فارجع من حيث جئت!
مسائل رمضانية (10)
الصداع والأوجاع

إن آلام الرأس والأسنان والعظام والعضلات والمعدة شائعة بين الناس، وهي كلها على درجات، فمنها الخفيف الذي يسبب إزعاجاً مقبولاً، والمتوسط الذي يسبّب ألماً محمولاً، والشديد الذي لا يكاد يُحتمَل. فماذا يصنع الصائم إذا أصيب بهذه الآلام؟

إنْ كانت متوسطة محتمَلة فإنها لا تسوّغ الفطر (على الصحيح) وفي صبر الصائم عليها أجرٌ زائد يناله فوق أجر صيامه الذي امتنع فيه عن الطعام والشراب. أما إذا بلغت درجة عالية يصعب احتمالها إلا بمشقّة كبيرة فعندئذ يجوز له الفطر للعلاج، لأنها صارت مرضاً أو في حكم المرض، والمرض من عوارض الإفطار (أي مما يبيح الفطر) بلا خلاف. أما درجة الألم التي يصبح الفطر معها مباحاً فلا يستطيع تقديرَها إلا صاحبُها، والصائم الذي ترك لله طعامه وشرابه وشهوته لن يغشّ نفسه ولن يغش الله، ولن يفطر قطعاً إلا إذا شعر بأن الألم الذي أصابه يصعب احتماله.

وما أحسن ما قاله الشاطبي في "الموافقات": "إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيهُ نفسِه (ما لم يُحَدَّ فيها حَدٌّ شرعي فيوقَف عنده). وبيان ذلك أن سبب الرخصة هي المشقة، والمشاقّ تختلف بالقوة والضعف وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها وبحسب الأزمان وبحسب الأعمال، وكثيرٌ من الناس يقوَى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة لأحد الرجلين دون الآخر، وهذا ما لا مِرْيَةَ فيه".

إن الصيام عبادة قائمة على المشقة، والتعبُ والمعاناة أصل فيها، ولكن الإسلام لا يطالبنا باحتمال ما يصعب احتماله، فإذا زادت المشقة عن الحد المعقول ووصلت لدرجة التعذيب فللصائم أن يُفطر بما يُزيل سبب المشقة الشديدة. قال النووي في "المجموع": "ولا يُشترَط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم، بل قال أصحابنا: شرط إباحة الفطر أن تلحقه بالصوم مشقة يشقّ احتمالها". وقال القرافي المالكي: قال ابن القاسم: "إذا أجهده الصداع من الخواء أفطر".

وقد لخّصَ ابن جُزَيّ المالكي درجات المرض بأربع حالات: "الأولى: أن لا يقدر على الصوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب. الثانية: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان. الثالثة: أن يقدر على الصوم بمشقّة، فالفطر له جائز، وقال ابن العربي: مستحَب. الرابعة: أن لا يشقّ عليه ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور".

الخلاصة: إذا أصيب الصائم بألم شديد في رأسه أو أسنانه أو معدته أو بأي نوع من الأوجاع، وبلغت شدة الألم درجة يصعب عليه احتمالها ويشقّ الصبر عليها، فله أن يفطر ويتناول الدواء المسكّن، وله أن يأكل قدراً من الطعام يدفع ضرر الدواء، لأن أكثر تلك العقاقير مما يؤذي المعدة الخاوية. ثم يقضي يوماً آخر مكانه في أي يوم من السنة، ولا فدية عليه، إلا إن كان مرضه مزمناً لا شفاء منه فينتقل القضاء إلى الإطعام. عافاكم الله.
الأمل: قوتُ النفوس المتعَبة

مما تعلمناه ونحن صغار أن الإنسان لا يعيش بلا هواء أكثر من ثلاث دقائق، ولا يعيش بلا ماء أكثر من ثلاثة أيام، ولا يعيش بلا غذاء أكثر من ثلاثة أسابيع. لماذا لم يعلّمونا: كم يمكن أن يعيش الإنسان بلا أمل؟

الأمل هو قوت النفوس، وهو الوقود الذي تمشي به مراكبُنا في رحلة الحياة الصعبة الطويلة، ولو أن الأمل بضاعة تُباع ثم فَنِيَت أموالي كلها وبقي معي درهم واحد فسوف أمدّ يدي به إلى البائع وأقول: أعطني بهذا الدرهم شيئاً من الأمل لأعيش به أياماً أُخَر، فإن إنساناً بلا أمل يوشك أن يموت. "ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ".

كتب دوستويفسكي في رسالة إلى أخيه ميشيل: "ما أبشعَ الحياةَ دون أمل أو رجاء. لا أدري إن كنت سأتحرر يوماً من كآبتي وأفكاري السوداء، أتمنى لو أصبح مجنوناً لأرتاح من هذا العناء"! كانت ستنقذه من شقائه -لو علم- هذه الكلمات الشافيات الرائعات: "النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً". صلى عليك الله يا رسول الله، ما أجملَ هذه الكلمات وما أعظمَها ماءً يُطفئ نيرانَ القلوب.

يقول مصطفى صادق الرافعي: "الثقة بالله أزكى أمل والتوكل عليه أوفى عمل". فيا أيها المحزونون اليائسون: ثقوا بالله واغرفوا من بحر الإيمان به دِلاءَ الأمل، وتوكلوا عليه وخذوا بأسباب الهناء والنجاء والعلاء.
وقت الفجر: مثال محزن لفوضى الثورة

في كل عام يتجدد النقاش في هذه المسألة، ويصرّ إخواننا المخالفون على إرباك الناس وفتنة العامّة بالرأي الغريب الذي يطرحونه، فيَحْملون الناسَ على الاستمرار بالأكل بعد طلوع الفجر (بحجة أنه لم يطلع) ويأكلون هم، فيُفسدون صيامهم ويفسدون صيام الناس.

لن أعود لبحث هذا الموضوع بعدما كتبت فيه مقالة مفصَّلة مطوَّلة منذ ثلاث سنين، فمن شاء فليرجع إليها. لن أفعل ذلك، سأكتفي فقط بأن أناشد إخواني المخالفين: أقسمت عليكم بالله، كفاكم تفريقاً للأمة وفتنة للعامة، واتركوا الخوض فيما لا تحسنون.

إن الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق معروف نظرياً في الكتب، فالأول هو شعاع الضوء الذي يظهر طولياً متعامداً على الأفق كعمود البرق، والثاني يظهر مستعرضاً (ممتداً بالعرض فوق الأفق على يمين ويسار النقطة التي ستشرق منها الشمس آجلاً). هذا كله يعرفه تلاميذ المدارس، ولكن تحديد اللحظة الدقيقة التي يتحقق فيها هذا الأمر عملياً يدخل في اختصاص علماء الفلك والمساحة والجغرافيا الفلكية. فهو ليس من اختصاص الفقهاء، فضلاً عن عامة الناس، ولا يجوز أن يدّعي أحدٌ القدرةَ عليه بمجرد الصعود إلى سطح البيت أو الخروج لظاهر البلد والتحديق في أفق السماء.

دعكم من الشرح الفلكي المطوَّل للمسألة، يكفي أن تقرؤوا حديث عائشة الذي بَوَّبَ له البخاري بقوله: "باب سرعة انصراف النساء من الصبح"، بمعنى أنه وصَفَ حالتهنّ وهُنَّ خارجات من المسجد بعد إتمام الصلاة، وفيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "صلى الصبح بغَلَس (أي بظُلمة) وانصرفَت النسوة لا يعرف بعضُهن بعضاً من الغلس". هذه الصفة لا تتحقق إلا في الظلمة الغالبة، ولو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخَّر الصلاة إلى إسفار (كما يقترح إخواننا المخالفون) لعرفت كل امرأة خارجة من المسجد أختَها. وقد جادلني بعض المخالفين بأن عدم المعرفة تعود إلى تغطية الوجوه، قلت: لا محل لهذا التفسير مع تصريح الراوي بالعلّة: "لا يُعرَفن من الغلس"، أي بسبب العتمة وليس بسبب آخر.

* * *

يا إيها الكرام: لقد ضربت الفوضى أطنابها في طول الثورة وعرضها حتى بلغت درجة لا تطاق، فلا تزيدوها بهذه الدعوة الغريبة. اتركوا هذه الدعوة ولا تضلّلوا العامة، وإن شئتم أن تطمئنوا فأخّروا صلاتكم، ولكن لا تُبيحوا للناس أن يستمروا بالأكل بعد سماع الأذان.

ويا أيها الناس: لا تُصغوا إلى هذه الدعوات الغريبة. اتبعوا التقويم المعتمَد الذي عشنا عليه الدهر الأطول، وإذا سمعتم صوت المؤذن فأمسكوا، ومن شاء أن يصلّي الصبح من فوره فإن صلاته صحيحة إن شاء الله، ومن أحبَّ أن يؤخرها إلى إسفارٍ فلا شيء عليه، كلا الصلاتين صحيحة، ووقت الصبح بين هذا وهذا كما جاء في حديث جبريل المشهور في باب المواقيت.

لقد شبعنا من الفوضى والتفرق والخلاف. على بعد كيلومترات قليلة إلى الشمال من الأراضي المحررة تمتد أرض واسعة يقيم فيها سبعة وسبعون مليون إنسان يُمسكون معاً ويصلّون معاً ويفطرون معاً، ونحن لا نكاد نبلغ ثلاثة ملايين في رقعة صغيرة من الأرض، ولكل "ثلّة" منا ولكل ضَيعة توقيتٌ وأذان وإمساك وإفطار. ثم يسأل سائل: لماذا فشلنا ولم نستحق نصر الله؟!

https://shamquake.wordpress.com/2015/06/27/3130/
هل يحق للمفطر المجاهرة بفطره بين الناس؟

-1-

يقول بعض الناس إن الفطر اختيار شخصي، وهذا حق. ثم يقولون: إنْ كان المرء حراً في الفطر فهو حُرٌّ في إعلانه (المقصود في مجتمع متديّن يلتزم أكثرُ أهله بالصيام). فهل هو كذلك حقاً؟ لا، لأن الفطر المستتر متعلق بالحق الخاص والفطر الظاهر متعلق بالحق العام، وإذا تعارضَ الحق الخاص والحق العام قُدِّم العام على الخاص.

كثيراً ما تُطرَح هذه المسألة (مع أخواتٍ لها) عند الحديث عن الحريات العامة. وعندما أفكر في نفسي أجد أن "الحرية" واحدة من كُبرى القيم التي أؤمن بها وأدافع عنها، ولكنها عندي حرية مسؤولة راشدة وليست انفلاتاً عشوائياً مطلقاً من القيود، أو باختصار: "إنها حرية الأفراد في إطار النظام العام". ولعل هذا المعنى قريب ممّا كتبه وِلْ ديورانت (مؤلف الكتاب الموسوعي الهائل "قصة الحضارة") قال: "كنت في شبابي أهتم بالحرية كثيراً، ولكني صرت في كهولتي أهتم بالنظام، فقد توصلت إلى الاكتشاف العظيم الذي يثبت أن الحرية هي نتاج النظام".

-2-

لقد دافعت عن الحرية وسأظل أدافع عنها حتى الممات، حرية الناس في التفكير والتعبير والسلوك والاعتقاد، ولكني سأميز دائماً بين "تقييد الحرية" و"ترشيد الحرية". التقييد ممنوع حتى لا نتحول إلى الاستبداد، والترشيد مطلوب حتى لا ننتقل إلى الانفلات المجنون. وما هو المعيار الذي يميّز بين الاستعمال الرشيد للحرية الذي يُمنَع تقييده والاستعمال البعيد عن الرشد الذي ينبغي ترشيده؟ إنه المعيار الذي أحسن صياغتَه المركيز أرغنسون في محاوراته مع فولتير: "لكل إنسان في الجمهورية مطلق الحرية في أن يفعل كل ما لا يؤذي سواه".

لكن هل يمكن تطبيق هذه القاعدة على إطلاقها؟ لو أن أحد القراء قال لي: أنت تزعجني بكتابتك، أرجو أن تتوقف عن النشر (ولا بد أن آلافاً من الناس يزعجهم كثيرٌ ممّا يكتبه مجاهد ديرانية) فهل أستجيب وأترك الكتابة؟ ولو شكا جارك من رائحة الطبخ التي تتسرب إلى بيته وزعم أنه يَأذَى بها فهل عليك أن تترك الطبخ لئلا ينزعج جَنابُه؟ وماذا تفعلون؟ تبقون بلا طعام؟

هنا نصل إلى الضابط المهم الذي يضبط معيار ترشيد الحرية، وسوف أقتبسه بنَصّه من السطور الأولى من "العقد الاجتماعي" (أو مبادئ الحق السياسي) لروسّو، يقول: "يولد الإنسان حراً، ولكننا نجده في الأغلال أينما كان. ولمّا لم يكن لأي إنسانٍ سلطانٌ طبيعي (أي أصلي) على أخيه الإنسان، وكانت القوة لا تخلق حقاً، تحتّم علينا أن نستنتج أن "العُرف" هو أساس كل سلطة مشروعة بين البشر".

-3-

إذن هذا هو الضابط: العرف العام أو "قانون الأكثرية" كما أحب أن أعبر عنه. ربما كان "التدخين" أحدَ أكبر الأمثلة التطبيقية على هذه القاعدة في التاريخ، فقد تغيّر العرف والمزاج العام في أكثر دول العالم تغيراً بطيئاً باتجاه استقباح التدخين ومحاربته (وأرجو أن تصيبنا العدوى في سوريا قريباً حتى نلحق بأولئك العقلاء) فصار الذين يرفضونه أكثرية والذين يصرّون عليه أقلية. ولأن المدخن يؤذي غيره فقد صدرت تشريعات تحمي الأكثرية من عدوان الأقلية، ومُنع المدخنون من التدخين في الأماكن العامة بقوة القانون.

يمكننا أن نقيس حالة المجاهر بالفطر على هذه الحالة بسهولة: إن العرف والمزاج العام في المجتمع المسلم يستقبح المجاهرة بالفطر في نهار رمضان، فمَن جاهَرَ بفطره فإنه يؤذي مشاعر الصائمين وقيمهم ومقدساتهم، فصار من حقهم (لأنهم الأكثرية التي تمثل "العرف العام") أن يلزموا أقلية المُفطرين بالاستتار بفطرهم.

نعم، ليس من حقهم إكراههم على الصيام (ولن يستطيعوا ولو أرادوا) لأن الدين والتديّن كلاهما قائمان على الحرية والاختيار، فمَن شاء اختار الإسلام ومن شاء اختار غيره، ومن شاء من المسلمين التزم بأحكام الدين ومن شاء لم يفعل. ولكنهم سيلزمونهم بأن يصنعوا ذلك مستترين، فلا يكونوا من المجاهرين الذين وُصفوا في الحديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) ولا من المقصودين بعموم قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}.

-4-

على أن الذين يؤذيهم جهرُ المفطرين بفطرهم لن يملكوا الحق في منع الفطر العلني في كل حال، فلو أن غالبية الناس تحلّلوا من الدين وفشت فيهم المعاصي واختاروا ترك الطاعات فإن المتدينين سيصبحون أقلية، وعندها فإن القانون نفسه (قانون الأكثرية) سيعمل ضدهم، وسيكون عليهم اختيار واحد من ثلاثة حلول: الاستسلام والرضا بالحال، أو ترك المجتمع العاصي والهجرة إلى مجتمع أفضل، أو الاشتغال بالدعوة والإصلاح حتى يعود المجتمع صالحاً مهتدياً -بأكثريته- كما كان.

وهل يشكّ مسلم عاقل يدرك معنى رسالة الهداية التي يحملها للناس أن الاستسلام والسلبية مفضولان مرفوضان، وأن العمل الإيجابي ودعوة الناس إلى الخير والهدى والصلاح هو الخيار الصحيح، وهو منهج الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام؟
ثوارنا الأوائل: أولئك النجوم

النجوم في سماء الثورة، والنجوم في طريق الحرية، والنجوم في صحائف العز والشرف وفي سجلات المجد والخلود.

لكل زمان أبطاله، والذين خرجوا إلى الشوارع عُزْلاً ثائرين في أيام الثورة الأولى هم أبطال هذا الزمان بلا منازع. أولئك هم النجوم، الذين أوقدوا نار الثورة وحملوا حملها الثقيل في أيامها العصيبة المبكرة، الرجال الذين تظاهروا والذين اعتُقلوا والذين عُذّبوا والذين قُتّلوا، والنساء اللائي حملنَ الحِمْل كاملاً غيرَ منقوص، فكُنّ مع الرجال في المظاهرات والاعتصامات يوم كانت الثورة مظاهرات واعتصامات، وما أكثر ما تقدّمنَ الصفوف وكُنّ الفارسات المُجَلّيات في الميادين.

* * *

إن الذين يَنظرون إلى ثورتنا بعين اليوم يحتاجون لمَن يذكّرهم بجزء من الحكاية، لعله صار قديماً بحيث يُنسى حتى كأنه ما كان!

منذ سنوات عاش في الشام طاغية ظنّ أن الفلك قد توقف عن الدوران وأن عرشه قد سُمِّر فيه بمسمار فلا يَحُول ولا يزول. وكيف يَحُول وقد ورثه من أبيه وسيرثه -كما توهم- من بعده الأبناءُ وأبناء الأبناء، يرثه واحدٌ عن واحدٍ من سلالة القتل والإجرام؟ وكيف يزول وقد أعدّوا لحمايته ما لم تعرف دولةٌ في الدنيا مثلَه ولا نصفه ولا عُشره من الأجهزة الأمنية الوحشية القمعية التي تلاحق الناس في اليقظة والمنام؟

هذا كان حال أهل سوريا يومها. ثم أصبح الصباح عليهم ذات يوم فقال بعض شبانهم لبعض: إلى متى السكوت وقد ثار إخواننا في هذا البلد وذاك؟ أنعيش ونموت أذلّةً مستعبَدين كما عاش ومات مِن قبلنا الآباء والأجداد؟ إن هذا لا يكون!

* * *

في ذلك اليوم البعيد لم يكن أحدٌ من الفصائل المقاتلة قد وُجد في الدنيا ولا سمع به الناس. في ذلك الجو الكئيب المشحون بالرهبة والرعب خرج إلى الشوارع ألفٌ من المتظاهرين الأبطال وقالوا: "توقف أيها الطاغية عن الطغيان، لقد آن لهدم عرشك الأوان". لم يقولوها همساً بين أربعة حيطان، بل هتفوا بها بأعلى الصوت حتى تشققت منها الحناجر فبلغت عنان السماء، وبلغ من قوّتها أنْ أفاقَ منها شعبٌ أمضى في الرّقاد نصفَ قرن مستسلماً للذل والاستعباد والهوان، فهتف الهاتفون مع الهاتفين: نعم، لن نسكت بعد اليوم، نموت ولا نعيش يوماً واحداً آخَرَ في الذل والاستعباد والهوان.

كانوا ألفاً أو بضعة آلاف، ثم ما زالوا يزدادون حتى صاروا ألف ألف، ثم خمسة آلاف ألف، ثم بلغوا عشرة ملايين. أولئك هم شعب سوريا العظيم الذي استيقظ من رقاد طويل فقام يهز عرش الطغيان، بل قام يهز الدنيا ويُذهلها بأعاجيب الصبر والبطولة والرجولة وكرائم المعجزات.

* * *

هؤلاء الملايين بدؤوا بأولئك الأوائل القلائل الذين خرجوا أول مرة. أولئك بدؤوا كل شيء؛ هم مَن أوقد نار الثورة، وهم من حمل مشعلها ومشى به المشوار الطويل، وهم من أبقى المشعل وقّاداً يوم حملوه في قلب الإعصار.

أيها الأبطال العِظام، من بقي منكم حياً ومن وفد على الله: لن ننساكم، لن ننسى أنكم كتبتم بتضحياتكم النبيلة العظيمة الكلمات الافتتاحية في كتاب الحرية، وأنكم سطرتم السطور الأولى في سِفر المجد التليد.
القصة المذهلة لمعركة عين جالوت

كانت معركة عين جالوت من المعارك الفاصلة في التاريخ وكانت معركة عظيمة بكل المقاييس، على أن أحداً لن يدرك عظمتها الحقيقية حتى يعرف قصة الغزو المغولي الذي عصف بالعالم القديم في القرن الهجري السابع.

لقد كان ذلك الغزو واحدة من أكبر الكوارث في تاريخ البشرية كلها، حتى إن المؤرخين الأوربيين (الذين يميلون إلى التحفظ عادة) يقدّرون ضحاياه بنصف سكان الصين وروسيا وهنغاريا وثلاثة أرباع سكان آسيا الوسطى وفارس والعراق، ويقولون إن المغول دمروا معظم المدن الكبرى في تلك البلاد.

* * *

بدأ الاجتياح المغولي من شرق العالم الإسلامي، فكانت أولى ضحاياه الدولة الخوارزمية التي سقطت سنة 618 هجرية، وهي دولة هائلة لا يعرف أكثرُ الناس عنها إلا القليل، وقد استمرت مئة وخمسين عاماً في مناطق ما وراء النهر، فغطّت أراضي إيران وأفغانستان وتركمانستان وأوزبكستان وجنوب كازاخستان والقسم الغربي من طاجكستان وقرغيزستان.

بعد ذلك اجتاح المغول الصين وكوريا، ثم جورجيا وأرمينيا ووسط أوربا، وصولاً إلى روسيا التي سقطت في أيديهم بعدما أبيد الجيش الروسي بكامله تقريباً في معركة نهر سيت. واحتلوا بعدها أوكرانيا ورومانيا ومولدوفا وروسيا البيضاء وجزءاً من بولندا ووصلوا إلى حدود فنلندا، ثم سحقوا تحالف جيوش هنغاريا وكرواتيا وفرسان الهيكل في معركة نهر ساجو ووصلوا إلى فينّا أو قريباً منها. أي أن جيوش المغول احتلت وسط أوربا وشمالها وصارت على بعد نحو خمسمئة كيلومتر من السويد وألف كيلومتر من باريس!

وهكذا نجح المغول في السيطرة على ثلاثة أرباع قارة آسيا ونصف قارة أوربا، وصنعوا ذلك كله دون أن يتعرضوا لأي هزيمة على الإطلاق.

* * *

ثم انتقل هجوم المغول إلى المشرق العربي، فاحتلوا العراق ودمروا بغداد وقتلوا أكثر أهلها (656)، واتجهوا بعدها إلى الشام، فاجتاحوا حلب وأعملوا السيف في أهلها خمسة أيام بلياليها ودمروا قسماً كبيراً منها (658)، ثم دمروا حارم وميّافارقين، فاستسلمت بقية مدن الشام الكبرى (دمشق وحمص وحماة وبعلبك) دون قتال، وسقطت دُوَيلات وممالك الأيوبيين وانتهى حكمهم في بلاد الشام.

بسقوط الشام انفتح الطريق إلى مصر التي كانت تحت حكم المماليك، فأرسل هولاكو رسله إلى سلطانها الملك المظفر قُطُز يدعوه إلى الاستسلام. وهنا كان موقف رجولي لقطز لن ينساه التاريخ، فقد استشار الأمراء فجبنوا وترددوا لأنهم كانوا يظنون -من هول ما سمعوه عن المغول- أنهم قوة لا تقهر. فعقد السلطان العزم على القتال، وأعلن الحرب بالطريقة المألوفة في ذلك الزمن: قتل رسل هولاكو! ثم استصفى من أمراء المماليك أكثرَهم شجاعة وعزيمة وشكل جيشاً صغيراً خرج به من القاهرة في الخامس عشر من شعبان، فلما وصل إلى غزة انسحبت منها الحامية المغولية، ثم مضى على طريق الساحل حتى التقى بجيش كَتبُغا قرب العين، وهي بين نابلس وبيسان.

* * *

بدأ القتال مع شروق يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وقد امتلأ الوادي بالمقاتلين من الجيشين، واندفع المغول في هجوم شرس على ميمنة جيش المماليك، فاضطرب عسكر المسلمين وبدا وكأن الميمنة توشك على السقوط. في تلك اللحظة قذف قطز خوذته على الأرض وأطلق صيحته التي خلدها التاريخ وتناقلتها الأجيال: واإسلاماه! ثم انطلق بمَن معه "منغمساً" في عسكر المغول، فتراجعوا وتبعهم المسلمون إلى بيسان.

ثم نظموا صفوفهم وأعادوا الهجوم، فتزلزل جيش المسلمين من جديد، ومرة أخرى صرخ السلطان: واإسلاماه! ورفع يديه إلى السماء داعياً: اللهم انصر عبدك قطز على التتار. وهجم بمن معه وهجم معه قُوّاده بمن معهم، فتفرق عسكر المغول وبدؤوا بالسقوط صرعى تحت ضربات المسلمين، وقُتل قائدهم كَتبُغا وانسحب بقية جنده "انسحاباً كيفياً" يفرّون من أمام عساكر المماليك، وهؤلاء يتبعونهم قتلاً وأسراً حتى لم يبقَ منهم إلا القليل.

وخَرَّ السلطان على ركبتيه فمرّغ وجهه في التراب ساجداً شكراً لله، وطار الخبر في أرجاء الشام فوثب أهل كل مدينة ومحلة على من عندهم من المغول فقتّلوهم وشردوهم، وكان يوماً من أيام التاريخ.

* * *

تلك هي معركة عين جالوت التي كانت أول هزيمة يصاب بها المغول منذ أن غادروا أرضهم في منغوليا قبل ذلك بأربعين سنة. وبعدها توالت هزائمهم وخرجوا من الشام إلى الأبد، وصارت بلاد الشام كلها جزءاً من دولة المماليك التي استمرت ثلاثة قرون.

لم يتحقق هذا النصر العظيم بأعداد هائلة، فقد تراوحت تقديرات المؤرخين لحجم الجيش المملوكي بما بين عشرة آلاف مقاتل وعشرين، أي أنه لم يزد عن فرقتين بالتعبير العسكري المعاصر. نعم، لم يكن العدد ولا السلاح هو العنصر الحاسم، فتلك الموجة الزلزالية التي زلزلت قارّتَي آسيا وأروبا وسقطت أمامها ممالكُ وإمبراطوريات تكسّرَت أخيراً أمام جيش صغير حمل قادته ومقاتلوه في قلوبهم سرَّ الانتصار: العزيمة والإيمان.
ذهبت مشقّة الصيام وبقي ثوابه

ها قد انقضى رمضان وانقضى ما كان فيه من جوع وعطش وتعب ومشقة. انقضى ذلك كله وبقي ثوابه في صحائف الأعمال التي سنحملها معنا إلى موقف الحساب الكبير، يومئذ يفرح أصحاب الصحائف بكل مكابدة ومعاناة يجدونها في صحائفهم كما يفرحون بما فيها من طاعات وقربات. فكل عام وأنتم بخير، وهنيئاً لكم بما صبرتم، فقد اشتريتم بهذا "النقد العاجل" أثمنَ وأغلى بضاعة في الوجود.

كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في ذكرياته:

إنك تنظر إلى رمضان في أول يوم منه فتراه طويلاً وتفكر كيف تصومه، فإن نظرت إليه الآن بعدما مضى وانقضى أحسست كأنه كان ساعة واحدة.

إنّ أجَلّ فائدة استفدتها من كتاب "صيد الخاطر" لابن الجوزي هي أنه ما منا إلا مَن نال لذّة في معصية أو حمل ألماً في طاعة. في رمضان هذا الذي صمناه من قريب حملنا مشقّة الجوع في يومه الطويل والعطش في حرّه الشديد، وكنا نشتهي في النهار كوباً من الماء البارد نشتريه بالثمن الوفير وطَبَقاً من الطعام الشهيّ ندفع فيه الكثير، فما الذي يبقى من تعب الصيام بعد أن يؤذّن المغرب فنأكل ونشرب؟ والذي غلبَته نفسه وسيّره شيطانه فأفطر في رمضان وأعطى نفسه شهوتها وأتبعها لذّتها: ماذا بقي الآن من هذه اللذّة ومن ذلك الألم؟

تَصوّرْ ساعة الموت وفراق هذه الدنيا تجد أن اللذّات المحرّمة ذهبت كلها ولكن بقي عقابها، ومتاعب الطاعات ذهبت كلها ولكن بقي ثوابها. هذه الفائدة التي استفدتها من ابن الجوزي أتمنى لو أني أذكرها دائماً، وهيهات! ما دام الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء وحب العاجلة، هيهات ما دامت كلها موجودة!

[ذكريات علي الطنطاوي، الجزء الثاني، الحلقة 45، نشرت بتاريخ 26/10/1982، وكان رمضان في تلك الأيام في شهور الصيف كما هو في هذه الأيام]
هذا يومُ جَبْرِ الخواطر

العيد موسم الفرح، فما أعظمَ الذين يُدخلون فيه البهجةَ والأمل على قلوب المحرومين اليائسين، وما أكرمَ الذين يجودون فيه بالعاطفة والحنان على المكلومين والبائسين.

إنه العيد الأول الذي يمضيه مئات الألوف من المهجَّرين في أراضي الشتات، وما أصعبَه من عيد يُقبل فيه على غدٍ مجهول مَن فقدَ الدار والاستقرار، فارحموا غربتهم وآنِسوا وحشتهم، واجبروا خواطرهم الكَسيرة واستوعبوهم بقلوبكم الكبيرة تفوزوا برضا الرحمن وثوابه العظيم.

ما أكثرَ الصدقات التي تستطيعون نثرَها في هذا اليوم الجميل: لمسة حانية على رأس صغير يتيم، أو نظرة باسمة في وجه كبير كَليم، أو سعي على عائلة مستورة فقدت السند والمعيل. قدموا ولو القليل، فإن قليل العطاء في هذا اليوم كثيرٌ في ميزان العمل الصالح.

وكل عام وأنتم جميعاً بخير وعافية وفضل من المولى الرحيم.
هل يجوز دمج قضاء رمضان
بالأيام الستّة من شوال؟

هذا السؤال يهمّ كل من أفطر في رمضان من أصحاب الأعذار، إلا أنه يهمّ النساء أكثر من غيرهن، فالمرأة تُضطر غالباً إلى الإفطار أياماً في رمضان، ثم تحبّ أن تصوم ستّاً من شوال فتَحار: فهل يجوز ويجزئ أن تصومها بنيّة القضاء والنافلة معاً أم لا يجزئ ولا يجوز؟ فيما يأتي جواب مفصل عن هذه المسألة، ومن شاء الخلاصة بلا تفصيل فهي في آخر المقالة.


-1-

هذه من المسائل الفقهية المشهورة باسم إشراك النية أو تشريكها، بمعنى أداء العمل الواحد بنيّتين، فتُجمَع عبادةٌ مع عبادة بعمل واحد، أو يُجمَع فيه بين العبادة والمنفعة الدنيوية.

وهي لا تجوز على إطلاقها، فلا يمكن أن يصلّي المرء أربع ركعات ينوي بها صلاة الظهر والعصر معاً، أو صلاة الظهر وراتبتَها القَبليّة أو البَعدية. على أنّ لها صوراً أباحها الفقهاء الذين قبلوا هذا المبدأ من حيث الأصل (باستثناء الظاهرية الذين تشددوا فيه، فلم يبيحوا منه غير التشريك بين الحج والعمرة لخصوص النص). وللدكتور عمر سليمان الأشقر رحمه الله بحث نفيس مفصل في هذه المسألة بسَطَه في كتابه "مقاصد المكلّفين"، ولا سيما في جزئه الثاني "النيات في العبادات"، فليرجع إليه من كان مهتماً بها من القراء.

-2-

التشريك الجائز بين العبادة والمنفعة الدنيوية يتحقق في الحج بلا خلاف لنص الآية: {وأذّنْ في الناس بالحج... ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات}، قال ابن عباس وغيره: هي منافع الدنيا والآخرة، فأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات. ولقوله تعالى: {ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}، وابتغاء الفضل في القرآن هو طلب التجارة: {فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}.

من النماذج التي أجازها الفقهاء للتشريك الذي يجمع بين عبادة ومنفعة دنيوية: الحج والتجارة على ما رأينا آنفاً، والوضوء بنيّة الطهارة للصلاة والتبرد من الحر، والغُسل للطهارة من الحدث الأكبر وللنظافة، والصيام تحقيقاً للعبادة وابتغاءً للصحّة، والطواف بنيّة العبادة والرياضة. ومنها الصدقة والإنفاق على الأهل؛ في البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عمرو: "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة".

-3-

أما النوع الثاني، أي تشريك النية بين عبادتين، فأشهر صوره الطواف الواحد والسعي الواحد لمن حجّ قارناً بين الحج والعمرة، لحديث جابر: "قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً"، وحديث مسلم في قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك".

ومن أنواع التشريك الجائز الجمعُ بين الصدقة وصلة الرحم (للحديث الصحيح الذي أخرجه النسائي: الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان، صدقة وصلة). ومنها إدخال الوضوء في الغُسل، والجمع بين غسل الجمعة وغسل الجنابة بغسل واحد، وصلاة ركعتين بنيّة تحية المسجد والراتبة القَبلية، وصلاة ركعتين بنيّة النافلة والاستخارة، ومنها اجتماع عقيقة وأضحية، ومنها اجتماع غسل الحيض والجنابة، في "المقنع": "إذا أجنبت المرأة ثم حاضت (أي قبل أن تغتسل) يكون الغسل الواحد لهما جميعاً إذا نوتهما به".

فهل تدخل في التشريك الجائز المسألةُ التي نبحثها اليوم: صيام ستة أيام بنيّة القضاء وبنيّة ستة شوال؟

-4-

المتتبع للحالات التي أباح الفقهاء فيها تشريك النية بالعبادات يجد أنهم وضعوا له ضابطاً مهماً، هو أن تكون إحدى العبادتين غيرَ مقصودة لذاتها، كتحية المسجد وصيام يوم عرفة وصلاة الاستخارة، الأولى نشأت الحاجةُ إليها من الاقتران بالمكان والثانية من الاقتران بالزمان والثالثة من الاقتران بالعمل الذي يأتي بعدها، ولم تكن أيٌّ منها مطلوبةً لولا ذلك، فنقول إنها عبادات غير مقصودة، ويمكن تشريك أي منها بالنيّة مع عبادة مقصودة لذاتها، كصيام يوم عرفة أو يوم عاشوراء مع قضاء يوم من رمضان. بل يمكن تشريك ثلاث عبادات معاً في هذه الحالة، فيجوز أن نصلي ركعتين بنيّة تحية المسجد وصلاة الاستخارة والسنة القَبليّة (كما في فتوى مشهورة للشيخ ابن عثيمين رحمه الله).

أما إذا كانت العبادتان مقصودتين لذاتهما (كالفريضتين أو كالفريضة وراتبتها) فلا يجوز تشريك النية بينهما، فلا يمكن للمصلي أن يصلي أربع ركعات بنيّة الظهر والعصر معاً أو بنيّة الظهر وراتبتها على سبيل المثال، وكذلك لا يمكن أن يصوم يوماً بنيّة الكفارة والقضاء أو النذر والقضاء، لأن كلاً من هذه العبادات الثلاث مقصودة لذاتها. فماذا عن الجمع بين قضاء رمضان وصيام الست من شوال؟
-5-

من المعلوم من الدين بالضرورة أن صيام رمضان (ومثله قضاؤه) مقصود لذاته، والظاهر أن للأيام الستة من شوال الحكم نفسه، لأن القصد من إلحاقها برمضان هو الحصول على أجر صيام الدهر، أخذاً من قاعدة: "الحسنة بعشر أمثالها". رمضان بعشرة أشهر وستة شوال بشهرين، فهذه اثنا عشر شهراً، وهو ما أوضحه حديث ثوبان الذي أخرجه أحمد والنسائي وصحّحه الألباني في صحيح الترغيب: "صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام السنة". ومنه الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".

وخالف جماعةٌ من فقهاء الشافعية، فنصّوا على أن إشراك النية بين قضاء رمضان وستة شوال جائز ويحصل به أجر الاثنين معاً. قال في حاشية الشرقاوي على شرح التحرير: "لو صام فيه أياماً (أي في شوال) قضاءً عن رمضان حصل له ثواب تطوعها، إذ المدار على وجود الصوم في ستة أيام من شوال". وفي فتاوى الشهاب الرملي أنه سئل عن شخص عليه صوم من رمضان فقضاه في شوال، هل يحصل له قضاء رمضان وثواب ستة أيام من شوال؟ فأجاب بأنه "يحصل له بصومه ثواب النفل والفرض، لأن المقصود وجود الصوم في شوال". ووافقه ابن حجر الهيثمي، ورُوي مثله عن العلامة الخرشي من المالكية في شرحه لمختصر سيدي خليل.

إلا أنهم قالوا إن من صنع ذلك لا يحصل له الثواب الكامل المترتب على التطوع المطلوب، قال الرملي في "نهاية المحتاج": "ولو صام في شوال قضاء أو نذراً حصل له ثواب تطوعها، كما أفتى به الوالد رحمه الله تبعاً للبارزي والأصفوني والناشري والفقيه علي بن صالح الحضرمي وغيرهم، لكن لا يحصل له الثواب الكامل المرتَّب على المطلوب". وللألباني رأي قريب ذكره في تسجيلات سلسلة الهدى والنور، قال: "صيام الست من شوال لمن عليه قضاء مَراتبُ، أعلاها أن يصوم القضاء ثم يصوم الستّ، ودونها أن يصوم القضاء فيُدخل فيه نيّة الست من شوال، وفي هذه الحالة يحصل عشر حسنات عن الفرض وحسنة واحدة عن نية صيام الأيام الستة".

-6-

الخلاصة: يكاد العلماء يتفقون على أن صيام أيام من شوال عبادة مقصودة لذاتها، وهي ستة أيام لكي يحصل بصيامها ثواب شهرين كما في حديث ثوبان، فمن أراد الأفضل فليجتهد بصيام ستة أيام زائدة على قضاء ما فاته من رمضان (ولا يضرّ تقديمها على القضاء وتأخيره لما بعد شوال على الصحيح)، ومن شَقّ عليه أن يقضي الأيام التي فاتته ويصوم ستّاً فوقها فليس عليه بأس أن يُشرك النية، فيجمع الصيامين معاً في ستة أيام، ينويها قضاءً لما أفطره من رمضان وستة أيام فضيلة من شوال.

تقبل الله منا ومنكم الصيام وصالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.

https://shamquake.wordpress.com/2017/06/28/5201/
تحيّة للشعب الأردني النبيل

مع وصول حملة الحرق والتدمير والتهجير الهولاكية الروسية إلى حوران أغلقت الحكومة الأردنية الحدود في وجه مدنيّيها الهاربين من الجحيم، فرَدّ ناشطون أردنيون بإطلاق وسم (هاشتاغ) بعنوان "افتحوا الحدود".

غرّدَ أحدهم قائلاً: "إن إغلاق الحدود في وجه الهارب من الموت مشاركة في قتله"، وقالت إحداهنّ: "اتقوا الله فيهم، نحن قابلين نقاسمهم اللقمة لحين ما يفرجها الله عنهم"، وكتب ثالث: "لا يوجد أي ظرف سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي يمكن أن يبرر إغلاق الحدود بوجه شخص هارب من الموت".

على الأثر انطلقت حملة إعلامية إلكترونية أرسلت أكثرَ الرسائل عاطفةً ودفئاً ونبلاً في تاريخ الربيع العربي: "افتحوا الحدود، بنقسم الخبزة نصّين".

الشعب الأردني المُرهَق بأعباء الحياة والمُثقَل بالضرائب والديون تناسى معاناته التي خرج من أجلها إلى الشوارع قبل بضعة أسابيع وتفوّق على نفسه وهو يقول: نحتمل المزيد من الضغط والإرهاق ولا نترك الأخ الشقيق في قلب الإعصار يلقَى الموت ويصلَى النار.

مرة أخرى تُثبت الشعوب -بتضحياتها العظيمة ومواقفها التاريخية- أنها أهل للحرية والحياة. تحيّة من القلب للشعب الأردني النبيل.

#افتحوا_الحدود
هذا يوم من أيام التاريخ

لقد عادت درعا اليوم عاصمةَ الثورة وأملَها كما كانت في اليوم الأول، وقدم ثوارها الكُماة الصناديد في هذا اليوم المجيد ما يعجز عن تصوره الخيال.

بوركتم يا أبطال حوران. هتفتم من يوم الثورة الأول "الموت ولا المذلة"، وبررتم وصدقتم، فما هِنتم ولا لِنْتم ولا استجبتم لخطة ضَيم ولا ذللتم لعدو لئيم.

اللهم ثبتهم وانصرهم يا قوي يا عزيز

#الموت_ولا_المذلة
#حوران_الصمود
سرّ الدعاء المستجاب

-1-

لعلكم تذكرون سلسلة المقالات التي نشرتها عن الدعاء قبل ست سنين. قرأها من قريب أخٌ فاضل فطلب مني أن أكتب خاتمة لها تتضمن شروط إجابة الدعاء، ففكرت ثم قررت أن لا أفعل، ليس كسلاً أو استخفافاً بطلبه يشهد الله، وإنما لأنها مما تمتلئ به كتب الدعاء، فإنه لا يكتب أحدٌ عن الدعاء إلا ويفصّل تلك الشروط، فلماذا أكرر وأعيد ما هو معروف لكل الناس؟

إلا أني لم أستطع أن أقاوم دافعاً ملك عليّ نفسي وأغراني بالكتابة في عنصر واحد، واحد فقط، وجدت له في حياتي أكبرَ الأثر في إجابة الدعاء، وأحب أن أشارك فيه إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي من القرّاء الكرام.

-2-

أنا الآن في الحادية والستين، ولست أذكر متى بدأت بالدعاء على التحقيق، فلنقل إني كنت ابنَ عشر، فأنا أدعو -إذن- من نحو نصف قرن. ولئن دعوت في أول عمري دعاء متقطعاً فإني واثق من أنني لم أترك الدعاء في يوم من الأيام منذ سنين طويلة، ربما منذ ثلاثين سنة على الأقل، فقد صار الدعاء عندي (كما هو عند كثيرين) أقربَ إلى العادة، لا يخلو منه يوم أبداً، تماماً كما لا يخلو يومٌ من صلاة وطعام ومنام.

ولقد دعوت في كل وقت وفي كل حال: دعوت في جوف الليل وفي أعقاب الصلوات وفي ساعات يوم الجمعة كلها، ودعوت قائماً وراكعاً وفي القعود وفي السجود، ودعوت في الإقامة والسفر وفي الصحة والمرض، ودعوت في كل حال من الأحوال وبكل لفظ من الألفاظ، فاستُجيب دعائي في أحيان ولم يُستجَب في غيرها. ولم أستطع أن أدرك فرقاً حاسماً في نتيجة الدعاء بين وقت ووقت ومكان ومكان، ولكني أدركت الفرق في حالة واحدة، حالة متميزة من بين كل حالات الدعاء، فعلمت أنها هي السر في الدعاء المستجاب.

-3-

لقد أدركت أن أعظم أسباب إجابة الدعاء على الإطلاق هي حالة محددة تسيطر على القلب في أثناء الدعاء، ولقد جرّبت ذلك مرات أعجز عن إحصائها، بين صغائر الدعوات الهيّنة وأكابرها العِظام.

إن كلمة السر في المسألة هي: "اليأس واليقين". اليأس من الأسباب المادية الدنيوية جميعاً، واليقين المطلق بأن ما أطلبه لا يستطيع مخلوق أن يحققه، لا يستطيع أن يحققه إلا الربُّ العظيم.

كلما كنت أكثرَ يأساً من الأسباب المادية وأقربَ إلى اليقين بأن ما أطلبه من الله لا يستطيع أن يصنعه سواه صار الدعاء أقربَ إلى الإجابة، فإذا وصلت إلى حالة اليأس المطلق من نفسي ومن الناس جميعاً وعلمت علم اليقين أن طلبي لا يجيبه إلا الله واتجهت بقلبي كله إليه فإنني أعلم أن الاستجابة متحققة بإذن الله، لأن الله لن يردّني خائباً خاوي اليدين بعدما أقبلت عليه وأنا على تلك الحال. ولعل هذا هو المعنى الحقيقي لإجابة دعاء المضطر، فليس كل مضطر دعا يصل إلى الدرجة العليا من الاضطرار.

-4-

إن الثقة المطلقة بالدعاء تصل بالمرء أحياناً إلى حالة من اليقين الغريب الذي قد يبدو -في عين مراقب خارجي- ضرباً من الجنون. سأروي لكم مثالاً يصوّر هذه الحالة.

لما كنت صغيراً كان لأبي -رحمه الله- صديق من النوع الذي يصفه العوام بأنه من أهل الله، تَغْلب عليه السكينة والرضا وحسن الظن بالله في كل حال. كان مرة على سفر، وقد وعده أبي بإيصاله إلى المطار، وشغله شاغل فأخّره تأخيراً شديداً، حتى هَمّ أبي بإلغاء الرحلة لأنه أيقن أنه لن يدرك الطيارة. لكن الرجل أصر على الذهاب، وأمضى الطريق يدعو هادئاً كأنه صيّاد سمك رمى صِنارته في الماء ثم استلقى مسترخياً على ضفة البحيرة! كان أبي يكرر طول الطريق: لا أمل، لن تدرك الطيارة. فيردّ بيقين: "بل سأدركها بإذن الله"، ثم ينصرف إلى دعائه. عند الوصول إلى المطار ظهر أن الطيارة أغلقت أبوابها وبدأت تَدرُج على المَدْرج، ثم بدا للطيار ما حمله على التوقف والعودة إلى مربض الطيارة الأول لفحصها، فتأخر الإقلاع ساعة أو نحوها... وسافر الرجل!

قد تبدو القصة للقارئ من الموافقات الغريبة التي تتكرر بين حين وآخر، أما بالنسبة لي فقد بدت أعجوبة، ولولا التعريف الصارم للمعجزة لقلت إنها معجزة. ربما لم يكن تأخر الطيارة وإدراك صاحبنا لها أعجوبة من الدرجة الأولى بالفعل، غيرَ أن ما أبداه من يقين لا يتسلل إليه أدنى قدر من الشك، هذا اليقين الكامل الهائل هو الذي رأيته أعجوبةً من الأعاجيب.

-5-

ما أكثرَ ما اختبرت في حياتي تَوافقَ اليقين بالله واليأس من سواه مع استجابة الدعاء! أقسم لكم -غيرَ حانث- أني لمست بين الأمرين ارتباطاً عجيباً لا يمكن تفسيره بقوانين الاحتمالات، فإنّ احتمال الاستجابة يزداد كلما دعوت وأنا أشدّ يأساً من نفسي ومن دنيا الناس وأعظم يقيناً بأن ما أطلبه لا يقدر عليه إلا رب الناس، ولولا أن أطيل عليكم وأحوّل المقالة إلى صحائف من الذكريات لرويت لكم قصصاً وحوادث لا تكاد تصدَّق.
ولا يقتصر الأمر على كبائر حوادث الحياة وحدها، بل يشمل صغائرها وكبائرها على السواء، ولا تُستثنى من الإجابة المعجَّلة إلا الأدعية التي تحتمل الإجابة ضمن الأجل الطويل، فهذه قد تتأخر إجابتُها زماناً يقصر أو يطول، فإذا تحققت (ولو بعد حين) تذكرت دعائي وعلمت أنها ثمرة دعاء القلب اليائس مما عند الناس الواثق بما عند الله.

لقد تتبعت هذه المسألة فوجدت أن ما عرفته أنا بالتجربة عرفه عددٌ لا يُحصَى من الناس سواي. قرأت قصص كثير منهم وسمعت عن كثيرين، ولم يكن الجامع بينهم هو التديّن العالي، بل كان فقط وباختصار: "الإقبال على الدعاء بقلب معلّق بالله وباعتماد كامل عليه، يترافق مع اليأس الكامل من النفس ومن الناس وما في أيدي الناس".

-6-

بل إني لأزيدكم عجباً فأقول: إن الإسلام لم يكن شرطاً لإجابة الدعاء عندئذ، فإن الإنسان إذا وصل إلى تلك الحالة من اليأس من الأسباب المادية والاضطرار إلى الله ودعا أصدقَ الدعاء وأخلصَه بالقلب المنقطع إلى الله لم يردّه الله خائباً، حتى لو كان من العصاة أو من المشركين. فأما القصص التي سمعتها وقرأتها فكثيرة، وأما الدليل ففي كتاب الله: {أمّن يُجيب المُضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟} فأطلق ولم يقيّد، فشملت الآية كل مضطر مسلماً وغيرَ مسلم على السواء. وقال تبارك وتعالى: {وإذا مسّكم الضُّرّ في البحر ضلّ مَن تدعون إلا إياه، فلما نجّاكم إلى البَرّ أعرضتم، وكان الإنسان كفوراً}.

فدلّت هذه الآية وأمثالها على أن الله أجاب دعاء الداعي عندما بلغ به اليأس والاضطرار غايتَه، وكما هو معلوم فإن القلب يتجه في تلك الأحوال إلى الله وينقطع أمله من الناس أجمعين، ولا سيما عندما يجد نفسه بعيداً عن برّ الأمان ضعيفاً عاجزاً في بحر الماء أو في جو السماء. وما أكثرَ ما يعود إلى الله المذنبون والعصاة وما أكثرَ ما يعرف اللهَ منكروه إذا أصابهم الخطر في الماء أو في السماء، فيدعون الله فيستجيب لهم الدعاء، فإذا أمِنُوا ووطئت أقدامُهم البرَّ نسوا الله الذي دَعَوه وعادوا إلى العصيان والنكران!

-7-

لعل هذا هو أهم سر من أسرار الدعاء. وإني والله ما بلغ بي اليأس من نفسي ومن الناس أقصاه ثم دعوت الله وقلبي حاضرٌ عامر باليقين إلا رأيت أثر ذلك الدعاء، مع أني لست إلا واحداً من عامة الناس لا أتميز بعبادة ولا تقوى ولا أدّعي الصلاح، بل إني لأستصغر نفسي كلما رأيت غيري من أصحاب الطاعات والقربات. فما مررتُ به أنا من تجارب الدعاء يمكن أن يمرّ به أي واحد من القراء.

فيا عبد الله المكروب: إذا بلغ بك اليأس غايته من حَوْلك وقوتك ومن الناس ومن دنيا الناس وأيقنت يقيناً تاماً جازماً مطلقاً بأن أحداً لا يستطيع أن يساعدك إلا الله، إذا وصلت إلى تلك الحالة وتلبّسْتَها بصدق كامل فارفع يديك إلى السماء واطلب من الله ما شئت وأنت موقن بأنه مجيبٌ دعاءك لا محالة، ثم انتظر الفرج غيرَ بعيد.

فإذا وصلت لتلك الحالة ثم دعوت وثابرت على الدعاء فلم يُستجَب الدعاء فاعلم أن إصرار الله على عدم الإجابة رسالةٌ لك، أن الله قد سمع دعاءك وقرر أن يستجيب له بطريقته وليس بطريقتك، فيختار ما "يعلم" أنه خير لك لا ما "تظن" أنت -أيها العبد الضعيف المسكين- أنه الخير. فاحمد الله في كل حال وارضَ بقضائه، وانتظر الخير الذي أعدَّه لك ولو بعد حين.
أعجوبة الدعاء: المعجزة التي رأيت
(1 من 2)

ليست معجزة بالتعريف الشرعي للمعجزات، فتلك لا تكون إلا للأنبياء، ولا كرامة من الكرامات التي يختص بها الأولياء الصالحون، فلست منهم ولا من طبقتهم (وإن كنت أتمنى أن أكون). إنما هي معجزة على المجاز، أعجوبة بالمقاييس الأرضية المادية البشرية، علامة دالّة على رحمة الله وقدرته وتدبيره، آية مُبهرة رأيتها في موقف عجيب لا أنساه أو تُغمِضَ عيني يدُ الغاسل. ولكن لماذا أبدأ المقالة من نصفها؟ سأبدأها من حيث قطعت المقالة السابقة.

-1-

قرأتم في المقالة التي مضت (سر الدعاء المستجاب) أن استجابة الدعاء أرجَى ما تكون إذا ضاقت بالمرء سُبُل الأرض ويئس من الأسباب المادية ووصل إلى اليقين الكامل بأن ما يريده لا يستطيع أن يحققه إلا الله، فأقبل عليه يدعوه بقلب منقطع عن الدنيا متصل به لا يرجو سواه. لكنه ربما دعا وكرر الدعاء بأخلص قلب وأصدق لسان في أشد المواقف يأساً ثم لم يُستجَب الدعاء، فما التفسير؟

قلت في آخر تلك المقالة: إذا وصلتَ لتلك الحالة ثم دعوتَ وثابرت على الدعاء فلم يُستجَب الدعاءُ فاعلم أن إصرار الله على عدم الإجابة رسالةٌ لك، أن الله قد سمع دعاءك وقرر أن يستجيب له بطريقته وليس بطريقتك، فيختار ما "يعلم" أنه خير لك لا ما "تظن" أنت أنه الخير. فاحمد الله في كل حال وارضَ بقضائه، وانتظر الخير الذي أعدَّه لك ولو بعد حين.

هذا هو التفسير الأول. فإن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدَه سيُحبّ أن يصرف عنه شراً دعا به على نفسه من حيث يظنّ أنه خير. وهي تجربة يعرفها أكثر الناس، وأنا نفسي مررت بها في يوم من الأيام، فإني دعوت ذات مرة وقد بلغ بي الضيق أشده، دعوت دعاء المُضطر اليائس أن يصرف الله عني أمراً لم أكن أظن أنه ينصرف، فاستُجيب دعائي غيرَ بعيد، في أسابيع معدودات، ثم أدركت -بعدُ- أنني ضحَّيت بأمر فيه نفع مخلوط بضرر، واكتشفت بعدَ فواته أنّ نفعه أكبر من ضرره وأن خيرَه يفوق شره، فتمنيت لو لم أدعُ بصرفه، فإني دعوت على نفسي من حيث لا أعلم. وما أكثرَ ما يصنع الناس ذلك بأنفسهم، ومنه قوله تعالى (على وجه): {ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير}.

هذا التفسير لعدم إجابة الدعاء معروفٌ خاضَ فيه الأولون والآخرون، فلن أقف عنده طويلاً، فاسمحوا لي أن أنتقل إلى التفسير الثاني الذي أنشأتُ هذه المقالة من أجله. إن إجابة الدعاء -عندما تبدو إجابتُه أقربَ إلى المعجزة المستحيلة- أمرٌ جليل جميل يتمناه كل إنسان، غيرَ أنه ابتلاء ثقيل ربما تمنى المرء أن يُعفَى من حمله يوم الحساب، فمن أجل ذلك قد يصرفه الله عنه رحمةً به وشفقةً عليه. ولكنْ أليس هذا غريباً؟ كيف يكون كشف البلاء -بإجابة الدعاء- هو الابتلاء؟

-2-

فكّروا معي: هل يستوي أهلُ البَرّ الذين عاشوا غافلين عن الله وهم آمنون، لم يُبتَلوا ولم يَدْعوا ولم يُستجَب دعاؤهم، وأهلُ البحر الذين اقتربوا من الموت فابتهلوا لمولاهم بالدعاء، حتى إذا أنجاهم إلى بَرّ الأمان عادوا به كافرين، هل يستوون؟ هل يستوي الذين سمعوا بالرسالة ولم يروا آياتها فاستقبلوها بالشك والإعراض، والذين طلبوا آية محددة باسمها ورسمها، فلمّا أجيبوا إلى ما طلبوا ورأوا الآية عِياناً كفر منهم من كفر وأبى التصديق؟ هل يستوون؟

لمّا طلب أصحاب عيسى معجزة محددة أجابهم الله إلى الذي طلبوه، ولكنه حذرهم: {قال الله إني مُنَزِّلها عليكم، فمن يكفُرْ بعدُ منكم فإني أعذّبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين}. دَعُونا من صفة المائدة وطبيعة العذاب اللتين خاض فيهما أهل التفسير بغير دليل، فما يهمنا الآن هو العبرة التي سيقت هذه القصة من أجلها (كما هو الشأن في قصص القرآن كلها). لقد أجاب الله الطلب وأرسل الآية لطالبيها (على الصحيح) ولكنه وجّهَ إليهم قبل إرسالها "إنذاراً شديد اللهجة"، فعلمنا أن أشد الناس مناقَشةً في الحساب وشدّةً في العقاب والعذاب هو الذي طلب الآية فأوتيها ثم أعرض عنها. هذه هي خلاصة القصة، وهي العبرة منها بعيداً عن الفروع والتفاصيل.

وإجابة الدعاء المستحيل آية، هي "آية شخصية" يحصل عليها مَن طلب من الله تحقيق دعاء هو أقرب إلى الاستحالة، تماماً كالآية العامة التي حصل عليها الحواريون. وقد كانت إجابة طلب الحواريين ابتلاء ثقيلاً كما رأينا، ألا ترى إذن -يا من تدعو الله في حالة اليأس وتسأله تحقيق الأمر المستحيل- أن المولى الكريم ربما أشفق عليك فاختار أن لا يبتليك بإجابة دعائك، لكي لا يحمّلك هذا الحمل الثقيل فيضاعف عليك الحساب يوم الحساب ويضاعف لك العقاب لو استحق عليك العقاب؟
2025/10/27 17:58:22
Back to Top
HTML Embed Code: