Telegram Web Link
لا بد أن ينتصر الخير

قال صديقي: أنت تزعم أن الخير ينتصر دائماً؟ قلت: بالتأكيد، لا أشك في ذلك أبداً.

قال: كأنك تعيش في دنيا غير هذه الدنيا! ألا ترى كيف تنتهي الأحداث دائماً (أو غالباً) بهزيمة الخير والأخيار وانتصار الشر والأشرار؟ قلت: أصبت، إني حقاً أعيش في غير هذه الدنيا، أعيش ببدني فيها ولكنّ روحي معلقة بغيرها، بيوم الحساب ثم بالحياة الباقية في دار الخلود، حيث ينتصف كل مظلوم من كل ظالم وتطبَّق موازين العدل على الناس جميعاً، كل الناس الذين استوطنوا الأرض في كل العصور، منذ وُجدت الأرض ومنذ استوطنها الإنسانُ إلى أن تَفنَى الأرض ويزول الإنسان.

اسمعْ أُخبِرْك: لقد أولعتُ من صغري بقراءة الروايات العالمية المترجَمة، ولو أحصيتُ ولم أبالغ لقلت إني قرأت منها نصفَ ألف رواية على الأقل، ولو بالغت لزدت مئة أو بضعَ مئين. منها المجموعة الكاملة لأشهر وأعظم مؤلفة للروايات البوليسية في العالم، أغاثا كريستي، وهي ثمانون رواية قرأتها كلها ثلاث مرات، فإني أتركها حتى أنساها ثم أقرؤها من جديد. ولمّا عرفت أسلوب المؤلفة فقد صار معروفاً عندي سلَفاً قبل أن أقرأ الرواية أن القاتل سيقع في يد العدالة وسوف ينال جزاءه المحتوم، ولكن متى؟ هل أتوقع أن يحصل ذلك في الصفحات العشر الأولى من الرواية أو في وسطها مثلاً؟ أبداً، إنما يتحقق العدل في الصفحات الأخيرة من الرواية، في الختام.

والآن قل لي: ما ختام قصص الدنيا وحوادثها عندك؟ إنْ كانت خاتمة الرواية عندك هي هذه الدنيا فلن نتفق، وإذا اقتنعتَ أن الخاتمة هناك، في دار الجزاء والبقاء، فلن ينشأ بيننا أي خلاف.

قد ينتصر الخير في الدنيا ونشهد انتصاره بأنفسنا ونراه بأعيننا وقد يتأجل انتصاره إلى الدار الآخرة، وهو في الحالتين انتصار، فإنما هذه الدنيا فصل قصير من رواية طويلة، وإنما يكون ختام الرواية وتمامها هناك في ذلك الموقف العظيم: {إنّ إلينا إيابَهم، ثم إنّ علينا حسابَهم}، {فَوَربّك لَنَسألنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون}، {هنالك تَبلو كل نفس ما أسلفت}، {ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون، إنما يُؤخّرهم ليوم تَشخص فيه الأبصار}، {وترى الظالمين لمّا رأوا العذاب يقولون: هل إلى مَرَدٍّ من سبيل؟}
يومئذ تنتهي الرواية، يومئذ ينتصر الخير انتصارَه الكبير الأخير، يومئذ يتحقق وعد الله، يومئذ يفرح المؤمنون.
استدراك وتكملة لمعنى الانتصار الآجل في دار البقاء

نشرتُ الليلةَ الماضية منشوراً عاماً أثار شيئاً من الحزن في بعض القلوب، وقد أجبتُ بتعليق خاص على المنشور نفسه، ثم رأيت أن أنشر التعليق هذه الليلة نشراً عاماً، لكي تتمّ الفكرة التي أردت توصيلها البارحةَ ولا تُفهَم على غير حقيقتها وعلى غير ما ينبغي للمسلم الإيجابي الواعي أن يفهمها، فديننا العظيم لا يرضى بالخنوع والخضوع للباطل، بل يطالبنا بالعمل واستفراغ الجهد في البناء والإصلاح، على أنه يأمرنا أيضاً بأن لا نأسى ولا نيأس، لا نأسى إذا كَثُر الشر ولا نيأس إذا غُلِب الخير في جولة من جولات الصراع السرمدي بين الحق والباطل.

وهذا هو التعليق:

لا ينبغي أن يُفهم من المنشور أن الخير لا ينتصر في الدنيا أبداً، بل هو كثيراً ما ينتصر عندما يأخذ أهل الحق بأسباب بالنصر. ولكن الشر طبع أصلي في الإنسان وميله إلى العدوان والطغيان شديد، والشر قوي لأنه يستغل ضعف الإنسان الفطري وميوله الطبيعية إلى الفساد، لذلك فإنه يفوز في جولات كثيرة في الصراع الأزلي الأبدي بين الخير والشر وبين الحق والباطل.

في آية خلق الإنسان استغرب الملائكة أن يخلق الله في الأرض كائناً مفسداً سفّاكاً للدماء: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟} ولو شاء الله لصحّح اعتقادهم وقال: بل هو مخلوق مسالم وديع! ولكنه تبارك وتعالى لم يفعل، بل عقّب قائلاً فقط: {إني أعلم ما لا تعلمون} وفي هذا الجواب إقرار ضمني للملائكة بما ظنّوه وفيه ردُّ الأمر إلى الله لحكمة يعلمها الله.

فصارت الخلاصة: لما كانت جولات الصراع بين الخير والشر غيرَ محسومة سلفاً فلا بد لأصحاب الحق من بذل غاية الجهد لتحقيق الانتصار، ولو أنهم استفرغوا جهدهم ثم لم يحققوا الانتصار في الدنيا فلا ينبغي أن تصيبهم هذه النتيجة بالقنوط والإحباط لأن المعركة لم تنتهِ بعد، إنما هي جولة أولى في الدنيا تعقبها الجولة الأخيرة في دار الجزاء.

هذا الفهم المزدوج من شأنه أن يدفع أصحاب الحق إلى بذل الجهد الممكن كله في صراعهم مع الباطل، ومن شأنه أيضاً أن يُرضي قلوبهم ويُطَمئن أنفسَهم مهما كانت النتيجة التي يرونها في الدنيا طالما أنهم واثقون من العدل الكامل في دار الجزاء.
خواطر في المدرسة والتعليم

(1) أي مدرسة أختار لأولادي؟

في هذه الأيام يستعد ملايين التلاميذ للتوجه إلى مدارسهم للبدء بعام دراسي جديد، ويَحارُ كثير من الآباء والأمهات وهم يفكرون: أيّ المدارس هي الأصلح لأولادهم من بين مئات الخيارات؟

فأما الذين اختاروا مدارس حكومية فقد تركوا العبء لمديريات التعليم التي توزع الطلاب على المدارس باعتبار القرب الجغرافي أو الأماكن المتاحة في الفصول، وأما الذين فضّلوا المدارس الخاصة فقد حملوا عبء الاختيار والقرار، فاختار بعضهم المدرسةَ القريبة لتيسير الوصول، وبعضهم اختار المدرسة الرخيصة لتوفير النفقات، وآخرون يختارون المدارس الفاخرة للتباهي أمام الأصدقاء أو لظنهم أنها تقدم نوعاً أفضل من التعليم.

مهما اختلفت الأسباب التي تدفع الوالدِين إلى هذه المدرسة أو تلك فإن هاجس التعليم الجيد والمناهج المتطورة يبقى هو الهاجسَ المسيطر على الأكثرين، ويكاد يكون هذا المعيار هو الأكثرَ تأثيراً في القرار النهائي وفي اختيار المدرسة التي سيذهب إليها الأولاد.

قليلون من الأمهات والآباء هم الذين يهتمون بالجوّ الاجتماعي والأخلاقي للمدرسة وطلابها، وهذا هو المقياس الأهم فيما أحسب، لأن المدارس تقدم لأولادنا خدمتين أساسيتين ليست أيٌّ منهما أقلَّ أهميةً من الأخرى: التعليم والتنشئة الاجتماعية. على أن التعليم يُجبَر نقصُه في البيت لو وقع فيه نقص (وهي حالة شائعة في المدارس هذه الأيام) بخلاف التربية الاجتماعية التي يصعب تدارك آثارها السلبية (وهي حالة أكثر شيوعاً من سابقتها) لأن تأثير المدرسة في هذا المقام أشد من تأثير البيت ولأن تأثّر الصغار بالأقران وبالجو العام كبير كبير.

* * *

أنا أصنّف المدارس عادة في ثلاث فئات: عالية ومتوسطة ودُنيا، وخلال مسيرة تعليم أولادي الطويلة تجنبت الفئتين الأولى والثالثة على الدوام. أما الأولى فلأن مستواها العالي ينعكس في رفاهية طلابها وكثرة المترفين بينهم، والترف بيئة خصبة لاختلال الفطرة وفساد الأخلاق، وأما الثالثة فلأن مستواها المتدني ينعكس في تفلّت طلابها وقلّة حظهم من التربية، وفي الحالتين تزداد فرص التحلل الأخلاقي والبعد عن الدين في مجتمعات الطلاب.

وقد يقول الأمهات والآباء إنهم بذلوا الغاية في تربية أولادهم وتحصينهم فلا يُبالون في أي بيئة مدرسية تركوهم يعيشون، لكن التأثير الذي تصنعه الرفقة في شخصيات أبنائنا أشد مما يتصور كثيرون، والصاحب ساحب، فإما صاحبٌ صالح يسحب إلى طريق الجنة والفلاح بإذن الله، وإما صاحب طالح يسحب إلى طريق النار والبوار لا قدّر الله.

من أجل ذلك كنت أبحث عن البيئة الصالحة الخَيِّرة في المدرسة التي أختارها لأولادي. وصلاح المدرسة لا يُحكَم عليه باتساع البُنيان وارتفاع الجدران ولا بالاسم الرنّان والشعار الفتّان، بل بأصالة الإنسان: بما لدى أساتذتها من علم ودين وطلابها من انضباط وأخلاق.

وليس في اختيار مدرسة تتحقق فيها هذه الصفات خسارة علمية ولو كانت متوسطة في جودة المناهج وقوة التعليم، لأن الولد (البنت والصبي، كلاهما ولدٌ في اللغة لأن الوَلَد كل ما وُلد، ويشمل المفردَ والمثنّى والجمع أيضاً) إن كان الولد مرتاحاً في مدرسته متفاهماً مع أساتذته منسجماً مع أصدقائه فإن اهتمامَه بالدراسة وسعيَه إلى التفوق سيكونان أشدّ مما لو كان في مدرسة لا يحس بالراحة فيها والانتماء إليها، وهكذا يكسب خيرَي الدنيا والآخرة بإذن الله.

أسأل الله أن يحفظ أولادكم ويرزقهم المدارس الجيدة والرفقة الصالحة وأن يوفقهم ويجعلهم من الناجحين الفالحين في الدارَين.
خواطر في المدرسة والتعليم (2)

السنة التحضيرية: أهميتها ومهمتها

السنة التحضيرية (أو التمهيدية) هي السنة التي تسبق السنةَ الابتدائية الأولى، ويبدأ بها الطفلُ رحلتَه في طريق المدرسة الطويل. وكما يوحي اسمُها فإن مهتمها هي التمهيد لما بعدَها وتحضير الطفل للمدرسة.

ربما كان انتقال الطفل من البيت إلى المدرسة واحدة من أكبر "الكوارث" التي يواجهها في حياته، فهي اللحظة التي يُنتزَع فيها من جو البيت الدافئ الأليف الذي لا يكاد يعرف غيره منذ وُلد ويُلقَى به في جو بعيد وسط غرباء لا يألفهم ولا يعرفهم، اللحظة التي ينفصل فيها عن بيته الذي يحبّ وعن أمه التي يستمد منها الأمان، فهي كلحظة الانتقال من ظلام الليل الدامس إلى شمس منتصف النهار، انتقال مفاجئ يُعشي المبصر القويّ ويكاد يُعمي المبصر الضعيف، فما الحل؟

الحل هو هذا الاختراع الذي اخترعوه وسمَّوه باسمه الصحيح الذي يناسبه: سنةٌ تمهّد الطريقَ أمام الطفل للمدرسة وتحضّره لدخولها، سنة يقلّ فيها الدرس ويكثر اللعب، وينصرف اهتمام المعلّمات فيها إلى صقل شخصية الطفل وتنمية مهاراته السلوكية والاجتماعية وتدريبه على التواصل مع الآخرين ودمجه في الجماعة الجديدة، مع أقل القليل من الضغط والصرامة والتعليم.

* * *

هكذا كان حال الحضانات والفصول التمهيدية قديماً، ويبدو أنه تغيّر هذه الأيام فصار من دأب بعض المدارس (لا كلها) الحرص على تطبيق النظام الصارم وتعليم القراءة والكتابة والحساب، فصار الطفل فيها وكأنه في السنة الابتدائية الأولى، وضاع الهدف الذي أنشئت المرحلة التمهيدية من أجله.

فإذا وجدتم مدرسة تمهيدية أو تحضيرية تبالغ معلّماتُها في الصرامة فاجتنبوها، واصنعوا ذلك أيضاً إذا كانت تتشدد في التعليم، فإن هدف هذه المرحلة هو الإعداد النفسي والاجتماعي فحسب، فإذا لم تحسن المدرسة تقديمه فابحثوا عن غيرها، ابحثوا عن مدرسة لا يطالَب الطفلُ فيها في سنتها التحضيرية كلها بأكثر من العَدّ إلى العدد العاشر ومعرفة ثلاثة أحرف وحفظ ثلاث سور قصيرة وبعض الأناشيد. وليس هذا كله هدفها أصلاً، فالحروف والأعداد والسور والأناشيد مما سيتعلمه الطفل في السنة الابتدائية الأولى، ما لم يكن قد قطع هذا القدر من التعلم وتجاوزه بأشواط في البيت على يد أم مثقّفة واعية وأب مهتم قدير.

* * *

وتذكّروا دائماً: إن الطفل هو الحكَم على نجاح المدرسة التحضيرية أو فشلها، فإذا أقبل عليها محباً لها راغباً فيها واشتاق في أيام العطلة (التي يغيب فيها عنها) إلى العودة إليها فهي مدرسة تحضيرية ناجحة، وإذا كان يُقلَع من بيته كل صباح قلعَ الضرس من الفكّ ويُدفَع إليها وسط الصراخ والدموع فاعلموا أنها فاشلة، وإذن فأخرجوه منها وابحثوا عن غيرها. ولا تستهينوا بمشاعر الطفل في هذه المرحلة المهمة، فإنها تضع الأساس لعلاقته مع المدرسة في السنوات اللاحقات.
خواطر في المدرسة والتعليم (3)

العلم والمعرفة أم الدرجات والعلامات؟

لا يكاد يجادل أحدٌ في ضرورة وأهمية التحاق أولادنا بالمدارس، وحتى لو تخلت الحكومات عن إلزامية التعليم فلن يتهاون الوالدون في إرسال أولادهم إليها، ولكن لماذا يفعلون؟ ما هو الإنجاز الذي يطلبونه من أولادهم ويَعْقدون عليه الآمال؟

لنترك هذا السؤال هُنَيهة وننتقل إلى سؤال آخر: لماذا أنشئت المدارس؟ الجواب يعرفه الناس بالبديهة: من أجل التعليم، وتؤكده هُويّة واسم الجهة التي تنشئ المدارس وتشرف عليها، "وزارة التعليم". ما معنى هذا؟ معناه -ببساطة- أن المدرسةَ وسيلةٌ وليست غاية في ذاتها، وسيلةٌ غايتُها تحصيل العلم والمعرفة.

هذه المسلَّمة التي لا يكاد ينازع فيها أحد تكاد تثير استغرابَ كل أحد عندما نُخضعها للاختبار الحقيقي، فسوف نكتشف عندها أن المدرسة صارت غاية في نفسها وتوارى الهدفُ الذي من أجله أنشئت أول مرة. الحقيقة المدهشة (والمحزنة أيضاً) هي أن العلم لم يعد مطلوباً بذاته بقدر ما تُطلَب العلامات والدرجات والشهادات.

* * *

إن الاهتمام بالدرجات مفهوم لأنها تفتح الطريق إلى الجامعات، والنجاح في الجامعات هو البوابة الطبيعية للوظائف التي يحتاج إليها أكثر الناس. نعم، إنه اهتمام مفهوم ولكنه ليس مقبولاً بالضرورة، ليس على إطلاقه وليس بالصورة التي نراها في هذه الأيام.

إذا اجتمع الحرص على العلم الحقيقي مع العلامة الجيدة والدرجة العالية فهو خير لا مراء فيه، أما إذا اقتصر الحرص على العلامة والدرجة ولم يُبال أولادنا بالعلم الحقيقي ولا اهتم به الوالدون فإن النتيجة ستكون سلبية على مستوى الأفراد وكارثية على مستوى الأمة، فأصحاب الأعمال لا يطلبون من الموظفين شهادات وعلامات وإنما يطلبون إنجازاً يعتمد على العلم والمعرفة، ومَن تضاءل نصيبُه منهما فإن حظه في الارتقاء قليل. هذا بالنسبة للفرد، أما الأمة فإنها لن تستفيد شيئاً من مراكمة حَمَلة شهادات، ولسوف تسبقها الأمم التي تقدّر العلم والمعرفة وتهتمّ بصناعة العلماء والباحثين.

وهكذا نجد أن تحويل الوسيلة إلى غاية وتقديم العلامات والدرجات على المعارف والمعلومات لم يأت بخير لا على الفرد ولا على الجماعة، فضلاً عمّا يورثه "سباق العلامات والدرجات" من أمراض نفسية وتربوية، أقلُّها إقبال بعض التلاميذ على الغش لتحصيل العلامة العُلى، ومنها عُجْب المتفوقين وتثبيط المتأخرين، وأفتكُها بالفرد والأمة أن يقتصر أولادنا على قراءة الكتب المدرسية ويَزهدوا في القراءة الحرة التي تنمي العقل وتثري المعرفة، بل إن كثيرين منهم قد لا يقرؤون من المقررات سوى ما تغطيه أسئلة الامتحانات.

* * *

لا أقول للأمهات والآباء اتركوا الاهتمام بالعلامات والدرجات جُملةً واحدة، ولكنْ أوصيهم بما فيه خير الدنيا والآخرة وما فيه مصلحة الفرد والجماعة: لا تجعلوا همّكم الأكبر وهمَّ أولادكم الحصول على أعلى العلامات وأرفع الدرجات، بل لتكن غايتهم الكبرى هي وصولهم إلى المعرفة المفيدة وحصولهم على العلم النافع. ازرعوا في نفوسهم تقدير العلم وحب المعرفة، واجعلوا فكرة "ارتباط العلم بالنجاح في الحياة" واحدة من أكبر الحقائق في عقولهم الظاهرة والباطنة.

أما أنا فلا أذكر أنني ضغطت على أحد من أولادي من أجل التفوق والدرجات العالية في أي يوم، وما ندمت قط على ما فعلت، بل أثبت واقع الحال أنهم حققوا النجاح الباهر -بحمد الله وفضله- بالمعرفة التي حصلوها والعلم الذي اكتسبوه لا بالدرجات والشهادات.
خواطر في المدرسة والتعليم (4)

كابوس الواجبات المنزلية

تَعتبر أكثر المدارس أن الواجبات المنزلية جزء حتمي من العملية التعليمية وضرورة لا يكاد يُتصوَّر تعليمٌ جيد إلا بها، وهي -فيما أحسب- نظرية قابلة للجدال ولا ترقى إلى درجة المسلَّمات القطعية، ولكني لن أشغل قرّاء المقالة الكرام بأصل الفكرة بقدر ما يهمني التركيز على جانب عمَلي شديدة الأهمية في تطبيقها.

إن أولادنا يُمضون في المدرسة سبعَ ساعات كل يوم، وهم يحتاجون إلى استراحة بعد هذا العبء الطويل الثقيل، فكيف ساغ أن يَحملوا معهم من المدرسة إلى البيت أعباء جديدة يستغرق إنجازها قريباً من الوقت الذي أنفقوه في المدرسة، فلا يبقى لهم وقت للاستجمام والترويح؟

حتى لو كان رأي المدرسة أن ينفق الطفل عدة ساعات في حل الواجبات المنزلية فإن هذا الرأي فاسد لا يُطاع، لأن من حق الطفل أن يتسلّى ويرتاح، ومن حقه أن يستثمر الوقت الفائض بالتعلم بأوسع مجالاته ومعانيه بدلاً من إنفاقه كله في الواجبات المدرسية حصراً. وأولادنا يتعلمون باللعب والزيارات ومعرفة العالم الواقعي وقراءة القصص والكتب ومشاهدة الأفلام التعليمية في القنوات الثقافية... هذه كلها مصادر للعلم والمعرفة والخبرة لا تقل أهمية عن الفائدة التي تقدمها الواجبات المنزلية، وقد تفوقها بأضعاف.

السؤال الجوهري في هذا المقام هو: ما مقدار الواجبات المنزلية التي ينبغي تكليف الطفل بها؟ لا توجد قاعدة صارمة يتفق عليها المربّون، أما أنا فأحسب أن طفل السنة الابتدائية الأولى لا يجوز أن يُكلَّف بواجبات يستغرق حلها أكثر من نصف ساعة في اليوم، ثم تُزاد قليلاً في السنة بعد السنة حتى تصل إلى ساعة أو تسعين دقيقة (للتلميذ المتوسط) في آخر هذه المرحلة. أما أن يُحكَم على الطفل بست ساعات في البيت لحل الواجبات عدا السبع الأولى التي أمضاها في المدرسة فهذا حكم بالسجن مع الأشغال الشاقة! وهو خطأ تربوي من شأنه أن يهدد سلامة الأولاد النفسية ويبغّض العلمَ إلى قلوبهم، وهي خسارة تفوق بمرات ومرات أيَّ خسارة يمكن أن تنشأ عن واجب لم يُحَلّ كلُّه أو بعضُه.

* * *

فإذا وجدتم -يا أيها الآباء والأمهات- أن الأعباء التي يُكلَّف ابنُكم بها أكبر من طاقته أو أنها تستغرق جُلَّ وقته ولا تترك له فرصة للترويح عن نفسه فاعلموا أن في الأمر خطأ ارتكبه معلّموه. والمعلمون بشر يخطئون ويصيبون، فلا تستسلموا استسلامَ الإنسان السلبيّ الذي لا يدرك مصلحة ولده، بل راجعوا المدرّسين والمدرّسات أو إدارة المدرسة وطالبوا بتخفيف الحِمل وتقليل الواجبات.

ولو أنك راجعت المدرّس أو الإدارة وشكوت كثرة الواجبات فلم تجد استجابة فماذا تصنع؟ الحل بسيط: اطلب من ولدك أن يحل ما يستطيعه بالقدر المعقول فقط ويترك الباقي، واكتب للمدرسة بخطك ملاحظة تقول فيها إن في هذا القدر الذي حلّه الولد كفاية. ولو تكرر اعتراض المدرّسين وعدم تفهمهم فلا بأس في نقل الولد من تلك المدرسة إلى مدرسة أخرى أقل تعنتاً وأقرب إلى الاعتدال في هذا الباب.

