Telegram Web Link
Forwarded from شبكة نداء سوريا
الحرية لأسرى الحرية

بقلم: أ.مجاهد ديرانية


http://nedaa-sy.com/literatures/20
ضربة قاضية للإلحاد:
كيف بدأت الحياة؟

(1)

هذا السؤال هو أكثر ما يزعج ويحرج الملحدين منذ وقت طويل، وقد دأبوا دائماً على تبسيط الجواب بالاعتماد على فَرَضية "المصادفة" التي عملت عملها خلال الدهر الطويل الذي انقضى من عمر الكون كما يتصورون. فمنذ عدة بلايين من السنين تعرضت "مركّبات كيميائية" لا حياة فيها لتفاعل في جو الأرض البدائي، وتوفرت أحوال مناسبة: الضغط الجوي الكافي مع الصواعق التي قدّمت الطاقة الكهربائية الضرورية لإتمام العملية، فنشأت الخلية الحية الأولى.

هذا هو الحل "العلمي" الذي تقدمه نظرية "النشوء والارتقاء" لتفسير بدء الحياة، وهو الحل الذي حاول آلاف العلماء إثباته في معاملهم خلال القرن الماضي بطوله، ثم لم يستطع أحدٌ قَطّ أن يُنتج حياة من لاحياة، رغم كل تلك الجهود الهائلة التي بُذلت في معامل توفرت فيها أرقى الآلات والمعدات العلمية، حتى استقر عند المنصفين منهم هذا القانون العلمي الصارم: "إن الحياة لا تنشأ إلا من حياة".

* * *

من أيام شبابي المبكر وأنا أقرأ عن التطور ومشكلة الحياة، وكان النقاش محصوراً دائماً في "معجزة كيميائية" تسببت في بثّ الحياة في مادة غير حية، فهذه هي الطريقة الوحيدة لتفسير بدء الحياة، وكل ما بعدها سهل: الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي.

لقد استطاعت "نظرية التطور" أن تحتل مكاناً مرموقاً في المجتمع العلمي المعاصر مع أنها ما تزال نظرية مثيرة للجدل، فقَبِلها علماء كثيرون ورفضها علماء كثيرون. وعلى الرغم من أنها استنفدت نصيبها الوافر من الدعم الأكاديمي والإعلامي والسياسي إلا أنها ما تزال تعاني من مشكلة جوهرية لم تستطع تجاوزها بعد مرور مئة وستين عاماً على ولادتها، وما يزال التحدي الأكبر قائماً في وجهها كما كان في يومها الأول.

لم تكن مشكلة نظرية التطور الأساسية هي تفسير تطور أشكال الحياة، سواء ضمن النوع الواحد أو بين الأنواع المختلفة. المشكلة الحقيقية التي واجهتها النظرية علمياً ولم تستطع حلها إلى اليوم هي مشكلة أصل الحياة، بدء الخلق، وهي العُقدة التي يتشبث بها الملاحدة ويدافعون عنها بشراسة، لأنها تدعم افتراضاً بدؤوا به ويريدون أن يقيموا الحجة عليه بأي سبيل: إن الحياة يمكن أن توجد بلا موجد، أي بلا خالق، وهي الطريقة الوحيدة التي يستطيعون أن ينفوا بها وجود الله.

* * *

الخلاصة: لوقت طويل كانت مشكلة بدء الحياة مشكلة كيميائية بيولوجية بحتة، وهي مشكلة سهلة نسبياً -كما تصوروا- ويمكن حلها مع تقدم العلم وابتكار أدوات وأجهزة أكثر دقة واحترافية. أنا نفسي بقيت محصوراً في هذا "الإطار النظري" للمشكلة، مع يقيني بأن البشر لن ينجحوا في إنتاج حياة من لاحياة ولو اشتغلوا دأَباً ألفَ ألفِ عام. لكن الصورة تغيرت أخيراً عندما ظهر أن المشكلة أعقد من الكيمياء بكثير، إنها مشكلة لا يمكن للعلم أن يحلها أبداً، ولو أن أي ملحد مُنْصف فكّر فيها على حقيقتها فسوف ينقلب إلى الإيمان الكامل بالله في طرفة عين.

إنها ليست مشكلة كيمياء، إنها مشكلة "معلومات".
ضربة قاضية للإلحاد:
كيف بدأت الحياة؟

(2)

حتى منتصف القرن الماضي كانت الفكرة الشائعة في الأوساط العلمية أن "الخلية الحية" تركيبٌ بدائي يمكن أن ينشأ مصادَفةً عندما تتوفر ظروف موضوعية مناسبة، لكن الكشوف العلمية التي تدفقت كالمطر في النصف الثاني من القرن أثبتت أن الخلية الحية تبلغ من التعقيد درجة لم يبلغها أي منتَج بشري على ظهر الأرض، فهي تحتوي على "محطات توليد" تنتج الطاقة التي تحتاج الخلية إليها، و"مصانع" تصنع الإنزيمات والهرمونات اللازمة للحياة، و"بنك معلومات" تسجَّل فيه المعلومات الخاصة بكل "المنتجَات" التي تُصنَع في الخلية، و"أنظمة نقل" و"خطوط اتصالات" معقدة لنقل المواد الخام والمنتجَات النهائية عبر الخلية، و"محطات تكرير" لتحليل المواد الخام إلى أجزاء قابلة للاستخدام... هذا كله ليس سوى جزء صغير من نظام الخلية المعقد بدرجة خيالية.

زادت تلك الاكتشافاتُ صعوبةَ الدفاع عن فَرَضية البداية العشوائية للحياة على الأرض، سواء بالمصادفة البحتة أم بالانتخاب الطبيعي المتراكم لبلايين التفاعلات الكيميائية والبيولوجية عبر بلايين السنين. نعم، صار الدفاع عن تلك الفرضية أصعبَ في ضوء الاكتشافات الحديثة التي أظهرت درجة التعقيد الخيالية في الخلية الحية، لكنها بقيت فرضية ممكنة مهما تكن احتمالاتُها ضئيلة، إلى أن ظهر أخيراً أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، وأن تفسيرها يقع خارج مجال علوم الكيمياء الحيوية والبيولوجيا والجيولوجيا بالكامل، فهي ليست مشكلة تركيب معقد فحسب، مهما بلغ هذا التعقيد، بل هي مشكلة معلومات كما قلت قبل قليل.

* * *

في عام 2009 نُشر كتاب عنوانه "توقيع الخالق في الخلية" [1]، وسرعان ما أثار اهتماماً كبيراً في الأوساط العلمية والشعبية، حتى إن صحيفة "التايمز" الإنكليزية أدرجته ضمن "كتب العام" في ملحقها الثقافي السنوي [2]. مؤلف الكتاب هو ستيفن ماير [3]، وهو فيزيائي وجيولوجي أمريكي يحمل شهادة دكتوراة في فلسفة العلوم من جامعة كامبريدج البريطانية ومن أشد أنصار نظرية "التصميم الذكي" [4] التي تخوض مع الداروينيين حرباً شرسة في الأوساط العلمية منذ ثلاثة عقود.

كما هو متوقع أثار الكتاب جدلاً كبيراً لأنه نقض أصول نظرية التطور السائدة في الأوساط العلمية في الغرب. وقد رأيت من الإنصاف أن أقرأ وأسمع ما قيل وكُتب في نقد الكتاب قبل أن أجازف بالنقل عنه، فوجدت أن خصومه انشغلوا بشَخْصَنة الخلاف وحوّلوا النقاش من أفكار الكتاب ذاتها إلى الجدلية الطويلة التي لم تُحسَم حتى الآن: هل تنتمي نظرية "التصميم الذكي" (التي تتبناها شريحة كبيرة من علماء الطبيعة والبيولوجيا بديلاً عن نظرية التطور) هل تنتمي إلى عالم العلوم أم إلى عالم الفلسفة؟

بالنتيجة وجدت -بإنصاف- أن خصوم الكتاب أنفقوا وقتاً طويلاً في الدوران في حلقات مفرغة وأنهم فشلوا في تفنيد أفكاره بأسلوب علمي رصين، ولا سيما الفكرة الكبرى التي حوّلَت لغزَ بدء الحياة من مشكلة كيميائية بيولوجية إلى مشكلة معلومات.
ضربة قاضية للإلحاد:
كيف بدأت الحياة؟

(3)

لنعد قليلاً إلى الوراء. ربما كان أعظم مشروع ختمَت به البشريةُ القرنَ الميلادي الماضي هو مشروع "الجينوم البشري" [5]، الذي بدأ العمل به عام 1990 بهدف فكّ لغز المورِّثات (الجينات) التي تحمل شيفرة الوراثة، وأُعلنت نتائجه النهائية بعد ثلاثة عشر عاماً، وقد عمل فيه أكثر من ألف عالم من سبع عشرة دولة، بموازنة خيالية بلغت ثلاثة مليارات دولار.

الجينوم البشري هو سجل المعلومات الوراثية المحفوظ في "المادة الوراثية" التي تسكن في نواة الخلية البشرية. هذه المادة العجيبة اسمها "الحمض الرّيبي النووي" (المعروف اختصاراً باسم "دنا" [6]) وهي لا توجد في النواة سائبةً حرّةً بلا نظام، بل تتكتّل في كيانات دقيقة جداً تسمى "جِينات" (مُوَرِّثات) توجد عشراتُ الآلاف منها في نواة الخلية البشرية. هذه الجينات تتجمع وتندمج معاً فتصنع قطعاً خيطية تسمى "كروموسومات" (صبغيّات)، يبلغ عددها في الخلية البشرية ستاً وأربعين صبغية تنتظم في أزواج (ومن هنا جاء الرقم الشهير: ثلاثة وعشرون زوجاً من الكروموسومات).

* * *

إذن فإن الحمض النووي (الدنا) هو مادة الحياة الأساسية التي اهتدى إليها العلم أخيراً، وقد صارت صورة سلسلة "الدنا" الحلزونية من أشهر الصور العلمية في العصر الحاضر، ولا بد أن كل قارئ لهذه المقالة قد شاهدها ذات يوم: خَيطان لولبيان يلتفّ كل منهما على الآخر وكأنهما ثعبانان متعانقان، يرتبطان معاً بمئات الوصلات الأفقية التي جعلت جُزَيء الدنا أشبه بالسلّم الملتوي. هذه الوصلات الأفقية تتكون من أربعة أنواع من "القواعد النيتروجينية" التي ترتبط معاً بروابط محددة، وهي كثيرة جداً، يوجد منها في نواة الخلية الواحدة أكثر من ثلاثة مليارات زوج، فلو أننا عبّرنا عن كل منها بحرف أبجدي لملأت ثلاثة آلاف مجلد من الحجم الكبير، ولو رصفنا تلك المجلدات بعضَها فوق بعض لتجاوز ارتفاعها عمارةً من ثلاثين طابقاً على الأقل!

من أراد أن يقرأ القصة المثيرة لاكتشاف بنية "الدنا" الفريدة فسوف يجدها في الكتاب الممتع "اللولب المزدوج" الذي كتبه جيمس واطسون، وقد حصل هو وزميله فرانسِسْ كرِكْ على جائزة نوبل عام 1962 مكافأة لهما على هذا الاكتشاف المثير. وقد تُرجم الكتاب ونشر بالعربية قبل بضع سنوات.

لم يكن اكتشاف المادة الوراثية وتركيبها الفريد اكتشافاً عادياً، فسرعان ما اتضح أن الدنا هو "حجر رشيد" الحياة، فكما كشف الحجر الأصلي الذي عثر عليه شامبليون سرّ الأبجدية الهيروغليفية القديمة فقد كشف الدنا سر أبجدية الحياة، فهو يحتوي على "المعلومات" التي تحدد كل صفات الكائن الحي: لون البشرة والشعر والعينين والطول وقوة جهاز المناعة والعلل الموروثة والطباع الأصلية والاستعدادات النفسية... باختصار: كل واحد من الناس يولد ومعه "كتاب تعليمات" (كاتالوغ) خاص به كُتب بهذه اللغة العجيبة، وهو يميّزه عن سائر الناس.
ضربة قاضية للإلحاد:
كيف بدأت الحياة؟

(4)

يقول ستيفن ماير، مؤلف كتاب "توقيع الخالق في الخلية": إن المشكلة الحقيقية في الخلية الحيّة هي تفسير أصل (أو مصدر) المعلومات في جُزَيء الحمض النووي (الدنا)، فالمعلومات التي يحملها الجزيء تنشأ عن ترتيب "القواعد" الموجودة فيه، فكأن هذه القواعد هي الأحرف التي تُكتَب بها المعلومات. المدهش أن ترتيب القواعد ليست له أي علاقة بالقوى الكيميائية التي تربطها مع بقية مكونات الجزيء، لأنها متساوية في التأثير ولا تستطيع انتقاء طريقة الربط، كما أنها هي نفسها غير مرتبطة معاً بأي قوة كيميائية. إذن فإن الكيمياء غير قادرة على تفسير الترتيب الدقيق (الفريد) للقواعد التي تحمل شيفرة المعلومات داخل الجزيء. إنها تشبه الأحرف التي تتكون منها الكلمات، تلك الأحرف يمكن أن تترتب بأي صورة عشوائية، ولكن عندما نكتب كلمات ذات معنى فما مصدر المعلومات التي رتّبَت الأحرف معاً لتدل على كلمات مفيدة؟

ثم يقول: لقد قدم اكتشاف خاصية حمل المعلومات في "الدنا" تحدياً جوهرياً لكل النظريات المادية التي حاولت تفسير أصل الحياة على أساس مادي. لن تستطيع الداروينية الجديدة الصمودَ أمام "بيولوجيا المعلوماتية"، وهي بيولوجيا القرن الحادي والعشرين.

ثم ينقل ماير عن بيل غيتس (مؤسس مايكروسوفت) قوله: "إن جُزَيء الدنا يشبه برنامجاً حاسوبياً، ولكنه أكثر تطوراً بدرجة هائلة من أي برنامج استطاع الإنسان إنتاجه"[7]. ثم يقول: إن هذه الملاحظة مثيرة تماماً، لأننا نعلم أن البرامج تأتي دائماً من مُبرمِجين، كما نعلم أن المعلومات لا تأتي إلا من مصدر ذكي عاقل. مهما تكن طبيعة المعلومات (لغة مكتوبة أو برمجة حاسوبية) عندما نتقصى مصدرها النهائي الأصلي نصل إلى "عقل" وليس إلى "مادة". إذن عندما نجد معلومات مضمَّنة (أو مزروعة) في "الدنا" فإن الاستنتاج الأكثر منطقية هو أنها جاءت من مصدر ذكي عليم.

* * *

"إن المعلومات هي إنتاج العقل الواعي". هذا ما يقوله الطبيب النمساوي الشهير هنري كوازتْلر، الذي صار -بعد هجرته إلى الولايات المتحدة- رائداً في "نظرية المعلومات"[8] وتطبيقاتها في العلوم البيولوجية، يقول: "إن ابتكار معلومات جديدة يرتبط ارتباطاً حتمياً بعمل من أعمال الوعي" [9].


عند الفراغ من قراءة الجينوم البشري كان ما نجح العلماء في اكتشافه من حقائق ومعلومات قد ملأ ربع مليون صفحة من صفحات كتاب متوسط الحجم. عندها قال البروفسور فرانسس كولِنْز، مدير مشروع الجينوم، كلمته الشهيرة: "الآن علّمنا الله اللغة التي خلق بها الحياة". ثم قال: إنني أشعر بالإثارة والذهول عندما أفكر بالأمر؛ لقد ألقينا للتوّ النظرة الأولى على "كتاب التعليمات البشري" (كتالوغ الإنسان) الذي كتبه الله ولم يطّلع عليه من قبلُ سواه [10].

هذه الاكتشافات التي تدفقت في العقد الأول من القرن الجديد كانت صادمة للكثيرين، وقد وصلت موجاتها الارتدادية إلى الشاطئ الآمن الذي أمضى فيه أكبرُ ملحدي القرن العشرين شيخوختَه طامعاً في نهاية هادئة لحياته الصاخبة، فلم يسعه أن ينجو من آثارها، فما لبثت الأوساط العلمية أن فوجئت في عام 2004 بخبر مثير نشرته وكالة أنباء أسوشيتدبرس: "ملحد شهير يؤمن بالإله اعتماداً على الأدلة العلمية". وجاء في التفاصيل: بعدما أمضى معظمَ حياته مصرّاً على نفي وجود الخالق يقول أنتوني فلو، وهو في الحادية والثمانين من العمر اليوم: لا بد أن "قوة ذكية ما" هي التي خلقت الكون. إن "الذكاء الخارق" هو التفسير الجيّد الوحيد لنشأة الحياة وتعقيد الطبيعة [11].
ضربة قاضية للإلحاد:
كيف بدأت الحياة؟

-خاتمة-

النتيجة التي سنصل إليها -بعد قراءة كل ما سبق- هي ذاتها التي وصل إليها الكيميائي الشهير مايكل بولاني ذات يوم: إن المعلومات في جُزَيء الدنا ليست أبداً نتيجة لكيمياء الروابط التي تربط مكونات الجزيء معاً، فعلاقة الكيمياء بترتيب القواعد التي تنشأ عنها المعلومات الوراثية لا تزيد على علاقة الحبر بكلمات الكتاب أو الجريدة. إن الحبر يُظهِر الحروفَ على الورقة فقط، أما المعلومات (ترتيب الأحرف والكلمات) فإن تفسيرها يأتي من مصدر خارجي، شيء من خارج عالمَي الفيزياء والكيمياء. إنه يأتي -حسب الكلمات التي استخدمها بولاني نفسه- من "كائن فوق الوجود المادي" [12].

بعد معرفة هذه المعلومات المثيرة لا مناص من الاعتراف بوجود إله "خالق قدير عليم"، ليس لأن القرآن عرّفنا بهذه الأسماء الحسنى لله، بل لأنها -بموضوعية وإنصاف- هي الصفات الحتمية لمن أنشأ الحياة من عدم وخلق شيفرة الحياة.

عندها سوف ندرك سرَّ التعبير القرآني المدهش في قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} وقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}، وفي الآيتين يلفت القرآنُ انتباهَ الإنسان إلى خلقه الأول، إنه يرشد الإنسان هنا إلى دليل الألوهية الأكبر: أصل الحياة.

المراجع

(1) Signature in the Cell: DNA and the Evidence for Intelligent Design (HarperOne, 2009)
https://en.wikipedia.org/wiki/Signature_in_the_Cell

(2) Book of the Year, "Times" Literary Supplement (2009)
https://en.wikipedia.org/wiki/The_Times_Literary_Supplement

(3) Stephen Meyer
https://en.wikipedia.org/wiki/Stephen_C._Meyer

(4) Intelligent design (ID)
https://en.wikipedia.org/wiki/Intelligent_design

(5) Human Genome
https://en.wikipedia.org/wiki/Human_Genome_Project

(6) DNA
https://en.wikipedia.org/wiki/DNA

(7) "The human DNA is like a computer program, but far, far more advanced than any we've ever created".

(8) Information theory
https://en.wikipedia.org/wiki/Information_theory

(9) Henry Quastler: "The creation of new information is habitually associated with conscious activity".
https://en.wikipedia.org/wiki/Henry_Quastler

(10) "It is humbling for me, and awe-inspiring to realize that we have caught the first glimpse of our own instruction book, previously known only to God."
https://en.wikipedia.org/wiki/Francis_Collins

(11) Leading atheist now believes in God based on scientific evidence. At age 81, after decades of insisting belief is a mistake, Antony Flew has concluded that some sort of intelligence must have created the universe. A super-intelligence is the only good explanation for the origin of life and the complexity of nature, Flew said.
http://www.foxnews.com/story/2004/12/09/leading-atheist-philosopher-concludes-god-real.html

(12) transcendent

مناقشة الكتاب يوتيوب*
https://www.youtube.com/watch?v=eW6egHV6jAw

الكتاب بي دي إف*
https://www.difa3iat.com/wp-content/uploads/2014/08/Meyer-Signature-in-the-Cell-DNA-Evidence-for-Intelligent-Design-2009.pdf

المقالة كاملة على الرابط التالي
https://shamquake.wordpress.com/2018/10/18/6008/
الرحمة: مفتاح السعادة والفلاح

-1-

لو خُيِّرت بين خِلال الخير وصفات النجاح جميعاً فقيل لي "اختَرْ واحدة ودَعْ ما عداها" لاخترت الرحمة، لأنني إلى رحمة الله أحوجُ مني إلى ملء الدنيا من جوهر ومال، والطريق إلى رحمة الله يمرّ برحمة الناس: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء" (صحّحه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو) ولأن الله حرّم رحمته على من لا يرحم الناس: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس" (أخرجه البخاري من حديث جرير بن عبد الله).

ولأن الرحمة من أظهر صفات الناجين الناجحين في دار البقاء: {الذين آمنوا وتواصَوا بالصبر وتواصوا بالمَرْحَمة، أولئك أصحاب المَيْمَنة}. قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير": "خصّ بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها، والمرحمة ملاك صلاح الجماعة، قال تعالى: {رُحَماء بينهم}. والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، ومَن يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها".

-2-

قال مصطفى لطفي المنفلوطي في قطعة جميلة نشرها في "نظراته" بعنوان "الرحمة":

أيها الرجل السعيد: كن رحيماً، فلو تراحم الناس لما كان بينهم جائعٌ ولا عارٍ ولا مغبون ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع واطمأنت الجُنوب في المضاجع، ولَمَحت الرحمةُ الشقاءَ من المجتمع كما يمحو لسانُ الصبح مدادَ الظلام.

أيّها الإنسان: ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها ولم يترك لها غيرَ صبية صِغار ودموع غِزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها، ويعبث الهمّ بقلبها فتُؤْثر الموت على الحياة. ارحم الزوجة أمّ ولدك وقَعيدة بيتك ومرآة نفسك، لأنّها ضعيفة ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذّب ثقته بك. ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلاّ تفعل قتلتَه أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين.

ارحم الحيوان، لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع ويتوجع ولا يكاد يُبِين. ارحم الطيور، لا تحبسها في أقفاصها ودعها تهيم في فضائها حيث تشاء وتقع حيث يطيب لها التغريد والتنقير، فإن الله وهبها فضاء لا نهاية له، فلا تغتصبها حقها فتضعها في محبس لا يسع مد جناحَيها. أطلق سبيلها وأطلق سمعك وبصرك وراءها، لتسمع تغريدها فوق الأشجار وفي الغابات وعلى شواطئ الأنهار، وترى منظرها وهي طائرة في جو السماء، فيُخيَّل إليك أنها أجمل من منظر الفلك الدائر والكوكب السيّار.

أيها السعداء، أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

-3-

وكتب علي الطنطاوي في مقالة لطيفة عنوانها "تسعة قروش"، نشرها سنة 1948:

هل تحبون أن تعرفوا ما هي لذة الروح وما هي راحة القلب؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا؟ لا تحسبوا أني أصُفُّ كلاماً وأرصفُ ألفاظاً، إني والله أسوق لكم حقائق. فإن أردتم معرفتها ففتّشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذَّبة، ثم أوْلوها الإحسان.

وليست قيمة الإحسان بكثرة المال؛ إن كل غني يستطيع أن يتصدق بالكثير، ولكن غنيّ القلب بالإنسانية والنبل والحب هو الذي يستطيع أن يتصدق -مع المال- بالعاطفة المنعشة. فلا تضنّوا على الفقراء بإنسانيتكم، ولا تبخلوا عليهم بعطاء قلوبكم، وذكّروهم أنهم لا يزالون معدودين من البشر، وأنهم مثلكم لأب واحد ولأم واحدة، لآدم وحواء.

إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا وأحلى أفراح القلوب فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال.
قتل الفتاة:
عقوبة شرعية أم جريمة وحشية؟

هزَّت الحادثةُ الأخيرة ضميرَ السوريين وروّعتهم رَوعة شديدة وأثارت بركاناً من الغضب لم يهدأ حتى الآن، وفتحت صندوقاً أسود طال غَلْقُه وتأخر فتحه، وجدّدت التذكير بآفة اجتماعية مزمنة آن للعقلاء والدعاة والمصلحين أن يعالجوها وأن يقرّروا بلا مواربة: إن ما يسمى "جرائم شرف" في بعض المجتمعات الشرقية لا يختلف عن أي جريمة وحشية بشعة ينبغي أن يعاقب عليها القانون بأقسى العقوبات.

بعيداً عن المعالجة الاجتماعية والنفسية للمشكلة رأيت من واجبي أن أكتب هذا التوضيح الشرعي، مقتصراً على مسألة جوهرية واحدة: هل يجوز قتل أي إنسان في أي حال من الأحوال بلا محاكمة وبالقرائن الظنّية؟

-1-

الأصل في الإسلام أن النفس مَصونة، فلا يُهدَر الدم في السلم إلا في حد أو قصاص، ولا يُهدَر في الحرب إلا في القتال. والفرق بين الحالتين كبير، ففي الحرب يُقاتَل المقاتل ويُقتَل إذا تمكنّا منه لأنه متلبّس بنية القتل مُذ حمل السلاح ودخل الميدان، فلو تركناه حتى نتحقق من نيّته واختياره فإنه قد يبادر إلى قتلنا، فوجب أن نبادره نحن بالقتل لدرء الخطر عن أنفسنا ولتحقيق الغاية التي من أجلها قامت المعركة، وهي الانتصار على العدو.

أما في السلم فإن الدماء لا تُهدَر إلا بقضاء، ولا ينفذ الحكمَ إلا الإمامُ أو مَن ينوب عنه من شُرَط وأعوان. وقد غلّظ فقهاؤنا في إثبات الجريمة الموجِبة للدم -من الحدود والقصاص- لما للدم من خطورة خاصة تتطلب توقف الحكم على ثبوت الجريمة ثبوتاً قطعياً مؤكداً، فنَصّوا على أن العقوبة لا توقع على المتهم إلا بإثبات شرعي، ثم حصروا طرق الإثبات المعتبَرة شرعاً في ثلاثة أمور:

(1) الإقرار، وهو حجة قاصرة على المُقِرّ لا يتعدى أثرُها إلى غيره، ويؤخَذ به لأن الإنسان غير متّهَم على نفسه. وقد اتفق العلماء على صحته بحق البالغ العاقل المختار، وقالوا: يُشترَط في الإقرار بالجريمة أو الجناية الموجبة لحد أو قصاص أن يكون واضحاً مفصلاً قاطعاً في الاعتراف بارتكاب الجرم عمداً، فلا يصح الإقرار المجمَل الغامض المشتمل على شبهة، كما لا يصح إقرار المستكرَه (فلا قيمة لإقرار انتُزع تحت التعذيب والتهديد).

(2) الشهادة، واشترط فقهاء المذاهب الأربعة في الحدود والجنايات والقصاص شهادة رجلين عَدلين لخطورتها وضرورة التأكد من ثبوتها وتضييقاً لطرق إثباتها. واشتراطُ العدالة في الشاهدين أمر دقيق يطبقه القاضي بحذر ويتوثق منه ليُخرج احتمال الكيد والخطأ. أما في إثبات الزنا خاصة فتُشترَط شهادة أربعة شهود عدول، واشترطوا لصحة الشهادة في هذه الحالة شروطاً (تجدون تفصيلها في كتب الفقه) تكاد تبلغ درجة الاستحالة والتعجيز.

(3) القرينة، كرائحة الخمر في فم الرجل فإنها قرينة تدل على شرب المُسكر. ولأن القرائن تغلب عليها الظنّية فقد قرر جمهور الفقهاء أنه لا يُحكَم بها في الحدود، لأن الحدود تُدرَأ بالشبهات، وقاسوا عليها القصاص للاحتياط في أمر الدماء. وذهب ابن القيم وتابعه جماعة من الحنابلة، وابن فرحون وتابعه جماعة من المالكية، إلى الأخذ بالقرائن في تلك الحالة مع التحفظ والحذر، ولا يقرر ذلك إلا القاضي المتمرس، وذهب الحنفية إلى اعتبار القرينة إذا كانت قطعية، وهي عندهم "الأمارة البالغة حد اليقين".
قتل الفتاة:
عقوبة شرعية أم جريمة وحشية؟

-2-

إن "جرائم الشرف" المزعومة لا تحقق أياً من الشروط السابقة، وهي ليست سوى جرائم حقيقية لا تحقق العدالة ولا يقبلها عقل ولا دين. ولو أننا فحصنا الحادثة البشعة الأخيرة فسوف نجد أنها كانت قتلاً عشوائياً هو أقرب إلى الجريمة الموصوفة منه إلى العقوبة الشرعية، لأن الضحية لم تُضبط في حالة جرم، ولم تحاكَم محاكمة حقيقية عادلة، ولم يُصدِر الحكمَ عليهم قاضٍ ثقةٌ معتبَر، ولم يتحقق في تجريمها أيٌّ من طرق الإثبات الشرعية، فلا إقرارَ ولا شهود، وإنما اعتمد القاتل المعتوه الذي أصدر الحكم ونفّذه على قرينة ظنية، هي صورة مستخرَجة من هاتف محمول يمكن أن يكون لها مئة تفسير وتبرير.

هذه القرينة الظنية لا تدل على أي فعل ولا تُثبت شيئاً ذا قيمة، فقد تواترت الأخبار من أهل العلم بالتقنية بأن الصور يمكن أن تتسرب من أي هاتف بطرق شتى، ولا سيما إذا لم يملك المرء علماً كافياً بإجراءات الحماية والأمان (وهو الوضع الافتراضي الشائع بين عامة الناس).

إن اتهام الفتاة في عرضها وشرفها لمجرد العثور على صورة لها بأي شكل كان هو في حد ذاته جريمة قذف تستحق التحقيق والعقاب. وقد كان المفروض (وهو الأصل في الدين والعقل) أن يتستر المرء على حالة حقيقية عثر بها ووقع عليها بلا قصد (وأقول "بلا قصد" لأن التجسس ممنوع في الإسلام، وسوء الظن الدافع إلى التجسس محرَّم بنص القرآن)، هذا أولاً.

ثم إن من حق المتهم أن يدافع عن نفسه لو اتُّهم، وأن يخضع لمحاكمة حقيقية أمام قاض شرعي مؤهَّل لو أريدَ للقضية أن تتابَع (والأصل أن لا تتابَع كما قلت آنفاً)، فإذا ثبت في حق المتهمة شيء طُلب الشريك، فإن البشر ليسوا "أميبات" تتكاثر بالانشطار، وكل "عملية" من هذا النوع فيها شريكان، فلماذا تلاحقون الطرف الأضعف وتتركون الطرف الأقوى بلا عقاب؟

هذا ثانياً. وثالثاً ورابعاً: ما هي العقوبة الشرعية والقانونية في هذه الحالة ومَن الذي ينفذ العقوبة إذا ثبتت الجريمة؟ قطعاً ليست هي القتل لبنت عزباء وقطعاً ليس أخوها الجاهل الأحمق هو المخوَّل بالعقاب. وأخيراً: مَن سيحاكم ويعاقب القاتل بعدما ثبت أنه ارتكب جريمة شنيعة محققة خارج القضاء؟ هل يجوز أن تبقى هذه الجريمة بلا تحقيق ولا عقاب فتتكرر من بعدُ -لا قدّر- الله مرات ومرات؟!

* * *

الخلاصة: إنّ القتل خارج إطار القضاء بابُ شر عظيم، إذا فُتح سيأكل من الأبرياء ما لا يعلم عددَهم إلا الله، لذلك حرص الشرع على إغلاق هذا الباب من أصله ولم يملّك مفاتِحَه إلا من يَمْلكون الأهليّة من علم وعدالة، قاض متمرس أو فقيه متمكن؛ هذا هو الحق والعدل وهذا هو الإسلام، وما عداه جاهلية جهلاء آن أوان الخلاص منها إلى الأبد.
Forwarded from شبكة نداء سوريا
عقوبة شرعية أم جريمة وحشية؟

بقلم: أ.مجاهد ديرانية

http://nedaa-sy.com/literatures/22
من الكلمات التي تزعجني جداً، بل تؤلمني على التحقيق، ما يكتبه بعض طلبة العلم في بعض المنتديات العلمية عن "العقيدة الفاسدة" عند فلان وفلان من كبار علماء الأمة، القدماء منهم والمحدثين على السواء.

عندما أقرأ تلك العبارات أتخيل بروفسوراً في الجامعة يخضع للامتحان أمام ثلّة من المراهقين!

فساد في العقيدة؟ ألا يسعهم أن يقولوا مثلاً: فلان رجل صالح واسع العلم ولكنه يخالفنا في بعض فروع الاعتقاد؟

لا أدري ما حاجة أعدائنا لحربنا ونحن قد كفيناهم المؤونة، فانشغل بعضُنا بتتبع بعضٍ وهتك بعض، وانصرفت طائفةٌ من الهُواة الأغرار لتحطيم رموز الأمة وقاماتها الكبار!
الإسلام دين خيالي غير قابل للتطبيق؟!

هذا جملة قرأتها في مقالة لم أعرف كاتبها، قال: إن "المجتمع المسلم المثالي" كيان خرافي لم يوجد في أي عصر من العصور بعد محمد (صلى الله على محمد)، وإذن فإن الإسلام دين خيالي غير قابل للتطبيق وليس ملائماً لحياة الناس.

أحَقٌّ ما زعم كاتب المقالة؟ هذا هو الجواب.

-1-

نحن نتخيل "المجتمع" كياناً ستاتيكياً جامداً فنتصور أنه يمكن أن يبلغ درجة الكمال كما يمكن لبعض الجمادات التي يصنعها الإنسان، وهو ليس كذلك في الحقيقة؛ إنه كيان عضوي حيّ يتكون من عدد لامحدود من الكيانات العضوية الحية التي هي نحن، الناس: أنا وأنت وهو وهي وهم وهنّ والباقون.

لقد قدّم الإسلامُ الصورةَ النموذجية الكاملة التي ينبغي أن يسعى إلى بلوغها أفرادُ الناس وأن تجتهد في تطبيقها المجتمعاتُ المسلمة، لكنّ نقص وعجز وضعف الإنسان يَحول بينه وبين الكمال المطلق، فلا بد أن يقع منه النقص في ناحية ما، فهذا يبخل بماله، وذاك ينقر صلاته، والثالث مُبتلَى بالغيبة، والرابع يظلم زوجته وأولاده، والخامس يفقد أعصابه وتسوء أخلاقه، والسادس يكذب ويغش المسلمين... فلا بدّ أن تجد نقصاً ما في أي إنسان. وكذلك المجتمعات التي هي تراكم أفراد، لا بد أن يعتريها النقص بصور كثيرة.

يقول لنا الإسلام: اسعوا إلى الكمال، ولن تستطيعوه، فعسى أن تقتربوا منه بقدر المستطاع. ولأن الله الذي خلقكم يعلم ما فيكم من ضعف فإنه لا يحاسبكم على بُعدكم عن الكمال وعجزكم عن بلوغه، بل إنه يحاسبكم على قدر الوسع ومبلغ الاستطاعة فحسب: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.

-2-

قد يقول قائل: لماذا إذن قدّم الإسلامُ "النموذجَ الكامل" إذا كان الناس لا يطيقونه؟ الجواب: لأن الهدف ينبغي أن يكون عالياً لكي تكون النتيجة مُرْضية. مثلاً: يجتهد التلميذ ليحصل على نتيجة 100% فيصل إلى 90 أو 80، ولو أن هدفه الأعلى كان 70 فإنه سيحقق 60 أو 50، وقد ينزل دونها فيرسب في الامتحان.

الأمر الثاني: إنه سيقصر حتماً، ولكنّ تقصيره لن يكون في كل المواد، فهذا التلميذ سينال علامة كاملة في الفيزياء ودرجة متواضعة في التاريخ، وذاك الآخَر سيحقق نتيجة عالية في النحو ويخفق في الرياضيات.

إن "العلامة الكاملة في كل المواد" هي النموذج الأعلى الذي يندر أن يصل إليه التلاميذ، فهل نقول إن وزارة المعارف تطالبهم بالمستحيل وإن نموذجها خيالي غير قابل للتطبيق؟ لا، أبداً، بل نقول إنه نموذج واقعي، ولكن التقصير فيه وعدم بلوغ الكمال متوقَّع ومقبول، والنجاح مضمون لكل من حقق درجة خمسين، وفي بلوغ الدرجات العُلى يتنافس المتنافسون.

-3-

الخلاصة: إن الكمال يصحّ في الخيال، ولكنه في الدنيا مُحال. إننا نرجو -نحن آحادَ الناس وأفرادَهم- أن يكون الواحد منا مسلماً كاملاً، ولكننا لا نطيق ولا نستطيع، ولو كُلِّفنا بالكمال وحوسبنا على النقص لما نجا منا أحد ولبقيت الجنة بلا سكّان! والمجتمع المسلم ليس سوى تراكم لآحاد وأفراد المسلمين، فإذا كانت الأجزاء ناقصة بعيدة عن الكمال فلا بد أن يكون الكل الذي ينشأ من اجتماع الأجزاء ناقصاً بعيداً عن الكمال. ولكنّ أحداً لا يقول إن الإسلام دين خيالي لأن الفرد لا يستطيع أن يكون مسلماً كاملاً الوقتَ كله، وكذلك لا يقال إن الإسلام دين خيالي لأن المجتمع المثالي المسلم لم يتحقق بصورته النموذجية الكاملة في ألفٍ وأربعمئة عام.

إن الإسلام ليس ديناً خيالياً، بل هو -ببساطة- دين واقعي يراعي قدرات الناس، أفراداً وجماعات ومجتمعات، فيقدم لهم النموذج القياسي الكامل ثم يَقبل منهم قدر الوسع من الالتزام به والمحافظة عليه، فيقول: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، ثم يلقّنهم هذا الدعاء الجميل ويقول لهم: ادعوا به ربَّكم الرحيمَ الكريم: {ربَّنا لا تؤاخذنا إنْ نَسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تَحْمِل علينا إصْراً كما حملته على الذين من قبلنا} والإصرُ هو العبء الثقيل والعهد الشديد. {ربَّنا ولا تُحَمّلنا ما لا طاقةَ لنا به، واعفُ عنا واغفِرْ لنا وارحمنا}.

فهل بعد هذه الواقعية من واقعية؟ وهل فوق هذا الجمال من جمال؟
بابا يَنسَى

لست أنا كاتبَ هذه المقالة، أنا ناقلُها فحسب، وإن كنت أجريت عليها قلمي بالتحرير والتحبير (تَحبيرُ الكتابة هو تحسينها). أما أصلها فقد نُشر قبل تسعين سنة، نشرها أبٌ صادقُ العاطفة في مجلة أمريكية متواضعة، فتلقفَتها وأعادت نشرَها مئاتُ المجلات وأذاعَتها مئات الإذاعات على مدى عشرات السنين وتُرجمت إلى لغات كثيرة، ونشرتها بالعربية مجلةُ "المختار من ريدرز دايجست" في عدد نيسان 1944. وأحسب أنها ما تزال لها جِدّتها وفائدتها بعد كل هاتيك السنين، فمن أجل ذلك اخترت نقلها لقراء الصفحة الكرام، وكلّي يقين أن الذين سيستفيدون منها من الآباء الصالحين والأمهات الصالحات كثيرون وكثيرات بإذن الله.

_________________

بُنَيّ العزيز: أنا أتحدّث إليك الآن وأنت مستغرق في النوم وإحدى كفَّيك الصغيرتين تحت خدّك وخصلات شعرك تتهدل على جبينك النديّ. لقد تسلّلتُ إلى غرفتك بعدما استولت عليّ -منذ دقائق قليلة- موجةٌ طاغية من وخز الضمير وأنا قاعد في مكتبتي أقرأ جريدتي، فأتيت شاعراً بالذنب والندم.

هذا ما كنت أفكر فيه للتوّ يا بُنَي: لقد كنتُ فظاً معك فوبّختك وأنت ترتدي ملابسك لتذهب إلى مدرستك لأنك اكتفيتَ من تنظيف وجهك بمسحه بالمنشفة، ووجّهت إليك اللوم لأنك لم تنظف حذاءك بشكل جيد، ونهرتك بغضب عندنا ألقيتَ بأشيائك على الأرض. وأحصيت عليك أخطاءك وأنت تتناول فطورك، حينما نثرت بقايا الطعام حولك، وبلعتَ الطعام قبل أن تمضغه مضغاً كافياً، وبالغت في وضع الزبد على الخبز. ولمّا ذهبتَ لتلعب ونهضتُ أنا لأدرك القطار الذي يحملني إلى مكان عملي التفَتّ نحوي ولوّحتَ بيدك هاتفاً: "مع السلامة يا أبي"، فعبستُ في وجهك وأجبتك قائلاً: ارفع كتفَيك وامشِ باعتدال.

ثم تكرر الأمر على هذا النحو بعد الظهر، فبينما كنتُ عائداً إلى البيت وجدتك في الطريق راكعاً على ركبتيك تلعب البلى وفي جوربيك بعض الثقوب، فقلّلت من شأنك أمام رفاقك وسقتك أمامي إلى البيت، وقلت لك إن الجوارب غالية، ولو كنتَ مضطراً لشرائها لكنتَ أحرصَ عليها. تصوّرْ ذلك يا ولدي، تصور أن يكون هذا هو تفكير أب يحب ولده!

وتذكرتُ أنني كنت أطالع في المكتبة عندما دخلتَ عليّ متهيباً وقد بدت في عينيك نظرات حزينة، وحينما نظرت إليك من فوق صحيفتي (وقد أزعجتني هذه المقاطعة) إذا بك تتردّد أمام الباب، فسألتك بحدّة: ماذا تريد؟ فلم تقل أي شيء، واندفعت تعدو إليّ فطوّقتَ عنقي بذراعيك وقبّلتَني، وشَدَّت عليّ ذراعاك الصغيرتان شَدّة الحب الذي غرسه الله في قلبك البريء لينمو ويُزهر غيرَ مُبال بما يلقاه من إهمال، ثم انصرفت لغرفة نومك.

حسناً يا ولدي. لقد انزلقَت الصحيفة من بين يديّ بعد ذلك بقليل وانتابني ندم شديد وألم فظيع، وسألت نفسي: ماذا فعلَت بي العادة، عادة التماس الأخطاء في الآخرين، عادة الزجر والتعنيف؟ أهذه هي مكافأتي لك لأنك صغير؟! ليس السبب أنني لا أحبك، بل لأنني توقعت منك أكثر من طاقتك وطالبتُك بأكثر مما تطيق. لقد كنتُ أقيسك بمقياسي أنا، بمقياس سنّي وتجربتي، ويا له من قياس جائر!

ولكنك مفطور على الخير ومروءة النفس وصفاء السريرة، وإن القلب الصغير الذي ينطوي عليه صدرك لَكبيرٌ كالفجر الذي يغمر التلال الواسعة الأرجاء بالضياء، وهذا ما دفعك لأن تُهرع فتقبّلني قبلة المساء قبل النوم. لا شيء حصلتُ عليه هذا اليوم يفوق قبلتك قيمةً وغِنى، من أجل ذلك جئت إلى غرفتك الآن وجثوت بجوار فراشك في الظلام شاعراً بالخجل من نفسي والندم لإساءتي إليك، ويا له من اعتذار ضعيف!

أنا أعلم أنك لن تفهم هذه الأشياء لو قلتها لك في ساعات يقظتك، ولكني سأكون غداً أباً حقيقياً صالحاً. سأكون صديقك فأتألّم حينما تتألّم وأضحك عندما تضحك، وسأعضّ لساني عندما يهمّ بكلمات الغضب وقلّة الصبر، وسأظل أقول إذ ذاك وأكررها مرات ومرات: إنه ليس إلا غلاماً، ليس سوى طفل صغير.

أجل، لقد كنت أعتبرك رجلاً يا ولدي، ولكني -كما أراك الآن وأنت مُنطَوٍ في مهدك وقد بدا عليك التعب- أدرك أنك ما تزال طفلاً، وأذكر أنك كنت ترقد في حضن أمك بالأمس القريب. ألا لقد طلبت منك الكثير، أكثر كثيراً مما تستطيع يا ولدي الصغير.
دعوة الناس وحساب الناس

-1-
حساب الناس حقّ حصري لربّ الناس، حق إلهي خالص لم يُمنَحه حتى الأنبياء: {ما عليك مِن حسابِهم من شيء}

-2-
دعوة الناس بالرفق والأسلوب اللطيف واجبة على كل قادر: {ادْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمةِ والموعظة الحسنة}

-3-
خلاصة المسألة: مهمة الدعاة هي الدعوة بالكلمة الطيبة فحسب، أما الحساب فيتولاه الله يومَ الحساب: {فإنّما عليك البلاغُ وعلينا الحساب}
معركة الاحتفال بالمولد

لاحظت أمراً غريباً في الاحتفال بذكرى المولد النبوي، فالذين يُحْيونه بالموالد والمدائح وحلقات الذكر والنشيد يبدؤون بالاستعداد له والتواصي به قبله بأيام، وفي وقت مشابه يبدأ الفريق الآخر بالاستنفار والاستعداد للإنكار.

فكأن الأمر صار عند الطرفين عادة: الاحتفال به على تلك الصورة عند أصحابه صار أقرب إلى العادة الاجتماعية، والمبالغة في محاربته وإنكاره عند خصومهم صار أقرب إلى العادة الثقافية! فالعادة تدفع هذا الطرف للعمل وذاك للإنكار، من غير أن يَزِنَ أيٌّ منهما الأمرَ بالميزان الشرعي الدقيق.

ولو حاكم الأوَّلون عملهم لوجدوه إضافة إلى الدين، لم يُسمَع عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ولا صنعوه ولا دعَوا إليه، فهو عمل صالح في أصله يدل على محبة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن عمله بتلك الصورة وكسوته بكساء الدين فيه نوع من الابتداع، والابتداع في الدين يُذَمّ ولا يُشكَر، فلَيْتَهم تركوه.

ولو حاكم الآخرون عمل الأولين لوجدوه أمراً هيناً لا يحتاج إلى أكثر من نصح رقيق وتذكير رفيق، وهو أقل وأهون من أن يستدعي ذلك الضجيج الهائل والإنكار الواسع. ولا ريب أن التفرق والتباغض والخصومة بين المسلمين من المحرمات، بل هي من الشرور الكبيرة، فهل من الحكمة دفع بدعة هيّنة بشر كبير؟

فيا ليت الطرفين يسمعان، ولن يفعلا! ليت المحتفلين يتركون شعائر الاحتفال الموروثة المذمومة ويجعلونه -لو شاؤوا- مناسبة دعوية ثقافية يذكّرون الناس فيها بسيرة نبيّهم ويدعونهم إلى التأسّي بها في الحياة، وهذا عمل صالح يُمدَح ولا يُعاب، وليت المنكرين يتركون حملاتهم الشعواء على الموالد والاحتفالات ويصرفون جهدهم في الدعوة والتعليم والإصلاح.

هدانا الله لما يجب ويرضى، وصلّى الله على خير الخلق وخاتم الأنبياء المبعوث رحمةً وهدى للعالمين.
المولد الذي حضرته، والميزان الضائع

القصة عجيبة، أتذكرها من وراء حجاب السنين الصفيق، أربعين سنة، فلا أملك إلا أن أَعجب منها. ليس من حضوري "المولد"، فما أكثرَ الذين يحضرون الموالد في كل مكان وآن، ولكن لأنني لم أحضر في حياتي إلا هذا المولد في ذلك الموضع وفي ذلك الوقت، ويا له من اختيار غريب في المكان والزمان!

كان ذلك يومَ الوقفة في عرفات، وكنت في سنتي الثانية في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، وقد انتسبت إلى جَوّالة الجامعة (أي الكشافة، وبالاصطلاح يسمى كبارُهم جَوّالة وأوساطهم كَشّافة وصغارهم أشبالاً. هذا هو التصنيف المبسط، وهو في حقيقته أكثر تعقيداً بقليل). وكان استنفارُ كَشّافة المدارس وجَوّالة الجامعات في كل "موسم" أمراً شائعاً، ولا أدري ما حاله الآن. فكنا نذهب إلى المشاعر فنحجّ ونُمضي أيام عَرَفة ومِنى في مساعدة الحجاج، بإعانة المسنّين وإرشاد التائهين. وما أكثرَ ما يضلّ الحجاج فيخرجون من مخيّماتهم ثم لا يُحسنون الاستدلال عليها ويفشلون في العودة إليها فيتهيون في أرض الحج الواسعة.

كنا في عرفات، بُعَيد العصر على ما أذكر، وقد أنفقت بعض الوقت في مساعدة مجموعة من الحجاج المغاربة في الوصول إلى مخيمهم، فلما وصلنا أصرّوا على مكافأتي بتذوق الحلوى المغربية وشرب الشاي المغربي المشهور. ودخلت معهم بعد تمنّع، فثَمّ رأيت المولد. كان القوم متحلقين في حلقة كبيرة ينشدون المدائح ويضربون الدفوف ويهزون الرؤوس قعوداً أو يتمايلون وقوفاً مع النغمات، ويقرؤون نصوصاً فيها مبالغة بالإطراء الذي نهانا النبي نفسُه عنه وغزل لا يليق بمقامه عليه الصلاة والسلام، وقد بلغ الطرب بهم مبلغاً كبيراً شعرتُ أنه غيّبهم عن الوعي بالمكان والزمان.

كان منظراً فولكلورياً طريفاً لم أشاهد له مثيلاً من قبل، فلبثت أشاهده مدة، نحو عشر دقائق أو أكثر قليلاً، وشربت الشاي وأكلت الحلوى، ثم قلت لنفسي: حسبي ما رأيت. فأما أصحاب هذه الموالد والحلقات والحضرات فهم وما يشاؤون، وأما أنا فقد اكتفيت منها إلى آخر العمر، وخيرٌ لي أن أسثمر ما بقي من ساعات اليوم في مساعدة العجزة وإرشاد التائهين، فإني أحتسب هذا العمل وأحسب أنه أرضى لله ورسوله من جلوسي مع القوم ومشاركتهم بالهز والإنشاد.

* * *

الذي خرجت به من تلك الحادثة ومما رأيته في السنين اللاحقة من حرب على أصحاب الموالد هو أن ما يبدو في ظاهره خلافاً على مسألة شرعية ليس في حقيقته سوى اضطراب في الميزان أحياناً، أو تضييع له بالكلّية في أغلب الأحيان.

ليست المشكلة في معرفة الحلال والحرام والسنّة والبدعة ولا في معرفة ما يُرضي الله وما لا يرضيه، بقدر ما هي في معرفة أوزان الواجبات والمحرَّمات والسنن والبدع والقربات والطاعات. إنك تجد أولئك الناس بلا ميزان، فلمّا فقدوا الميزان لم يعرفوا وزن هذا ووزن ذاك وحسبوا أن الكل سواء، فاضطربوا بالترتيب والإقدام والإحجام والإنكار.

وإلاّ فمَن الذي يفرّط بيوم العمر الذهبي، اليوم الذي لا يكاد يتكرر في الحياة، فلا يأتي إلاّ مرة (وقد لا يأتي على الإطلاق)، اليوم العظيم في البقعة المباركة، اليوم الذي يغمر الله فيه عبادَه بالرحمات ويستجيب منهم الدعوات، الذي يتمنى المرء لو تتسع ساعاته وتطول ليستغلها بالدعاء والاستغفار، فكيف تطيب نفسه بإهدار ساعة وساعتين منه في غناء وهز وطرب وقيام وقعود؟ وإن يكن في هذا الأمر ثواب (كما ظن الذين صنعوه، وليس كذلك) أهو خير أم الدعاء والاستغفار؟

وما الذي يدفع غَيوراً على السنّة إلى محاربة هذا الاحتفال بالشدّة التي يحارب بها الانحلالَ والفجور والفساد والإلحاد، أو أشد وأعتى؟ إني أرى بعض ما يبلغه أولئك المنكرون من قسوة وشدة وعنف فأتصورهم كمَن يطلق الصواريخ البالستية على الذباب والعصافير!

يا قوم وفّروا أسلحتكم لما هو أبشع وأنكى! شبابُ الإسلام يتفلّتون من بين أيدينا ونحن نصرف الوقت في معارك هامشية عبثية لا ينبني عليها كبير خطر ولا بليغ أثر. نختلف على الاحتفال بمولد النبي والذين ينكرون نبوّة النبي يزدادون يوماً بعد يوم، ونفرّق الأمة بالبحث في يد الله واستواء الله وكثيرون من شبابنا يكفرون بالله وينكرون وجود الله! أهذا عمل العقلاء الذين يفهمون دين الله ورسالة الإسلام؟!

* * *

بعد نشر المقالة الماضية طالبني أحد القراء الكرام بأن أنكر على أصحاب الموالد بالشدة التي أنكرتها على الغلاة، فساوى بين انحرافٍ استباحَ أصحابُه دماء المسلمين وبدعةٍ هيّنة لا تؤثر في الدين. ودعا لي قارئ كريم آخر بأن يرزقني الله حب نبيه حتى أُسَرّ بسماع المدائح النبوية، فجعل الاستمتاع بالموالد دليلاً على محبة النبي عليه الصلاة والسلام.

عندما أفكر في هذين التعليقين أصبح أكثر ثقة من التشخيص: إنها مشكلة الميزان المفقود.
من أكل بصلاً وثوماً فصَلاتُه في بيته

دعاني صديقٌ مرّةً مع عدد من الأصدقاء إلى وليمة غداء. وكما هو متوقَّع في مائدة شاميّة تقليدية فقد كان الثوم حاضراً في الطعام بقوّة، والطبقُ الذي نجا من الثوم لم يَنجُ من البصل، ومَن لم يكفِه ما اختلط بأطباق الطعام من هاتين البقلتين فأمامَه أعوادٌ من البصل الأخضر يأخذ منها ما يشاء.

فلما فرغنا وشربنا الشاي أذّن العصر، وكان المسجد قريباً من بيته، فقال: هيا بنا. قلت: إلى أين؟ قال: نصلي العصر في المسجد. قلت: والبصل والثوم الذي أكلناه؟! فضحك وقال: لقد مضغتُ عرقين من النعنع، فاصنعْ مثلي تذهَبْ رائحةُ البصل والثوم.

قلت: يا رجل! لو أني أكلت رطلاً من النعنع لن يغلب ريحَ بصلة! ولعلك تعلم أن الرائحة الكريهة للبصل والثوم لا تقتصر على الفم وحده، بل يفرزها الجلد أيضاً مع العرق فضلاً عن خروجها مع النفَس، أفنذهب إذن لنؤذي المصلين؟ ثم إنك فيما أعلم حنفي، والأحناف (كالمالكية وبعض الشافعية) يرَون أن جماعة المسجد سنّة مؤكدة، أما إيذاء المصلين بالثوم والبصل فإنه محرَّم مَنهيّ عنه بنص الحديث الصحيح. أفنَقترفُ حراماً من أجل سنّة؟

* * *

قال صاحبي: إنك تكبّر أمراً هيناً، ولا أظنه يبلغ هذه الدرجة من الأهمية والخطورة.

قلت: أما التكبير والتصغير فليس مني، بل هو أمر صريح ممّن هو خير مني ومنك. في حديث جابر عند البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته". كذا بصيغة الأمر الجازم. ثم إنك لا تدري كم يزعج آكلُ البصل والثوم غيرَه من المصلين وينفّرهم من الجماعة! أقسم بالله لقد هممت مرات أن أقطع صلاتي وأترك الصف بسبب بَصَليّ أو ثوميّ صلّى إلى جواري.

وإني ما أكلتهما في وليمة لم يشاركني فيها أهل بيتي إلا حرصت على تجنب إيذاء أهل البيت برائحة فمي، فأحافظ على "مسافة أمان" لا تقل عن متر بيني وبين أولادي وبيني وبين زوجتى ستاً وثلاثين ساعة على الأقل، بقيّةَ اليوم الذي أكلت فيه الطعام المبصَّل المثوَّم ويوماً بعده. وكذا أجتنبُ المساجدَ هذا الوقت، فإني جرّبت وتبادلت الخبرات مع غيري مرات ومرات حتى أيقنت أن هذا الأكل لا يزول أثرُه في أقل من هذه المدة، وأحَبُّ الناس إلى رب الناس مَن لم يؤذِ غيرَه من الناس، القريبين والبعيدين منهم على السواء.

* * *

ويلحق بهذا الباب مَن غلبت على جسمه أو ملابسه رائحةُ العرق، من العمال والحِرَفيّين الذين يُمضون أكثر يومهم في العمل الشاق، أعانهم الله. وما أزدري أعمالهم ولا أقلل من شأنهم، بل إنهم لَيستحقون الاحترام والتقدير لأنهم يكسبون رزقهم بشرَف ولا يتكفّفون الناس، ولكن الذوق والدين يقتضيان أن يفارقوا المصلى العام إذا غلب على ظنهم أنهم يؤذون المصلين بقذارة الملابس وروائح الأبدان.

والمدخنون! أولئك الأسوأ بين الجميع، ولا سيما المُدْمنون المُكْثرون. ولا أذكر أنني قطعت صلاة في مسجد إلا مرة واحدة في هذا العمر الطويل، وقف إلى جانبي رجل لم أعرف أهو مدخّن أم مِدْخَنة، أصابني من رائحته –أقسم بالله- غَثَيان ما عدت أقدر معه على البقاء في الصف، فقطعت صلاتي وبحثت عن موضع بعيد عنه فأحرمت بالصلاة من جديد (ولو ابتعدت عنه عشرَ خطوات ولم أخرج من الصلاة فصلاتي صحيحة على بعض المذاهب، وفي أدلّة أصحاب هذا الرأي قوة ووجاهة).

* * *

فيا أيها المؤمنون: كُلوا ما شئتم واصنعوا ما تريدون، ولكن فكروا بالآخرين وقدّروا ما يزعج الناس فاجتنبوه، والتزموا بالتوجيه النبوي ولا تنسَوه بحال: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته". تقبل الله صلاتكم في بيوتكم، وصحّةً وهناءةً فيما تأكلون وتشربون.
لا تستهينوا بصغائر الأعمال

لماذا حَثّ الإسلام على الأعمال الصغيرة (كتبسّم المرء في وجه أخيه وإماطة الأذى عن الطريق) واعتبرها باباً للصدقة وطريقاً يقرّب إلى الله؟ لأن تراكم الأعمال الصغيرة يُنتج جبالاً من الأعمال الكبيرة والمنجزات الهائلة.

لو أن كل واحد فينا أماط عن الطريق أذى صغيراً لخَلَتْ بلادُنا من القذارة وصارت من أنظف بلاد الدنيا، ولو أن كل واحد زرع فسيلة صغيرة فسوف تنقلب أرضنا من أرض قاحلة جرداء إلى أرض مثمرة خضراء.

لا تستهينوا بصغائر الأعمال وأهونها، فإنّ تراكمَ العمل الصغير مع العمل الصغير ينشئ أعظم الأعمال وأجَلَّها، ويغيّر أحوال البلاد ومصائر الشعوب.
هُموم السوريّين

تمزق الجسد السوري وتبعثر السوريّون في الأرض. ملايين صاروا نازحين في المناطق المحررة، وملايين باتوا لاجئين في دول الجوار، وملايين تفرقوا في بلدان الشتات البعيدة... ولكلٍّ همومه ومشكلاته.

لقد أثبت تاريخٌ عريق يضرب بجذوره في أعماق الزمن أن السوريين قادرون على التأقلم والنجاح والإبداع وأنهم يعملون بأنفسهم لأنفسهم الكثير، ولكنهم يحتاجون إلى المساعدة، على الأقل للبقاء أحياء والإقلاع الناجح في الأيام الصعبة الأولى التي تعقب الهجرة والنزوح والتهجير.

* * *

إن من شأن الصدور الحانية والقلوب الرحيمة أن تخفف وَحشة المهجَّرين الذين غادروا مناطقهم إلى الشمال المحرر في السنة الأخيرة. وكذلك الشأن في كل النازحين داخل الوطن والمهاجرين خارجه، في دول الجوار وفي بلدان الشتات. إنهم الغرباء في الأرض الغريبة، فما أحوجَهم إلى يد رفيقة تمتد إليهم لتدلهم على الطريق، "وكل غريب للغريب نَسيبُ".

هؤلاء جميعاً يحتاجون إلى المأوى والعناية في الشهور الأولى على الأقل، فإن الغريب يستوحش إذا حل بأرض جديدة ويَحار في أول أمره: ماذا يعمل وأين يعيش؟ وربما عَجَز عن دفع إيجار الدار وربما حُرم رضيعُه من الحليب وقُطع عن مريضه الدواء، فإذا وجد من يساعده لتجاوز صعوبات الأيام الأولى صار أقدرَ على الاستغناء عن العون وأقربَ إلى الإبداع والإنتاج.

* * *

لا ريب أن الحمل ثقيل وأن قدرة الناس على العون المادي محدودة، فليس الحاملُ بأحسن حالاً وأوسع يداً من المحمول، ولا المقيم والوافدُ القديم أقلَّ حاجةً إلى الدعم المادي من الوافد الجديد، ولكنّ للقديم على الجديد أفضليةَ الاستقرارِ المعيشي والنفسي، فلو عجَز عن المساعدة بالمال فلن يُعجزه أن يُفيض على المهجَّرين اهتماماً ومحبة تزدهر بها أنفسهم وينسَون فيها مرارة الفقد والتهجير.

ثم إن المال ليس كل ما يريده الغريب الوافد على الأرض الجديدة. إنه يريد مَن يدله على بيت جيّد يعيش فيه، ومدرسة مناسبة يتعلم فيها الأولاد، وفرصة للوظيفة أو مجال صالح للعمل الحر. أما المهاجر خارج الوطن فإنه يحتاج إلى من يعرّفه بقوانين البلاد الجديدة ويهوّن عليه غربة اللغة والثقافة ويقوده في المسالك المجهولة. إنهم كلهم، هؤلاء وأولئك، بحاجة إلى الأصدقاء والداعمين والمحبّين.

* * *

طوبى لمن كان عوناً لأخيه، ومَن لم يكن سبباً للمساعدة فلا يكن سبباً للشقاء ولا يكن عثرة في الطريق.

اللهمّ بارك في أصحاب القلوب الرحيمة الذين فتحوا للمكروبين والمنكوبين أبوابَ الدور وأبواب القلوب. ألا وبُعداً وسحقاً للذين يستغلون آلام الناس ويتاجرون بالدموع والدماء، بُعداً وسحقاً لمَن رقص على الجراح واغتذى بالآلام وأثرى على حساب المشردين والمنكوبين والمكروبين.
تجنّبوا السلبيين والمخذّلين والمتشائمين،
فإن لديهم لكل حل مشكلة.

[يُنسَب هذا القول لآينشتاين،
وهو قول حكيم بغضّ النظر عن قائله]
2025/10/27 07:00:22
Back to Top
HTML Embed Code: