-3-
سأروي لكم حكاية قصيرة. ذهبنا مرة في نزهة إلى الشاطئ، وشاطئ البحر الأحمر في جدّة (حيث أعيش) ضحل يمشي فيه الماشي مسافة فلا يجاوز ركبتَيه، فدخل فيه الأولاد يخوضون في الماء، ومعهم ابني الشاب وزوجته، وكانت عروساً جديدة، فلما كان الليل افتقدَت خاتم زواجها ولم تجده في يدها، فعلمَت أنه سقط من يدها في الماء. فبحثت وبحث معها كل من حضر، ولكن بلا طائل، وأنَّى يجدونه وقد غيّبَه ظلامان، ظلام الليل وظلام الماء؟
فلما رجعنا أسِفَت عليه أسفاً هائلاً لم أرَها أسفت مثلَه على شيء قبلَه، ورأيت حالها فقلت لها: لعلك إذا رجعت غداً في النهار وبحثتِ عنه وجدتِه. قالت وقال الآخرون: لا سبيل، هذا بحر يتحرك رملُه إذا جاء المدّ فيبتلع الأجسام الكبيرة، فكيف بالدقيقة الصغيرة؟ وليس ثمة نقطة واحدة نبحث فيها، بل هي مساحة عريضة واسعة. قلت: صحيح، الأمل في العثور عليه معدوم بالمقاييس المادية الأرضية، وهذا يجعل الأمل كبيراً بالعثور عليه من الطريق الآخر، من طريق السماء. ثم قلت لابنتي الغالية (وزوجات أبنائي هنّ بناتي من حيث لم يهبني الله البنات): لن تعثري عليه إلا بقدرة خارقة، قدرة من غير عالم البشر، فتوجهي إلى الله هذه الليلة بدعاء اليائس الذي يعلم أنه لا أمل له إلا بالله، ثم إذا أصبح الصباح عودوا إلى تلك البقعة فابحثوا، وسوف تجدينه بإذن الله.
صنعَت ذلك، دعت ودعوتُ معها، ورجعوا في ضوء النهار فخاضت في الماء تحدّق إلى الرمل وهي أقرب إلى اليأس، ثم أخذ عينَها بريقٌ انعكس من جسم معدني صغير، مَدَّت يدها فإذا فيها الخاتم، كأنما غرزَته في الرمل يدٌ فانتظرَها حتى ترجع فتأخذه من مَغْرَزه! عجبَت وعجب الجميع، ولم أعجب، فما ظننتُ أن الله يخذلها بعدما بلغ بها اليأس من نفسها ومن الناس ودنيا الناس غايتَه، ولو ظنَّت أنها تجده بقدرتها أو بقدرة أحد من الناس لضَعُفَ اعتمادها على الدعاء ولو مثقال ذرة، وعندئذ فإنها لن تجده أبداً.
* * *
لقد استجاب الله دعاءها المستحيل، ولكن أكانت الاستجابة منحة خالصة أم كانت أقربَ إلى الامتحان؟ ألن يطالبها الله بأن لا يرتعشَ قلبُها بشكّ ولا تتقاعسَ جوارحُها عن طاعةٍ بعد اليوم؟
في ذلك الصباح رجع الخاتم المفقود، وفيه حمل هذان الشابان حِملاً ثقيلاً سينوء بهما إلى آخر العمر: لقد أراهما الله قدرته ورحمته، وصارا ملزمَين -منذ ذلك اليوم- بحصة مضاعفة من الوفاء ورَدّ الجميل. أمّا أنا فكان ما رأيته ذات يوم أغربَ وأعجب وأكثر إعجازاً، وكان امتحاني أثقل بكثير. القصة في الحلقة الآتية بمشيئة الله.
* * *
سأروي لكم حكاية قصيرة. ذهبنا مرة في نزهة إلى الشاطئ، وشاطئ البحر الأحمر في جدّة (حيث أعيش) ضحل يمشي فيه الماشي مسافة فلا يجاوز ركبتَيه، فدخل فيه الأولاد يخوضون في الماء، ومعهم ابني الشاب وزوجته، وكانت عروساً جديدة، فلما كان الليل افتقدَت خاتم زواجها ولم تجده في يدها، فعلمَت أنه سقط من يدها في الماء. فبحثت وبحث معها كل من حضر، ولكن بلا طائل، وأنَّى يجدونه وقد غيّبَه ظلامان، ظلام الليل وظلام الماء؟
فلما رجعنا أسِفَت عليه أسفاً هائلاً لم أرَها أسفت مثلَه على شيء قبلَه، ورأيت حالها فقلت لها: لعلك إذا رجعت غداً في النهار وبحثتِ عنه وجدتِه. قالت وقال الآخرون: لا سبيل، هذا بحر يتحرك رملُه إذا جاء المدّ فيبتلع الأجسام الكبيرة، فكيف بالدقيقة الصغيرة؟ وليس ثمة نقطة واحدة نبحث فيها، بل هي مساحة عريضة واسعة. قلت: صحيح، الأمل في العثور عليه معدوم بالمقاييس المادية الأرضية، وهذا يجعل الأمل كبيراً بالعثور عليه من الطريق الآخر، من طريق السماء. ثم قلت لابنتي الغالية (وزوجات أبنائي هنّ بناتي من حيث لم يهبني الله البنات): لن تعثري عليه إلا بقدرة خارقة، قدرة من غير عالم البشر، فتوجهي إلى الله هذه الليلة بدعاء اليائس الذي يعلم أنه لا أمل له إلا بالله، ثم إذا أصبح الصباح عودوا إلى تلك البقعة فابحثوا، وسوف تجدينه بإذن الله.
صنعَت ذلك، دعت ودعوتُ معها، ورجعوا في ضوء النهار فخاضت في الماء تحدّق إلى الرمل وهي أقرب إلى اليأس، ثم أخذ عينَها بريقٌ انعكس من جسم معدني صغير، مَدَّت يدها فإذا فيها الخاتم، كأنما غرزَته في الرمل يدٌ فانتظرَها حتى ترجع فتأخذه من مَغْرَزه! عجبَت وعجب الجميع، ولم أعجب، فما ظننتُ أن الله يخذلها بعدما بلغ بها اليأس من نفسها ومن الناس ودنيا الناس غايتَه، ولو ظنَّت أنها تجده بقدرتها أو بقدرة أحد من الناس لضَعُفَ اعتمادها على الدعاء ولو مثقال ذرة، وعندئذ فإنها لن تجده أبداً.
* * *
لقد استجاب الله دعاءها المستحيل، ولكن أكانت الاستجابة منحة خالصة أم كانت أقربَ إلى الامتحان؟ ألن يطالبها الله بأن لا يرتعشَ قلبُها بشكّ ولا تتقاعسَ جوارحُها عن طاعةٍ بعد اليوم؟
في ذلك الصباح رجع الخاتم المفقود، وفيه حمل هذان الشابان حِملاً ثقيلاً سينوء بهما إلى آخر العمر: لقد أراهما الله قدرته ورحمته، وصارا ملزمَين -منذ ذلك اليوم- بحصة مضاعفة من الوفاء ورَدّ الجميل. أمّا أنا فكان ما رأيته ذات يوم أغربَ وأعجب وأكثر إعجازاً، وكان امتحاني أثقل بكثير. القصة في الحلقة الآتية بمشيئة الله.
* * *
أعجوبة الدعاء: المعجزة التي رأيت
(2 من 2)
لا ريب أن كثيرين من القراء الكرام رأوا في حياتهم ما يشبه تلك الحادثة الغريبة (التي رويتُها في الجزء الأول من المقالة) ولعلها هي وأمثالها مما يُعَجِّب مَن لم يعرف هذه الحالات الفريدة من استجابة الدعاء، أما أنا فلا أعجب منها لأنني رأيت بعيني ما هو أعجب.
لقد أشعرني الله بوجوده ومعيّته ورحمته في كل يوم من أيام حياتي الطويلة، غيرَ أنه تكرم عليّ مرتين بإجابة دعاء مستحيل بالمقاييس البشرية المادية، مرتين لا أنساهما إلى الممات، سأروي قصةَ واحدةٍ منهما وأحتفظ بالثانية لنفسي. وهي قصة طويلة، وقد كان بوسعي أن أختصرها في سطرين، ولكني أحببت أن يعيش قارئها الحالة التي عشتها بتفاصيلها، فمَن صبر على قراءتها وصل إلى العبرة فيها، ومن استطالها فقفز عنها إلى خاتمتها فلا تثريب عليه.
* * *
كان ذلك منذ اثنتين وثلاثين سنة. كنت قد تركت العمل بالهندسة (التي حملت شهادتها الجامعية) واتجهت إلى العالَم الذي أحبه وأحسّ -إذا فارقته- بما تحسّ به سمكةٌ انتُزِعت من الماء، عالم الكتاب. كنت شاباً فيّاضاً بالهمة والحماسة، فاستأجرت في معرض استهلاكي محلّي مساحةً كبيرةً جداً، أربعمئة متر مربع، وملأتها بالكتب التي اشتغلتُ عدة أسابيع باختيارها من بعض المكتبات التي كنت أتعامل معها في ذلك الوقت. وقد بلغت قيمتُها قريباً من نصف مليون ريال، لم أسدد منها ريالاً لأني لم أكن أملك الثمن، فكان أصحابها يَمُنّون عليّ فيقدمونها لي "على التصريف"، فأبيع منها في المعارض ما أبيع ثم أرد الباقي وأسدد الحساب.
ولكي أخفف العبء اخترت مساحة خارجية مكشوفة، لأن المساحات الداخلية المسقوفة كانت غالية الثمن، وصمَّمتُ سُرادقاً كبيراً مكوَّناً من أربع خيام مربَّعة طولُ ضلع كلٍّ منها عشرة أمتار ومساحتها مئة متر مربع، وصلتها معاً من أطرافها، ثم رفعت كلاً منها على أنبوب معدني طوله أربعة أمتار ثَبّتُّه داخل عمود أوسع قطراً طوله متران. ولعلي استفدت من معلوماتي الهندسية (التي كانت ما تزال حية في ذهني يومها) فقدَّرت أحجام وأقطار الأنابيب التي تناسب ثقل الخيام الأربع، ولكني غفلت عن حساب قوة الرياح العاتية التي شاء الله أن تهبّ على جدة في ذلك اليوم الذي لا أنساه.
في ذلك الوقت من كل عام (في وسط الشتاء) تتعرض جدة ومكة لعاصفة خَماسينية تبدأ برياح هوجاء تملأ الجو بالأتربة، وربما مزّقت لوحات الشوارع الإعلانية واقتلعت بعض الأشجار، ثم تعقبها أمطار غزيرة تفيض منها الطرق والساحات.
كنّا في اليوم الثاني من أيام المعرض، وما تزال الكتب كلها أو جلّها على الأرفف تحت الخيام عندما بدأ الإعصار. لم تصمد الأنابيب المعدنية، فانكسرت في عُقَد الارتكاز (عند امتداد الأنبوب الصغير وسط الأنبوب الكبير) وانهارت الخيام فباتت الكتب على الأرفف في العراء، ثم انفتحت أبواب السماء. في بلاد الشام لا يعرف الناس هذا المطر العجيب الذي يتدفق من السماء كالسيل الدفّاع، نحن نعرف مطراً ناعماً يستمر يوماً وليلة فلا يكاد يبقى منه على الأرض أثر، أما مطر جدة ومكة فتفيض منه الشوارع وربما غرقت فيه السيارات إلى وسطها بعد ساعة أو ساعتين فحسب. لقد بدأت الكارثة.
* * *
كان لي أصدقاء وإخوة في الله كُثُر، والصديق الصَّدوق هو الذي يجده المرء في ساعة الحاجة والضيق، فما لبث هؤلاء الكرام أن تداعَوا فاجتمع منهم في أرض المعرض أكثر من عشرين في أقل من ساعة، وبدأ الجميع يعملون بجهد محموم تحت المطر المتدفق من السماء كالقِرَب المنفتحة: نحضر الصناديق الكرتونية ونكدّس فيها الكتب كيفما اتفق، ثم ننقلها إلى المعرض المسقوف (وقد تكرمت عليّ إدارة المعرض فوهبَتني مساحة صغيرة في الداخل، نحو سبعين متراً). ولكن الكتب كثيرة تملأ مئات الصناديق، والطريق بين الموقعين طويل، فما زلنا نعمل لا نبالي ببلل ولا تعب من العصر إلى الحادية عشرة ليلاً، قريباً من سبع ساعات، حتى فرغنا أخيراً من نقل الكتب كلها وصارت في أمان.
ولكن أكانت حقاً في أمان؟ هل نجت من الكارثة؟
لما وصل آخر الصناديق وعلمت أنها صارت كلها في الداخل بعيداً عن المطر بدأت بفحصها لأنني كنت مرعوباً من إصابة الكتب بالماء. والماء أحد عدوَّين شرسَين للكتاب أحدُهما عدو للآخر، الماء والنار. فأما النار فتأكل الكتاب من فورها، وأما الماء فما يزال الورق يمتصّه ببطء حتى يصبح الكتاب الواحد بسمك كتابَين وتلتصق أوراقُه بعضها ببعض فلا يصلح بعدها لشيء.
فتحت أقرب الصناديق إليّ واستخرجت الكتب العليا فوجدتها مبتلّة بالماء، فسحبت التي تحتها فإذا هي مثلها، والتي تحتها وتحتها، حتى وصلت إلى قعر الصندوق، فإذا الكتب كلها مبلّلة بالماء. ثم فتحت صندوقاً آخر وثالثاً ورابعاً وعاشراً وعشرين وثلاثين، والحال هي الحال. نعم، لقد أنقذنا الكتب من الغرق، ولكنا لم ننقذها من البلل. وكيف، وهي إنما جُمعت وعبئت ونُقلت تحت الماء المنهمر من السماء؟ فماذا نصنع الآن؟
(2 من 2)
لا ريب أن كثيرين من القراء الكرام رأوا في حياتهم ما يشبه تلك الحادثة الغريبة (التي رويتُها في الجزء الأول من المقالة) ولعلها هي وأمثالها مما يُعَجِّب مَن لم يعرف هذه الحالات الفريدة من استجابة الدعاء، أما أنا فلا أعجب منها لأنني رأيت بعيني ما هو أعجب.
لقد أشعرني الله بوجوده ومعيّته ورحمته في كل يوم من أيام حياتي الطويلة، غيرَ أنه تكرم عليّ مرتين بإجابة دعاء مستحيل بالمقاييس البشرية المادية، مرتين لا أنساهما إلى الممات، سأروي قصةَ واحدةٍ منهما وأحتفظ بالثانية لنفسي. وهي قصة طويلة، وقد كان بوسعي أن أختصرها في سطرين، ولكني أحببت أن يعيش قارئها الحالة التي عشتها بتفاصيلها، فمَن صبر على قراءتها وصل إلى العبرة فيها، ومن استطالها فقفز عنها إلى خاتمتها فلا تثريب عليه.
* * *
كان ذلك منذ اثنتين وثلاثين سنة. كنت قد تركت العمل بالهندسة (التي حملت شهادتها الجامعية) واتجهت إلى العالَم الذي أحبه وأحسّ -إذا فارقته- بما تحسّ به سمكةٌ انتُزِعت من الماء، عالم الكتاب. كنت شاباً فيّاضاً بالهمة والحماسة، فاستأجرت في معرض استهلاكي محلّي مساحةً كبيرةً جداً، أربعمئة متر مربع، وملأتها بالكتب التي اشتغلتُ عدة أسابيع باختيارها من بعض المكتبات التي كنت أتعامل معها في ذلك الوقت. وقد بلغت قيمتُها قريباً من نصف مليون ريال، لم أسدد منها ريالاً لأني لم أكن أملك الثمن، فكان أصحابها يَمُنّون عليّ فيقدمونها لي "على التصريف"، فأبيع منها في المعارض ما أبيع ثم أرد الباقي وأسدد الحساب.
ولكي أخفف العبء اخترت مساحة خارجية مكشوفة، لأن المساحات الداخلية المسقوفة كانت غالية الثمن، وصمَّمتُ سُرادقاً كبيراً مكوَّناً من أربع خيام مربَّعة طولُ ضلع كلٍّ منها عشرة أمتار ومساحتها مئة متر مربع، وصلتها معاً من أطرافها، ثم رفعت كلاً منها على أنبوب معدني طوله أربعة أمتار ثَبّتُّه داخل عمود أوسع قطراً طوله متران. ولعلي استفدت من معلوماتي الهندسية (التي كانت ما تزال حية في ذهني يومها) فقدَّرت أحجام وأقطار الأنابيب التي تناسب ثقل الخيام الأربع، ولكني غفلت عن حساب قوة الرياح العاتية التي شاء الله أن تهبّ على جدة في ذلك اليوم الذي لا أنساه.
في ذلك الوقت من كل عام (في وسط الشتاء) تتعرض جدة ومكة لعاصفة خَماسينية تبدأ برياح هوجاء تملأ الجو بالأتربة، وربما مزّقت لوحات الشوارع الإعلانية واقتلعت بعض الأشجار، ثم تعقبها أمطار غزيرة تفيض منها الطرق والساحات.
كنّا في اليوم الثاني من أيام المعرض، وما تزال الكتب كلها أو جلّها على الأرفف تحت الخيام عندما بدأ الإعصار. لم تصمد الأنابيب المعدنية، فانكسرت في عُقَد الارتكاز (عند امتداد الأنبوب الصغير وسط الأنبوب الكبير) وانهارت الخيام فباتت الكتب على الأرفف في العراء، ثم انفتحت أبواب السماء. في بلاد الشام لا يعرف الناس هذا المطر العجيب الذي يتدفق من السماء كالسيل الدفّاع، نحن نعرف مطراً ناعماً يستمر يوماً وليلة فلا يكاد يبقى منه على الأرض أثر، أما مطر جدة ومكة فتفيض منه الشوارع وربما غرقت فيه السيارات إلى وسطها بعد ساعة أو ساعتين فحسب. لقد بدأت الكارثة.
* * *
كان لي أصدقاء وإخوة في الله كُثُر، والصديق الصَّدوق هو الذي يجده المرء في ساعة الحاجة والضيق، فما لبث هؤلاء الكرام أن تداعَوا فاجتمع منهم في أرض المعرض أكثر من عشرين في أقل من ساعة، وبدأ الجميع يعملون بجهد محموم تحت المطر المتدفق من السماء كالقِرَب المنفتحة: نحضر الصناديق الكرتونية ونكدّس فيها الكتب كيفما اتفق، ثم ننقلها إلى المعرض المسقوف (وقد تكرمت عليّ إدارة المعرض فوهبَتني مساحة صغيرة في الداخل، نحو سبعين متراً). ولكن الكتب كثيرة تملأ مئات الصناديق، والطريق بين الموقعين طويل، فما زلنا نعمل لا نبالي ببلل ولا تعب من العصر إلى الحادية عشرة ليلاً، قريباً من سبع ساعات، حتى فرغنا أخيراً من نقل الكتب كلها وصارت في أمان.
ولكن أكانت حقاً في أمان؟ هل نجت من الكارثة؟
لما وصل آخر الصناديق وعلمت أنها صارت كلها في الداخل بعيداً عن المطر بدأت بفحصها لأنني كنت مرعوباً من إصابة الكتب بالماء. والماء أحد عدوَّين شرسَين للكتاب أحدُهما عدو للآخر، الماء والنار. فأما النار فتأكل الكتاب من فورها، وأما الماء فما يزال الورق يمتصّه ببطء حتى يصبح الكتاب الواحد بسمك كتابَين وتلتصق أوراقُه بعضها ببعض فلا يصلح بعدها لشيء.
فتحت أقرب الصناديق إليّ واستخرجت الكتب العليا فوجدتها مبتلّة بالماء، فسحبت التي تحتها فإذا هي مثلها، والتي تحتها وتحتها، حتى وصلت إلى قعر الصندوق، فإذا الكتب كلها مبلّلة بالماء. ثم فتحت صندوقاً آخر وثالثاً ورابعاً وعاشراً وعشرين وثلاثين، والحال هي الحال. نعم، لقد أنقذنا الكتب من الغرق، ولكنا لم ننقذها من البلل. وكيف، وهي إنما جُمعت وعبئت ونُقلت تحت الماء المنهمر من السماء؟ فماذا نصنع الآن؟
أنا الذي أكرمني الله مرتين فاستجاب دعائي فيهما فيما هو أقرب إلى المعجزة، هل يقبل مني بعدها درجة أقل من اليقين الكامل والطاعة المطلقة والاستسلام غير المشروط لقضائه وتدبيره؟ ابني وزوجته اللذان أراهما الله قدرتَه في ذلك الموقف العجيب، ثم احتاجا إليه مرة أخرى في موقف آخر واستجاب لهما من جديد، هل يقبل منهما بعد ذلك أقل من الإيمان العميق والامتثال الدقيق والتسليم لأمره والرضا بقدره في كل حال؟
أما عن نفسي فلم أنسَ قَطّ كرم الله وفضله عليّ، ولم يبلغ من قلة أدبي مع الله أن أطلب بعدها إثباتاً جديداً على محبته ورعايته، بل عشت دهراً من عمري مستظلاً بهذا الفضل متنعّماً بذكراه، مكتفياً بتلك الرسالة التي أرسلها لي الله لأعيش عليها إلى آخر العمر، حتى ألقاه وهو راض عني بإذنه تعالى (على كثرة ما تنعّمت بنعمه وشهدت إجابة دعواتي في السنين التاليات). وأما ابني وزوجته فإني -من خوفي عليهما- تمنيت من بعدُ لو لم يُستجَب دعاؤهما، فقد حمّلَتْهما الإجابةُ عبئاً أخشى أن ينوء بهما عبر السنين، وهما ما يزالان صغيرَين والعمر أمامهما مديد (لو مَدَّه الله) فما يُدريني ما يطرأ عليهما من ضعف وقوة وإقبال وإدبار في هذا العهد الطويل؟
* * *
هذا هو الذي أسمّيه "الابتلاء بإجابة الدعاء". فما استُجيب لي دعاء إلا تذكرت أصحاب المائدة وتصورت رُكّاب السفينة، وما أجيب دعاء إلا اعتبرت إجابته اختباراً من الله ورجوت الإعانة على النجاح فيه، وما تُرك لي دعاء بلا إجابة إلا ظننته عفواً من الله عافاني بتركه من اختبار ربما تعذّر عليّ النجاح فيه، وفي الأحوال كلها أكون من الراضين ومن الشاكرين.
فيا مَن دعوت ولم يُستجَب دعاؤك على الرغم من الإلحاح بالدعاء: ما يدريك أن الله أحبَّ أن ينجّيك من الامتحان وأن يخفف عنك الحساب، فعوّضك عن دعائك خيراً في الآخرة وترك إجابتك في الدنيا، حتى لا تكون الإجابة حجة عليك وعبئاً وندامة يوم الحساب؟ ارضَ واشكر، فإن الرضا أحد ركنَي "ثنائية الدعاء"، وهذا هو موضوع الحلقة الآتية، وهي الأخيرة في مقالات "الدعاء" بتيسير الرحمن الرحيم.
* * *
أما عن نفسي فلم أنسَ قَطّ كرم الله وفضله عليّ، ولم يبلغ من قلة أدبي مع الله أن أطلب بعدها إثباتاً جديداً على محبته ورعايته، بل عشت دهراً من عمري مستظلاً بهذا الفضل متنعّماً بذكراه، مكتفياً بتلك الرسالة التي أرسلها لي الله لأعيش عليها إلى آخر العمر، حتى ألقاه وهو راض عني بإذنه تعالى (على كثرة ما تنعّمت بنعمه وشهدت إجابة دعواتي في السنين التاليات). وأما ابني وزوجته فإني -من خوفي عليهما- تمنيت من بعدُ لو لم يُستجَب دعاؤهما، فقد حمّلَتْهما الإجابةُ عبئاً أخشى أن ينوء بهما عبر السنين، وهما ما يزالان صغيرَين والعمر أمامهما مديد (لو مَدَّه الله) فما يُدريني ما يطرأ عليهما من ضعف وقوة وإقبال وإدبار في هذا العهد الطويل؟
* * *
هذا هو الذي أسمّيه "الابتلاء بإجابة الدعاء". فما استُجيب لي دعاء إلا تذكرت أصحاب المائدة وتصورت رُكّاب السفينة، وما أجيب دعاء إلا اعتبرت إجابته اختباراً من الله ورجوت الإعانة على النجاح فيه، وما تُرك لي دعاء بلا إجابة إلا ظننته عفواً من الله عافاني بتركه من اختبار ربما تعذّر عليّ النجاح فيه، وفي الأحوال كلها أكون من الراضين ومن الشاكرين.
فيا مَن دعوت ولم يُستجَب دعاؤك على الرغم من الإلحاح بالدعاء: ما يدريك أن الله أحبَّ أن ينجّيك من الامتحان وأن يخفف عنك الحساب، فعوّضك عن دعائك خيراً في الآخرة وترك إجابتك في الدنيا، حتى لا تكون الإجابة حجة عليك وعبئاً وندامة يوم الحساب؟ ارضَ واشكر، فإن الرضا أحد ركنَي "ثنائية الدعاء"، وهذا هو موضوع الحلقة الآتية، وهي الأخيرة في مقالات "الدعاء" بتيسير الرحمن الرحيم.
* * *
ذهبت فاشتريت ربطة كبيرة من علب المناديل الورقية، ثم اجتمع الشباب فصرنا نفرغ الصندوق مما فيه ونمسح كل كتاب من الكتب من جهاته الستّ جميعاً، فمضت ساعتان ولم نُنْهِ غيرَ عشرة صناديق، وبقي أمامنا أكثر من أربعمئة صندوق! وكان الشباب قد بلغ بهم التعب غايته فبدؤوا بالانسحاب واحداً بعد واحد، وأنا ماض في العمل لا أكاد أبصر شيئاً مما يدور حولي، حتى لم يبقَ إلا واحد فقال: ماذا تصنع؟ حتى لو كنا مئة فلن ننتهي في أقل من ثلاثة أيام، ففي هذه الصناديق ثلاثون ألف كتاب أو أربعون ألفاً أو خمسون، وكل واحد لا بد من تجفيفه بإخلاص حتى لا يتشرّب ورُقه أيَّ بقية من ماء تبقى فيه فتقضي عليه. اذهب فارتَحْ ونَمْ، وسوف نعود كلنا في الصباح فنعمل ما يقدّرنا الله عليه، واحتسب خسارتك عند الله.
كانت الساعة قد جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل ولم يبقَ شيء يمكن عمله، فاستسلمت، وذهبت إلى البيت وقد فتك بي الهم والتعب، فاغتسلت ورميت نفسي في الفراش، وعندها بدأت الليلة التي لا تُنسَى.
* * *
لو قلت إني أمضيت الليل لم يغمض لي جفن لخشيت أن أختلط بآلاف الناس الذين لاكُوا هذه العبارة وابتذلوها حتى فقدت معناها، فإنهم يُمضون في الأرق ساعة أو ساعتين وينامون سائر الليل ثم يزعمون ما يزعمون. أما أنا فلم أنَمْ في تلك الليلة لحظة، ولا لحظة واحدة، حقيقة لا على المبالغة والمجاز. أمضيت ساعتين أرِقاً مهموماً متقلباً في الفراش، أفكر في الكارثة التي أصابتني فلا أجد منها مخرجاً. كنت في بواكير حياتي التجارية وقتها، لم آلَف الأرقام الكبيرة بعد، فكنت أرى دَيناً من خمس خانات حملاً يكسر الظهر، فكيف بدَين من ست خانات؟! وكان آخر عمل تركته قبل سنتين يمنحني في الشهر خمسة آلاف، أي أنني سأعمل مئة شهر -بمَورد مثله- لأردّ الدين الذي حَمَّلَتْنيه العاصفة!
لما تصورت الحالة التي تركتُ الكتبَ عليها ورائي وفكرت بالكارثة التي وقعت على رأسي بلغ بي اليأس غايته، فانقطع أملي بالأسباب المادية الدنيوية ولم يبقَ لي إلا الاتصال بحبل السماء. بدأت بالدعاء، ثم استغرقت فيه حتى وصلت إلى حالة عجيبة لم آلفها في نفسي من قبل؛ فقدتُ الصلة بهذا العالم الأرضي الذي كنت أعيش فيه وشعرت كأنني ارتقيت إلى عالم علوي وبِتّ معلّقاً بين الأرض والسماء. أقسم بالله إني ما عدت أحسّ بالدنيا ولا بالناس ولا بالأسباب ولا أرى إلا قدرة الله ورحمة الله، نسيت نفسي ونسيت الزمن وغرقت في الدعاء وقد تعلق قلبي بالله وحده وليس بشيء سواه، حتى سمعت أذان الفجر. وكان الليل طويلاً، كنا في جوف الشتاء، فلعلها مضت أربع ساعات وأنا في تلك الحالة ولم أحسّ بها أكثر من دقائق معدودات!
لما سمعت الأذان قمت فتوضأت وذهبت إلى المسجد القريب فصليت الفريضة مع الإمام، ثم انقلبت إلى المعرض فوصلت قبل الجميع، حتى عمال النظافة لم يكونوا هناك في تلك الساعة المبكرة.
اتجهت من فوري إلى الصناديق وفي ذهني أن نُمضي -أنا والشباب- اليوم بطوله بتجفيف الكتب، لعلنا ننقذ ما يمكن إنقاذه. فتحت أقرب صندوق رأيته أمامي واستخرجت الطبقة العليا من الكتب، فوجدتها كلها جافة كأنْ لم تمسَسْها قطرة ماء قط. أخرجت التي تحتها والتي تحتها، حتى أفرغت الصندوق كله، فما وجدت فيه أي أثر لبلل، ولا لقطرة ماء واحدة! فتحت الثاني وأفرغته، والثالث والعاشر والعشرات، وكلما أفرغت صندوقاً وجدت الكتب جافة جفاف الشوك في نهار الصحراء!
عندئذ سقطت على الأرض وأجهشت بالبكاء! لا أدري أهو بكاء الفرح أم الدهشة أم الشكر والامتنان! أنا ابن هذا العالَم، عالَم الكتب، وقد عشت فيه ثلث قرن وأعرف ما يعني ماءٌ على كتاب. أعرف كيف يمتص الورق الماء حتى يجف وتتيبّس أوراقه ويلتصق بعضها ببعض، ولكني لا أعرف كيف يجفّ كتاب مبلول محشوّ في صندوق مقفل! لا أعرف كيف يحصل ذلك في أي يوم، ولم أعرف كيف حصل في تلك الليلة العجيبة، ولم يهمَّني أن أعرف، كفاني ما عرفت: لقد استُجيب الدعاء وتحقق ما كنت أظنه من المستحيلات.
* * *
على مر السنين طلب مني إخوة أفاضل أن أحكي لهم هذه الحكاية، وكنت دائماً أتهرب من حكايتها، فإني لم أبدأ بروايتها في أي مرة ثم نجحت في إكمالها بغير حشرجة ودموع، وما استطعت كتابتها اليوم إلا بمثل ذلك، أقسم بالله إني أكتبها بعينين فاض فيهما الدمع مع التأثر والانفعال، فإني ما أزال أتذكر تلك الحادثة وأسترجع تفصيلاتها الدقيقة بمشاعرها الكاملة كأنما أعيشها من جديد.
في ذلك الصباح رأيت المعجزة! رأيت قدرة الله ورحمة الله وجلال الله وعظمة الله. في تلك اللحظة عاهدت الله أن لا أكون كراكبي الفُلْك الذين دعَوه فعرفوه ثم جحدوه ، عاهدت الله أن لا أنسى ذلك المعروف ما حييت.
* * *
لو أطلت السرد فاقبلوا مني الاعتذار عن التطويل، وأعود إلى بيت القصيد لأجيب عن السؤال الذي طرحته في مطلع هذه المقالة: كيف يكون الابتلاء في إجابة الدعاء ورفع البلاء؟ حسناً، هذا هو الجواب.
كانت الساعة قد جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل ولم يبقَ شيء يمكن عمله، فاستسلمت، وذهبت إلى البيت وقد فتك بي الهم والتعب، فاغتسلت ورميت نفسي في الفراش، وعندها بدأت الليلة التي لا تُنسَى.
* * *
لو قلت إني أمضيت الليل لم يغمض لي جفن لخشيت أن أختلط بآلاف الناس الذين لاكُوا هذه العبارة وابتذلوها حتى فقدت معناها، فإنهم يُمضون في الأرق ساعة أو ساعتين وينامون سائر الليل ثم يزعمون ما يزعمون. أما أنا فلم أنَمْ في تلك الليلة لحظة، ولا لحظة واحدة، حقيقة لا على المبالغة والمجاز. أمضيت ساعتين أرِقاً مهموماً متقلباً في الفراش، أفكر في الكارثة التي أصابتني فلا أجد منها مخرجاً. كنت في بواكير حياتي التجارية وقتها، لم آلَف الأرقام الكبيرة بعد، فكنت أرى دَيناً من خمس خانات حملاً يكسر الظهر، فكيف بدَين من ست خانات؟! وكان آخر عمل تركته قبل سنتين يمنحني في الشهر خمسة آلاف، أي أنني سأعمل مئة شهر -بمَورد مثله- لأردّ الدين الذي حَمَّلَتْنيه العاصفة!
لما تصورت الحالة التي تركتُ الكتبَ عليها ورائي وفكرت بالكارثة التي وقعت على رأسي بلغ بي اليأس غايته، فانقطع أملي بالأسباب المادية الدنيوية ولم يبقَ لي إلا الاتصال بحبل السماء. بدأت بالدعاء، ثم استغرقت فيه حتى وصلت إلى حالة عجيبة لم آلفها في نفسي من قبل؛ فقدتُ الصلة بهذا العالم الأرضي الذي كنت أعيش فيه وشعرت كأنني ارتقيت إلى عالم علوي وبِتّ معلّقاً بين الأرض والسماء. أقسم بالله إني ما عدت أحسّ بالدنيا ولا بالناس ولا بالأسباب ولا أرى إلا قدرة الله ورحمة الله، نسيت نفسي ونسيت الزمن وغرقت في الدعاء وقد تعلق قلبي بالله وحده وليس بشيء سواه، حتى سمعت أذان الفجر. وكان الليل طويلاً، كنا في جوف الشتاء، فلعلها مضت أربع ساعات وأنا في تلك الحالة ولم أحسّ بها أكثر من دقائق معدودات!
لما سمعت الأذان قمت فتوضأت وذهبت إلى المسجد القريب فصليت الفريضة مع الإمام، ثم انقلبت إلى المعرض فوصلت قبل الجميع، حتى عمال النظافة لم يكونوا هناك في تلك الساعة المبكرة.
اتجهت من فوري إلى الصناديق وفي ذهني أن نُمضي -أنا والشباب- اليوم بطوله بتجفيف الكتب، لعلنا ننقذ ما يمكن إنقاذه. فتحت أقرب صندوق رأيته أمامي واستخرجت الطبقة العليا من الكتب، فوجدتها كلها جافة كأنْ لم تمسَسْها قطرة ماء قط. أخرجت التي تحتها والتي تحتها، حتى أفرغت الصندوق كله، فما وجدت فيه أي أثر لبلل، ولا لقطرة ماء واحدة! فتحت الثاني وأفرغته، والثالث والعاشر والعشرات، وكلما أفرغت صندوقاً وجدت الكتب جافة جفاف الشوك في نهار الصحراء!
عندئذ سقطت على الأرض وأجهشت بالبكاء! لا أدري أهو بكاء الفرح أم الدهشة أم الشكر والامتنان! أنا ابن هذا العالَم، عالَم الكتب، وقد عشت فيه ثلث قرن وأعرف ما يعني ماءٌ على كتاب. أعرف كيف يمتص الورق الماء حتى يجف وتتيبّس أوراقه ويلتصق بعضها ببعض، ولكني لا أعرف كيف يجفّ كتاب مبلول محشوّ في صندوق مقفل! لا أعرف كيف يحصل ذلك في أي يوم، ولم أعرف كيف حصل في تلك الليلة العجيبة، ولم يهمَّني أن أعرف، كفاني ما عرفت: لقد استُجيب الدعاء وتحقق ما كنت أظنه من المستحيلات.
* * *
على مر السنين طلب مني إخوة أفاضل أن أحكي لهم هذه الحكاية، وكنت دائماً أتهرب من حكايتها، فإني لم أبدأ بروايتها في أي مرة ثم نجحت في إكمالها بغير حشرجة ودموع، وما استطعت كتابتها اليوم إلا بمثل ذلك، أقسم بالله إني أكتبها بعينين فاض فيهما الدمع مع التأثر والانفعال، فإني ما أزال أتذكر تلك الحادثة وأسترجع تفصيلاتها الدقيقة بمشاعرها الكاملة كأنما أعيشها من جديد.
في ذلك الصباح رأيت المعجزة! رأيت قدرة الله ورحمة الله وجلال الله وعظمة الله. في تلك اللحظة عاهدت الله أن لا أكون كراكبي الفُلْك الذين دعَوه فعرفوه ثم جحدوه ، عاهدت الله أن لا أنسى ذلك المعروف ما حييت.
* * *
لو أطلت السرد فاقبلوا مني الاعتذار عن التطويل، وأعود إلى بيت القصيد لأجيب عن السؤال الذي طرحته في مطلع هذه المقالة: كيف يكون الابتلاء في إجابة الدعاء ورفع البلاء؟ حسناً، هذا هو الجواب.
الدعاء: ثنائية الطلب والرضا
-1-
ليس كل دعاء يدعوه الناس يُستجاب، لا يمكن، ولو أن كل دعاء لكل محتاج أجيب لما بقي في الدنيا مرض ولا فقر ولا بلاء، لأن كل مريض يدعو الله بالشفاء وكل فقير يدعوه بالغنى وكل مبتلى يدعوه بالعافية، فإذا ارتفع ذلك كله من الأرض غدت الدنيا قطعة من الجنة. لكن هذا لا يمكن أن يتحقق لأنه يخالف أصلاً من الأصول التي بُنيت الدنيا عليها، هو أنها دار ابتلاء وشقاء: {لقد خلقنا الإنسان في كبَد}، {ولنَبلُوَنّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفُسِ والثمرات}.
ولو أن كل دعاء لكل داعٍ أجيب لما بقي في الدنيا شر ولصارت كلها خيراً محضاً، لأن الأخيار يَدْعون على الأشرار فيُستجاب دعاؤهم فيأخذهم الله ويريح منهم العباد، لكن هذا لا يمكن أن يتحقق لأنه يخالف أصلاً آخر من الأصول التي بُنيت الدنيا عليها، هو أنها دار خير وشر: {ونبلوكم بالشرّ والخير}، {وكذلك فَتَنّا بعضَهم ببعض}، {قال اهبطا منها جميعاً، بعضكم لبعض عدو}.
باختصار: لو أن كل الأدعية أُجيبت لما بقيت الدنيا هي الدنيا التي أرادها الله، ولصارت قطعة من جنّة الآخرة، وهذا لا يكون، فلا بد أن تستجاب أدعيةٌ للناس وتُترك أدعية أخرى غيرها بلا جواب، على الأقل ليس في هذه الدنيا الفانية وليس بالصورة التي دعا بها الداعون.
-2-
إن الدعاء في حقيقته هو علاقة الأدنى بالأعلى وطلبُ الضعيف من القوي، ولو شئنا أن نفهم هذه العلاقة على حقيقتها فلنتصور علاقة الأطفال الضعفاء العاجزين بالوالدِين الأقوياء القادرين، ولله المثل الأعلى.
إن الأم والأب يَقبلان من ابنهما كل طلب، بل إنهما يحبان أن يطلب منهما ما شاء، لأن في طلبه منهما وحاجته إليهما تعزيزاً لمشاعر الأبوّة والأمومة الجميلة. وعوالم الصغار محدودة بسيطة ومطالبهم متواضعة صغيرة مثلهم، فربما كانت أعظم أمانيّ الطفل أن تعطيه أمه بعض السكاكر والحلويات عدة مرات كل يوم وأن يشتري له أبوه لعبة صغيرة رخيصة مرة كل بضعة أيام.
هذه الطلبات الضئيلة يستطيع تلبيتَها معظمُ الوالدِين ولا تشكل عبئاً حقيقياً عليهم، ولكن الأب والأم يكونان دائماً انتقائيَّين في إجابة مطالب الصغير، فربما أجاباه مرة وردّاه مرتين، وهما يتوقعان الشكرَ والتقدير مع الإجابة، والقناعةَ والرضا مع الإعراض، ولا يتخيلان أن يغضب الطفل ويتسخّط لو لم يجيباه مرة وقد أجاباه قبلها مرات، لا سيما وأن لهما في ترك الإجابة تقديراً هو في صالح الطفل قطعاً، لأنهما يحبانه أكثر من حبهما لنفسَيهما ويقدمان رضاه على رضاهما لو استطاعا، غريزةً غرزَها الله فيهما ليست لهما فيها يد ولا يملكان لها رداً.
-3-
إن الأب الذي يحب طفله يودّ لو فرّحه بإجابة كل طلب ولم يحرمه من شيء تمناه، ولكنه يغالب نفسه (لو كان أباً عاقلاً حكيماً) فيمنح الطفل بعضَ ما يطلبه ويحرمه من أكثره، ثم لا يقول أحدٌ إنه أب ظالم أو مُقَتّر، بل يقولون إنه مُرَبٍّ حاذقٌ وأب حنون.
أرأيتم إلى أبَوَي الطفل الصغير كيف يفرحهما طلب الصغير منهما ويشعرهما بمشاعر الأبوّة والأمومة الجميلة؟ كذلك (ولله المثل الأعلى) يحب الرب القوي القدير اللطيف من عبده الضعيف أن يدعوه في كل حال، ولذلك كان الدعاء عبادة من أشرف العبادات. أرأيتم كيف أجاب الأبوان بعض مطالب الصغير وأعرضا عن كثير منها فلم يستجيبا له؟ كذلك (ولله المثل الأعلى) يجيب الرب الكريم الرحيم الحكيم بعض أدعيتنا ويترك كثيراً منها بلا جواب.
أرأيتم كيف يكبر الطفل ويعقل فيدرك -وقد ترك عالم الطفولة وانتقل إلى دنيا الراشدين- أن أبوَيه ما منحاه ولا منعاه إلا محبةً به وشفقة عليه، ويدرك الحكمة فيما بدا له ذات يوم أقربَ إلى العقوبة والحرمان؟ كذلك سندرك نحن -إذا انكشف الغطاء وانتقلنا من دار الفناء إلى دار البقاء- أن ما اختاره الله لنا كان خيراً مما اخترناه لأنفسنا، وأنه ما منع ولا منح إلا محبة بنا وحرصاً علينا. سندرك ذلك ذات يوم، فهلاّ أدركناه اليوم لنكون من الراضين والشاكرين؟
-4-
إن الأب يعطي ويمنع ولا يقبل من طفله الصغير في الحالتين إلا الرضا، وإنه ليؤلمه أن يستخّط الطفل إذا حُرم في وقت من الأوقات وينسى الأعطيات الكثيرات في سائر الأوقات. إنه يحب أن يطلب منه طفله الحبيب ما شاء في كل آن، ولكنه يشترط -ضمناً- أن يرضى الطفل باختياره الحكيم، أن يرضى إذا حُرِم ويرضى إذا أجيب.
ليس طفلاً صالحاً مَن علّق محبته لوالديه بإجابة طلباته، وليس عبداً صالحاً مَن صنع مثل ذلك مع الله. فاطلب ما شئت من الله وادعُه في كل حين وحال، ولكن جهّزْ من نفسك -قبل أن ترفع يديك إلى السماء بالدعاء- قلباً شاكراً ونفساً راضية. تذكر أن الدعاء "طلبٌ ورضا"، طلب ترفعه إلى الخالق ورضا بما يختاره لك، ليس رضا مشروطاً بالإجابة، بل رضا كاملاً في كل حال.
-1-
ليس كل دعاء يدعوه الناس يُستجاب، لا يمكن، ولو أن كل دعاء لكل محتاج أجيب لما بقي في الدنيا مرض ولا فقر ولا بلاء، لأن كل مريض يدعو الله بالشفاء وكل فقير يدعوه بالغنى وكل مبتلى يدعوه بالعافية، فإذا ارتفع ذلك كله من الأرض غدت الدنيا قطعة من الجنة. لكن هذا لا يمكن أن يتحقق لأنه يخالف أصلاً من الأصول التي بُنيت الدنيا عليها، هو أنها دار ابتلاء وشقاء: {لقد خلقنا الإنسان في كبَد}، {ولنَبلُوَنّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفُسِ والثمرات}.
ولو أن كل دعاء لكل داعٍ أجيب لما بقي في الدنيا شر ولصارت كلها خيراً محضاً، لأن الأخيار يَدْعون على الأشرار فيُستجاب دعاؤهم فيأخذهم الله ويريح منهم العباد، لكن هذا لا يمكن أن يتحقق لأنه يخالف أصلاً آخر من الأصول التي بُنيت الدنيا عليها، هو أنها دار خير وشر: {ونبلوكم بالشرّ والخير}، {وكذلك فَتَنّا بعضَهم ببعض}، {قال اهبطا منها جميعاً، بعضكم لبعض عدو}.
باختصار: لو أن كل الأدعية أُجيبت لما بقيت الدنيا هي الدنيا التي أرادها الله، ولصارت قطعة من جنّة الآخرة، وهذا لا يكون، فلا بد أن تستجاب أدعيةٌ للناس وتُترك أدعية أخرى غيرها بلا جواب، على الأقل ليس في هذه الدنيا الفانية وليس بالصورة التي دعا بها الداعون.
-2-
إن الدعاء في حقيقته هو علاقة الأدنى بالأعلى وطلبُ الضعيف من القوي، ولو شئنا أن نفهم هذه العلاقة على حقيقتها فلنتصور علاقة الأطفال الضعفاء العاجزين بالوالدِين الأقوياء القادرين، ولله المثل الأعلى.
إن الأم والأب يَقبلان من ابنهما كل طلب، بل إنهما يحبان أن يطلب منهما ما شاء، لأن في طلبه منهما وحاجته إليهما تعزيزاً لمشاعر الأبوّة والأمومة الجميلة. وعوالم الصغار محدودة بسيطة ومطالبهم متواضعة صغيرة مثلهم، فربما كانت أعظم أمانيّ الطفل أن تعطيه أمه بعض السكاكر والحلويات عدة مرات كل يوم وأن يشتري له أبوه لعبة صغيرة رخيصة مرة كل بضعة أيام.
هذه الطلبات الضئيلة يستطيع تلبيتَها معظمُ الوالدِين ولا تشكل عبئاً حقيقياً عليهم، ولكن الأب والأم يكونان دائماً انتقائيَّين في إجابة مطالب الصغير، فربما أجاباه مرة وردّاه مرتين، وهما يتوقعان الشكرَ والتقدير مع الإجابة، والقناعةَ والرضا مع الإعراض، ولا يتخيلان أن يغضب الطفل ويتسخّط لو لم يجيباه مرة وقد أجاباه قبلها مرات، لا سيما وأن لهما في ترك الإجابة تقديراً هو في صالح الطفل قطعاً، لأنهما يحبانه أكثر من حبهما لنفسَيهما ويقدمان رضاه على رضاهما لو استطاعا، غريزةً غرزَها الله فيهما ليست لهما فيها يد ولا يملكان لها رداً.
-3-
إن الأب الذي يحب طفله يودّ لو فرّحه بإجابة كل طلب ولم يحرمه من شيء تمناه، ولكنه يغالب نفسه (لو كان أباً عاقلاً حكيماً) فيمنح الطفل بعضَ ما يطلبه ويحرمه من أكثره، ثم لا يقول أحدٌ إنه أب ظالم أو مُقَتّر، بل يقولون إنه مُرَبٍّ حاذقٌ وأب حنون.
أرأيتم إلى أبَوَي الطفل الصغير كيف يفرحهما طلب الصغير منهما ويشعرهما بمشاعر الأبوّة والأمومة الجميلة؟ كذلك (ولله المثل الأعلى) يحب الرب القوي القدير اللطيف من عبده الضعيف أن يدعوه في كل حال، ولذلك كان الدعاء عبادة من أشرف العبادات. أرأيتم كيف أجاب الأبوان بعض مطالب الصغير وأعرضا عن كثير منها فلم يستجيبا له؟ كذلك (ولله المثل الأعلى) يجيب الرب الكريم الرحيم الحكيم بعض أدعيتنا ويترك كثيراً منها بلا جواب.
أرأيتم كيف يكبر الطفل ويعقل فيدرك -وقد ترك عالم الطفولة وانتقل إلى دنيا الراشدين- أن أبوَيه ما منحاه ولا منعاه إلا محبةً به وشفقة عليه، ويدرك الحكمة فيما بدا له ذات يوم أقربَ إلى العقوبة والحرمان؟ كذلك سندرك نحن -إذا انكشف الغطاء وانتقلنا من دار الفناء إلى دار البقاء- أن ما اختاره الله لنا كان خيراً مما اخترناه لأنفسنا، وأنه ما منع ولا منح إلا محبة بنا وحرصاً علينا. سندرك ذلك ذات يوم، فهلاّ أدركناه اليوم لنكون من الراضين والشاكرين؟
-4-
إن الأب يعطي ويمنع ولا يقبل من طفله الصغير في الحالتين إلا الرضا، وإنه ليؤلمه أن يستخّط الطفل إذا حُرم في وقت من الأوقات وينسى الأعطيات الكثيرات في سائر الأوقات. إنه يحب أن يطلب منه طفله الحبيب ما شاء في كل آن، ولكنه يشترط -ضمناً- أن يرضى الطفل باختياره الحكيم، أن يرضى إذا حُرِم ويرضى إذا أجيب.
ليس طفلاً صالحاً مَن علّق محبته لوالديه بإجابة طلباته، وليس عبداً صالحاً مَن صنع مثل ذلك مع الله. فاطلب ما شئت من الله وادعُه في كل حين وحال، ولكن جهّزْ من نفسك -قبل أن ترفع يديك إلى السماء بالدعاء- قلباً شاكراً ونفساً راضية. تذكر أن الدعاء "طلبٌ ورضا"، طلب ترفعه إلى الخالق ورضا بما يختاره لك، ليس رضا مشروطاً بالإجابة، بل رضا كاملاً في كل حال.
المستقبَل المنشود
كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله وهو في السابعة والخمسين:
ما المستقبل الذي نسعى إليه ونَكِدُّ من أجله؟
لما كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة، فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة، فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار وإنسال الولد، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحَفَدة صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدَّخَر وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تمَّ لي -بفضل الله- ذلك كله لم يبقَ لي مستقبل أفكر فيه، إلا أن ينوّر الله بصيرتي ويريني طريقي فأعمل للمستقبل الباقي، للآخرة، وإنّي لَفي غفلة عنها.
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له؛ إنه يوم لن يأتي أبداً، لأنه إن جاء صار حاضراً وطفق صاحبه يفتش عن مستقبل آخر يركض وراءه. إنه -كما قلت مرة- مثل حزمة الحشيش المعلَّقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس، تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً.
إن المستقبل الحق في الآخرة، فأين منا من يعمل له؟ بل أين من يفكر فيه؟
وقد يكون هذا الذي أقوله فلسفة، ولكنها فلسفة واقعة، إنها حقائق لا يفكر فيها أحدٌ منّا. نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة، همّه الغرفة الجميلة أو المقعد المريح، يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ويَصْفَح الجرائد والمجلات، ينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد، ولكن هذا كله لأيام السفر، وأيام السفر معدودة. أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه؟ أما كان أنفع له لو تحمل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة، ووفّر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة؟ أم قد شغلته متعةُ السفر عن التفكير في سبب السفر، وجمالُ الطريق عن غاية الطريق؟
الحياة سفر، فكم من الناس يسأل نفسه: لِمَ السفر؟ وإلى أين الرحيل؟ كم منا من يسأل: ما الحياة؟ ولماذا خُلقنا؟ وإلامَ المصير؟
[كتاب "صور وخواطر"، مقالة "عام جديد" (نشرت سنة 1966)]
كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله وهو في السابعة والخمسين:
ما المستقبل الذي نسعى إليه ونَكِدُّ من أجله؟
لما كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة، فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة، فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار وإنسال الولد، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحَفَدة صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدَّخَر وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تمَّ لي -بفضل الله- ذلك كله لم يبقَ لي مستقبل أفكر فيه، إلا أن ينوّر الله بصيرتي ويريني طريقي فأعمل للمستقبل الباقي، للآخرة، وإنّي لَفي غفلة عنها.
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له؛ إنه يوم لن يأتي أبداً، لأنه إن جاء صار حاضراً وطفق صاحبه يفتش عن مستقبل آخر يركض وراءه. إنه -كما قلت مرة- مثل حزمة الحشيش المعلَّقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس، تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً.
إن المستقبل الحق في الآخرة، فأين منا من يعمل له؟ بل أين من يفكر فيه؟
وقد يكون هذا الذي أقوله فلسفة، ولكنها فلسفة واقعة، إنها حقائق لا يفكر فيها أحدٌ منّا. نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة، همّه الغرفة الجميلة أو المقعد المريح، يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ويَصْفَح الجرائد والمجلات، ينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد، ولكن هذا كله لأيام السفر، وأيام السفر معدودة. أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه؟ أما كان أنفع له لو تحمل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة، ووفّر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة؟ أم قد شغلته متعةُ السفر عن التفكير في سبب السفر، وجمالُ الطريق عن غاية الطريق؟
الحياة سفر، فكم من الناس يسأل نفسه: لِمَ السفر؟ وإلى أين الرحيل؟ كم منا من يسأل: ما الحياة؟ ولماذا خُلقنا؟ وإلامَ المصير؟
[كتاب "صور وخواطر"، مقالة "عام جديد" (نشرت سنة 1966)]
جريمة تجريم الثورة
إذا وقعت البقرة تكاثرت عليها السكاكين.
اليوم نطقت ألسنةٌ طالَ صمتُها، نطقت لتجرّم ثورتنا وتحمّل ثوارنا الأوائل مسؤوليةَ ما لحق بسوريا من دمار وما سُفك فيها من دماء. ما أولئك اللائمون من النبلاء الكرام، بل هم أنذال لئام، فإن أسوأ الناس قاطبةً مَن لامَ الضحية وسكت عن الجلاد.
* * *
إن من حقنا، بل من واجبنا، أن نحاكم المجرمين -من الغلاة والفاسدين والانتهازيين- الذين أنهكوا الثورة وفتكوا بها. ومن حقنا، بل من واجبنا، أن ننتقد الأداء الفاشل والأدوات الفاسدة التي أوصلت ثورتنا لهذه النهاية الحزينة. ومن حقنا، بل من واجبنا، أن ندرس ثورتنا لنعرف صوابَها ونعرف خطأها، لنستخرج منها الدروس والعِبَر، عسى أن نستفيد منها فيما بقي من ثورة اليوم الحاضر أو يستفيد منها جيلٌ آتٍ سيفجّر ثورة جديدة ذات يوم.
كل أولئك باب مشروعٌ للنقد والحساب، أما الثورة وطلائع الثوار فلا يجرّمها ويجرّمهم إلا مجرم معدوم الضمير. ومتى كان حب الحرية جريمة؟ كيف يكون السعي للخلاص من الطغيان والاستعباد والاستبداد جريمة؟ إن الجريمة هي السكوت عن الظلم، الجريمة هي الرضا بالهوان، الجريمة هي التصالح مع القتلة، الجريمة هي تسويغ الحياة مع المجرمين.
الجريمة الحقيقية هي لومُ الضحية بلسان سليط وبَلْعُه في حضرة السفّاح.
* * *
لا، ما كانت الثورة قط خطأ يستحق اللوم والدَّين والتجريم، ولا كان الشرفاء الذين حملوا مشعل الثورة أول مرة وطافوا به في شوارع الرعب واليأس مخطئين، بل كانت الثورة دائماً وستبقى أبداً حقاً مشروعاً للمظلومين والمعذَّبين في الأرض، لأسرى العبودية وضحايا الاستبداد.
إن الثورة سماء ترتفع فوق أرض الألم والقهر والظلم والعذاب، وثوارنا الأوائل هم النجوم التي ترصّع تلك السماء وتُشِعّ فيها شُعاعات الأمل والضياء.
إذا وقعت البقرة تكاثرت عليها السكاكين.
اليوم نطقت ألسنةٌ طالَ صمتُها، نطقت لتجرّم ثورتنا وتحمّل ثوارنا الأوائل مسؤوليةَ ما لحق بسوريا من دمار وما سُفك فيها من دماء. ما أولئك اللائمون من النبلاء الكرام، بل هم أنذال لئام، فإن أسوأ الناس قاطبةً مَن لامَ الضحية وسكت عن الجلاد.
* * *
إن من حقنا، بل من واجبنا، أن نحاكم المجرمين -من الغلاة والفاسدين والانتهازيين- الذين أنهكوا الثورة وفتكوا بها. ومن حقنا، بل من واجبنا، أن ننتقد الأداء الفاشل والأدوات الفاسدة التي أوصلت ثورتنا لهذه النهاية الحزينة. ومن حقنا، بل من واجبنا، أن ندرس ثورتنا لنعرف صوابَها ونعرف خطأها، لنستخرج منها الدروس والعِبَر، عسى أن نستفيد منها فيما بقي من ثورة اليوم الحاضر أو يستفيد منها جيلٌ آتٍ سيفجّر ثورة جديدة ذات يوم.
كل أولئك باب مشروعٌ للنقد والحساب، أما الثورة وطلائع الثوار فلا يجرّمها ويجرّمهم إلا مجرم معدوم الضمير. ومتى كان حب الحرية جريمة؟ كيف يكون السعي للخلاص من الطغيان والاستعباد والاستبداد جريمة؟ إن الجريمة هي السكوت عن الظلم، الجريمة هي الرضا بالهوان، الجريمة هي التصالح مع القتلة، الجريمة هي تسويغ الحياة مع المجرمين.
الجريمة الحقيقية هي لومُ الضحية بلسان سليط وبَلْعُه في حضرة السفّاح.
* * *
لا، ما كانت الثورة قط خطأ يستحق اللوم والدَّين والتجريم، ولا كان الشرفاء الذين حملوا مشعل الثورة أول مرة وطافوا به في شوارع الرعب واليأس مخطئين، بل كانت الثورة دائماً وستبقى أبداً حقاً مشروعاً للمظلومين والمعذَّبين في الأرض، لأسرى العبودية وضحايا الاستبداد.
إن الثورة سماء ترتفع فوق أرض الألم والقهر والظلم والعذاب، وثوارنا الأوائل هم النجوم التي ترصّع تلك السماء وتُشِعّ فيها شُعاعات الأمل والضياء.
الدين في القلب!
من بركات ثورتنا العظيمة (التي خذلناها وجَنَينا عليها بأيدينا) أنها عرّفتني بكرام لم أكن أعرفهم. منهم رجل خَيِّرٌ جادَ بالوقت والمال وكان شعلة متّقدة من الحماسة والعطاء، عرفته على البعد زماناً ثم اجتمعنا في مجلس لطيف ذات يوم، فلما حضر وقت الصلاة لم يقم ولم يُصَلّ مع الحاضرين. وأنا لا أسأل أحداً ولا أعاتبه ولا أتصور نفسي وكيلاً عن الله في الحساب، وغاية ما عندي الكلمة المناسبة في موضعها، إلا أن أحد الحاضرين فعل وسأل، فتحرّج الرجل وقال: أنا مؤمن بالله ولكني لا أصلي لأنني أعتقد أن الدين في القلب.
ودار بين الاثنين نقاش لم أشارك فيه حتى سألوني، قلت: هل يحب أخونا الكريم أن يسمع ولا يسوؤه ما أقول؟ قال: بل يسرني أن أسمع، فقل بارك الله فيك.
قلت: إن قولك "الدين في القلب" يشبه قول القائل "إن الثورة في القلب"، فهو مقتنع بالثورة على الظلم والاستبداد متعاطف مع المظلومين والمحرومين، ولكنه لم يشارك في مظاهرة ولم يطلق رصاصة، بل إنه لم يتبرع من ماله للمجاهدين بثمنها، ولم يكفل يتيماً من أيتام الثورة ولا أعان أسرة معتقل أو شهيد، ولا شارك برفع المعاناة عن المنكوبين والمشردين بإرسال بطانية لبردان أو سلّة غذائية لجوعان أو دواء لمريض. ولماذا يفعل أي شيء من ذلك كله ما دامت الثورة في القلب؟
ربما قلت: لا يقارَن هذا بهذا، فإن الناس يحتاجون إلى المساعدة العينية، ولو أنني قَصَرت تفاعلي معهم على التعاطف القلبي فسوف يموتون جوعاً وبرداً ومرضاً، أما الله فإنه لا يحتاج إلى شيء من عباده. وهذا صحيح، وهو ما أخبرني وأخبرك به هو نفسه تبارك وتعالى فقال (في الحديث القدسي الصحيح): "يا عبادي، لو أن أوَّلَكم وآخركم وإنْسَكم وجِنّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
لماذا إذن طلبَ الله منّا العبادةَ والالتزام بما أمر والابتعادَ عمّا نهى وحرّم؟ لأن هذا هو الدليل على المحبة والطاعة. أستغفرُ الله من التشبيه فإن المخلوق لا يُشبه الخالق بشيء {ليس كمثله شيء}، ولكننا نضرب المثل أحياناً لتقريب الفكرة. أرأيت إلى الهدية الصغيرة يحملها إليك صديقٌ تحبّه، هل تحتاج إليها وتعجز عن شرائها بنفسك لنفسك لو أردت؟ مع ذلك فإنك تُسَرّ بها وتَحارُ كيف تُثيبه عليها، لأنك تدرك أنه لم يقدمها إليك إلا لأن لك موقعاً خاصاً في نفسه. ولله المثل الأعلى.
إن العبادة والالتزام هما الدليل على أن في القلب ديناً حقاً، كما أن العمل للثورة (وأقلّه الجود بالوقت والتبرع بالمال) هو الدليل على أن في القلب ثورة، فلا يمكن فصل العمل عن الشعور الصادق. وهكذا تصبح العبادة هي الدليلَ على التديّن الحق، وهو بغيرها دعوى بلا برهان.
من بركات ثورتنا العظيمة (التي خذلناها وجَنَينا عليها بأيدينا) أنها عرّفتني بكرام لم أكن أعرفهم. منهم رجل خَيِّرٌ جادَ بالوقت والمال وكان شعلة متّقدة من الحماسة والعطاء، عرفته على البعد زماناً ثم اجتمعنا في مجلس لطيف ذات يوم، فلما حضر وقت الصلاة لم يقم ولم يُصَلّ مع الحاضرين. وأنا لا أسأل أحداً ولا أعاتبه ولا أتصور نفسي وكيلاً عن الله في الحساب، وغاية ما عندي الكلمة المناسبة في موضعها، إلا أن أحد الحاضرين فعل وسأل، فتحرّج الرجل وقال: أنا مؤمن بالله ولكني لا أصلي لأنني أعتقد أن الدين في القلب.
ودار بين الاثنين نقاش لم أشارك فيه حتى سألوني، قلت: هل يحب أخونا الكريم أن يسمع ولا يسوؤه ما أقول؟ قال: بل يسرني أن أسمع، فقل بارك الله فيك.
قلت: إن قولك "الدين في القلب" يشبه قول القائل "إن الثورة في القلب"، فهو مقتنع بالثورة على الظلم والاستبداد متعاطف مع المظلومين والمحرومين، ولكنه لم يشارك في مظاهرة ولم يطلق رصاصة، بل إنه لم يتبرع من ماله للمجاهدين بثمنها، ولم يكفل يتيماً من أيتام الثورة ولا أعان أسرة معتقل أو شهيد، ولا شارك برفع المعاناة عن المنكوبين والمشردين بإرسال بطانية لبردان أو سلّة غذائية لجوعان أو دواء لمريض. ولماذا يفعل أي شيء من ذلك كله ما دامت الثورة في القلب؟
ربما قلت: لا يقارَن هذا بهذا، فإن الناس يحتاجون إلى المساعدة العينية، ولو أنني قَصَرت تفاعلي معهم على التعاطف القلبي فسوف يموتون جوعاً وبرداً ومرضاً، أما الله فإنه لا يحتاج إلى شيء من عباده. وهذا صحيح، وهو ما أخبرني وأخبرك به هو نفسه تبارك وتعالى فقال (في الحديث القدسي الصحيح): "يا عبادي، لو أن أوَّلَكم وآخركم وإنْسَكم وجِنّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
لماذا إذن طلبَ الله منّا العبادةَ والالتزام بما أمر والابتعادَ عمّا نهى وحرّم؟ لأن هذا هو الدليل على المحبة والطاعة. أستغفرُ الله من التشبيه فإن المخلوق لا يُشبه الخالق بشيء {ليس كمثله شيء}، ولكننا نضرب المثل أحياناً لتقريب الفكرة. أرأيت إلى الهدية الصغيرة يحملها إليك صديقٌ تحبّه، هل تحتاج إليها وتعجز عن شرائها بنفسك لنفسك لو أردت؟ مع ذلك فإنك تُسَرّ بها وتَحارُ كيف تُثيبه عليها، لأنك تدرك أنه لم يقدمها إليك إلا لأن لك موقعاً خاصاً في نفسه. ولله المثل الأعلى.
إن العبادة والالتزام هما الدليل على أن في القلب ديناً حقاً، كما أن العمل للثورة (وأقلّه الجود بالوقت والتبرع بالمال) هو الدليل على أن في القلب ثورة، فلا يمكن فصل العمل عن الشعور الصادق. وهكذا تصبح العبادة هي الدليلَ على التديّن الحق، وهو بغيرها دعوى بلا برهان.
قصة الحلاق، وقصص أخرى
عندما كنت صبياً صغيراً، قبل نحو خمسين سنة، كنت أزور الحلاق مرة كل ثلاثة أسابيع أو أربعة لحلاقة شعر رأسي (الذي اختفى اليومَ أكثرُه وأعفاني من تلك المهمة المتعِبة المملة). كان الحلاق مسلماً، ولكنه لا يصلي، وكنت أستغرب من عدم صلاته لأنني ظننت -وأنا في تلك السن المبكرة- أن الكبار كلهم يصلّون (ثم كبرت وأدركت أن كثيرين لا يفعلون!)
لم أرَ ذلك الحلاق ولم أسمع عنه من نحو أربعين سنة وأحسب أنه مات منذ وقت طويل، وأرجو أن يكون قد عاد إلى الصلاة والتحقَ قبل موته بركب التائبين. لم أرَه ولم أسمع عنه ولكني فكرت به كثيراً على مَرّ السنين، تذكرته وأنا قاعد أرقبه على كرسيّ الانتظار الذي كان يطول نصفَ ساعة في بعض الأحيان أو يزيد، وتصورته واقفاً على رجلَيه اليومَ كله، فكنت أرثي له، فإنّ أحدنا إذا وقف في صف انتظار (طابور) ربعَ ساعة أو نصفَها أزعجه الوقوفُ وأعْنَتَه، وهؤلاء الحلاقون لا تنقضي من أعمارهم سنوات إلا وقد أصيبوا بِدَوالي السيقان المؤلمة، فيا لها من مهنة شاقة متعبة!
ولم يكن حلاّقي من كبار الأثرياء. كان يقف على رجليه عشر ساعات في اليوم ويداه تتحركان طَوال الوقت مع المِقَصّات والأمشاط في حركة سرمديّة، لا يُدرَى متى بدأت ولا يُدرَى متى تنتهي، ليعيش بعد ذلك الجهد كله عَيْشَ الكفاف!
لقد رضي أن يقف على رجليه خلف كرسيّ الحلاقة عشر ساعات في اليوم مقابل بضع عشرات من الأمتار المربعة يقيم فيها هو وأسرته وثوبين في السنة لكل واحد منهم ولُقَيمات تبقيهم أحياء، واستكثر نصفَ ساعة يقف فيها بين يدي الله تُورِثه -بإذن الله- مستقَراً ونعيماً أبدياً في جنة بعرض السماء، فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
على مر السنين تصورت ذلك الحلاق البائس وأنا أتذكر الأعرابي الذي تلقى عرضاً سخياً بدخول الجنة مقابل سبع عشرة ركعة لا تستغرق -بقيامها وركوعها وسجودها وقعودها- أكثرَ من نصف ساعة في اليوم. قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنّ ولا أنقص منهنّ. قال صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق لَيَدخُلَنّ الجنة".
على أن حلاقي القديم لم يكن صاحبَ القصة المحزنة الوحيدة في الدنيا، فكم له بيننا من أمثال! كم من قصص أخرى من نوع هذه القصة نشاهدها كل يوم! مساكين أصحاب هذه القصص، يبذلون من أجل نعيم زائل محدود جهدَهم كله، ويضنّون بنصف عُشره الذي يورثهم نعيماً خالداً لا يزول! مساكين، أولئك المحرومون لو كانوا يعلمون.
عندما كنت صبياً صغيراً، قبل نحو خمسين سنة، كنت أزور الحلاق مرة كل ثلاثة أسابيع أو أربعة لحلاقة شعر رأسي (الذي اختفى اليومَ أكثرُه وأعفاني من تلك المهمة المتعِبة المملة). كان الحلاق مسلماً، ولكنه لا يصلي، وكنت أستغرب من عدم صلاته لأنني ظننت -وأنا في تلك السن المبكرة- أن الكبار كلهم يصلّون (ثم كبرت وأدركت أن كثيرين لا يفعلون!)
لم أرَ ذلك الحلاق ولم أسمع عنه من نحو أربعين سنة وأحسب أنه مات منذ وقت طويل، وأرجو أن يكون قد عاد إلى الصلاة والتحقَ قبل موته بركب التائبين. لم أرَه ولم أسمع عنه ولكني فكرت به كثيراً على مَرّ السنين، تذكرته وأنا قاعد أرقبه على كرسيّ الانتظار الذي كان يطول نصفَ ساعة في بعض الأحيان أو يزيد، وتصورته واقفاً على رجلَيه اليومَ كله، فكنت أرثي له، فإنّ أحدنا إذا وقف في صف انتظار (طابور) ربعَ ساعة أو نصفَها أزعجه الوقوفُ وأعْنَتَه، وهؤلاء الحلاقون لا تنقضي من أعمارهم سنوات إلا وقد أصيبوا بِدَوالي السيقان المؤلمة، فيا لها من مهنة شاقة متعبة!
ولم يكن حلاّقي من كبار الأثرياء. كان يقف على رجليه عشر ساعات في اليوم ويداه تتحركان طَوال الوقت مع المِقَصّات والأمشاط في حركة سرمديّة، لا يُدرَى متى بدأت ولا يُدرَى متى تنتهي، ليعيش بعد ذلك الجهد كله عَيْشَ الكفاف!
لقد رضي أن يقف على رجليه خلف كرسيّ الحلاقة عشر ساعات في اليوم مقابل بضع عشرات من الأمتار المربعة يقيم فيها هو وأسرته وثوبين في السنة لكل واحد منهم ولُقَيمات تبقيهم أحياء، واستكثر نصفَ ساعة يقف فيها بين يدي الله تُورِثه -بإذن الله- مستقَراً ونعيماً أبدياً في جنة بعرض السماء، فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
على مر السنين تصورت ذلك الحلاق البائس وأنا أتذكر الأعرابي الذي تلقى عرضاً سخياً بدخول الجنة مقابل سبع عشرة ركعة لا تستغرق -بقيامها وركوعها وسجودها وقعودها- أكثرَ من نصف ساعة في اليوم. قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنّ ولا أنقص منهنّ. قال صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق لَيَدخُلَنّ الجنة".
على أن حلاقي القديم لم يكن صاحبَ القصة المحزنة الوحيدة في الدنيا، فكم له بيننا من أمثال! كم من قصص أخرى من نوع هذه القصة نشاهدها كل يوم! مساكين أصحاب هذه القصص، يبذلون من أجل نعيم زائل محدود جهدَهم كله، ويضنّون بنصف عُشره الذي يورثهم نعيماً خالداً لا يزول! مساكين، أولئك المحرومون لو كانوا يعلمون.
ما أجمل السّماحة!
لي صديقٌ شديد لا يترك حقاً أُخِذَ منه إلا اشتدّ في استرجاعه، وأنا على خلافه، أترك بعض ما هو لي عند الناس من حقوق مادية ومعنوية وأتجاوز في استيفائها. فقال لي يوماً يعيّرني: إنك ضعيف. قلت: ليس ذلك، ما بي ضعف ولكنه خوف. قال: تخاف من الناس؟ قلت: بل أخاف من رب الناس. قال: كيف؟ قلت: أخبرُك، أمَا قرأت "تاجر البندقية"؟ قال: أوضِحْ أكثر.
قلت: نعم؛ في مسرحية شكسبير الشهيرة يَشترط المرابي اليهودي شايلوك على أنطونيو (الذي اقترض منه المالَ) أن يقتصّ منه رطلاً من لحم إنْ عَجَز عن القضاء، فلما عجز شكاه إلى المحكمة وطالب بحقه. وعبثاً حاول القاضي أن يقنعه بالتنازل والتسامح، فلما عَيَّ ويئس منه ناوله السكين وقال: دونك، خذ حقك. واقترب شايلوك من الرجل المسكين فهتفت به بورشيا (ولا يهمنا الآن مَن هي بورشيا) قالت: حسبك، انتبه؛ من حقك أن تقطع رطلاً من اللحم لا ينقص ولا يزيد، وحَذارِ أن تريق نقطة من دم. فبُهت المرابي القبيح وقال: كيف أقتطع لحماً ولا يسيل دم؟ قالت: أنت الذي قررت الجزاء، وليس فيه إلا رطل لحم لا غير.
وكانت النتيجة أن خسر اليهودي المرابي القضيةَ وخسر المال لأنه عَجَز عن استيفاء حقه الصافي بلا زيادة ولا عدوان.
* * *
لقد تعلمت من الحياة أن الحقوق المادية والمعنوية معقدة متشابكة يتداخل بعضُها في بعض، وأن المرء لا يمكن أن يحصل على حقه كاملاً إلا إذا أخذ شيئاً (ولو يسيراً) من حق غيره، فآثرتُ أن أترك شيئاً ممّا لي عند الناس على أن آخذ منهم شيئاً ممّا ليس لي، فما أدراني وأنا أقتضي اللحمَ الذي لي أن أُريق الدمَ الذي ليس لي؟ وأيُّ مكسب أكسبه إذا اقتضيت حقي هنا من متاع الدنيا فجُرْتُ على حق غيري ثم اقتُضي مني هناك حسنات؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا مَن لا درهمَ له ولا متاع. قال: "إن المفلس مِن أمّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثم طُرِح في النار".
* * *
فيا أيها الناس: احرصوا على حقوقكم ولا تكونوا من الضعفاء والمفرّطين، ولكن لا تبالغوا بطلبها حتى تجوروا على حقوق الآخرين.
مَن أراد رحمة الله وثوابه فليسامح وليتسامح في اقتضاء الحقوق: "رَحِمَ الله رجلاً سَمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".
ومن أراد الدنيا وزهد في رحمة الله وثوابه فليصرّ على حقه الكامل الذي يتصوره، ولن يناله إلا بزيادةٍ سيُسأَل عنها يومَ الحساب، فإنكم لن تستطيعوا استيفاء حقوقكم صافيةً مهما بلغتم من الحرص والورع والتقوى، ومَن زاد واعتدى وأخذ ما ليس له أدّاه يوم القيامة من حسناته، أو حمل مقابلَه من سيئات الآخرين. فما لكم وتضييع ثمرات الأعمال الصالحة التي تعملونها؟ وما لكم وحمل أوزار الآخرين؟
لي صديقٌ شديد لا يترك حقاً أُخِذَ منه إلا اشتدّ في استرجاعه، وأنا على خلافه، أترك بعض ما هو لي عند الناس من حقوق مادية ومعنوية وأتجاوز في استيفائها. فقال لي يوماً يعيّرني: إنك ضعيف. قلت: ليس ذلك، ما بي ضعف ولكنه خوف. قال: تخاف من الناس؟ قلت: بل أخاف من رب الناس. قال: كيف؟ قلت: أخبرُك، أمَا قرأت "تاجر البندقية"؟ قال: أوضِحْ أكثر.
قلت: نعم؛ في مسرحية شكسبير الشهيرة يَشترط المرابي اليهودي شايلوك على أنطونيو (الذي اقترض منه المالَ) أن يقتصّ منه رطلاً من لحم إنْ عَجَز عن القضاء، فلما عجز شكاه إلى المحكمة وطالب بحقه. وعبثاً حاول القاضي أن يقنعه بالتنازل والتسامح، فلما عَيَّ ويئس منه ناوله السكين وقال: دونك، خذ حقك. واقترب شايلوك من الرجل المسكين فهتفت به بورشيا (ولا يهمنا الآن مَن هي بورشيا) قالت: حسبك، انتبه؛ من حقك أن تقطع رطلاً من اللحم لا ينقص ولا يزيد، وحَذارِ أن تريق نقطة من دم. فبُهت المرابي القبيح وقال: كيف أقتطع لحماً ولا يسيل دم؟ قالت: أنت الذي قررت الجزاء، وليس فيه إلا رطل لحم لا غير.
وكانت النتيجة أن خسر اليهودي المرابي القضيةَ وخسر المال لأنه عَجَز عن استيفاء حقه الصافي بلا زيادة ولا عدوان.
* * *
لقد تعلمت من الحياة أن الحقوق المادية والمعنوية معقدة متشابكة يتداخل بعضُها في بعض، وأن المرء لا يمكن أن يحصل على حقه كاملاً إلا إذا أخذ شيئاً (ولو يسيراً) من حق غيره، فآثرتُ أن أترك شيئاً ممّا لي عند الناس على أن آخذ منهم شيئاً ممّا ليس لي، فما أدراني وأنا أقتضي اللحمَ الذي لي أن أُريق الدمَ الذي ليس لي؟ وأيُّ مكسب أكسبه إذا اقتضيت حقي هنا من متاع الدنيا فجُرْتُ على حق غيري ثم اقتُضي مني هناك حسنات؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا مَن لا درهمَ له ولا متاع. قال: "إن المفلس مِن أمّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثم طُرِح في النار".
* * *
فيا أيها الناس: احرصوا على حقوقكم ولا تكونوا من الضعفاء والمفرّطين، ولكن لا تبالغوا بطلبها حتى تجوروا على حقوق الآخرين.
مَن أراد رحمة الله وثوابه فليسامح وليتسامح في اقتضاء الحقوق: "رَحِمَ الله رجلاً سَمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".
ومن أراد الدنيا وزهد في رحمة الله وثوابه فليصرّ على حقه الكامل الذي يتصوره، ولن يناله إلا بزيادةٍ سيُسأَل عنها يومَ الحساب، فإنكم لن تستطيعوا استيفاء حقوقكم صافيةً مهما بلغتم من الحرص والورع والتقوى، ومَن زاد واعتدى وأخذ ما ليس له أدّاه يوم القيامة من حسناته، أو حمل مقابلَه من سيئات الآخرين. فما لكم وتضييع ثمرات الأعمال الصالحة التي تعملونها؟ وما لكم وحمل أوزار الآخرين؟
رسالةُ معتقَل شهيد
إلى أبيه وأهله ورفاق الطريق
هذه أبيات مختارة من قصيدة "رسالة في ليلة التنفيذ" للشاعر الشهيد هاشم الرفاعي، وقد ألقاها في مهرجان الشعر الأول بدمشق سنة 1959، قبل موته ببضعة أشهر.
لئن وصف الشاعر المصري في هذه القطعة الرائعة مشاعرَ ثوار الحرية في ذلك الزمان فإنها لَتصف بأصدق الكلمات مشاعرَ الأحرار في كل زمان وفي كل مكان. ولعلّ من غرائب الموافقات أن يلقيها الشاعرُ في دمشق قبل ستين سنة، وكأنه يقدمها هديّةً لأحرار الثورة السورية وأسراها وشهدائها الذين كانوا يومئذ أجنّة في رحم الغيب ينتظرون شروق شمس الحرية على البلد المنكوب.
أبتَاهُ ماذا قد يخُطّ بناني *** والحبلُ والجلاّد يَنتظرانِ؟
وعلى الجدار الصُّلبِ نافذةٌ بها *** معنى الحياة غليظةُ القُضبانِ
قد طالما شارفتُها متأمّلاً *** في السّائرين على الأسى اليَقظانِ
فأرى وُجوماً كالضّباب مصوّراً *** ما في نفوس الناس من غَلَيانِ
نفسُ الشّعور لدى الجميع وإنْ هُمُ *** كتموا وكان الموتُ في إعلاني
ويدور همسٌ في الجوانح: ما الذي *** بالثورة الحمقاء قد أغراني؟
أوَلم يكن خيراً لنفسيَ أن أُرى *** مثلَ الجموع أسيرُ في إذعان؟
ما ضرّني لو قد سكتُّ وكلما *** غلب الأسى بالغت في الكتمان؟
هذا دمي سَيَسيلُ يجري مطفئاً *** ما ثار في جَنَبَيَّ من نيران
والظلم باقٍ لن يحطّم قَيدَه *** موتي ولن يُودي به قُرباني
ويسير رَكْبُ البغي ليس يَضيرُه *** شاةٌ إذا اجتُثَّت من القُطعانِ
هذا حديثُ النفس حين تشفّ عن *** بَشَريّتي وتَمورُ بعد ثَوانِ
وتقول لي إن الحياة لِغايةٍ *** أسمَى من التّصفيق للطّغيانِ
أنفاسُك الحَرَّى وإنْ هي أُخمِدت *** ستظل تغمُر أُفقَهم بدخانِ
وقُروحُ جسمك وهو تحت سياطهم *** قَسَماتُ صُبْح يَتّقيه الجاني
دمع السجين هناك في أغلاله *** ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى إذا ما أُفعمت بهما الربا *** لم يبقَ غيرُ تمرّد الفيضان
ومن العواصف ما يكون هُبوبها *** بعد الهدوء وراحة الربّانِ
وتَتابُعُ القطرات ينزل بعده *** سيلٌ يليه تدفّقُ الطوفان
فيَموجُ يقتلع الطغاةَ مزمجراً *** أقوى من الجَبَروت والطغيان
أنا لست أدري هل ستُذكَرُ قصّتي *** أم سوف يَعْرُوها دُجَى النّسيانِ؟
كل الذي أدريه أنّ تَجَرُّعي *** كأسَ المَذلّةِ ليس في إمكاني
لو لم أكن في ثورتي متطلِّباً *** غيرَ الضّياء لأمّتي لَكفاني
أهوى الحياةَ كريمةً لا قيدَ لا *** إرهابَ لا استخفافَ بالإنسانِ
فإذا سقطتُ سقطتُ أحمل عزّتي *** يَغلي دمُ الأحرار في شِرياني
هذا الذي سطّرتُه لك يا أبي *** بعضُ الذي يَجري بفكرٍ عانِ
إنّ ابنك المَصفودَ في أغلاله *** قد سيق نحو الموت غيرَ مُدانِ
فاذكُرْ حكاياتٍ بأيام الصّبا *** قد قلتَها لي عن هوى الأوطانِ
وإلى لقاء تحت ظِلّ عدالة *** قُدسيّة الأحكام والميزانِ
إلى أبيه وأهله ورفاق الطريق
هذه أبيات مختارة من قصيدة "رسالة في ليلة التنفيذ" للشاعر الشهيد هاشم الرفاعي، وقد ألقاها في مهرجان الشعر الأول بدمشق سنة 1959، قبل موته ببضعة أشهر.
لئن وصف الشاعر المصري في هذه القطعة الرائعة مشاعرَ ثوار الحرية في ذلك الزمان فإنها لَتصف بأصدق الكلمات مشاعرَ الأحرار في كل زمان وفي كل مكان. ولعلّ من غرائب الموافقات أن يلقيها الشاعرُ في دمشق قبل ستين سنة، وكأنه يقدمها هديّةً لأحرار الثورة السورية وأسراها وشهدائها الذين كانوا يومئذ أجنّة في رحم الغيب ينتظرون شروق شمس الحرية على البلد المنكوب.
أبتَاهُ ماذا قد يخُطّ بناني *** والحبلُ والجلاّد يَنتظرانِ؟
وعلى الجدار الصُّلبِ نافذةٌ بها *** معنى الحياة غليظةُ القُضبانِ
قد طالما شارفتُها متأمّلاً *** في السّائرين على الأسى اليَقظانِ
فأرى وُجوماً كالضّباب مصوّراً *** ما في نفوس الناس من غَلَيانِ
نفسُ الشّعور لدى الجميع وإنْ هُمُ *** كتموا وكان الموتُ في إعلاني
ويدور همسٌ في الجوانح: ما الذي *** بالثورة الحمقاء قد أغراني؟
أوَلم يكن خيراً لنفسيَ أن أُرى *** مثلَ الجموع أسيرُ في إذعان؟
ما ضرّني لو قد سكتُّ وكلما *** غلب الأسى بالغت في الكتمان؟
هذا دمي سَيَسيلُ يجري مطفئاً *** ما ثار في جَنَبَيَّ من نيران
والظلم باقٍ لن يحطّم قَيدَه *** موتي ولن يُودي به قُرباني
ويسير رَكْبُ البغي ليس يَضيرُه *** شاةٌ إذا اجتُثَّت من القُطعانِ
هذا حديثُ النفس حين تشفّ عن *** بَشَريّتي وتَمورُ بعد ثَوانِ
وتقول لي إن الحياة لِغايةٍ *** أسمَى من التّصفيق للطّغيانِ
أنفاسُك الحَرَّى وإنْ هي أُخمِدت *** ستظل تغمُر أُفقَهم بدخانِ
وقُروحُ جسمك وهو تحت سياطهم *** قَسَماتُ صُبْح يَتّقيه الجاني
دمع السجين هناك في أغلاله *** ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى إذا ما أُفعمت بهما الربا *** لم يبقَ غيرُ تمرّد الفيضان
ومن العواصف ما يكون هُبوبها *** بعد الهدوء وراحة الربّانِ
وتَتابُعُ القطرات ينزل بعده *** سيلٌ يليه تدفّقُ الطوفان
فيَموجُ يقتلع الطغاةَ مزمجراً *** أقوى من الجَبَروت والطغيان
أنا لست أدري هل ستُذكَرُ قصّتي *** أم سوف يَعْرُوها دُجَى النّسيانِ؟
كل الذي أدريه أنّ تَجَرُّعي *** كأسَ المَذلّةِ ليس في إمكاني
لو لم أكن في ثورتي متطلِّباً *** غيرَ الضّياء لأمّتي لَكفاني
أهوى الحياةَ كريمةً لا قيدَ لا *** إرهابَ لا استخفافَ بالإنسانِ
فإذا سقطتُ سقطتُ أحمل عزّتي *** يَغلي دمُ الأحرار في شِرياني
هذا الذي سطّرتُه لك يا أبي *** بعضُ الذي يَجري بفكرٍ عانِ
إنّ ابنك المَصفودَ في أغلاله *** قد سيق نحو الموت غيرَ مُدانِ
فاذكُرْ حكاياتٍ بأيام الصّبا *** قد قلتَها لي عن هوى الأوطانِ
وإلى لقاء تحت ظِلّ عدالة *** قُدسيّة الأحكام والميزانِ
Forwarded from شبكة نداء سوريا
معركة إدلب: الخيار الوحيد
بقلم: أ.مجاهد ديرانية
http://nedaa-sy.com/literatures/18
للاشتراك في قناة تلغرام https://www.tg-me.com/NeSyria
بقلم: أ.مجاهد ديرانية
http://nedaa-sy.com/literatures/18
للاشتراك في قناة تلغرام https://www.tg-me.com/NeSyria
معركة إدلب: الخيار الوحيد
الحرب في إدلب قادمة ذات يوم، إن لم يكن في الغد القريب ففي غدٍ بعدَه، لأن نظام الاحتلال الأسدي الطائفي المجرم لا يفرّق بين جزء من سوريا وجزء أو بين منطقة ومنطقة، فهي عنده كلها سواء، كلها ملك له تَملّكه بالانقلاب والاغتصاب والتواطؤ مع أعداء سوريا، حتى صار في عينه حقاً له لا يتنازل عنه وإرثاً لا يفرّط فيه.
الحرب قادمة لأن العالم القبيح كله أراد للثورة أن تفنَى وتنكسر وأراد للنظام أن يبقى وينتصر، فماذا نملك أن نصنع؟ ما هي الخيارات؟ لقد حرق العدو سفننا وهدم الجسور، فلا بقيت لأهل إدلب والشمال سفن يركبونها ولا جسور يعبرونها، لم يبقَ لهم إلا الخيار الذي خرجت به المظاهرات الأولى في الثورة قبل نيّفٍ وسبع سنين: الموت ولا المذلة، الصبر حتى النصر، المضيّ إلى آخر الطريق.
ها هم الأحرار في إدلب والشمال يَمُدّون البصر إلى مناطق الثورة التي سبقتهم بالانهيار والمصالحة فلا يرون من النظام إلا الغدر والتنكيل، ويرون الناس هناك في خوف ما فوقَه خوفٌ وهوان ما بعده هوان. وكيف يَرْجون غير هذا الذي يَرَون والنظامُ المجرم هو النظام، وأجهزة الأمن والمخابرات التي جعلت سوريا على الدوام جحيماً لا يطاق هي ذاتها أجهزة الأمن والمخابرات؟
ها هم أولاء يرون مَن سبقهم إلى المصالحات وقد سيقوا إلى السجون فمات مَن مات منهم تحت التعذيب، أو إلى الجبهات فمات من مات على خطوط النار، فلا رجل يأمن على حياته ولا امرأة على نفسها؛ الرجل والمرأة والكبير والصغير ومَن قاتل النظام ذات يوم ومَن وقف على الحياد، كل أولئك عند النظام مجرمون يستحقون العقاب، فعلامَ الاستسلام لموت ذليل؟ ولِمَ لا يختار الأحرار طريقَ المقاومة والصمود؟
اليوم أدرك أحرار سوريا أن من لم يساعد نفسه لن يساعدَه أحد، وأن أي صديق -مهما صدق- لن يغني عنهم غَناءَهم عن أنفسهم، وأن مصيرهم مقاومة كريمة أو فناء ذليل. اليوم لم يبقَ لأحرار إدلب والشمال إلا المقاومة والصمود، فلا باصات خضراً بالانتظار ولا مهجرَ أمامهم إليه يهاجرون ولا محشرَ إليه يقادون، ليس أمامهم إلا هزيمة بعدها اعتقال وتعذيب وموت وذل يتناسل في الأعقاب، أو مقاومة شريفة آخرُها عيش كريم في الأرض أو شهادة وحياة في جنات النعيم.
#خيارنا_المقاومة
الحرب في إدلب قادمة ذات يوم، إن لم يكن في الغد القريب ففي غدٍ بعدَه، لأن نظام الاحتلال الأسدي الطائفي المجرم لا يفرّق بين جزء من سوريا وجزء أو بين منطقة ومنطقة، فهي عنده كلها سواء، كلها ملك له تَملّكه بالانقلاب والاغتصاب والتواطؤ مع أعداء سوريا، حتى صار في عينه حقاً له لا يتنازل عنه وإرثاً لا يفرّط فيه.
الحرب قادمة لأن العالم القبيح كله أراد للثورة أن تفنَى وتنكسر وأراد للنظام أن يبقى وينتصر، فماذا نملك أن نصنع؟ ما هي الخيارات؟ لقد حرق العدو سفننا وهدم الجسور، فلا بقيت لأهل إدلب والشمال سفن يركبونها ولا جسور يعبرونها، لم يبقَ لهم إلا الخيار الذي خرجت به المظاهرات الأولى في الثورة قبل نيّفٍ وسبع سنين: الموت ولا المذلة، الصبر حتى النصر، المضيّ إلى آخر الطريق.
ها هم الأحرار في إدلب والشمال يَمُدّون البصر إلى مناطق الثورة التي سبقتهم بالانهيار والمصالحة فلا يرون من النظام إلا الغدر والتنكيل، ويرون الناس هناك في خوف ما فوقَه خوفٌ وهوان ما بعده هوان. وكيف يَرْجون غير هذا الذي يَرَون والنظامُ المجرم هو النظام، وأجهزة الأمن والمخابرات التي جعلت سوريا على الدوام جحيماً لا يطاق هي ذاتها أجهزة الأمن والمخابرات؟
ها هم أولاء يرون مَن سبقهم إلى المصالحات وقد سيقوا إلى السجون فمات مَن مات منهم تحت التعذيب، أو إلى الجبهات فمات من مات على خطوط النار، فلا رجل يأمن على حياته ولا امرأة على نفسها؛ الرجل والمرأة والكبير والصغير ومَن قاتل النظام ذات يوم ومَن وقف على الحياد، كل أولئك عند النظام مجرمون يستحقون العقاب، فعلامَ الاستسلام لموت ذليل؟ ولِمَ لا يختار الأحرار طريقَ المقاومة والصمود؟
اليوم أدرك أحرار سوريا أن من لم يساعد نفسه لن يساعدَه أحد، وأن أي صديق -مهما صدق- لن يغني عنهم غَناءَهم عن أنفسهم، وأن مصيرهم مقاومة كريمة أو فناء ذليل. اليوم لم يبقَ لأحرار إدلب والشمال إلا المقاومة والصمود، فلا باصات خضراً بالانتظار ولا مهجرَ أمامهم إليه يهاجرون ولا محشرَ إليه يقادون، ليس أمامهم إلا هزيمة بعدها اعتقال وتعذيب وموت وذل يتناسل في الأعقاب، أو مقاومة شريفة آخرُها عيش كريم في الأرض أو شهادة وحياة في جنات النعيم.
#خيارنا_المقاومة
خيار أحرار سوريا الوحيد هو المقاومة، وشعارهم اليوم هو شعار المختار: نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت.
ليس لأنهم يحبون الموت ويستدعونه ليلَ نهار، فهم ما ثاروا بادئ الأمر إلا حباً بالحياة، الحياة الكريمة التي تليق بأحرار الناس لا حياة العبيد في الأسْر ولا حياة الحيوانات في القفص.
فإذا سُدَّ الطريق إلى الحرية ودُفعوا في طريق الذل والعبودية والهوان لم يبقَ لهم خيار سوى الدفاع عن أنفسهم وعن حريتهم وحقهم في الحياة الكريمة. عندئذ ستسقط كل الخيارات سوى خيار المقاومة، فإما حياة كريمة أو موت كريم.
#خيارنا_المقاومة
ليس لأنهم يحبون الموت ويستدعونه ليلَ نهار، فهم ما ثاروا بادئ الأمر إلا حباً بالحياة، الحياة الكريمة التي تليق بأحرار الناس لا حياة العبيد في الأسْر ولا حياة الحيوانات في القفص.
فإذا سُدَّ الطريق إلى الحرية ودُفعوا في طريق الذل والعبودية والهوان لم يبقَ لهم خيار سوى الدفاع عن أنفسهم وعن حريتهم وحقهم في الحياة الكريمة. عندئذ ستسقط كل الخيارات سوى خيار المقاومة، فإما حياة كريمة أو موت كريم.
#خيارنا_المقاومة
الأخضر يغطي المحرر
إنه يوم مجيد من أيام الثورة. اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد.
مكروا ومكر الله، ومن كان الله معه لا يبالي. أرادوها جولة أخيرة تُوارَى الثورةُ بعدَها في اللحد ويُهال عليها التراب، وأرادها الله هبّة تجدد العزائم وتوقظ النيام.
معجزة الثورة... دعوها فإنها مأمورة.
#خيارنا_المقاومة
إنه يوم مجيد من أيام الثورة. اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد.
مكروا ومكر الله، ومن كان الله معه لا يبالي. أرادوها جولة أخيرة تُوارَى الثورةُ بعدَها في اللحد ويُهال عليها التراب، وأرادها الله هبّة تجدد العزائم وتوقظ النيام.
معجزة الثورة... دعوها فإنها مأمورة.
#خيارنا_المقاومة
أصل الثورة
الانفجار الثوري الجديد في الشمال المحرر أعاد تأكيد حقيقة مهمّة: إن الحراكَ العسكري والسياسي فرعٌ تابعٌ والحراك الشعبي الثوري هو الأصل المتبوع.
ما كانت ثورةٌ بلا شعبٍ ولا كان حراكٌ سياسي وعسكري لولا الثورة. إن ثورةً بلا حراك ثوري شعبي تضيع بوصلتُها وتتحول إلى فصائل عسكرية وهيئات سياسية، ولا تلبث أن تُختزَل هذه الكيانات بحواجز ومقرات عسكرية ومكاتب ومؤتمرات سياسية، ثم تنشغل بنفسها وتنسى أهداف الثورة.
إن الثورة دوحة عملاقة، المظاهرات الشعبية هي جذورها الممتدّة في أصل الأرض والفصائل والكيانات السياسية فروع وأغصان، وإن شجرة بلا جذور ليست سوى خشبة ميتة جافة يقتلعها من الأرض صبيٌّ صغير.
#استرجعوا_ثورتكم
#خيارنا_المقاومة
الانفجار الثوري الجديد في الشمال المحرر أعاد تأكيد حقيقة مهمّة: إن الحراكَ العسكري والسياسي فرعٌ تابعٌ والحراك الشعبي الثوري هو الأصل المتبوع.
ما كانت ثورةٌ بلا شعبٍ ولا كان حراكٌ سياسي وعسكري لولا الثورة. إن ثورةً بلا حراك ثوري شعبي تضيع بوصلتُها وتتحول إلى فصائل عسكرية وهيئات سياسية، ولا تلبث أن تُختزَل هذه الكيانات بحواجز ومقرات عسكرية ومكاتب ومؤتمرات سياسية، ثم تنشغل بنفسها وتنسى أهداف الثورة.
إن الثورة دوحة عملاقة، المظاهرات الشعبية هي جذورها الممتدّة في أصل الأرض والفصائل والكيانات السياسية فروع وأغصان، وإن شجرة بلا جذور ليست سوى خشبة ميتة جافة يقتلعها من الأرض صبيٌّ صغير.
#استرجعوا_ثورتكم
#خيارنا_المقاومة
ثورة لن تموت
لن تموت ثورة على الأرض وهي حيّة في القلوب. لن تموت ثورة رفعت شعار إسقاط النظام أولَ الأمر وثابرت عليه في كل آن، ثم عادت بعد ثماني سنين لتؤكد: لن نتنازل عن إسقاط النظام ولو طالت ثورتُنا ألفَ عام.
لن نيأس ولو ضاقت علينا الأرض، فقد كانت الثورةُ وليس معنا أرض، كانت الثورة وليس في الأرض ظل يستظل الأحرارُ به سوى علم الثورة، كانت الثورة وزبانية النظام تملأ الأرض، في كل شبر من الأرض منهم زِبْنيٌّ زنيم لئيم. واليومَ تمتد تحت أقدام الثوار الأرضُ المحررة، ليست كلَّ الأرض التي كانت لنا ذات يوم، وليست كلَّ الأرض التي نحلم بها اليومَ وكل يوم، ولكنها -على أي حال- أرضٌ تصلح لتجديد الثورة والانطلاق بها في طريق الحرية والمجد التليد.
إنها معجزة الثورة، وإنها أعجوبة أحرار سوريا، طليعة الأحرار في الأرض.
#لابديل_عن_إسقاط_النظام
لن تموت ثورة على الأرض وهي حيّة في القلوب. لن تموت ثورة رفعت شعار إسقاط النظام أولَ الأمر وثابرت عليه في كل آن، ثم عادت بعد ثماني سنين لتؤكد: لن نتنازل عن إسقاط النظام ولو طالت ثورتُنا ألفَ عام.
لن نيأس ولو ضاقت علينا الأرض، فقد كانت الثورةُ وليس معنا أرض، كانت الثورة وليس في الأرض ظل يستظل الأحرارُ به سوى علم الثورة، كانت الثورة وزبانية النظام تملأ الأرض، في كل شبر من الأرض منهم زِبْنيٌّ زنيم لئيم. واليومَ تمتد تحت أقدام الثوار الأرضُ المحررة، ليست كلَّ الأرض التي كانت لنا ذات يوم، وليست كلَّ الأرض التي نحلم بها اليومَ وكل يوم، ولكنها -على أي حال- أرضٌ تصلح لتجديد الثورة والانطلاق بها في طريق الحرية والمجد التليد.
إنها معجزة الثورة، وإنها أعجوبة أحرار سوريا، طليعة الأحرار في الأرض.
#لابديل_عن_إسقاط_النظام
وسائل الإعلام العالمية تدخل إلى الشمال المحرر لتغطية مظاهرات اليوم في جمعة "لا بديل عن إسقاط النظام".
"عندما يهتم الأحرار بثورتهم يهتم بها العالم، وعندما يتخلى أهل الثورة عن ثورتهم ينساها سائر الناس". لعل هذا هو أهم درس تعلّمناه في الأيام المجيدة الأخيرة التي عادت فيها روحُ الثورة حيةً دَفّاقة وارتفعت راياتها عليّة خفاقة كما كانت في الأيام الأولى.
#لابديل_عن_إسقاط_النظام
"عندما يهتم الأحرار بثورتهم يهتم بها العالم، وعندما يتخلى أهل الثورة عن ثورتهم ينساها سائر الناس". لعل هذا هو أهم درس تعلّمناه في الأيام المجيدة الأخيرة التي عادت فيها روحُ الثورة حيةً دَفّاقة وارتفعت راياتها عليّة خفاقة كما كانت في الأيام الأولى.
#لابديل_عن_إسقاط_النظام
الإيمان: هبة الله للإنسان
سأقص عليكم حكاية رجلين أصابهما البلاء، أحدهما صاحبُ تجارات وعقارات في بعض المناطق التي تعرضت للقصف الروسي المجنون، أصيبت واحدةٌ من عماراته فتهدمت وبقيت له عمارات أُخَر وثروات وممتلكات، فقدَ قليلاً وبقي له الكثير. رأيته بعدها فإذا به يشكو ويتسخّط ويندب حظه قائلاً: لماذا أنا؟ لماذا من بين كل العمارات لم يجد الصاروخ سوى عمارتي ليضربها؟! لم أسمع منه كلمة شكر لله الذي أصيبت عمارتُه تلك بقدَره ثم نجّى بفضله سائرَ عماراته فسلمت من الأذى والتدمير. ما رأيت منه إلا كل غضب وسخط وضيق وانزعاج، كأن مصائب الدنيا كلها وقعت على رأسه. ولعلكم تقولون إنه أثر الصدمة، فإذا أفاق منها بعد يوم أو اثنين استغفر ورضي وحمد الله، ولكني كنت ألقاه بعدها مرة بعد مرة فأجده على حالته الأولى، ضيّقَ الصدر دائمَ التسخّط، لا يرضى ولا يحس بالاطمئنان.
الثاني رجل فاضل آتاه الله عدداً من الأبناء البررة الصالحين، ثم ابتلاه بواحد منهم استُشهد في قصف شديد تعرضت له بلدته ذات يوم، فلما اتصلت به لأعزيه وأُسمعه شيئاً من معاني الصبر والرضا وجدته أحفظَ مني لها وأسبقَ لجوءاً إليها، ورأيته على قدر عال من التسليم والاطمئنان، يقول: الحمد لله الذي أبقى بعدما أخذ، فقد أخذ واحداً ممّن وهب وأبقى لي غيرَه كثيرين. قلت لنفسي: ربما كان الرجل يتصبّر ولعله لم يستوعب مصيبته بعد، فإذا فعل فارقَه صبرُه واطمئنانه ورضاه. فلما اتصلت به بعد شهر وشهرين وجدته أعظمَ صبراً ممّا كان في أيامه الأولى وأكثرَ رضاً واطمئناناً وسكينةً وتسليماً لأمر الله.
* * *
تعلمت من هذه الحادثة وتلك معنى من أعظم معاني الإيمان، معنى جميلاً جليلاً يكاد أكثر الناس يَغفُلون عنه ولا ينتبهون إليه.
لعل كثيرين من المتدينين والمؤمنين يظنون أن إيمانهم بربّهم ودينهم يحمّلهم أعباء كبيرة ولا يعطيهم مقابلها سوى أجر أخروي موعود، إلا أن المرء إذا تأمل في أمثال هذه الحوادث سيدرك أن الإيمان يعطينا في دنيانا (قبل آخرتنا) أكثرَ من الذي يأخذه منا بكثير. سوف يعلم أن التديّن ليس عبئاً وحملاً ثقيلاً كما هو ظاهره، وإنما هو منحة عظيمة وهِبَةٌ من الله لعباده المؤمنين. إن الدين يحمّلنا أعباء ويكلفنا بواجبات ويَحْرمنا من متع ورغبات، ولكن لنتذكر دائماً: إننا نحصل بالمقابل على العمر كله سكينةً وسعادةً واطمئناناً وراحةَ بال.
إن المؤمنين يصبرون بإيمانهم على الكوارث والمصائب والشدائد التي تعصف بحياة الناس في كل مكان، لأنهم يدركون ذلك المعنى العظيم الذي قدمه لنا النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه الرائع، حينما أوصى ابنَ عباس فقال: "اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف". نعم، انتهى الأمر، كُتب القدر ولم يبقَ إلا أن يجري في الأرض على الناس، فليرضَ كل واحد بما قُدر له وما قُدر عليه في هذه الدنيا يَعِشْ سعيداً راضياً متصالحاً مع نفسه ومع الحياة.
* * *
لعل هذا المعنى هو المقصود بقوله تعالى: {مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحيِيَنّه حياة طيبة، ولَنَجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. فأما الجزاء الحسن فهو ما يلقاه المؤمن في آخرته لقاء إيمانه وعمله الصالح، وأما "الحياة الطيبة" فاختلف فيها أهل التفسير، ولعل ألطف معنى يُستخرَج منها هو "السعادة"، نقله الطبري عن ابن عباس، وهو متحقق في كل مؤمن صادق الإيمان على الوجه الذي رأيناه في هذه المقالة.
إنها هديّة المؤمنين المعجَّلة في الدنيا قبل ثوابهم المؤجَّل في الآخرة. وليس كل مسلم التزم بالشعائر المجردة أهلاً لهذا الجزاء العظيم، إنما يُعطاه المؤمنون على حسب إيمانهم، فمَن كان أشدَّ إيماناً ازداد في حياته اطمئناناً وسكينة وعاش من السعداء.
اللهم اجعلنا من الراضين بقضائك، ومن السعداء المطمئنين في هذه الدنيا الفانية وفي دار الخلود والبقاء.
سأقص عليكم حكاية رجلين أصابهما البلاء، أحدهما صاحبُ تجارات وعقارات في بعض المناطق التي تعرضت للقصف الروسي المجنون، أصيبت واحدةٌ من عماراته فتهدمت وبقيت له عمارات أُخَر وثروات وممتلكات، فقدَ قليلاً وبقي له الكثير. رأيته بعدها فإذا به يشكو ويتسخّط ويندب حظه قائلاً: لماذا أنا؟ لماذا من بين كل العمارات لم يجد الصاروخ سوى عمارتي ليضربها؟! لم أسمع منه كلمة شكر لله الذي أصيبت عمارتُه تلك بقدَره ثم نجّى بفضله سائرَ عماراته فسلمت من الأذى والتدمير. ما رأيت منه إلا كل غضب وسخط وضيق وانزعاج، كأن مصائب الدنيا كلها وقعت على رأسه. ولعلكم تقولون إنه أثر الصدمة، فإذا أفاق منها بعد يوم أو اثنين استغفر ورضي وحمد الله، ولكني كنت ألقاه بعدها مرة بعد مرة فأجده على حالته الأولى، ضيّقَ الصدر دائمَ التسخّط، لا يرضى ولا يحس بالاطمئنان.
الثاني رجل فاضل آتاه الله عدداً من الأبناء البررة الصالحين، ثم ابتلاه بواحد منهم استُشهد في قصف شديد تعرضت له بلدته ذات يوم، فلما اتصلت به لأعزيه وأُسمعه شيئاً من معاني الصبر والرضا وجدته أحفظَ مني لها وأسبقَ لجوءاً إليها، ورأيته على قدر عال من التسليم والاطمئنان، يقول: الحمد لله الذي أبقى بعدما أخذ، فقد أخذ واحداً ممّن وهب وأبقى لي غيرَه كثيرين. قلت لنفسي: ربما كان الرجل يتصبّر ولعله لم يستوعب مصيبته بعد، فإذا فعل فارقَه صبرُه واطمئنانه ورضاه. فلما اتصلت به بعد شهر وشهرين وجدته أعظمَ صبراً ممّا كان في أيامه الأولى وأكثرَ رضاً واطمئناناً وسكينةً وتسليماً لأمر الله.
* * *
تعلمت من هذه الحادثة وتلك معنى من أعظم معاني الإيمان، معنى جميلاً جليلاً يكاد أكثر الناس يَغفُلون عنه ولا ينتبهون إليه.
لعل كثيرين من المتدينين والمؤمنين يظنون أن إيمانهم بربّهم ودينهم يحمّلهم أعباء كبيرة ولا يعطيهم مقابلها سوى أجر أخروي موعود، إلا أن المرء إذا تأمل في أمثال هذه الحوادث سيدرك أن الإيمان يعطينا في دنيانا (قبل آخرتنا) أكثرَ من الذي يأخذه منا بكثير. سوف يعلم أن التديّن ليس عبئاً وحملاً ثقيلاً كما هو ظاهره، وإنما هو منحة عظيمة وهِبَةٌ من الله لعباده المؤمنين. إن الدين يحمّلنا أعباء ويكلفنا بواجبات ويَحْرمنا من متع ورغبات، ولكن لنتذكر دائماً: إننا نحصل بالمقابل على العمر كله سكينةً وسعادةً واطمئناناً وراحةَ بال.
إن المؤمنين يصبرون بإيمانهم على الكوارث والمصائب والشدائد التي تعصف بحياة الناس في كل مكان، لأنهم يدركون ذلك المعنى العظيم الذي قدمه لنا النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه الرائع، حينما أوصى ابنَ عباس فقال: "اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف". نعم، انتهى الأمر، كُتب القدر ولم يبقَ إلا أن يجري في الأرض على الناس، فليرضَ كل واحد بما قُدر له وما قُدر عليه في هذه الدنيا يَعِشْ سعيداً راضياً متصالحاً مع نفسه ومع الحياة.
* * *
لعل هذا المعنى هو المقصود بقوله تعالى: {مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحيِيَنّه حياة طيبة، ولَنَجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. فأما الجزاء الحسن فهو ما يلقاه المؤمن في آخرته لقاء إيمانه وعمله الصالح، وأما "الحياة الطيبة" فاختلف فيها أهل التفسير، ولعل ألطف معنى يُستخرَج منها هو "السعادة"، نقله الطبري عن ابن عباس، وهو متحقق في كل مؤمن صادق الإيمان على الوجه الذي رأيناه في هذه المقالة.
إنها هديّة المؤمنين المعجَّلة في الدنيا قبل ثوابهم المؤجَّل في الآخرة. وليس كل مسلم التزم بالشعائر المجردة أهلاً لهذا الجزاء العظيم، إنما يُعطاه المؤمنون على حسب إيمانهم، فمَن كان أشدَّ إيماناً ازداد في حياته اطمئناناً وسكينة وعاش من السعداء.
اللهم اجعلنا من الراضين بقضائك، ومن السعداء المطمئنين في هذه الدنيا الفانية وفي دار الخلود والبقاء.
الحرية لأسرى الحرية
أخيراً جاءت الجمعة التي انتظرتها طويلاً. وإنْ كنتُ منحت صوتي للاسم الذي صدَّرْتُ به المقالة فإنني أرضخ للاسم الفائز في التصويت، فما يتوافق عليه الأكثرون هو خياري دائماً (ما لم تكن فيه مخالفة للدين أو للخلق القويم).
في ثورتنا أولويات كثيرة ومسائلُ جِسامٌ تستحق كلها جُمَعاً خاصة، ولكن المعتقلين كانوا دائماً عندي أولويّةَ الأولويّات، لأن ساعة من العذاب في باستيلات نظام الاحتلال الأسدي تعدل دهراً من العيش في القصف والحصار والخوف والجوع والتشرد والحرمان.
ولأن أكثر المعتقَلين هم من صُنّاع الثورة، رجالاً ونساء على السواء، الذين هتفوا في الشوارع والساحات مطالبين بالحرية يومَ لم يجرؤ أكثرُ أهل سوريا على التفكير والحلم بها في المنامات والخيالات، فهم الطليعة العظيمة التي شَقَّت الطريق للآخرين، التي حملت مشعل الثورة الوقّاد في أول الأمر فبدَّدَت به سوادَ ليل الظلم الطويل، فإنْ تكن ثورتُنا ثورةَ وفاء (وهي كذلك بأمر الله) فإنّ مِن أَولى أولوياتها إنقاذ أولئك الأبطال المجهولين من عذابات السجون.
ولأن مأساة المعتقلين لا تقتصر على ثلث مليون معتقل ومغيَّب وأسير، بل إن المأساة لتمتد -في حقيقتها- حتى تشمل الملايين من أهل الثورة، فوراء كل معتقَل ومعتقَلة أبٌ وأم أو زوجة وزوج أو صبيان وبنات ينتظرون عودته، عادّين ساعات النهار المشحونة بالترقب والقلق ودقائقَ الليل الموحش الطويل.
إنها جمعة عظيمة يتظاهر فيها أحرارُ سوريا من أجل ثلث مليون معتقَل ومغيَّب وأسير وفقيد، ومن أجل زوجة كل معتقل وأولاد كل مغيَّب وأمّ كل أسير وأبِ كل فقيد.
#الحرية_للمعتقلين
أخيراً جاءت الجمعة التي انتظرتها طويلاً. وإنْ كنتُ منحت صوتي للاسم الذي صدَّرْتُ به المقالة فإنني أرضخ للاسم الفائز في التصويت، فما يتوافق عليه الأكثرون هو خياري دائماً (ما لم تكن فيه مخالفة للدين أو للخلق القويم).
في ثورتنا أولويات كثيرة ومسائلُ جِسامٌ تستحق كلها جُمَعاً خاصة، ولكن المعتقلين كانوا دائماً عندي أولويّةَ الأولويّات، لأن ساعة من العذاب في باستيلات نظام الاحتلال الأسدي تعدل دهراً من العيش في القصف والحصار والخوف والجوع والتشرد والحرمان.
ولأن أكثر المعتقَلين هم من صُنّاع الثورة، رجالاً ونساء على السواء، الذين هتفوا في الشوارع والساحات مطالبين بالحرية يومَ لم يجرؤ أكثرُ أهل سوريا على التفكير والحلم بها في المنامات والخيالات، فهم الطليعة العظيمة التي شَقَّت الطريق للآخرين، التي حملت مشعل الثورة الوقّاد في أول الأمر فبدَّدَت به سوادَ ليل الظلم الطويل، فإنْ تكن ثورتُنا ثورةَ وفاء (وهي كذلك بأمر الله) فإنّ مِن أَولى أولوياتها إنقاذ أولئك الأبطال المجهولين من عذابات السجون.
ولأن مأساة المعتقلين لا تقتصر على ثلث مليون معتقل ومغيَّب وأسير، بل إن المأساة لتمتد -في حقيقتها- حتى تشمل الملايين من أهل الثورة، فوراء كل معتقَل ومعتقَلة أبٌ وأم أو زوجة وزوج أو صبيان وبنات ينتظرون عودته، عادّين ساعات النهار المشحونة بالترقب والقلق ودقائقَ الليل الموحش الطويل.
إنها جمعة عظيمة يتظاهر فيها أحرارُ سوريا من أجل ثلث مليون معتقَل ومغيَّب وأسير وفقيد، ومن أجل زوجة كل معتقل وأولاد كل مغيَّب وأمّ كل أسير وأبِ كل فقيد.
#الحرية_للمعتقلين