إني لأتصور اليوم دفاتر ملاحظات أولادي كيف كانت قبل خمس عشرة سنة أو عشرين، وأتذكر أكثر تعليق كرره فيها المعلمون: "ابنكم لم يحلّ الواجب". وكنت أكتب لهم كلمات لطيفة أطلب منهم فيها تخفيف الواجبات أو مساعدتنا على استنساخ نُسَخ متعددة من كل واحد من الأولاد لتحل كل الواجبات، فلا هم مَلّوا من إعادة تلك الجملة ولا أنا مللت من التعليق، وعبَرَ الأولاد المرحلة الدراسية وقد حلّوا نصف الواجبات أو نصفَ نصفها فحسب، ثم لم يتأثر تحصيلهم العلمي وحققوا نتائج مُرْضية بفضل الله.
خواطر في المدرسة والتعليم (5)

هل أسمح له بالغياب هذا اليوم؟

كل أم من الأمهات لا بد أن تتعرّض في وقت ما لموقف عصيب، عندما تُضطَرّ آسفةً إلى إيقاظ أطفالها الصغار للذهاب إلى المدرسة، فتدفعها عاطفتها الفيّاضة خطوة إلى الوراء أو خطوات، ويدفعها إلى الأمام خطوةً أو خطوات شعورُها بالمسؤولية، وتحاول أن تتجاهل الرجاء والتوسّل الذي تسمعه من ابنتها المتشبثة بسريرها وابنها المستغرق في النوم، حتى تحسم أمرها أخيراً وتسحب الطفل المعذَّب من الفراش ليبدأ يوماً جديداً من أيام الكفاح في هذه الحياة!

إنها مشقة نفسية هائلة تتعرض لها كل موظفة في مهنة "الأمومة"، ولا يكاد يقدّر صعوبتَها معظمُ الآباء ولا يشكرون عليها الزوجات! أما أنا فأعرف كم هي شاقة، لذلك تصرفت بأنانية وألقيتُها على كاهل زوجتي فراراً من أعبائها النفسية المرهقة، وهكذا دخل أولادنا الخمسة إلى المدارس من جهة ثم خرجوا منها من الجهة الأخرى بعد بضع عشرة سنة ولم أضطر لإيقاظهم في الصباح إلا في عدد قليل قليل من المرات! مع اعترافي بأن في هذا الهروب جُبناً وأنانية، فمَن قال إن مهمة إيقاظ الأطفال صباحاً هو حصراً من اختصاص الأمهات؟! على الأقل قدّروا هذا العمل الشاق واشكروا عليه زوجاتكم يا أيها الآباء.

* * *

قدّمتُ هذه المقدمة لأصل إلى السؤال المهم: حيث إن كثيراً من الأولاد لا يحبون المدرسة ولا يحبون الذهاب إليها، وحتى الذين يحبونها (أو على الأقل لا يكرهونها) لا يحب أكثرُهم أن يُنتزَعوا من أسرّتهم صباحاً للذهاب إليها، ولا بد أن صباحات كثيرة تضجّ بالتوسلات والرجاءات التماساً للإعفاء: أرجوك اتركيني لأكمل نومي! أرجوك، فقط هذا اليوم!

فمتى تستجيب الأم لهذا الرجاء وتترك ابنتها أو ابنها في الفراش؟ أبداً ولا أيَّ يوم؟ في كثير من الأيام؟ أمْ في بعضها فحسب، وعلى أي أساس؟

ككل القضايا التربوية لا يوجد جواب حاسم لهذا السؤال، فليست التربية جدولاً من جداول الضرب لكل عملية فيه جوابٌ واحد لا غير، بل إنها عملية معقدة تتغير نتائجها بتغير الظروف والمعطيات وطبائع الأفراد. مع ذلك يستطيع العقلاء أن يتفقوا على قواعد عامة تقريبية تصلح لمعظم الأطفال والحالات.

* * *

الأصل أن على الطفل أن يقطع نومه ويقوم من فراشه ويذهب إلى المدرسة، ولكن هذا الأصل ليس قائماً برأسه بل هو جزء من "منظومة أصول" ينبغي على الوالدِين العقلاء الحرص عليها والتشبث بها: المحافظة على نظام البيت الذي يساعد الصغار على النوم المبكر ومحاصرة المغريات التي تؤخر النوم وتطيل السهر، كالخروج المتأخر من البيت واستقبال الضيوف في الأمسيات، والارتباط بمسلسلات تلفازية والاستغراق في الألعاب الإلكترونية، وتأخير الواجبات المدرسية حتى ساعة النوم أو قريباً منها ثم السهر من أجلها (على كثرتها، كما رأينا في الحلقة الماضية من هذه المنشورات).

فإذا توفرت في البيت بيئة طبيعية ينام فيها الأولاد مبكرين فلن تتكرر مأساة انتزاعهم من أسرّتهم في الصباح، وعندئذ ستكون الحالة العامة هي الإلزام بالقيام ولو بقليل من الجهد، فالحياة ما هي إلا مكافحة وجهاد. لكن لا بد أن تأتي أيام لا يكون من الحكمة أن ترغمي ابنك فيها على الذهاب إلى المدرسة: مثلاً إذا رأيت عليه علامات المرض، وإذا تأخر في النوم في الليلة السابقة بشكل فاحش لسبب خارج عن إرادة الأسرة، وإذا كان ذلك اليوم يومَ نشاط مفتوح لا دراسةَ فيه وهو لا يرغب في المشاركة فيه، وفي حالات الطوارئ مهما كانت.

فكوني مرنة بحيث لا ترغمينه على الذهاب إلى المدرسة لو كان لرفضه سبب واضح مقبول، ولكن لا تقبلي أبداً أن يصبح التخلّف عن المدرسة عادة. إن الغياب مرة في الشهر لا يصنع مشكلة، أما التعذر عن الذهاب في كل أسبوع مرة أو مرتين فأمر غير مقبول، واستجابة الوالدين له ستجعل الالتزام بالنظام المدرسي أشقَّ وأصعبَ على الصغير.

* * *

هذا كله يقال عن كراهية الطفل الاستيقاظَ وتملّصه من الذهاب إلى المدرسة بصورة عادية تعرفها الأمهات، أما لو وصل -في أيام استثنائية قليلة- إلى الرفض العارم والاستعصاء الشديد فإن هذه علامة مقلقة جداً لا ينبغي للأم العاقلة الحكيمة تجاهلها وتحتاج إلى بذل الجهد في التحري والاستكشاف والعلاج، وهذا هو موضوع الحلقة الآتية إن شاء الله.
خواطر في المدرسة والتعليم (6)

الاستعصاء الصباحي: إشارة خطر، لا تتجاهلوها

إذا كان من عادة الطفل أن يقاوم الذهاب إلى المدرسة كل صباح وصنع الأمر نفسه هذا الصباح فلا جديد يدعو إلى القلق، أما إنْ كان من عادته أن يمتثل ويساير ويذهب إلى المدرسة باستسلام (ولو ببعض الكراهة) ثم تغير حاله فجأة فصار يدافع القيام من السرير أشد المدافعة ويمانع في الذهاب إلى المدرسة أقصى الممانعة فإن هذا التغير المفاجئ مقلق جداً، أكثر مما يتصور كثيرٌ من الآباء والأمهات.

الذي يثير القلق هنا ليس موقف الطفل العدائي من المدرسة، بل هو تغيّر موقفه منها من القَبول الضمني إلى الرفض العارم ومن الرضا والاستسلام إلى الاستعصاء الشديد. فإذا رفض ذات يوم رفضاً قوياً وأصرّ على موقفه إصراراً شديداً فالوضع الأمثل عندئذ هو الاستجابة لرغبته، فلا بدّ أن له سبباً قوياً ومبرراً مقنعاً لهذا الموقف. في مثل هذه الحالة أقدّم للأم نصيحة مهمة: أشعري الطفل بالتفهّم والتعاطف ووافقي على غيابه عن المدرسة وبقائه في البيت، ثم عودي إليه في وقت لاحق (وقد هدأت خواطره واطمأنّ إلى فهمك وعطفك) فافتحي معه الموضوع في نقاش هادئ وافهمي منه الحكاية.

* * *

لماذا يحصل استعصاء الطفل العارم؟ الاحتمالات كثيرة: تبدأ بشعوره بالخوف من بعض الأولاد الأقوياء الذين يضربونه ويتنمّرون عليه، وتمرّ باضطهاد مدرّس من المدرّسين وسخريته بالطفل الحساس، وتنتهي بما هو شر من ذلك كله، وهو الإساءة الجنسية للطفل لا قدّر الله.

الحالة الأخيرة نادرة جداً بحمد الله، لكن الأم والأب العاقلَين اللذين يملكان بُعدَ نظر وخبرة في الحياة لا يهملانها بالكلّية، فنُدرتها لا تعني العدم، وبين حين وحين تنتشر قصة عن تعرض ولد صغير (صبيّ أو بُنَيّة) إلى الاعتداء الجنسي المتكرر في المدارس، ومنذ وقت غير بعيد وقعت حادثة أثبتها التحقيق الجنائي: بنت صغيرة وصلت لحالة الاستعصاء الشديد ولكن أهلها تجاهلوا حالتها، ثم ظهر أنها كانت آخر البنات توصيلاً في حافلة المدرسة فدرج السائق (أو بالأحرى الوحش الذي تنكر في ثياب سائق) على الاعتداء عليها وتهديدها بأفظع العقوبات لو كشفت أمره! ولو تنبّه الوالدان واستجابا للإنذار لأنقذاها من شرّ كبير.

إذا كانت هذه الحالة نادرة فإن الحالات الأخرى التي وصفتُها آنفاً ليست كذلك أبداً، حيث يتعرض الطفل للاضطهاد على يد زملاء أقوياء في فصله أو في فصول أعلى في المدرسة، أي أنه يكون ضحيّة لحالة تَنَمُّر نموذجية. هذه المشكلة شائعة في المدارس، وفي مدارس الصبيان خاصة، ونتائجها مدمّرة لنفسية الطفل على المدى الطويل، لا سيما الطفل المرهَف الحساس. ولو أنني خُيِّرت بين تعلّم يتعرض معه ابني للتنمّر والاضطهاد أو "لا تعلّم" فسوف أختار الثانية، مع العلم بأن البدائل كثيرة وفيرة، أقلُّها مراجعة الإدارة لوقف العدوان، وأعلاها نقل الولد إلى مدرسة أخرى.

* * *

النصيحة المهمة الأخيرة التي أقدمها للوالدِين -أمهات وآباء- هي أن يعتادوا الحوار مع أولادهم عن "عالَم المدرسة"، فإذا صار من الأمور المألوفة أن يتحدث الطفل عمّا وقع معه في المدرسة كل يوم فسوف يجمع الأبوان أطراف الصورة، وسيصبحان على علم بما يحصل مع طفلهما خلال ساعات غيابه عنهما، ويمكنهما عندئذ استشعار المشكلات استشعاراً مبكّراً والتدخل الحاسم في الوقت المناسب للعلاج.
الذين خَرّقوا السفينة

حتى لا تغرق السفينة؟! يا له من عنوان مضلّل خدّاع! وكأن صاحب التسجيل كان من دعاة الهدى وأنصار الحق ورُعاة السفينة وحُماتها! وهل كان إلا شريكاً في خرقها منذ أن خان الثورة وتواطأ مع الظلمَة والمعتدين؟

ما وجدنا في هذا التسجيل (الذي لم يأتنا بجديد) إلا صراعاً على الغنائم، ولو كانت صحوةَ ضمير فهلاّ حدثنا عن الدماء التي أهدرَتها النصرة بغير حق؟ والنفوس التي أزهقتها بغير ذنب؟ والأحرار الذين حبستهم في الباستيلات؟ والأرض التي فرّطت بها وسلّمتها للأعداء؟ هلاّ كشف خيانة وعمالة الرأس الأكبر الذي سألناهم ألف مرة (وهذه الواحدة بعد الألف) عن أصله وفصله واسمه ونسبه وهويته وحقيقته؟

يقول الناس في تعابيرهم "استيقظ ضمير فلان"، وهذا حق فيمَن نام ضميرُه لأن من شأن النائم أن يستيقظ ذات يوم، لكنْ ما نقول فيمَن مات ضميره منذ دهر؟ أنَّى يستيقظ ضميره وما عاد ميتٌ قط إلى الحياة؟!

سمعنا أرقاماً وتفاصيل مملّة ليس فيها جديد، وليست هذه هي القصة الحقيقية يا شديداً على الثورة وأهلها؛ القصة الحقيقية هي أن عصابة النصرة وزعيمها الجولاني وسدَنته وجنوده وأعوانه (وأنت منهم) لبثوا دهراً يخرقون السفينة ويقذفون بركّابها في الماء، ولولا رجال صادقون صامدون صابرون ثبتوا في العاصفة وتشبثت جذورُهم بالأرض يوم هَبّ على الأرض تسوناميُّ النصرة الذي قلع الشجر وبعثر البشر لما بقيت أرضٌ ولا بقيت ثورة.

هذه هي الحقيقة التي تتجنبونها لأنها اعتراف صريح يُسْلم رقابكم إلى مقصلة الشعب. ولكن أتظنون أنكم إنْ نجوتم من حساب الناس ستنجون من حساب الله؟ فاصنعوا ما شئتم فإن الموقف أمام الله والحساب آت لا محالة.
تجّار الدين

التجارة أنواع، فبعض التجّار يبيعون ما ينفع الناس كالقوت والكساء والدواء، وبعضهم يتاجرون بما يضرّ الناس ويغضب رب الناس، كباعة الخمور والمخدرات. ولكنهم ليسوا أسوأ التجّار وليسوا الأشد حساباً يوم الحساب، إنما الأشدّ حساباً وشَرّ الناس جميعاً التاجرُ الذي يتاجر بالدين.

وليس هذا أخسرَ الناس، فهو يبيع الدين ليكسب المال والجاه والنفوذ، فيتنعّم في دنياه قبل أن يلقى جزاءه الذي يستحقه في آخرته، إنما أخسرُ الناس قاطبة من اشتغل صانعاً وأجيراً عند بائع الدين، يخدمه بالمجّان أو بأسخف عطاء يُعطاه عامل من العمال، فهو الخاسر الأكبر الذي خسر الدنيا والدين، هذا الذي باع دينَه ودنياه ليتنعّم بدنياهم اللصوصُ وقطّاع الطرق وتجّار الدين.

* * *

اليوم أطلق ناشطو الثورة السورية حملة يطالبون فيها تاجرَ الدين والحرامي الأكبر، «لَقيط الثورة» الذي تسلق سلّمها ولا يُعرف له اسم ولا فصل ولا أصل، يطالبونه فيها برَدّ المال المسلوب الذي سرقه من أهله بغير حق بعدما عدا على الثورة بغير حق وفكك فصائلها بغير حق ونهب أموالها بغير حق واستعبد أهل الأرض المحررة بغير حق، عليه غضب الله.

أما «جولاني» فلن يتوقف عن النهب والسرقة ولن يرد المال المغصوب، وله أعوان شرٌّ منه، وزراء ودهاقنة وكَهَنة وسَدَنة يزيّنون له عمله ويجّملون صورته القبيحة في عيون الناس. هؤلاء شركاء في الغنائم والسرقات، كل بمقدار، ولن يتركوه حتى تغرق السفينة بهم أجمعين.

لكن ما بال الحطَب، الجُند الذين جعلوا أنفسهم جسوراً يعبُر عليها الطغاة الجدد إلى الجاه والسلطان؟ ما بالهم يحرقون أنفسهم من أجل ثروات تكدَّس في خزائن المفسدين والظالمين؟ متى يعقلون ويكفّون عن التضحية بأنفسهم فداء لمشروع باطل كُشف ستره وعُرف سرّه وبانت حقيقته للناس؟

هؤلاء المغفلون الشركاء في الجريمة: كم نصحهم الناصحون الصادقون، فمتى يسمعون ومتى يتعظون ومتى يتوبون ويستغفرون؟

#الشعب_يريد_ماله_المسلوب
#جولاني_عدو_الثورة
خواطر في المدرسة والتعليم (7)

الضرب في المدارس

هل تذكرون البوعزيزي الذي أضرم في نفسه النار ذات يوم؟ إنه لم يفعل ذلك لأنه فقد عربةَ خُضَر كان يعتمد عليها في معاشه، بل لأنه لم يستطع احتمال الإهانة التي شعر بها عندما صفعته شرطية قليلة الإنسانية والحياء أمام الناس. ففعل ما فعل، ومن ثَمّ تفجرت الثورة التونسية وعلى إثرها ثورات الربيع العربي، وما كانت قَطّ ثورات جوع وحاجة وفاقة، بل ثورات إنسانية وعزة وكرامة.

إننا نعيش اليوم عصراً متميزاً صارت الكرامة فيه ضرورة كالماء والغذاء، والمجتمع الحر الكريم إنما يبدأ وينشأ في البيوت والمدارس، فعلاقة الوالدِين بالأولاد في البيوت والمعلمين والمعلمات بالطلاب والطالبات في المدارس تربّي مجتمعاً ذليلاً خاضعاً، أو تربي مجتمعاً حراً كريماً يأبى الذل والخضوع والهوان. وكما أن ضرب وتعذيب الأحرار الكبار في السجون يحطم نفسياتهم ويقضي على كرامتهم وإنسانيتهم فكذلك يصنع ضرب واضطهاد الصغار في المدارس والبيوت.

لذلك بات الضرب في المدارس ممنوعاً في أكثر البلدان، وانقضى العصرُ الذي كان الآباء يُسْلمون فيه أولادهم للمعلم قائلين: "لك اللحم ولنا العظم". ويا له من شعار مدمّر بغيض!

* * *

ماذا يصنع الآباء والأمهات إذا تعرض أولادهم للضرب في المدرسة؟ نصيحتي هي أن يراجعوا الإدارة محتجّين، والأفضل أن يطلبوا مقابلة المعلم لتوصيل رسالة واضحة: نحن لا نوافق على ضرب ابننا بأي حال.

لماذا أنصح بهذا التصرف الحازم؟ لسببين، أولهما أن الطفل الذي ضُرب سيشعر بالوَحدة والخذلان إذا "تخلى" عنه أبواه في محنته، وإذا تكررت حوادث ضربه وبقي الوالدان على لامبالاتهما فسوف ينكفئ على نفسه ويستسلم إلى اليأس، وبعد ذلك سيصل إلى واحد من مصيرين: إما أن ينكسر ويتحول إلى كائن معدوم الشخصية، أو يفقد سِمات الرحمة والعطف والتسامح ويجنح إلى الشراسة والعدوان.

السبب الثاني الذي يوجِب تدخل الوالدين عمَلي تماماً، فمراجعة المدرسة والشكوى من الضرب تشكل "درع حماية" للطفل في المستقبل. ومما أذكره أنا نفسي أن أحد مدرّسي أولادي في المرحلة الابتدائية كان قاسياً عنيفاً يضرب الطلاب بلا ذنب، فذهبت إلى المدرسة وتحدثت معه بلهجة حاسمة، وقلت له إنه حرٌّ إن شاء أن يضرب من الطلاب مَن لا يبالي آباؤهم بضربهم، أما أنا فلا أضرب أولادي بنفسي ولا أسمح لغيري بضربهم. وقد توقفت شكاوى أولادي منه من بعد، لكني علمت أنه بقي على شراسته مع سائر الأولاد.

* * *

لكنْ تبقى مسألتان مهمتان:

الأولى أن منع الضرب لا يعني منع العقاب بالمطلق، فالعملية التربوية تقوم على ثنائية الثواب والعقاب، ومِن التلاميذ من يتمرد على القوانين والنظام وقد يعتدي على سواه، فإذا مُنع المعلمون والمعلمات من معاقبة مَن يستحق العقاب بسلوكه الأعوج تحولت المدرسة إلى غابة صغيرة كان أولادنا البُرآء أولَ ضحاياها. فما العمل؟ الصحيح أنه لا بد من العقاب لوقف تمرد الطالب المتمرد وإلزامه بالقوانين وردعه عن الاعتداء على الآخرين، على أن لا يكون عقاباً بدنياً يقتل الكرامة ويبلّد الحس وينتهي بالمضروب إلى إحدى حالتين، التبلد والتمرد أو الانهيار والانكسار. ولحسن الحظ فإن العقوبات غير البدنية التي يمكن أن يلجأ إليها المعلمون كثيرة متنوعة، كخصم العلامات والحرمان من الأنشطة المسلية على سبيل المثال.

المسألة الثانية هي أن الطفل قد "يخدع" والديه -غيرَ متعمّد- فيزعم أن المعلم ضربه، فيذهب الأب إلى المدرسة بغضب واعتراض، ثم يتضح أن الذي صنعه المعلم لا يزيد على لمسة بالمسطرة على الكتف أو شيء من هذا الوزن، إلا أن قاموس الطفل المرهف (الذي يعيش في بيئة سِلميّة ويندر أن يتعرض لأي عقوبة) يفسّر مثل هذه الأفعال بأنها ضرب، بل ربما سمى التعنيفَ اللفظي الشفهي ضرباً! لذلك ينبغي على الآباء أن يفهموا من الطفل حقيقة الحادثة ولا يكتفوا بالتقاط الكلمة التي يلفظها والاعتماد عليها لبناء قضية كاملة ضد المعلم المسكين.
خواطر في المدرسة والتعليم (9)

وداعاً للحفظ، مرحباً بمهارات البحث والاستيعاب

لعل الحفظ هو أكثر ما اهتم به المعلّمون في كل العصور. وربما كانوا محقّين في اهتمامهم به في الأزمنة الماضية حينما كانت الكتب قليلة بأيدي الناس، فما كل واحد يستطيع الوصول لكل كتاب يحتاج إليه في أي وقت يريد، فكان الوصول إلى علم الأذهان والصدور أسرعَ وأيسر من الوصول إلى علم الصحائف والسطور.

هكذا كان التعليم قديماً، وبقي على هذا الحال عصراً بعد عصر وألفَ عام بعد ألف عام حتى كان العصر الأخير، عصر انفجار المعلومات وثورة الاتصالات. في هذا العصر صارت الكتب متوفرة بكميات هائلة وبكثافة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وفيه صارت المعلوماتُ التي راكمَتها البشريةُ لآلاف السنين وحفظتها في ملايين المجلدات متاحة على أطراف أصابع كل إنسان، حقيقة لا مجازاً، فما عليه إلا أن يبحث عن أي معلومة حتى تتدفق أمام عينيه على شاشته آلافُ المراجع وملايينُ الصفحات.

عندما انتشرت الكتب بتلك الطريقة المدهشة وتحققت معجزة الاتصالات المعاصرة التي تتيح تخزين واسترجاع كمية غير محدودة من المعرفة اختفت ميّزة الحفظ وتنحَّتْ في سلّم الأهمية لصالح مهارات ومواهب أخرى، فإن أولادنا لا يحتاجون اليوم إلى حفظ المعلومات بقدر ما يحتاجون إلى تنمية مهارات البحث والوصول والموازنة والتقييم والفهم والاستيعاب.

* * *

هذا العصر ليس عصر الحفظ النصّي الذي كان سمة غالبة على علماء العصور القديمة، فكمية المعلومات التي يستطيع أولادنا الوصول إليها بضغط أزرار قليلة تفوق الخيال، لكنهم لا يستفيدون منها الاستفادة الفُضلى لأن المدارس لا تعلمهم مهارة البحث عن المعلومات، وهي واحدة من أهم مهارات التعلّم على الإطلاق.

ماذا يصنع إنسان اليوم إذا احتاج إلى معلومة غير متوفرة في ذاكرته؟ إنه يبحث عنها في الإنترنت. وسوف يحتاج أولاً إلى إتقان مهارة البحث لأنه سيصل إلى معلومات أفضل كلما كان بحثُه أكثرَ دقة ومهارة. ثم إنه سيحتاج إلى موهبة تقييم نتائج البحث ومقابلة بعضها ببعض لاختيار الجيد من وسط الغثاء الذي يملأ العالم الافتراضي. ثم تأتي المهارة العليا التي يحتاج إليها المتعلم، مهارة الفهم والاستيعاب، وهي جوهر العملية التعليمية المثمرة التي ظُلمت دائماً في مجتمعاتنا النامية واهتمّت بها المجتمعات الصناعية المتقدمة، فكانت النتيجة أن تقدمت تلك الأمم وارتقت في سلم الحضارة وبقينا نصارع واقعنا المتخلف في الوقت الذي نُراكم فيه المزيد والمزيد من حَفَظة النصوص والمتون.

* * *

روى جدي الشيخ علي الطنطاوي عن شيخه المبارك رحمهما الله أنه قيل له: فلان يحفظ القاموس المحيط. قال: زادت نُسَخه واحدة! يريد أن المهم هو القدرة على المراجعة في القاموس وفهم عباراته وليس مجرد حفظ نصه عن ظهر قلب، فمن امتلك مهارة المراجعة اشترى نسخة منه بدراهم قليلة واستغنى عن حفظه كما صنع صاحبنا ذاك. وما أكثرَ ما يحفظ العلمَ من لا يعقله!

إن التعليم الجيد اليوم لا ينبغي له أن يتقصر على تقديم المعلومات الجاهزة للتلاميذ في الكتب، بل عليه أن يعلّمهم كيف يصلون إليها بأنفسهم وكيف يستفيدون من مصادر المعرفة الهائلة التي تتوفر لكل إنسان. المعلم الناجح اليوم ليس من يقول لتلميذه: احفظ وسمِّعْ، بل من يقول: اقرأ واشرح. الامتحانات المفيدة ليست التي يطالَب فيها التلاميذ بتفريغ ما في أدمغتهم من معلومات على الورق، بل إن أفضلها هو امتحانات "الكتاب المفتوح" التي عرفتها أول مرة من بعض أساتذتي الأمريكيين في كلية الهندسة قبل أربعين سنة، وأفضل منها امتحانات "النت المفتوح" التي لم أسمع عن أي نظام تعليمي اعتمدها حتى الآن.

إذا لم تدرك مؤسساتنا التعليمية هذا التغير الهائل في أساس وبنية العملية التعليمية فسوف تضيع أوقاتٌ وتُهدَر طاقات وتُنفق أموال عزيزة كثيرة بغير طائل، لأن مدارسنا ما زالت تُعنى إلى اليوم العنايةَ الكاملة بالحفظ وتتجاهل الحاجة الحقيقية لأبناء العصر الجديد.

* * *

على أن التعليم لا يَستغني عن الحفظ مطلقاً، بل لا بد من حفظ "مفاتيح المعرفة وخرائطها العامة"، وهذا ما سأتحدث عنه في الحلقة الآتية إذا يسّر الله.
خواطر في المدرسة والتعليم (10)

حفظ المعاني وحفظ الألفاظ

عندما يتمنى التربوين أن تركز المؤسسات التعليمية على الفهم وليس على الحفظ فإنهم لا يقصدون الاستغناء عن تخزين المعلومات في أذهان المتعلمين مطلقاً، فالتعليم هو -بالتعريف- تغيير حالة الإنسان من الجهل إلى المعرفة، أي زيادة المعلومات التي يختزنها المرء في ذهنه. وما الفرق بين عالم وجاهل؟ إنه ما في الذهن من معلومات كثيرة أو قليلة، فكلما قلّت المعلومات في ذهن الإنسان كان أقربَ إلى الجهل والخمول العقلي، وكلما زادت كان أكثرَ تفكيراً وإبداعاً ونجاحاً في الحياة.

إن ما يُنتقَد في التعليم التقليدي هو الاهتمام بحفظ النصوص حفظاً حرفياً مجرداً بدلاً من فهمهما والاستفادة منها في العمليات العقلية المفيدة، كالتخيل والمقارنة والنقد والاستدلال والاستنباط والتركيب والتفكيك والتنظيم والتعميم. وما يريده أولئك الناقدون هو الانتقال إلى طبقة أعلى في الحفظ، من "حفظ الكلمات" إلى "حفظ المعاني" التي تتضمنها الكلمات. فالألفاظ أوعية للمعاني كما يقول البلاغيون، أي أن القصد من الكلام الذي نقوله ونسمعه هو المعنى وليس الصوت، فما فائدة مطالبة التلاميذ بالحفظ النصي الحرفي للمقررات ما لم يفهموا معانيها ومضامينها؟

* * *

هذا المبدأ التعليمي الجوهري يعبَّر عنه عادة بشعار "الفهم بدلاً من الحفظ"، ويمكننا أن نعبر عنه بطريقة أخرى فنقول: إن التعليم الجيد يهتم بحفظ المعاني وليس بحفظ الألفاظ، أو أنه يقدم الحفظ الحي على الحفظ الجامد الذي لا حياة فيه.

سأضرب مثلاً بدروس الجغرافيا المملة التي كنا ندرسها في المدرسة، وكان علينا أن نحفظ فيها نصوصاً مبهمة مجردة: ما يحد الدولة من جهاتها الأربع ومساحتها وعدد سكانها وأسماء جبالها وأنهارها وصادراتها وواردتها... لو كنت مدرّس جغرافيا لن أطالب التلاميذ بحفظ ذلك كله حفظاً نصياً مبهماً، بل سأطلب من كل منهم البحث عن فلم يوتيوب يقدم معلومات مفيدة عن هذه الدولة، وبعد مشاركة المقاطع بين التلاميذ ومشاهدتها سينشأ عندهم تصور واقعي حي عنها، سيتصورون شكلها وسكانها ومدنها وتضاريسها وصناعتها وزراعتها وثقافتها، ولن تقتصر دراستهم لها على إحصاءات جافة وألفاظ جامدة.

هذا مجرد مثال لتوضيح الفكرة، وما يقال عن هذا العلم يقال عن سائر المعارف والعلوم.

* * *

على أن من المعلومات ما لا يصلح معه إلا الحفظ النصي، ويدخل في هذا الباب ما أسميه "مفاتيح المعارف". ففي اللغة لا بد للمتعلم من حفظ ترتيب حروف الهجاء من الألف إلى الياء، فهي مهارة ضرورية في كثير من الممارسات الحياتية العادية، كالبحث في دليل الهاتف فضلاً عن مراجعة المعاجم اللغوية. ومن هذا الباب جداول الضرب الأساسية (2-12) لأن المرء يحتاج إلى عمليات ضرب وجمع وطرح مبسّطة مرات عديدة في اليوم الواحد. ومنه أيضاً رموز العناصر الكيميائية وأنواع فصائل الدم وأسماء الفيتنامينات الأساسية وعواصم البلدان الكبرى. ومَن تعلم اللغة الإنكليزية لا بد له من حفظ الأفعال والجموع الشاذة التي لا تتصرف أو تُجمَع بإضافة حرف محدد أو اثنين في آخرها. وماذا عن العبادة؟ هل يستطيع الصلاةَ من لم يحفظ الفاتحة وبضعَ سور أو آيات غيرها والتشهد الأول والأخير؟

أخيراً نصل إلى النصوص التي ينبغي حفظها لصقل الملكات اللغوية والأدبية، ويدخل في هذا الباب كل نص جيد في الشعر والنثر، وتتربع على قمته آيات الكتاب المبين الذي هو أعظم نص في العربية، حتى إن من أدباء النصارى من يحفظه كله أو بعضه لهذا الغرض بالذات. وأذكر أنني لما قرأت -وأنا شاب صغير- كتاب "مجمع البحرين" لم أشكّ أن كاتبه مسلم لكثرة استشهاده بكَلِم القرآن، لا سيما أن اسمه على غلاف الكتاب كان "الشيخ" ناصيف اليازجي، ثم علمت أنه كان يحفظ القرآن كاملاً. ومثله أو قريب منه مارون عبود الذي تمتلئ كتاباته بالتعبيرات القرآنية، والمعلم بطرس البستاني والأب أنستاس الكرملي، وأحمد فارس الشدياق الذي نقله القرآن من المارونية إلى الإسلام. وقرأت مرة في لقاء مع الأديب الأردني المسيحي المشهور روكس بن زائد العزيزي أنه يقرأ كل صباح بضع صفحات من القرآن، فهو ليس كتاباً دينياً للمسلمين فحسب بل هو أيضاً "الكتاب القومي للعرب" كما قال.

وللحديث بقية.
خواطر في المدرسة والتعليم (11)

الحفظ الإجمالي وحفظ التفاصيل

بعد الحديث عن الفرق بين حفظ الألفاظ وحفظ المعاني نأتي إلى مشكلة تعليمية أخرى هي المبالغة في الاهتمام بحفظ التفاصيل، وسأضرب عليها بعض الأمثلة للتوضيح: لعل كل واحد فينا يتذكر الصعوبة التي عانى منها وهو يحفظ تواريخ الحوادث الكثيرة في دروس التاريخ، ومساحات الدول وأعداد سكانها في دروس الجغرافيا، والأوزان الذرية للعناصر في دروس الكيمياء وقوانين اللوغاريتمات في الرياضيات، ولا تذكّروني بالبيولوجيا التي درست مَساقاً أساسياً فيها في كلية العلوم قبل انتقالي إلى كلية الهندسة، وكان علينا حينها أن نحفظ الأسماء اللاتينية لمئات العظمات والعضلات في جسم الإنسان، لم يبقَ منها في ذهني (بعد أربعين سنة) إلا اسمٌ واحد لا أدري أهو اسم عظمة أم عضلة ولا أعرف ما هو ولا أين يقع: "رِكْتَس أبدومينِس"!

المؤسف أن تلك التفاصيل التي تستهلك الجزء الأكبر من طاقة المتعلم العقلية تطير مع الأيام، بل لعلها لا تثبت في أذهان التلاميذ إلا ريثما ينقشونها في أوراق الامتحانات ثم تَذْروها ريحُ النسيان. فما الذي يبقى ويدوم؟ إنه الكلّيات والصور العامة التي تمنح المرءَ من الثقافة واتساع المدارك أضعافَ ما يحصل عليه من التفاصيل الصغيرة التي لا تدوم.

* * *

لنأخذ دروس التاريخ عن الدولة العباسية على سبيل المثال. في التعليم التقليدي يطالَب التلاميذ بمحفوظات محددة يكررونها عند الامتحان: ولدت الدولة العباسية سنة 132 وماتت سنة 656، أول خلفائها هو السفاح والثاني المنصور ثم المهدي والهادي والرشيد، إلى آخر السلسلة، مع سرد أهم المنجزات والأحداث في عصر كل منهم، وأسماء ومواضع الدول التي قامت في المشرق والمغرب في العصر العباسي، مع حفظ تواريخ الحوادث الرئيسية كسقوط بيت المقدس بيد الصليبيين ومعركة حطين.

هذا الحفظ التفصيلي الذي يُنسى أكثرُه يقابله تصور عام يصعب أن يُنسى: جاءت الدولة العباسية بعد الدولة الأموية التي عاشت أقل بقليل من مئة سنة، وعاشت قريباً من خمسة قرون، على أن هذا الامتداد التاريخي الطويل كان على حساب وحدة أراضيها الواسعة التي ورثتها عن الدولة الأموية، فما لبثت أن خرجت عن سيطرة الدولة المركزية الأندلسُ التي أنشأ فيها حفيد هشام بن عبد الملك دولة أحيا فيها مُلك بني أمية الزائل في الشرق، ثم استقلت أطراف أخرى عن الدولة المركزية ونشأت بعيداً عنها ممالكُ ودولٌ كثيرة خلال تلك السنين الطويلة. وفي العصر العباسي تعرض العالم الإسلامي لعاصفتين عاتيتين، أولاهما الحملات الصليبية التي تعاقبت على بلاد الشام ومصر طوال قرنين، ثم جاء الإعصار المغولي أخيراً فأزال أكثر الدول الإسلامية التي كانت حية في ذلك الوقت ومعها الدولة العباسية ذاتها التي سقطت بسقوط بغداد. وفي هذا العصر ازدهرت المعارف والعلوم، فنشأت المذاهب الفقهية واتسع الاجتهاد وظهر نوابغُ عظام في الشعر والأدب وراجت الترجمة والعلوم العقلية وتقدم الطب والصيدلة واتسعت الحضارة والعمران وعُبِّدت الطرق وأنشئت القلاع والحصون وانتشرت في طول البلاد وعرضها المدارسُ والجامعات والمستشفيات.

* * *

ما سبق (وهو مجرد مثال على أي حال) لن يقدَّم في صورة نص جامد، بل هو ما سيبقى في أذهان التلاميذ بعد حصص متعاقبة "تُحكى" فيها "حكاية" الدولة العباسية كما تُحكى الحكايات وتصوَّر بأكثر تشويق ممكن، ثم لن يطالَب التلاميذ بنقشها في أوراق الامتحان نقشاً حرفياً، بل ستُطلب منهم إعادة الحكاية كما فهموها واستوعبوها وكما بقيت في أذهانهم بعد عشرات الحصص الحية الممتعة.

إن التعليم الجيد لا يهدر أوقات وأذهان التلاميذ بتفاصيل صعبة الاستذكار سهلة النسيان، بل بصور إجمالية سهلة التذكر صعبة النسيان. ولا تستهينوا بهذه "الخلاصات والإجماليات المعرفية"، فإنها تشكل قاعدة علمية عريضة ترتفع طبقاتُها واحدة فوق واحدة مع الانتقال من سنة دراسية إلى التي بعدها، فإذا تخرج التلميذ في مدرسته أخيراً (ولا تقولوا تخرج منها، فهو غلط) فسوف يكون ما بقي في ذهنه من المعلومات كثيرٌ كثير.

وهذا يقودنا إلى الحديث عما أسميه "الخرائط العامة للمعارف والعلوم"، وهو موضوع الحلقة الآتية في هذه السلسلة بإذن الله.
خواطر في المدرسة والتعليم (12)

الخرائط العامة للمعارف والعلوم

لكل باب من أبواب المعرفة خريطة عامة ينبغي أن يحفظها الإنسانُ المثقف (ولو بصورة تقريبية) وأن تكون ثمرة من ثمرات التعليم المدرسي، فما هي خرائط المعارف العامة هذه؟

أول ما يتبادر إلى الذهن من كلمة "خريطة" هو الخرائط الجغرافية. ولا ريب أن أي إنسان مثقف وأي تلميذ أمضى في المدارس اثنتَي عشرة سنة (على الأقل) ينبغي له أن يملك تصوراً عاماً لخريطة العالم، فإذا قرأ اسم بلد أو سمع به تخيّل على الفور موضعه في الخريطة وحجمه وشكله وما يحيط به من بلدان. ولا بأس أن يجهل بعض البلدان الصغيرة أو يعجز عن تصور مواضعها، فلو سمع ببلد اسمه ليشْتنشتاين ولم يعرفه فلا غضاضة، لكن لا يُقبل من إنسان متوسط الثقافة أن يعجز عن تصور موضع فيتنام أو مالي أو تشيلي على سبيل المثال.

وماذا عن التاريخ؟ هذا العلم أيضاً له خريطته العامة التي يُطلب من كل متعلم حفظها واستيعابها، فيتصور ترتيب الدول وعصورها وأماكن انتشارها ولو على التقريب. فمثلاً لن يُطلب من كل تلميذ أن يحفظ تاريخ مولد الدولة العباسية وسقوطها وتسلسل خلفائها، ولكن عليه أن يتصور على الأقل أنها جاءت بعد الدولة الأموية وأنها امتدت خمسة قرون، وأن مساحتها الواسعة تفتتت فنشأت بعيداً عن مركزها في العراق دولٌ متعددة، كالأدارسة والأغالبة والرستميين والعبيديين (الفاطميين) والمرابطين والموحدين في المغرب الأقصى، والطاهرية والسامانية والصفارية والغزنوية والخوارزمية في المشرق، والطولونية والإخشيدية والحمدانية والأيوبية في مصر والشام.

وللفقه خريطته العامة أيضاً: العبادات (الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة، ومعها أحكام الأطعمة والأشربة والأَيمان والنذور والكفّارات) والمعاملات (أحكام البيع وسائر المعاملات والعقود) والأحكام الشخصية (وهو باب واسع يضم فصولاً مهمة في حياة الناس، كالزواج والطلاق والحضانة والنفقة والميراث) وباب رابع لا يحتاج إليه عامة الناس في حياتهم اليومية ويضم مباحث الحدود والقصاص والتعزير والجنايات.

وللنحو خريطته العامة التي تضم المرفوعات من الأسماء: المبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل واسم كان وأخواتها وخبر إن وأخواتها، والمنصوبات: المفعول به والمفعول المطلق والمفعول فيه والمفعول معه والمفعول لأجله والتمييز والحال والاستثناء والنداء وخبر كان وأخواتها واسم إن وأخواتها، والمجرورات بالإضافة وحروف الجر، وأنواع الأفعال (الماضي والمضارع والأمر) وما يعتريها من بناء وإعراب، وأدوات نصب المضارع وجزمه، والتوابع: الصفة والعطف والتوكيد.

ولعلم الحياة (البيولوجيا) خريطته، فعلى المتعلم أن يتصور الشكل التقريبي "لإمبراطورية الحياة" التي تتوزع في ممالك فرعية أهمها الحيوانات والنباتات (ولا ضرورة للدخول في تفاصيل أدق كممالك الفطريات والأوليات والطلائعيات وتصنيفات أخرى ما زالت محل خلاف بين البيولوجيين). ثم على المتعلم أن يتصور الشجرة التقريبية لمملكة الحيوان: فقاريات ولافقاريات، ويحفظ أن الفقاريات تتكون بشكل رئيسي من طوائف الأسماك (دون الحاجة إلى التفصيل بين أسماك عظمية وغضروفية ولافكّية) والبرمائيات والزواحف والطيور واللبونات (الثدييات)، وأن اللافقاريات تضم عائلات فرعية كالإسفنجيات والرخويات والديدان والمفصليات (التي تضم الحشرات والعنكبوتيات والقشريات).

* * *

هذه أمثلة مختزَلة مبسطة لم أقصد بها الاستقصاء والاستيفاء، وإنما أردت منها توضيح المقصود بالخرائط العامة للمعارف والعلوم. فليس متوقَّعاً أن يتخرج التلميذ في المدرسة وهو محيط بتفاصيل كل علم من العلوم، ولكن لعل من أهم ما يُنتظر من مسيرة التعليم المدرسي الطويلة أن تزود التلاميذَ بتصور عام لأبواب المعرفة المختلفة، بحيث يحفظون ويستوعبون الخرائط العامة للعلوم الدينية واللغوية والاجتماعية والتاريخية والعلوم البحتة والتطبيقية. ومن ثَم سينتقلون إلى الجامعات التي يختار كلٌّ منهم فيها اختصاصاً يكمل تعليمه فيه، فإذا تخرج الطالب في الجامعة أخيراً صار يملك معرفة دقيقة شاملة بعلم محدد ومعرفة عامة بسائر العلوم (أي بقيتها).

فائدة على الهامش: يستعمل كثير من الكتّاب كلمة "سائر" بمعنى "كل" أو "جميع"، وكذا يفهمها عامة الناس، والاصح الأفصح أنها بمعنى "البقية". قال ابن الأثير: السائر هو الباقي، والناس يستعملونه بمعنى الجميع، وليس بصحيح. ويقول العلامة اللغوي الدكتور محمود الطناحي: استعمال سائر بمعنى باق هو الفصيح الأكثر، مأخوذ من السُّؤْر، وهو ما يبقى في الإناء (أي بعد الشرب)، ويرى بعض اللغويين أنه هو الصواب ولا صوابَ غيرُه. ومنه قول الشاعر:

لهم منتهى حبي وجُلّ مودتي *** وصفوُ الهوى منّي وللناس سائرُه
خاطرة على باب 63
وإن تَعُدّوا نعمة الله لا تحصوها

في وقت متأخر من الليلة الماضية وضعت رجلي في أول المرحلة الثالثة والستين مخلّفاً ورائي اثنتين وستين سنة من طريق العمر الطويل. في هذه السن أدركت بشكل أكثرَ عمقاً وروعة المعنى الهائل الكامن في قوله تبارك وتعالى: {وإن تَعُدّوا نعمة الله لا تحصوها}. نعم، إن المرء ليعجز عن إحصاء نِعَم الله لكثرتها ووَفرتها، وكثيرٌ منها، كثير كثير، لا يكاد المرء يحس به إلا عند فقده وهو يتقدم في العمر عاماً بعد عام.

هذا الفهم هيمنَ على خاطري عندما اكتشفت فجأة وأنا في هذه السن أن العالم مليء بالأدراج بكثافة لم ألاحظها من قبل. أدراج وأدراج في كل مكان، وأمام كل منها أقف متردداً كيف سأقطعها صعوداً (وهو الأسهل) أو هبوطاً (وهو الأصعب) وقد كنت فيما مضى من عمري لا أنتبه لوجودها أصلاً ولا أفكر فيها وأثب عليها وثباً فأقطعها بقفزات عريضة درجتين درجتين. الآن وقد كلَّت الرُّكَب وبليت العظام والغضاريف صرت أتمنى لو لم تكن في الدنيا كل هذه الأدراج. الآن أتساءل: هل فكرت يوماً بأن الركب الصحيحة القوية نعمة من أجمل نعم الله عليّ وعلى الناس؟

* * *

مشكلة الإنسان، أيّ إنسان، أنه يلاحظ الفَقْد ويشكو منه ولا يلاحظ العطاء ولا يشكر عليه، فإذا مرض يوماً واشتكى في بدنه عضوٌ نسي أنه أمضى في العافية مئة يوم وأنها سلمت له سائر الأعضاء، وإذا خسر في تجارته ألفاً تألم ألَمَ من لم يربح قبل الخسارة عشرات آلاف، وإذا كربه الكرب الشديد في بعض مراحل العمر يئس يأسَ من لم يعش في الرخاء والنعيم السنينَ الطوال.

وربما فكر كثيرون في نعمة الصحة التي أنعم الله بها عليهم وشكروه عليها بالإجمال، ولكنهم قد لا يتخيلون أن الصحة والسلامة في الركب وحدها نعمة، وفي الظهر نعمة، وفي المعدة نعمة، وفي الأسنان نعمة، وفي العينين نعمة... وفي كل عضو وحاسة وفي كل عظمة وعضلة نعمة يُشكَر عليها الله.

وربما فكر كثيرون في نعمة الرزق والأمان، لكنهم قد لا يقدّرون قيمة هذه النعمة المتجددة في كل يوم، فرزق اليوم وأمان اليوم نعمة، ورزق الغد وأمان الغد نعمة، ورزق غَداة الغد وأمنُه نعمة... إنها نِعَمٌ كثيرة وليست نعمة واحدة، نِعَمٌ متجددة من المولى الكريم تستحق الشكر والتقدير المتجدّدَين من العباد. ولا يدرك هذا المعنى الخفيّ إلا الذين يتقلبون بين الحاجة والكفاية بين يوم ويوم، والذين يعيشون آمنين في لحظتهم قلقين من فقد الأمن في أي يوم آت.

* * *

هذا المعنى الجليل يظهر في حديث جميل يعرفه أكثر الناس لكنهم لا يطيلون التفكير فيه: "كل سُلامَى من الناس عليه صدقةٌ كلَّ يوم تطلع فيه الشمس". السلامى قطعة العظم في الإصبع بين المَفْصِلين، في كل إصبع ثلاث سُلامَيات وفي الإبهام اثنتان. النبي عليه الصلاة والسلام يخبرنا هنا أن الجسم الصحيح ليس نعمة واحدة يؤدَّى شكرها بصدقة واحدة، ولا اليد كلها، ولا الكف، ولا حتى الإصبع الواحدة من أصابعها، بل إن العظمة الواحدة من عظام كل إصبع نعمة مستقلة تستحق صدقة مستقلة شكراً لله الذي أنعم علينا بها. ثم إنها ليست نعمة واحدة في العمر ولا في العام أو الشهر، بل هي نعمة متجددة مع طلوع شمس كل يوم جديد.

صدق الله: وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها.

اللهم أعنّا على إحصاء نعمك ومعرفتها في حال العافية لا عند البلاء. اللهم إنك عرفت أن أكثر الناس ينسَون فقلت فينا: وقليل من عبادي الشكور. فاجعلنا اللهمّ من هذا القليل، اللهمّ اجعلنا من الشاكرين.

عافاكم الله
خواطر في المدرسة والتعليم (13)

اللغات الثلاث: مفاتيح المعرفة الكبرى
1 من 2

أرأيت إلى خزائنَ ملأى بالكنوز والأموال، يُقال لك: إذا ملكت مفاتيحها فافتح أبوابها واغرف منها ما شئت في أي وقت تشاء. ثم إن هذه المفاتيح متاحة لكل إنسان، إلا أن الحصول عليها ليس بالمجّان، بل يحتاج إلى عمل دؤوب وجهد مخلص تبذله لبعض الوقت، ثم تُعطى المفتاح عطاءَ الأبد فلا يُنزع من يدك أبداً ما حييت؟ لو علمت أن هذا هو الحال أتزهد في الاجتهاد للحصول على تلك المفاتيح السحرية؟

إن كمية المعرفة التي يملك الوصولَ إليها كلُّ إنسان في هذه الأيام لا يمكن حصرها ويصعب تصوّر ضخامتها، وهي متاحة بأهون سبيل لمن امتلك ثلاثة مفاتيح، ثلاث لغات تفتح أبواب خزائن المعارف والعلوم. إنها اللغات الثلاث التي ينبغي على المؤسسة التعليمية أن توليها العناية الكبرى، وعلى الوالدِين والمربين أن يقدّموا الاهتمامَ بها على ما سواها، لأنها على هذا القدر الهائل من الأهمية، ولأن الضعف في أي مرحلة من مراحل دراستها يَصعب تداركُه وإصلاحه، بخلاف الضعف في سائر المعارف والعلوم التي يَسهُل رتق فُتوقها وسد ثغراتها بالجهد اليسير في أي وقت من الأوقات. فما هذه اللغات؟

* * *

الأولى هي اللغة العربية، اللغة التي يحتاج إليها كل عربي ينطق بالعربية ويقرأ بها، اللغة التي بها يتواصل ملايين الناطقين بالعربية معاً، والتي تجعلنا قادرين على الوصول إلى ملايين الصفحات من تراثنا القديم وإنتاجنا المعرفي الحاضر.

الثانية هي اللغة الإنكليزية، لغة العصر بلا منازع، وهي لغة الإعلام والإنترنت والتجارة والبحث العلمي، ولا يكاد يستغني عنها متعلمٌ أو باحث جاد لأن أكثر المواد العلمية وأفضلها لا تتوفر إلا بها، ولأنها اللغة المهيمنة في عوالم العلوم المختلفة وفي الفضاء المعرفي الافتراضي.

الثالثة هي الرياضيات، لغة العلم، اللغة التي لا بد من إتقانها لدراسة كثير من العلوم، كالفيزياء والفلك والميكانيكا والديناميكا الحرارية والبرمجة وعلوم الحاسوب وأكثر فروع الهندسة، المدنية والميكانيكية والكهربائية والإلكترونية والنووية وهندسة الاتصالات.

* * *

لا ريب أن العلوم التي يتعلمها أولادنا في المدارس مهمة كلها، فليس المقصودُ التقليلَ من شأن أي منها أو الدعوة إلى إهماله، ولكنْ لا يقول عاقل أنها كلها في الأهمية سواء، فإن الطلاب يستطيعون استيعاب مقررات التاريخ والجغرافيا والعلوم والفقه في السنة الابتدائية السادسة مثلاً ولو لم يفهموا ما درسوه منها في السنة التي قبلها، لكنهم إن لم يستوعبوا مقررات اللغة والرياضيات في السنة الخامسة فلن يستوعبوا مقرراتها في السادسة وما بعدها.

لذلك ينبغي على المؤسسات التعليمية في بلادنا أن تهتم بمدرّسي اللغة العربية والرياضيات في المستويات التعليمية المبكرة، في المدارس الابتدائية والإعدادية. وسوف تأتي في حلقات هذه السلسلة حلقة عن "إكرام المعلمين والمعلمات" الذي أعتبره ضرورة وأساساً في التعليم الجيد، ولكني سأستبق الحديث الآن فأؤكد على ضرورة العناية الكاملة بمعلمي العربية والرياضيات ومعلماتها على وجه الخصوص، لأن الطلاب الذين يعانون من فهم الرياضيات واللغات في مراحل التعليم المتقدمة إنما يعانون لأنهم فقدوا بعض الأساسيات في المراحل المبكرة، لأنهم قصروا في دراسة هذه المواد في بعض السنوات، أو لأن معلميهم لم يكونوا في المستوى المطلوب، أو لأنهم تجاوزوا بعض الصفوف بالغش أو بالوساطات والشفاعات.

(وللحديث بقية)
خواطر في المدرسة والتعليم (14)

اللغات الثلاث: مفاتيح المعرفة الكبرى
2 من 2

إن كل علم من العلوم إنما هو تراكم لأجزاء صغيرة من المعرفة، وهذه الأجزاء في أكثر العلوم قطعٌ يُرصَف بعضُها بجوار بعض، ولا يؤثر في قدرة التلميذ على الفهم والتحصيل أن يَترك في الجدار فراغاً هنا وفراغاً هناك، إلا اللغات والرياضيات. هذه ليست أجزاؤها قطعاً متراصفة بل هي طبقات يرتفع بعضها فوق بعض، فإذا فُقدت طبقة لم يمكن رفعُ التي بعدها، وإذا ضعفت طبقة كاد ما فوقها من طبقات ينهار في أي وقت من الأوقات.

* * *

لو كانت أمامك موسوعة متعددة الأجزاء فسحبت أحد أجزائها، أيَّ جزء منها لا على التعيين، ثم فتحته عشوائياً لتقرأ أي مادة تعثر عليها، في الطب أو الفلك أو الكيمياء أو التاريخ أو التراجم أو البلدان أو الأدب أو ما شئت من موضوعات، فسوف تفهمها بغير عناء لأنها مادة متكاملة غير مرتبطة بغيرها. مثلاً قد تهتم بكوكب المشتري، فإذا قرأت مقالة الموسوعة عنه ستفهمها ولو لم تقرأ في حياتك شيئاً في علم الفلك ولم تعرف من المعلومات الفلكية إلا أقل القليل.

ولكن ماذا لو أنك كنت خالي الذهن تماماً من أي اطلاع على النحو ثم قرأت درساً عن الفاعل، فقرأت أنه مرفوع وأنت لا تدري ما الرفع، وأن علامة رفع الفاعل المفرد هي الضمة الظاهرة وأنت لا تعرف الضمة ولا تعرف غيرها من علامات الإعراب، وأن علامة رفع جمع المذكر السالم هي الواو وأنت لا تدري ما جمع المذكر السالم، وأن علامة رفع الاسم المنقوص هي ضمة مقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل وأنت لا تدري ما الاسم المنقوص... إلى آخر تلك المصطلحات التي لا تعرف معانيها لأنك لم تدرسها من قبل، فكيف تفهم مقالة الفاعل؟ ومثلها مقالات المفعول والحال وجزم الفعل المضارع وغيرها وغيرها من أبحاث النحو.

* * *

هذا هو الفرق الجوهري بين دراسة العلوم المختلفة ودراسة اللغات. أكثر العلوم يمكن البدء بدراستها من أي موضع فيها ويمكن القفز بين مفرداتها وأجزائها وترك فراغات بينها دون أن يؤثر ذلك تأثيراً خطيراً في فهمهما وهضمها (وإن يكن لكل علم سُلّمه الخاص الذي ينظم مفرداته ويرتب أبوابه ويساعد على فهمه وهضمه بطريقة أفضل من الدراسة العشوائية، هذه مسلَّمة لا شك فيها، ولكنها لا تعني استحالة قراءة وفهم أي جزء منه بمعزل عن سائر الأجزاء). اللغات وحدها لا يمكن للدارس التعامل معها بهذه الطريقة، لا يمكن إلا البدء بالدرجة الأولى في سلّمها ثم الارتقاء فيها درجة بعد درجة. إن بنيانها طبقات يرتفع بعضها فوق بعض كما قلت آنفاً، ولا يمكن رفع طبقة جديدة فيها على فراغ ولا على طبقة متهاوية متهافتة ضعيفة. هذه هي القاعدة الذهبية في تعلم اللغات، ومنها لغة العلم: الرياضيات.

لذلك أنصح الآباء والأمهات بالبدء بتعليم أطفالهم مبادئ الحساب والقواعد قبل المدرسة، بأبسط شكل ممكن. وكذلك فعلت أنا، فإني بدأت بتعليم أولادي اللغة العربية والرياضيات منذ الثالثة والرابعة، وكنت ربما بالغت حتى يتساءل بعض أصحابي عن قدرتهم على الاستيعاب فأقول: إن عقول الصغار أقدر على فهم المجردات من الكبار، وعالم الرياضيات يقوم على المفاهيم المجردة، فلو دخلَت أسسُ الرياضيات المجردة إلى عقل الصغير سيكون أقدرَ على تعلم القواعد والعمليات والعلاقات الرياضية المعقدة عندما يكبر. أما اللغة فإن استعداد الطفل الصغير لتعلمها يفوق استعداد الكبار بمراحل، وهذه "القدرة اللغوية المبكرة" تبقى في جذوتها حتى السادسة من العمر تقريباً، أي أن أفضل وقت لتعلم اللغة هو السنوات التي تسبق المدرسة، والدليل أن كل الناس يتعلمون لغاتهم الأصلية في السنين الأولى من أعمارهم. أما الإنكليزية فكان مذهبي دوماً هو تأخير تعلمها حتى تستقر العربية تماماً وتصبح هي اللغة المسيطرة على العقل الواعي واللاواعي، وبعدها يبدأ تعلم اللغة الأجنبية.

وهذه مسألة تربوية يكثر فيها الجدل، أيهما أفضل: البدء بتعليم الصغار اللغة الأجنبية في وقت مبكر أم تأجيلها لما بعد إتقان اللغة الأم؟ وقد خصصت لهذا الموضوع المهم، الازدواجية اللغوية (دغلوسيا)، حلقة في حلقات هذه السلسلة ستأتي قريباً إن شاء الله.
خواطر في المدرسة والتعليم (15)

بين تعلّم العلم وإتقانه

يرى كثير من التربويين أن المدارس العصرية تكاد تقتصر على محو الأمية ولا تقدم علماً حقيقياً للتلاميذ. وهذا الرأي قد يكون صحيحاً من وجه ولكنه ليس صحيحاً من وجه آخر، فلو عرّفنا الأمية بأنها "العجز عن القراءة والكتابة" فهو غير صحيح، لأن المدرسة تقدّم أكثر من مجرد محو هذا النوع من الأمية بكثير، أما لو عرّفناها بأنها "التمكن من العلوم المختلفة وامتلاك قاعدة معرفية متنوعة عميقة" فإنه سيكون صحيحاً قطعاً، لأن المدرسة بالكاد تقدم قدراً متواضعاً من العلم في أبواب المعرفة المختلفة.

فهل من سبيل لجعل أولادنا متمكنين من بعض العلوم، إن لم يكن منها كلها؟ لحسن الحظ: نعم، يستطيع الوالدون والمعلمون بالصبر والمثابرة نقلَ أولادهم وطلابهم من مرتبة "تعلم" العلم إلى مرتبة "إتقانه".

لنبدأ أولاً بمعرفة الفرق بين المرتبتين، وسوف أوضحه بمثال للتقريب. لعل كل واحد فينا يتذكر مغامراته الأولى راكباً دراجةً هوائية أو سابحاً في الماء. في تلك المرحلة يتعلم الراكبُ كيف يوازن نفسه على دراجته والسابحُ كيف يُبقي جسمه طافياً فوق الماء، ولكن أعصابه تبقى مشدودة وانتباهه مركزاً طول الوقت لأنه يُدير العملية بالعقل الواعي، بل بكل موارد العقل الواعي وطاقته. هذا ما يكون في أول الأمر، ثم تمضي الأيام ويتكرر العمل نفسه مرات بعد مرات، ومع كل تكرار يخف التوتر ويتضاءل القدر المطلوب من التركيز وينتقل العمل درجة على سلّم الوعي، حتى يكتمل انتقاله أخيراً من طبقة الوعي إلى طبقة اللاوعي، حيث تصبح العملية تلقائية طبيعية لا تحتاج لأي تركيز ولا تستهلك أي قدر من الجهد العقلي.

* * *

كذلك الشأن في كل المعارف والعلوم. خذوا اللغات على سبيل المثال: الذي يتعلم اللغة الأجنبية يُجهد عقله في أول الأمر وهو يؤلف كل جملة ينطقها بها، فيختار كلماتها من قاموسه المحفوظ كلمة كلمة، وربما رصفها بالطريقة التي يرصف بها مفردات لغته الأم فجاء سياقها غريباً في أذن المتحدث بها من أهلها. وكلما زادت ممارسته لها وحديثه بها لانَتْ على لسانه وازدادت تدفقاً في خاطره بلا تكلف، حتى تصبح أخيراً سليقة لا تكلّفَ فيها، وحتى يأتي يوم تكون هي لغةَ أحلامه في منامه وتفكيره في يقظته في بعض الأحيان، وربما سمع الجملة بلغته الأصلية أو باللغة الأجنبية فلم يدرك -للوهلة الأولى- بأي لغة سمعها.

كل علم من العلوم يخضع للقاعدة نفسها: الدرس المتكرر والممارسة الدؤوبة تنقل مسائله ومفرداته من الوعي إلى اللاوعي ومن سطح الذهن إلى طبقاته العميقة.

خذوا الفقه على سبيل المثال: لو سأل سائل عن مسألة وفي المجلس عالم متمكن وطالب علم مبتدئ فسوف يركز الثاني ذهنه ويسلسل أفكاره وينتقل بين أجزاء محفوظاته حتى يصل إلى الجواب، أما العالم فإنه لا يدري كيف تدفقت في ذهنه أجزاء المسألة وأمثالها وأحوالها وإذا جوابها مكتمل حاضر في طرفة عين. ولو طُرحت مسألة رياضية صعبة على أي منا -نحن عامةَ الناس- فسوف يُجهد عقله ويستحضر المعادلات والقوانين ويجرب حلولاً بعد حلول حتى يصل إلى الحل الصحيح، أما الرياضي المتمرس فإن عقله يقفز بين المعادلات والقوانين بلا تكلف وتتدفق في ذهنه الأرقام والعلاقات ويصل إلى حل المسألة بأهون سبيل. وكذلك الفرق بين الطبيب المتمرس الذي يفحص المريض في خمس دقائق فيدرك علّته وطالبِ الطب الذي يفكر ويَحار وينتقل من احتمال إلى آخر حتى يصل إلى تسمية المرض الحقيقي الذي أصيب به المريض.

* * *

فليس من قرأ كتباً في الفلك فلكياً ولا من درس مقررات في الطب طبيباً ولا من حفظ مسائل في الفقه فقيهاً، إنما يقال عن هؤلاء أنهم متعلمون، وأما العلماء الحقيقيون، الفلكي والفقيه والطبيب، فإنهم الذين أمضوا في دراسة العلم وممارسته الزمن الطويل.

فها هي القاعدة إذن: إذا أردتم أولاداً متعلمين فحسب فليقتصر اهتمامكم على دراسة المقررات المدرسية والنجاح في الامتحانات، أما لو أردتموهم مثقفين ثقافة حقيقية ومؤهلين ليكونوا علماء المستقبل (في أي فرع أو اختصاص) فاحرصوا على نقلهم من معرفة العلم إلى إتقانه، واهتموا بتشجيعهم على القراءة والمزيد من القراءة في العلوم والمعارف المختلفة.
خواطر في المدرسة والتعليم (16)

ثلاثية القراءة والذكاء والنجاح

أحزنُ كثيراً عندما أرى أباً جاهلاً يزعجه أن يجد في يد ابنه كتاباً أو رواية من غير المقررات المدرسية، فينهره ويقول: "اترك ما في يدك واهتم بقراءة دروسك"، ذلك لأن أمثال هؤلاء الآباء يحرمون أولادهم من وسيلة ثمينة لتنمية ذكائهم وزيادة فرص نجاحهم في الحياة.

إذا أردتم نصيحتي: شجعوا أولادكم على القراءة في أي شيء، أي شيء ليس فيه ضرر على الدين والأخلاق، ولا تُلزموهم بقراءة المقررات الدراسية حصراً. لماذا؟ لأن القراءة لا تزيد المعلومات فحسب، بل هي ترفع مستوى الذكاء وتنمّي القدرة على التفكير وتزيد فرص نجاح الإنسان في الحياة. هذه هي الخلاصة لمن يحب الخلاصات، وفيما يأتي التفاصيل لمن يهتم بالتفاصيل.

* * *

إن الاعتقاد الشائع بين عامة الناس هو أن القراءة تزيد المعلومات فحسب، وهذا تصور ناقص للفائدة التي تقدمها لنا القراءة، فزيادة المعلومات ليست سوى أحد وجهَي الفائدة التي نجنيها من القراءة، أما الفائدة الثانية (ولعلها الأهم) فهي "زيادة حصيلتنا من المفردات". إن القراءة المستمرة تقدم للقارئ كلمات جديدة وتساعده على استيعاب الكلمات التي عرفها سابقاً بطريقة أفضل، ومع الوقت تنمو حصيلته اللغوية بشكل متسارع، فبينما نجد أن الإنسان العامي لا يكاد يعرف من اللغة الواسعة التي تحتوي على مئات الآلاف من الكلمات إلا بضعة آلاف، ربما ثلاثة آلاف كلمة فقط، فإن الإنسان المثقف يعرف عشرات الآلاف، ربما ثلاثين ألف كلمة أو أربعين ألفاً أو خمسين.

الخبر العجيب ليس فيما سبق، بل فيما هو آت. إن القراءة تزيد حصيلة المفردات التي يعرفها الإنسان فتجعله أكثر ثقافة وقدرة على التعبير عن نفسه وأفكاره، ولكن المدهش والأكثر أهمية هو أنها تجعله أيضاً أكثر ذكاء ونجاحاً في الحياة.

في ثلاثينيات القرن الماضي أنشأ عالم النفس التجريبي الأمريكي، جيمس أوكونور، أنشأ مختبراً سماه "مختبر الهندسة البشرية" في معهد ستيفنز للتقنية (وهو جامعة بحثية تقع في قائمة أفضل خمس وسبعين جامعة في أمريكا) وبدأ بأبحاث طويلة لاكتشاف علاقة النجاح في الأعمال المختلفة بالمواهب والصفات الفطرية، كسرعة البديهة وقوة الخيال وحب الاستطلاع وحب المغامرة وروح المبادرة والذكاء الرياضي واللغوي على سبيل المثال. على أنه ما لبث أن وصل إلى اكتشاف لم يكن بالحسبان، فقد أثبتت دراساته أن صفة واحدة من بين الصفات كلها كانت عاملاً مشترَكاً بين الناجحين المتميزين في جميع المهن والأعمال، وهي صفة مكتسَبة وليست فطرية، بمعنى أن فرصة الحصول عليها وتنميتها متساوية لكل الناس تقريباً.

ما هي هذه الصفة العجيبة؟ إنها الحصيلة اللغوية، أو عدد الكلمات التي يعرفها الإنسان. بتعبير أوكونور نفسه: "إن زيادة عدد الكلمات التي يعرفها الإنسان هي مفتاح أساسي لفتح مغاليق طاقاته الكامنة".

vocabulary augmentation is a major key to unlocking human potential

* * *

ما لبث هذا الاكتشاف أن تبلور في واحدة من أضخم الدراسات الأكاديمية في العصر الحاضر، دراسة استغرقت أكثر من عشرين عاماً وشملت نحو ثلث مليون شخص من مستويات عمرية ودراسية مختلفة ومن اختصاصات ومهن متنوعة، وكانت النتيجة مدهشة تماماً: إن الأشخاص الذين يعرفون كلمات أكثر هم الأعلى في سلّم الحياة، وهم الأكثر في المراتب القيادية في المؤسسات والشركات والأنجح في الحياة الاجتماعية والعائلية.

جمع الباحثون في الدراسة مئة ألف كلمة يستخدمها الناس في كتاباتهم وأحاديثهم، ثم استخرجوا منها أقل مئة وخمسين كلمة دَوَراناً على الألسنة والأقلام، تلك التي تتكرر مرة أو مرتين في كل مئة ألف كلمة، فوجدوا أن طلاب المدارس الثانوية يعرفون بالمتوسط 76 كلمة منها فقط، ثم وجدوا أن طلاب الجامعات الذين استطاعوا الوصول إلى الدراسات العالية يعرفون منها 96 كلمة بالمتوسط، أما الذين تخرجوا بدرجات عالية في الجامعات فيعرفون 130 كلمة، وبعد عشرين سنة وجدوا أن الذين وصلوا إلى المراتب العليا في الشركات والمؤسسات والوظائف العامة والخاصة يعرفون نحو 143 من هذه الكلمات ويجهلون منها 7 كلمات فقط.

هذه الدراسات والاكتشافات الثورية غيّرت نظرتنا إلى القراءة، فقد استطاع العلماء والباحثون أن يربطوا إحصائياً عدد المفردات التي يعرفها الإنسان بمستوى ذكائه ومدى نجاحه في الحياة. وجدوا أن المرء كلما قرأ أكثر وعرف كلمات ومفردات أكثر يزيد ذكاؤه. لماذا؟ لأن التفكير يحتاج إلى كلمات، فلا أحد يستطيع أن يفكر بلا لغة وبلا كلمات، وكلما زادت الكلمات التي يعرفها المرء اتسع مجال تفكيره وزادت قدرته على الاستفادة من المعلومات.

إن السيطرة على الكلمات تعني السيطرة على المعلومات والأفكار، وتعني القدرة العالية على التفكير والتعبير، وأيضاً تعني التواصل الناجح مع الآخرين. وبالمحصلة وكما ثبت بالدراسات والإحصاءات: إن من يقرأ كثيراً يزيد مفرداته ويصبح أكثر نجاحاً في الحياة.

* * *
2025/10/26 13:37:39
Back to Top
HTML Embed Code: