Telegram Web Link
إذا اقتنعتم بما جاء في هذه المقالة فسوف تقبلون النصيحة الذهبية: املؤوا بيوتكم بالكتب واقرؤوا لأطفالكم وهم صغار، ثم عوّدوهم على القراءة وشجعوهم عليها وهم يكبرون عاماً بعد عام، لأن القراءة المستمرة ستزيد حصيلتهم من المفردات، وسوف تجعلهم -إذن- أكثرَ ذكاء ونجاحاً في الحياة.
خواطر في المدرسة والتعليم (17)

علاج ضعف الذاكرة
(1 من 2)

لا ريب أن الذاكرة إحدى أهم أدوات التعلم، والذين يحفظون جيداً يتفوقون في الدراسة غالباً ويحققون مستويات تعليم أعلى من أصحاب الذواكر الضعيفة.

صحيح أن التلقين الحرفي والحفظ النصي مما يُعاب على التعليم التقليدي في كثير من البلاد، لكننا اتفقنا على ضرورة حفظ المعلومات حفظاً إجمالياً، وعلى أهمية حفظ المعاني والأفكار، وحفظ المفاتيح الأساسية التي تشكل قاعدة أساسية في التعليم، بالإضافة إلى حفظ النصوص العالية في الشعر والنثر وحفظ شيء (ولو يسير) من الحديث والقرآن.

إذن فنحن لا يمكن أن نعيش بلا حفظ ولا يعيش أبناؤنا في مدارسهم دونه، ولكن "الذاكرة الضعيفة" شائعة جداً لدرجة أنها من البلاء العام الذي لا يكاد ينجو منه أحد، فهل من طريقة للتغلب على هذه المشكلة؟ لحسن الحظ نعم؛ إنها ليست مشكلة صعبة الحل، ولكي نعرف طريقة حلها علينا أن نفهم أولاً الطريقة التي تعمل بها الذاكرة البشرية.

* * *

للذاكرة ثلاثة مستويات، الأول هو "الذاكرة القصيرة الأجل"، وهي مثل "الذاكرة العشوائية" (الرام) في الكمبيوتر: تسجّل كل ما تستقبله حواس الإنسان (ما نراه ونسمعه ونشمّه ونلمسه وما ندركه بأي طريقة) على مدار ساعات اليوم وتحفظه حفظاً مؤقتاً لأجل قصير. وهو قدر مذهل من "المعلومات"، ولكي تدرك كم هو مذهل حاول أن تحصر ما تستقبله حواسك في أحد المواقف الحياتية العادية خلال عشر دقائق فحسب.

أنت تمشي الآن في طريقك لزيارة صديق، وعلى أحد جانبَي الطريق عمارات متجاورات، واحدة تتكون من طبقتين والتي بعدها من ثلاث طبقات وبجانبها بيت من طابق واحد، ولها نوافذ ذوات أشكال وأحجام وألوان متباينة، وأمام العمارات أشجار مختلفة الأطوال والأشكال. وعلى الجانب الآخر من الطريق متاجر وحوانيت متنوعة، فهذا بقّال مشغول بصَفّ الخُضَر والفواكه وتوزيعها في أكوام بَهِيّة الألوان، وبعده حلاق قعد على كرسيّه ولدٌ كثّ الشعر وعلى مقاعد الانتظار رجلان ينتظران، ثم كَوّاء يكوي الملابس بنشاط والبخارُ يتصاعد من أنبوبة مدّها خارج الدكان... الناس الذين يمشون في الطريق منهم قصير وطويل وسمين ونحيل، واحد يمشي مسرعاً والآخر متأنياً واثنان يسيران متجاورَين صامتَين ومجموعة يتسامرون. أصوات الناس من بعيد تختلط بأصوات ناس قريبين، ومن وراء ذلك أصوات الطيور وقطة تموء وولد يركض لاهثاً وصوت المذياع يصل من نافذة مطلة على الطريق وأصوات السيارات تأتي من بعيد...

* * *

إن كمية التفصيلات التي يستقبلها أي واحد من الناس في كل دقيقة على مدار اليوم مذهلة تماماً، و"أجهزة الاستقبال البشري" تنقلها كلها إلى الدماغ حيث تُحفَظ مؤقتاً في الذاكرة القصيرة، فإذا لم نفكر فيها سيدرك الدماغ أنها ليست مهمة فما يلبث أن "يمحوها" بعد قليل، وبذلك تنتهي وتنمسح كما تنمسح البيانات التي كانت في ذاكرة الكمبيوتر المؤقتة (الرام) عندما نطفئ الجهاز.

لكن ماذا لو أن ولداً طائشاً قفز فجأة وسط الطريق فصدمته سيارة عابرة وكسرت ساقه. هذه الصورة مع ما يرافقها من أصوات وانفعالات، هل سيمحوها الدماغ بعد خمس دقائق كما محا صوتَ قطة تموء ومنظر اثنين يتسامران؟ بالتأكيد لن تنسى صورة الحادثة بالسرعة نفسها، بل ستبقى في ذهنك بكل ما فيها من حياة وعنفوان ريثما تعود فتقصها على أهل الدار.

لماذا نسيت التفاصيل العابرة كلها وبقيت في ذهنك هذه الحادثة؟ لأنك "اهتممت بها" ولم تهتم بالمشاهدات الأخرى، وأنت عندما تهتم بمعلومة ما فإنك تفكر بها وتقلبها في ذهنك، تماماً كما يحصل عندما تفتح دليل الهاتف وتقرأ فيه رقماً تحتاج إليه، فإنك تردده في ذهنك عدة مرات قبل أن تقفل الدليل، فيتوقع الدماغ أنك ستحتاج إليه في وقت لاحق وينقله إلى "ذاكرة وسطى" تدوم بين دقائق وساعات. فإذا نجحت في الاتصال بالرقم وتوقفت عن التفكير فيه فسوف يستنتج الدماغ أنك لم تعد بحاجة إليه فيمحوه من الذاكرة الوسطى، أما لو داومت على استرجاع المعلومة في ذهنك ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم فسوف يقتنع الدماغ بأنك تريدها فعلاً وأنك حريص على الاحتفاظ بها، وعندئذ سينقلها إلى المستوى الثالث من مستويات الذاكرة، المستوى الأعلى.

هذه الذاكرة الثالثة هي "الذاكرة الطويلة الأجل"، وهي ذاكرة الحياة الطبيعية وذاكرة العلم الحقيقية، الذاكرة التي نختزن فيها التجارب والمعلومات والانطباعات التي تدوم على مر السنين.

(للحديث بقية)
خواطر في المدرسة والتعليم (18)

علاج ضعف الذاكرة
(2 من 2)

بعدما عرفنا الطريقة التي تعمل بها الذاكرة البشرية ننتقل إلى السؤال المهم: كيف نستطيع معالجة الذاكرة الضعيفة؟

لنعترف أولاً بأن "الذاكرة الخارقة" التي لا تنسى أبداً ظاهرة نادرة، فلا نطلب من أنفسنا امتلاكها ولا نطلب ذلك من أولادنا وتلامذتنا، لكي لا نعجزَ ويعجزوا عن تحقيق المستحيل فنُصابَ ويُصابوا بالإحباط.

وبهذه المناسبة أحب أن أعبّر عن رأيي بالحكايات التي نقرؤها في تراثنا عن بعض القدماء الذين كانوا يحفظون حفظاً هائلاً يؤهلهم لدخول موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية، وهو رأي غريب قد ينتقده كثيرون. فأنا أظن أن طريقةَ عرض تلك الحكايات على أولادنا وناشئتنا وتقديمَها كحالات نموذجية قابلة للمحاكاة لن يتسبب بالنتيجة الإيجابية التي يرجوها مروّجوها، بل بنتائج سلبية ضارة، لأنها تنقلهم إلى عوالم خيالية كما تصنع قصص البطولات الخارقة الخرافية لشخصيات سوبرمان وأمثالها. فالصغير يظن أن بوسعه الوصول إلى هذه الدرجة من القوة العقلية أو تلك الدرجة من القوة البدنية في هذه الحالة وتلك، ثم يصطدم بالحقيقة مع كل محاولة بعد محاولة حتى ينتهي إلى اليأس والإحباط.

البديل الأجود عن تلك الأخبار العجيبة هو قصص الناس العاديين الذين لا يملكون قدرات خارقة، غيرَ أنهم حققوا إنجازات استثنائية بالشجاعة والإقدام وحلّقوا في آفاق العلم بالصبر والمثابرة، وهي صفات كَسْبية يستطيع أن يتحلى بها أي إنسان، بخلاف القدرات الحفظية الخارقة التي لا توهَبُها سوى قلّة قليلة من الناس.

* * *

بين وقت وآخر يشكو لي شخص ما من ذاكرته الضعيفة، فأطمئنه على الفور بأنه إنسان عادي طبيعي جداً، أقول له: رائع، صرنا اثنين! هل تظن أنني أملك ذاكرة أفضل من ذاكرتك؟ لو أنني أحفظ كل ما أقرؤه لكنت موسوعة حية تمشي على رجلين، لكنني أنسى أكثره، لذلك صرت على ما أنا عليه. على أن المرء لا يستسلم لضعفه وعجزه بل يغالبهما بالجهد والمثابرة، فماذا يصنع؟ ماذا تصنع لكي تتغلب على مشكلة الذاكرة الضعيفة؟ إليك الحل من طريقين.

أولاً: أكثر من "الإدخال" حتى تكون كمية "الباقي بعد التبخّر" كافية لتشكيل إنسان مثقف بالحد الأدنى، فإذا قرأتَ ألف صفحة في الشهر ونسيت تسعاً من كل عشر منها ستبقى في ذاكرتك مئةُ صفحة، فهذه ألفٌ في العام، وهكذا فسوف تتراكم المحفوظات الباقية في ذهنك (بعد الفاقد) عاماً بعد عام فتتحول إلى جبال من المعرفة على مر الأيام. ولا تستهن بأي قليل يبقى في ذهنك بعد النسيان، فإن القليل مع القليل كثير. على أن في المسألة وجهاً إيجابياً لطيفاً: إننا لا ننسى كل ما نقرؤه تماماً، بل ننسى التفاصيل فقط وتبقى الصور الإجمالية والملامح العامة في الذاكرة، وكلما قرأنا شيئاً جديداً يتراكم فوق القديم وينشّط الخاملَ المتواري وراء جُدُر النسيان.

* * *

إذن فإن الطريقة الأولى في علاج ضعف الذاكرة هي "طريقة تعويضية"، بمعنى أنك تعوض المعلومات المفقودة التي يضيّعها النسيانُ باكتساب معلومات أكثر وأكثر، وكلما قرأت أكثر زاد بالتراكم ما يَثبت في ذهنك ويبقى على مر الزمان.

الطريقة الثانية أهم، وهي تعتمد على ما قرأناه في الجزء الأول من هذه المقالة. فنحن نستطيع تثبيت المعلومات في أذهاننا بمقدار ما ننجح في إقناع الدماغ بأنها "معلومات مهمة" بالنسبة إلينا، والدماغ يقتنع بذلك حين يرى أننا نكرر التفكير في المعلومة ونقلّبها في عقلنا ونعود إليها بين وقت وآخر، وكل ذلك نستطيع تحقيقه بسهولة نسبية إذا أتقنا فن "القراءة الجيدة" التي تمنح القارئ فرصة أكبر لتثبيت المعلومات وحفظها في الذاكرة ذات الأجل الطويل.

تقولون: ولكن ما هي القراءة الجيدة التي تعنيها؟ الجواب بسيط: إنها القراءة البطيئة المتأنية. وأنا أعلم أن دعوتي إليها ستبدو مضحكة في عصر صارت "القراءة السريعة" فيه مزيّة يروَّج لها وتُعقد من أجلها الدورات، فكيف أدعو إلى عكسها؟ ولماذا أفعل؟ لسببين، أولهما لا علاقة له بموضوع المقالة وإنما أذكره عرَضاً، وهو ما أسمّيه "متعة القراءة"، تلك المتعة التي لا يعرفها إلا القرّاء المدمنون، فإذا طُلب من أحدهم قراءة كتب أكثر بوقت أقصر يقول: لكن هذا التعجّل يُذهب متعتي بالقراءة كما يضيّع استعجالُ المضغ والبلع متعةَ الأكل اللذيذ على الآكلين، فكما يستمتع "ذَوّاقةُ الطعام" بكل لقمة يأكلها على مهل فكذلك يستمتع "ذواقة القراءة" بكل جملة يقرؤها متأنياً ويعطيها حقها من "المضغ العقلي" قبل البلع!

السبب الآخر له علاقة مباشرة بموضوع هذه المقالة، فسرعة القراءة تتناسب عكسياً مع فرصة بقاء المعلومات في ذهن القارئ لوقت أطول، والذي يقرأ بسرعة شديدة أقلُّ قابليةً للاحتفاظ بالمعلومات التي قرأها مقارنة بما يبقى في ذهن القارئ المتأني.

* * *
فهذه -إذن- هي نصيحتي الختامية لكل قارئ يتمنى رسوخ المعلومات في ذهنه وثباتها فيه لوقت طويل: اقرأ متأنياً. عندما تقرأ قف عند العبارات المهمة وتفكّرْ فيها برهة قبل الاستمرار في القراءة من جديد، وإذا مررت بجملة مفتاحية فيها معلومة جوهرية فكرر قراءتها عدة مرات مع التأمل والتفكير. وفيما تَمضي في القراءة حاول أن "تشجّر" في ذهنك الموضوع الذي تقرؤه، ولا سيما إذا كان طويلاً متشعباً، فاعزل الأفكار الرئيسية عن الأفكار الفرعية ورتبها في جذع وأغصان وفروع، وكلما قرأت فكرة جديدة ضعها في موضعها الصحيح ضمن "شجرة الموضوع الإجمالية المتخيَّلة". وحاول أن تربط المعلومات المجردة بالصور (صور الأشخاص والأماكن والأحداث) فتصبح الأفكار ثلاثية الأبعاد وكأنها صور في فِلْم وثائقي تستعرضه بعين الخيال.

وأخيراً احرص على التوقف في "محطات"، فكلما فرغت من فصل من فصول الكتاب اطوه واجلس برهة متأملاً مسترجعاً خلاصة ما قرأت، وهذه "الوقفات الاسترجاعية" من أفضل الحِيَل التي تقنع عقلك بحاجتك إلى المعلومات التي قرأتها، وهي تضاعف عدة مرات فرصةَ انتقالها إلى الذاكرة الطويلة الأجل ووقايتها من النسيان.

* * *

بقي عندي استطراد صغير عن "تدافع المحفوظات" ومساحة الذاكرة الافتراضية في الذهن البشري، وسوف أتحدث عنه في المقالة الآتية إن شاء الله.
خواطر في المدرسة والتعليم (19)

تدافع المحفوظات وسعة الذاكرة البشرية

في رواية "دراسة في اللون القِرمِزي" التي "وُلد" فيها المحقق الشهير شيرلوك هولمز في عالم الأدب يصفه لنا صديقُه وراوي مغامراته الدكتور واطسون قائلاً: إن حماسته للقراءة متميزة وثقافته العامة واسعة ودقيقة بشكل استثنائي، إلا أن جهله الكامل ببعض العلوم يثير الدهشة تماماً كما يثيرها علمُه الواسع ببعضها الآخر. فقد بدا أن ما يعرفه عن الأدب المعاصر والفلسفة يكاد يكون معدوماً، ووصلت دهشتي إلى الذروة حين اكتشفت أنه لم يسمع بنظرية كوبرنيكوس، فقد بدا لي أمراً في غاية الغرابة أن يعيش إنسانٌ متحضر في أواخر القرن التاسع عشر ولا يعرف أن الأرض تدور حول الشمس!

وبعدما استمع هولمز من صديقه لشرح مفصل عن النظام الشمسي قال: أمَا وقد عرفتُ هذه المعلومات الآن فسيكون عليّ أن أبذل جهدي لأنساها.

استغرب الدكتور واطسون وهتف باستغراب: لتنساها؟! فشرح هولمز قائلاً: إن عقل الإنسان يشبه مخزناً صغيراً تخزّن فيه ما تختاره من متاع، والأحمق هو من يحشوه بكل ما يعثر عليه، فيمنع المعلومات التي قد تنفعه من العثور على مكان وسط الزحام، أو يختزنها بغير ترتيب مع الكثير من الأشياء الأخرى فيواجه صعوبة في الوصول إليها. أما الشخص الحاذق فهو الذي يحرص على اختيار ما يضعه في مخزن عقله، فلا يُدخل إليه شيئاً سوى ما يمكن أن يساعده في عمله، وهو يجمع منها مجموعة منوعة كبيرة ويضعها كلها في ترتيب متقَن. من الخطأ أن نظن أن تلك الغرفة الصغيرة تتمتع بجدران مطّاطة تتسع إلى ما لا نهاية، ومَن ظن ذلك سيأتي الوقت الذي ينسى فيه شيئاً يعرفه مقابل كل معلومة جديدة يضيفها!

* * *

ليس ما سبق حقاً كله وليس باطلاً كله، فالعقل البشري أوسع بكثير مما صوره مؤلف الرواية السير آرثر كونان دويل على لسان بطله الشهير، وقدرةُ الإنسان الطبيعي على التذكر تتيح له أن يبحر في عوالم المعرفة المختلفة بغير حساب وأن يجمع في شباكه ما شاء من المعلومات، فهو لن يواجه مشكلة في تخزينها مهما بلغت من الضخامة والاتساع، ولكنه لا بد أن يواجه -في هذه الحالة- مشكلة في معالجتها واسترجاعها عند الحاجة إليها.

هذه المشكلة أسميها "تدافع المحفوظات"، ففي حين أن العقل البشري يتسع -بقدراته الهائلة- لكميات يصعب حصرُها من مفردات المعرفة فإن طريقة تخزينها في الذهن ليست سواء. إنها تخزَّن في طبقات بعضها فوق بعض، فما اقتنع العقل بأن حاجتك إليه أكثر من غيره فإنه يحفظه في الطبقات العليا ليسهّل وصولك إليه، وما شعر العقل بأنك لا تحتاج إليه حاجة دائمة فإنه يواريه في طبقات وسطى وسفلى في خزائن الذاكرة.

وهكذا فإن المعلومات الكثيرة التي نحفظها تتدافع للفوز بالصدارة، والذي يفوز منها بالمواقع المتقدمة هو الأكثر حضوراً وحياة في أذهاننا. ثم إن هذه المعلومات التي تستأثر بتفكيرنا واهتمامنا الواعي تنتقل تلقائياً إلى العقل اللاواعي، وهو واحد من أهم أدوات العقل البشري في معالجة المعلومات، فيجدها الواحد منا حية دَوّارة في ذهنه كلما شرد وانقطع عن التفكير الواعي، وربما رآها في أحلامه وتولدت لها حلول في المنام.

* * *

الخلاصة: إن العقل البشري جهاز مدهش يملك قدرات يصعب تخيل حدودها ويستطيع استيعاب كميات هائلة من المعلومات، ولكن معالجتها واستحضارها ليسا بالسهولة نفسها في الحالات كلها، فإنها تتزاحم ويدفع بعضها بعضاً، فيستقر بعضٌ في موضع قريب والبعضُ الآخر في موضع بعيد، اعتماداً على درجة الاهتمام والمراجعة والتفكير.

فإذا عرفنا ذلك كله صرنا أكثرَ حرصاً وأدق انتخاباً وانتقائية في اختيار الموضوعات والمسائل التي تشغل اذهاننا وتستأثر باهتمامنا الأعظم. مثلاً سيقتصد أولئك الذين يحبون الرياضة وكرة القدم في متابعة أخبارها والاهتمام بها حتى لا تنشغل الصفوفُ الأولى في مقاعد الذاكرة بأخبار نجوم الكرة والمباريات، وكذلك سيفعل الذين يستأثر باهتمامهم عالم السيارات أو ما يسمى عالم الفن والمشاهير.

بل إن العلوم الحقيقية والمعارف الجادة نفسها سوف تنزل عندئذ منازلها التي تتفق مع أهميتها بالنسبة لكل واحد من المثقفين والقراء، فتتسع بذلك درجة استفادته من ذاكرته وقدراته العقلية التي أنعم بها عليه الله.
الخازوق الثالث

الذي صنعته النصرة في سوريا صنعته قبلها داعش في سوريا وصنعته القاعدة قبل ذلك في العراق. الخازوق نفسه يتكرر للمرة الثالثة، الخطة ذاتها بكل تفاصيلها المملّة الكئيبة: إنهاء الفصائل الثورية واحتكار السلاح ثم تسليم الأرض للأعداء.

فهل بقي إلى اليوم أحد لم يدرك أن هذه التنظيمات الوظيفية لم توجَد أصلاً ولم تُمنَح الحصانة وتُمَدّ بأسباب البقاء إلا لتنفيذ هذا الهدف بالذات؟ هل بقي من يشك بعمالة الجولاني أو يرجو منه أي خير للثورة ولسوريا وللناس؟

أمّا أسخف كلمة قيلت قط وأدعاها إلى الاشمئزاز فهي قول بعض فصائل الشمال أن الجولاني لم يسمح لها بدخول إدلب للدفاع عن الأرض والناس. وَيْحَكم يا هؤلاء! وهل سمح الأسد لأحرار سوريا بالثورة عليه وقتال جيشه يوم ثار أحرار سوريا على الأسد وقاتلوا جيش الأسد المدجج بالسلاح؟!

ما أسخفَ هذه الدعوى وما أتفه هذا العذر، ويا خيبة الثورة بمثل هذه الفصائل وأمثال هؤلاء القادة الذين ماتت النخوة في قلوبهم الواجفة؛ يرون بأعينهم مأساة بلدهم وأهلهم ثم ينتظرون الأمر بالقتال من داعم متردد فاشل والإذن بالدخول من عدو الثورة اللدود!

واأسفاه على ثورة عظيمة انتهت مفاتيحها بأيدي حفنة من الأقزام!
إرادةٌ لا تنكسر وثورةٌ لا تموت

التطورات الإيجابية والإنجازات المدهشة التي تحققت في الأيام الثلاثة الماضية أكدت سبعَ حقائق جوهرية في الثورة السورية، حقائق عرفها أهل الثورة قبل اليوم ثم أضحت اليوم من اليقينيات والمسلّمات:

1- الثورة ما تزال حية، لم يتَخَلّ عنها أصحابُها ولم تَمُتْ في قلوب أبنائها رغم كل الضغوط والابتلاءات، ولن تموت بإذن الله.

2- الشعب السوري الذي خرج على واحد من أعتى أنظمة القمع والإجرام في العصر الحاضر كان يملك ما يكفي من البطولة والشجاعة والإرادة والعزيمة يوم خرج في ثورته أول مرة، وما زال يملك القدر الأوفر منها رغم الجراح والآلام.

3- القوة الحقيقية على الأرض هي الجيش الحر الذي حمل الثورة في انطلاقتها المبكرة، على ما أصابه من آفات وما تلبّسته من نقائص، فهو أمل الثورة اليوم كما كان أملها في سنوات الثورة الأولى.

4- تجار الدين ليسوا من الثورة ولا يُرجى منهم أي خير، وهم لا يجيدون سوى قتال الفصائل الثورية وإنهاك الحاضنة الشعبية وتسليم المناطق المحررة للأعداء، وبيع الأوهام والشعارات التي كانت لها سوق رائجة ذات يوم ثم قَلّ مشتروها فما عاد ينطلي خداعُها إلا على السذّج والمغفلين.

5- الإرادة الحرة تصنع المستحل، والنصرُ ليس نتيجة حتمية لكثرة السلاح ولا الهزيمةُ نتيجة حتمية لقلّته. وإن يكن للسلاح القوي الكثير دور لا يُنكر، إلا أن القلب المؤمن والعزيمة الصادقة هما الفيصل الحقيقي بين الانكسار والانتصار.

6- العمل الجماعي هو الأمل الوحيد لإنقاذ الثورة واستعادة ألَقها وعنفوانها الضائع، وأساسُ العمل الجماعي وأسّه المتين هو القرارُ الموحد في إدارة المعركة والخطةُ الواحدة في الحراك العسكري وإقامةُ العلاقة مع الداعمين على أساس الشراكة وتكامل المصالح لا على التبعية والانقياد.

7- الأمل الحقيقي -بعد الأمل بالله- هو في الذات وليس في الداعمين والأصدقاء، فما حَكّ جلدَك مثل ظفرك ولا حرّر أرضَك غيرُ جيشك، ولن يحمل هَمَّ ثورتك وشعبك أحدٌ سواك.

(وللحديث بقية)
حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة
(1)

لا أحب بيعَ الوهم ولا أرتضي لنفسي أن أكذب على الناس، ثم إنني أزدري الذي يقف على رأس أصحاب البلاء ويهتف بهم: ألم أقل لكم؟! هذا عملٌ دنيء لا يصنعه إنسان نبيل. فلمّا قيدت نفسي بهذه القيود الثلاثة لم يبقَ ما أكتبه عن الثورة، فتركت الكتابة فيها منذ شهور طويلة قاسيت فيها ما قاسيت من تأنيب الضمير وعانيت ما عانيت من ضغط الأصدقاء وشماتة الأعداء، حتى إذا برقت اليومَ بارقةُ أمل وأشرفت الثورة على لحظة تاريخية فارقة لم أجد بداً من كتابة كُليمات أرضي بها ضميري وأعذر بها نفسي أمام الله والناس.

إن المكابرة والإنكار سلاح الأغبياء والجبناء، فمَن استثقل العلاج وخاف تبعاته المؤلمة أنكر مرضه، ومن جهل علّته لن يداويها أبداً وسوف يقضي نحبَه فريسةً لها في يوم من الأيام! ثم إن أهل الإدارة يقولون إن أول خطوة في حل أي مشكلة هي الاعتراف بها، وأضيف من عندي: الاعتراف الصريح الشجاع الذي يشخّص المرض تشخيصاً جريئاً بعيداً عن المداراة والمجاملات.

* * *

لقد خسرت الثورة كثيراً من الفرص وكثيراً من المكاسب والإنجازات وكثيراً من الأصدقاء، وخسرت أيضاً كثيرين كثيرين من أنصارها على الأرض. لو قلنا إن الثورة لا تعيش اليوم أحسن أيامها لأصبنا، وسوف نكون أكثرَ صواباً لو قلنا إن حالة الثورة لم تكن قط بهذا السوء، وسوف نكون أكثر صواباً مرتين لو قلنا إن الثورة أشرفت على الهلاك لولا لطف الله وثبات ثلة من الصادقين المصابرين على الجبهات. لا أعني جبهات القتال حصراً، فكل من يعمل في دعم الثورة وحاضنتها بأي صورة وبأي طريقة هو على جبهة من الجبهات.

نعم، الثورة في حالة خطيرة ومرحلة عسيرة، ولكنها لم تصل بعدُ إلى خط النهاية، ولئن خسرنا الكثير فإن ما خسره عدونا أكثر، فالطاغية المجرم لم يعد يملك من أمره شيئاً ولا يكاد يحكم في سوريا كلها سوى غرفة نومه والمطبخ والحمّام! لقد بات خادماً، مجرد خادم صغير حقير في بلاط أسياده الروس والإيرانيين. صحيحٌ أن سوريا لم تصبح ملكاً لأهلها الأحرار، ولكنها أيضاً لم تعد ملكاً لبشار وعصابة بشار، قتله وقتلهم الله.

لم تَنتهِ الثورة بعدُ ولن تنتهي ما بقيت في أيدينا رقعة من الأرض نرفع عليها رايتها ونتنفس فيها هواء الحرية العليل، وما بقي لثورتنا رأسُ جسر يمكن أن نطلق منه عمليات التحرير من جديد. لم تنتهِ الثورة بعدُ ولن تنتهي ما بقي فيها من يحمل همّها ويرفع رايتها ويضحي في سبيلها. وهم كثيرون، أعرف منهم من يتصاغر المرء في جَنْب ما يصنعون؛ الذين يبيتون على الجبهات في البرد والناس في الدفء نائمون، الذين يسعون في حاجات المهجّرين والمحتاجين وسواهم في مصالحهم هائمون، الذين لا يعرفون غير الثورة وهموم الثورة وغيرهم بهموم الدنيا منشغلون وفي دروب الحياة ضائعون، الذين يُخرجون من جيوبهم المال واللائي ينزعنَ الحليّ من أيديهنّ فيقدّمنَ ويقدمون للثورة أكرم ما يملكنَ ويملكون.

* * *

نعم، لقد خسرنا الكثير ولكننا ما نزال نملك الكثير؛ نملك قلوباً متعَبة تنبض فيها روحُ الثورة وتتدفق فيها أشواق الحرية، ونملك حاضنة منهكة ما زالت تملك إرادة الصمود وتأبى الاستسلام، ونملك أرضاً محررة تآكَلَ أكثرُها وبقي منها كثير، وما نزال نملك علاقات ومواردَ وفرصاً متجددة ومصالح متقاطعة مع الداعمين.

ولكن علينا أن نعترف بشجاعة: إن الفرص تتضاءل والموارد تتآكل والوقت يضيق. ونعترف بشجاعة أكبر: هذا الواقع المر الذي نعيشه اليوم إنما هو حصاد الزرع الذي زرعناه بأيدينا لسنوات، فمن زرع الشوك لن يحصد الورود والأزهار. ونعترف بأم الحقائق: لن تنجو ثورتنا بغير إصلاحات جراحية جوهرية، فإذا بقيت الظروف التي أنتجت الواقع الأليم القديم على حالها فسوف تنتهي بنا أيُّ جهود متجددة إلى النهايات نفسها. فإما أن نغير الظروف لكي ننتج واقعاً جديداً مختلفاً ينقذ الثورة بإذن الله، أو تبقى الظروف نفسها فتعيد إنتاج الواقع الخطير المرير لا قدّر الله.

اليوم تشققت في جدار المحنة الصُّلب شقوق تسربت منها فرصة تاريخية، لو أحسنّا استثمارها فسوف نستعيد ألَقَ الثورة ونضمن لها مستقبلاً أفضل. وحتى لا تضيع هذه الفرصة فنبكيها بكاء أبي عبد الله الصغير على المُلك الضائع، حتى لا نبكي دماً يوم لا ينفع البكاء بالدموع، من أجل ذلك سأكتب بضع كلمات في منشورات قليلة آتية، ثم لعلي أعود إلى الصمت من جديد فأريح مني الأعداء والأصدقاء على السواء.

(وللحديث بقية)
حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة
(2)

القراءة المتأنية للموقف التركي تدل على انقلاب جذري أنتجته تراكمات عديدة ليس هنا مجال الإسهاب فيها، وكانت محصلته اقتراباً من المحور الأمريكي وابتعاداً عن المحور الروسي الإيراني. وهذا يعني أن الموقف التركي صار أكثر انسجاماً مع الثورة وأن مساحة المصالح المشتركة عادت إلى الاتساع بين الطرفين.

هذه الظروف تمثل ما يمكن أن نسميه فرصة جيدة للثورة لو أنها جاءت قبل سنتين وثلاث سنين، أما الآن والحال هو الحال فإننا ينبغي أن نصفها بوصف أكثر دقة: إنها فرصة تاريخية مصيرية قد يترتب على حسن استغلالها إنقاذ الثورة من الانهيار بإذن الله، أو المزيد من الخسائر لو لم نحسن استغلالها لا قدّر الله.

* * *

لنتفق أولاً على حقائق مهمة يعرفها الجميع، وإنما أستعرضها هنا بإيجاز من باب التوكيد والتذكير:

لا الداعم مسؤول عن ثورتنا ولا نحن مكلفون برعاية مصالحه، فالدول والثورات ليست جمعيات خيرية، وهي لا تقدم شيئاً إلا من أجل مصالحها بالدرجة الأولى. عندما تدخلت تركيا في سوريا كانت تبحث عن مصالحها، ولحسن حظنا وسوء حظ النظام فإن مصالحها تقاطعت مع مصالحنا بدرجة كبيرة. أيضاً عندما تدخلت روسيا في سوريا كانت تبحث عن مصالحها، ولسوء حظنا وحسن حظ النظام تقاطعت مصالح روسيا مع مصالحه بدرجة كبيرة. وفي الحالتين لم تكن العلاقة متكافئة بين الطرفين، فروسيا هي الطرف الأقوى في العلاقة مع النظام وتركيا هي الطرف الأقوى في العلاقة مع الثورة. وفي الحالتين أيضاً كان الطرف الأضعف بحاجة حقيقية للطرف الأقوى، النظام كان بحاجة للدعم الروسي بعدما أشرف على الانهيار، والثورة صارت بحاجة لتركيا بعدما تحولت معركتها مع النظام إلى حرب مفتوحة مع روسيا وإيران.

لكي نستمر في المقارنة: النظام قدم لروسيا كل التنازلات التي طلبتها منه لكي يحافظ على وجوده في الحد الأدنى، ولكنه كان يبذل جهده -في الوقت نفسه- لتقليص حجم خسائره في هذه العلاقة غير المتكافئة وزيادة حجم مكاسبه، واستثمر بأكثر دهاء ممكن حاجةَ حليفين مختلفين لخدماته وتنازلاته، فمارس الابتزاز الخفيّ ولعب على المتناقضات وحقق مكاسب نسبية كثيرة.

بالمقابل تعالوا ننظر إلى الثورة. منذ البداية تعاملت بعض القوى الثورية مع الداعمين بطريقة حَدّية وبمنطق الاستعلاء، فكان المطلوب من الحليف دعماً غير محدود مقابل صفر تنازلات. الفصائل التي انتهجت هذا المنهج تأثرت بتكوينها الأيديولوجي وخلطت بين منهج الدعوة ومنهج الثورة، فلم تلبث أن خرجت من معادلة التوازنات الثورية كلها لأن العلاقات الدولية لا تحتمل المواقف الحدّية الصارمة التي حبست نفسها فيها وحاولت فرضها على الآخرين.

فريق آخر في الثورة ذهب إلى النهاية المقابلة، فانبطح للداعم وتحول إلى خادم مخلص له فخسر احترامه وثقته، لأن من لا يكون حريصاً أميناً على مصالح نفسه لن يكون كذلك مع الآخرين. وخسر أيضاً قدرته على خدمة مصلحة الثورة عندما فقد قراره الثوري، فحُرمت منه الجبهات الساخنة في وقت اشتدت فيه حاجتها إلى الدعم والمساندة والمساعدة، وكان لتقصيره في تقديم ذلك كله أثر واضح في انهيار الجبهات.

* * *

كلا الموقفين ألحقا الضرر بالثورة، فلا الذين أفرطوا بالتشبث بما اعتبروه ثوابت استطاعوا أن ينفعوا ثورتهم، ولا صنع ذلك الذين فرّطوا بمصالح الثورة وقدموا عليها مصلحة الداعم الخارجي. فكيف يمكن تدارك هذه الحالة وما الذي نستطيع أن نستفيده من تركيا في هذه الأيام المصيرية؟

إن تركيا تمر بمرحلة انقلاب إستراتيجي في علاقتها مع روسيا وقد ازدادت مساحة الخلاف والتناقض بينهما في كل الملفات، في سوريا وليبيا والقرم وأوكرانيا، ولكن أحداً لا يستطيع أن يضمن استمرار هذه الحالة لوقت طويل، فقد تبقى كذلك لسنة وسنتين وقد تتحسن العلاقات بعد شهر أو شهرين، وهذا يعني أن على الثورة أن تتحرك بحكمة وبسرعة للاستفادة من الموقف التركي الجاد والصارم لتحقيق مكاسب ثورية على الأرض.

المكاسب المطلوبة يمكن حصرها في نوعين، حماية المناطق المهددة ومنعها من السقوط واسترجاع المناطق التي سقطت منذ وقت قريب (كمعرة النعمان) لأن سيطرة النظام وحلفائه عليها ما تزال هشة واسترجاعها سهل نسبياً. لتحقيق هذه المكاسب يجب على فصائل الجيش الوطني أن تنشئ علاقتها مع الطرف التركي على التكافؤ والاحترام المتبادل والقرار المستقل والتعاون في المساحات المشتركة، فالطرف التركي مسؤول عن مصالحه وعليه أن يسعى لتحقيقها ونحن مسؤولون عن مصالحنا وعلينا أن نسعى لتحقيقها، ومن الواجب على كل واحد من الطرفين أن يهتم بمصالحه دون الإضرار بمصالح الطرف الآخر.

* * *

الخلاصة: لقد كان الارتهان الكامل لأوامر الداعمين الخارجيين وفقدان القرار الثوري أحد أسباب الانهيار السابق، وإن استرجاع القرار الثوري المستقل هو أفضل الأعمال التي يمكن عملها لعكس الانهيار ووقفه، وهو الذي سيمكّننا من استثمار الظروف الجديدة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من انتصارات بإذن الله.

(وللحديث بقية)
حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة
(3)

هل تعلمون متى بدأ انهيار الثورة ومتى بدأ سقوط إدلب؟ لا بد أن تتفاوت الأجوبة لأن لكل واحد "تأريخه الخاص" للثورة وحوادثها، أما أنا فأحفظ تاريخين حزينَين لحادثتين مشؤومتَين، أعتبر أولاهما البدايةَ الحقيقية لانهيار الثورة بعد صعودها الرائع، والثانيةَ البدايةَ الفعلية لمسلسل سقوط إدلب والشمال الذي نعيش أحدث فصوله في هذه الأيام العصيبة.

الحادثة الأولى هي الجريمة التي ارتكبتها داعش في إعزاز في تشرين الأول عام 2013، عندما فتكت بلواء عاصفة الشمال على مرأى ومسمع من فصائل ثورية كبيرة من بينها أحد أكبر فصائل الثورة في ذلك الوقت. كانت تلك أول تصفية قسرية لفصيل ثوري أبلى في الثورة أحسن البلاء وأثخن في العدو غاية الإثخان، فتشرد الفصيل وبقي في سجلات التاريخ الموقفُ النبيل العظيم الذي وقفه قائدُه الشهيد عمار داديخي من أجل أسيرات الثورة (اللائي لم يجدنَ من سائر فصائل الثورة ما يليق بهنّ من اهتمام، هُنّ وأسرى الثورة جميعاً، فبقي هذا الملف الكئيب عاراً في أعناق أكثر فصائل الثورة حتى اليوم).

الحادثة الثانية هي الجريمة التي ارتكبتها عصابة النصرة في الأتارب والفوج 46 في آخر شباط 2015، عندما فتكت بحركة حزم بعد سلسلة متصلة من البغي والعدوان استمرت لعدة أشهر وبلغت ذروتها في الشهر الأخير. يومها نشرت مقالة بعنوان "نداء عاجل إلى مجاهدي الشمال: افصلوا بين النصرة وحزم بسرعة وحزم قبل أن يقول القائل: كانت في سوريا ذات يوم ثورة!" ولم يفعلوا، بل تركوا الفصيل الذي لم يثخن في دبابات العدو ومدرعاته فصيلٌ مثله، تركوه وحيداً لتأكله النصرة التي ما لبثت أن أكلتهم جميعاً في السنوات التاليات.

الذي حصل لاحقاً هو ما كان منتظَراً أن يحصل؛ لمّا أكلت النصرة الثور الأبيض وسكتت سائر الثيران ما لبثت أن التهمتها النيران، نيران الجبن والصمت والخذلان، وصولاً إلى أحرار الشام، الفصيل الأكبر الذي جلس على مقعد المتفرجين خلال الجولات العشرين السابقة قبل أن يصبح هو نفسه الثور الموؤود في الجولة الأخيرة.

تبخّر الفصيل ولم تبقَ غير كلمات تُتلى على قبره، فنشرتُ نعيه في مقالة بعنوان "الجمعة الحزينة: ماذا حصل في سوريا قبل يومين؟" كتبت في أولها: "يوم الجمعة، الحادي والعشرون من تموز. احفظوا هذا التاريخ، فإنه يوم حزين سنتذكره جيداً ونعود إليه كثيراً في الآتي من الأيام. إنه اليوم الذي بدأت فيه نهاية أحرار الشام، وفيه بدأت نهاية فيلق الشام وحركة الزنكي وبقية "الفراطات" الثورية، وبدأت نهاية إدلب ونهاية الثورة السورية".

ربما بدا في ذلك اليوم أنني بالغت في التشاؤم، ولكن ما حصل في الشهور الثلاثين التالية أثبت أن الثورة بدأت فعلاً بالانهيار المتسارع منذ ذلك التاريخ الذي "احتل" فيه الجولاني الشمال المحرر. وحتى لا تتكرر المأساة كتبت الكلمات الآتية.

* * *

لا أحد يعلم الغيب، ولكن الإرهاصات التي نشاهدها على الأرض توحي بأن الأسابيع القادمة ستحمل بعض الخير للثورة بمشيئة الله وتوفيقه. فإذا تحققت أي مكاسب في أي بقعة سيكون الجولاني أحرص الناس على استثمارها والاستيلاء على أي أرض تملكها الثورة، وسوف يعود إلى تصفية الوجود العسكري الثوري في تلك المناطق كما صنع قبلُ في سائر الأرض المحررة.

لو أن الجبهة الوطنية ترددت أمام النصرة وتهاونت في ردعها وسمحت للجولاني بالاعتداء على أي فصيل ثوري أو بوضع اليد على أي أرض بعد اليوم فسوف تكون بداية كارثة جديدة لا قدر الله. إن الطريقة الوحيدة الصحيحة للتعامل مع الجولاني وعصابته هي الطريقة التي تتعامل بها المؤسسة الطبية مع فيروس كورونا وأمثاله؛ لا يمكن أن يقول قائلها: هذا المريض سنتركه بغير حَجْر ولا علاج وسوف نكتفي بعلاج ذاك الآخر. إنهم يعلمون أن أي تهاون في محاصرة المرض واسئصال سببه سيتحول سريعاً إلى جائحة عامة يفقدون السيطرة عليها فتفتك بالأبرياء والأصحاء في كل مكان.

* * *

الخلاصة: لقد تسبب الضعف والتخاذل أمام جبهة النصرة في الماضي في تغوّلها وتفردها بالفصائل وإنهاك الثورة وإنهاء كثير من فصائلها القوية المؤثرة وحرمان الثورة من السلاح الثقيل، وبعدما بدّد الجولاني القُوى الثورية في المناطق المحررة ونهب سلاحها سلم الأرض للعدو بلا قتال. فصار من أوجب الواجبات على الثورة -وهي تكافح اليوم للبقاء- أن تنهي نفوذ جبهة النصرة في المناطق المحررة وأن تستعيد منها سلاح الثورة الثقيل وتحرر أحرار الثورة المعتقلين في سجونها، وأن تَحْذر من كشف الظهر لها لأنها ستطعن أي ظهر مكشوف.

لقد علمتنا التجارب الأليمة مع داعش والنصرة (لو كنا نتعلم) أن التردد في كف شرها وقطع يدها الممتدة بالعدوان هو أم الرذائل وأُسّ الخطايا، وأن الضعف والخوَر في موقف واحد يتبعه انهيار متسارع مآلُه الحتمي هو خسارة الأرض والثورة. فهل سيسمح أحرار الثورة بتكرار الكارثة ذاتها مرة أخرى لا قدر الله؟
تفاءلوا واستبشروا، فالغد أفضل من الأمس بإذن الله.

تفاءلوا بالخير تجدوه. ليس هذا اللفظ بذاته حديثاً شريفاً ولكنّ معناه صحيح، وله في الحديث الصحيح شواهد: كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، وفي الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري ومسلم :"أنا عند ظن عبدي بي". فاللهمّ إنّ حسن الظن بفرجك ورحمتك لم ينقطع قط ولن ينقطع أبداً ما نبضت قلوبنا بالإيمان بك والتوكل عليك، اللهمّ اجبر كسر المكسورين واجعل العاقبة لعبادك الصالحين.

تفاءلوا وتوكلوا على الله
حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة
(4)

في تاريخ الفتوح حادثة تستحق الدرس والاعتبار: "معركة الجسر" التي وقعت في شعبان سنة 17 هجرية على ضفة الفرات وضاع فيها نصف الجيش بين غريق في النهر وقتيل بأفيال الفرس وسيوفهم. هذه المعركة قادها أبو عبيد الثقفي في الهجوم والمثنى بن حارثة في الانسحاب، وبقيت إلى اليوم درساً حياً في سجلات التاريخ بنتيجتها العجيبة: كيف يكون ثمن الهجوم العاطفي الكيفي غير المنظم أربعة آلاف شهيد وكيف يمكن للانسحاب الهادئ المنظم أن ينقذ أربعة آلاف آخرين من المقتلة.

في الحرب لا يُعتبر الهجوم انتصاراً ولا الانسحاب هزيمة إلا باعتبار النتائج النهائية، ورُبّ هجوم كَيفيّ اعتباطي عشوائي يقود إلى هزيمة، ورُبّ انسحاب تكتيكي مخطط منظم يعقبه انتصار. وانظروا إلى معاركنا مع العدو التي تخوضها فصائلنا على الجبهات: هل هي من صنف العمليات الحربية المدروسة المنظمة أم أنها عمليات كيفية عاطفية، سواء في الهجوم أو في الانسحاب؟

فأما من حيث الشجاعة والهمة والإخلاص فلا ينتقص من مقاتلي الثورة المرابطين على الجبهات إلا جاحد لئيم، ولكن الشجاعة والهمة والإخلاص ليست العناصر الوحيدة ولا العناصر الجوهرية في صناعة النصر. لا يمكن لمعركتنا مع النظام أن تنجح إلا بخطة حرب مركزية شاملة تستوعب أرض المعركة كلها على اتساعها، ويُتّخَذ فيها القرار الصحيح بالتقدم والهجوم المدروس في بعض الجبهات وبالانسحاب التكتيكي الآمن من بعضها. ولا خطةَ حربٍ مركزيةً إلا بقيادة مركزية، إن وُجدت ترجّحت احتمالات النصر بأمر الله، وإن غابت ترجحت احتمالات الهزيمة لا قدّر الله.

* * *

ليست هذه دعوة لتوحيد الفصائل والفيالق التي ما تزال حتى اللحظة رُقَعاً ممزقة في نسيج الثورة، قطعاً صغيرة مبعثرة بقيادات مستقلة وخطط منفردة، فكلٌّ يدافع عن منطقته أو يحارب العدو في أقرب الجبهات إليه "على التيسير" وحسب الاجتهاد الفردي والإمكانات البشرية والمادية المتاحة. ليست هذه دعوة لتوحيد تلك الفصائل التي لن تتحد في كيان واحد أبداً، ليس قبل الخروج من تيه أربعين سنة تموت فيها الشخصية السورية الفردية التقليدية وتولد روح جديدة مشحونة بالاستعداد الذاتي للتعاون والتضحية.

المطلوب هو (بكل بساطة) قيادة مركزية للمعركة على طريقة هيئات الأركان المشترَكة في الجيوش النظامية، حيث نجد لكل سلاح (الأسلحة البرية والبحرية والجوية) هيئة أركان خاصة بها، بل لكل فرقة من فرق الجيش هيئة أركانها الخاصة أيضاً، ولكن تلك القيادات الفرعية لا تُنشئ خططها من نقطة الصفر ولا تبني تصورها عن المعركة على رؤيتها الخاصة، بل تنطلق من الخطة المركزية التي وضعتها هيئة الأركان المشتركة التي تحيط وحدَها بكل ميدان المعركة على اتّساعه والتي تدرك خطة العدو المركزية وتتعامل معها بخطة مركزية تناسبها.

* * *

لو أن الجيش الوطني الذي يمثل (صورياً واعتبارياً) كياناً عسكرياً ثورياً موحداً، لو استطاع أن يصنع قيادة مركزية لمعركتنا مع النظام لتغير تاريخ سوريا ولأمكن إنقاذ إدلب والشمال المحرر كله بإذن الله، بشرط أن يرتقي قادة الفصائل إلى مستوى الأمانة ويتعاملوا مع أي خطة يُتفَق عليها بصدق وإخلاص، فلا ينفرد فصيلٌ بعمل دون سواه ولا يغيّر فصيلٌ خطته ولا يُخلي مواقعه ونقاطه إلا بتنسيق مع القيادة المركزية.

وسوف يكون من تحصيل الحاصل التعاون والتنسيق والتكامل بين قيادة الثورة المركزية والقيادة العسكرية التركية لو أطلقت تركيا عمليتها المرتقبة، ولكن ماذا لو لم تفعل؟ سأستعير الجواب من الجملة التي ختمت بها مقالة "إرادةٌ لا تنكسر وثورةٌ لا تموت" التي نشرتها قبل أسبوع: "الأمل الحقيقي -بعد الأمل بالله- هو في الذات وليس في الداعمين والأصدقاء، فما حَكّ جلدَك مثل ظفرك ولا حرّر أرضَك غيرُ جيشك، ولن يحمل هَمَّ ثورتك وشعبك أحدٌ سواك".

ويبقى الشرط الجوهري الذي سيصنع الفرق الحاسم بين النصر والهزيمة: معرفة حقيقة جبهة النصرة (هيئة تدمير الثورة وتسليم الشام للنظام) وإدراك أمّ الحقائق، وهي أنها ليست من الثورة ولا يمكن التعامل معها ككيان ثوري إلا لو تعاملنا كذلك مع الفرقة الرابعة والفيلق الخامس. وهذا يقتضي عدم الثقة بها وعدم التعاون العسكري معها في أي جبهة من الجبهات، وعدم تسليمها نقاط رباط لأن أي نقطة في عهدة النصرة هي مشروعُ تسليم مؤجَّل أو معجَّل، واعتبار نقاطها نقاطاً متقدمة للعدو ينبغي لفصائل الثورة الحذر منها وتدشيم الأرض وتدعيم المقاومة أمامها ووراءها، حتى لا يصبح الصباحُ على مقاتلينا المرابطين في الجبهات فيجدوا نقاط النصرة وقد أُخليت بليلٍ وهم نائمون والعدو قد التفّ عليهم من حيث لا يتوقعون، وهي خيانة متكررة حصلت مئات المرات في كل الجبهات وما زالت تحصل إلى اليوم، وسوف تستمر حتى يُكمل الجولاني مهمته الخبيثة ويعيد للنظام كل الأراضي المحررة لا قدّر الله.
حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة
(5)

اشتدّ ضغط العدو على الأراضي المحررة واستشرس في حملته المحمومة لانتزاعها من أيدي الثوار فانصرف الاهتمام كله إلى العمل العسكري والفصائل المسلحة، وبات الظن بأن الانتصار العسكري وحدَه كفيلٌ بإنقاذ الثورة.

لكن الثورة ليست فصائل فقط وإنقاذها ليس بتحقيق الانتصارات العسكرية وحدها، فهي ثورة شعبية قبل أن تكون معركة بالسلاح؛ بدأت ثورة شعبية أوقد شعلتَها الأولى عامةُ الناس، وما زالت ثورة شعبية يحمل مشعلَها إلى اليوم عامةُ الناس، فإذا انفضّ الناس عنها لم تبقَ ثورة، لأنها لا ثورةَ بلا حاضنة، ولن تلتفّ حاضنة الثورة حول ثورتها إلا إذا كانت الثورة وفيّة لمبادئها وأمينة على أهدافها، ولن يحتمل الناس الضريبة الباهظة للثورة ويدفعوا ثمنها الغالي إلا إذا قدمت لهم ما يريدون.

وما الذي يريده الناس؟ هل يعلم أولئك الذين يعيشون في أبراج العاج ماذا يريد الناس الذين يعيشون على التراب؟ يوماً بعد يوم تزداد الهُوّة اتساعاً بين الفريقين، بين قلّة تبلغ المئات تقود وكثرة تبلغ الملايين تريد، فلا الذي يريد يملك القوة ليقود ولا الذي يقود يصغي إلى الجمهور الذي يريد.

ماذا يريد الناس الذين وثقوا بالثورة وحرقوا مراكبهم ليركبوا سفينتها العظيمة وصولاً إلى البرّ الآمن، هؤلاء ماذا يريدون؟ الذين يعيشون في محافظة إدلب (أو ما بقي منها) تحت سيطرة عصابة الجولاني وفي مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام التي تحكمها فصائل الجيش الوطني؟

إنهم يريدون أن يعيشوا في حرية وكرامة وأمان، وأن يجدوا سقفاً يعيشون تحته ومعه مقومات الحياة الكريمة من غذاء وكساء ووقود يقيهم برد الشتاء، ويريدون -بعدُ- أن يعبدوا الله كما اعتادوا أن يعبدوه مُذ عرفوه. لا يريدون أن يحتكر جَهَلةٌ متنطّعون دين الله ثم يفرضوا عليهم الرأي الذي اختاروه والفهم الذي فهموه، ولا أن يتحكم في حياتهم فاسدون يعيدون إليهم ذكريات الأسد الذي ثاروا عليه وفارقوه وقاتلوه.

* * *

لقد استشرى الفساد في هذه المناطق كلها وتعرض الناس فيها للظلم والقهر، مرة باسم الدين ومرة باسم الثورة، فكانت المحصلةُ جنايةً مريرة على الثورة وعلى الدين. وإنّ إنكارَ الظلم والفساد مكابرةٌ لا تفيد، واستمرارَهما ينذر بنهاية الثورة لا سمح الله، وإن يكن من الإنصاف أن نقرر أن ظلم وفساد الفصائل مجتمعة لا يبلغ عُشرَ معشار ظلم النصرة وفسادها. هذه الأولى، والثانية أهم: لقد رأينا دوماً وعلمنا بالتجربة المتكررة أن الفصائل تسمع وتستجيب وتحاسب المخطئين والمعتدين (ولو لم تنجح في اجتثاث ذلك كله من الجذور) بخلاف عصابة الجولاني التي حوّلت مناطق الثورة إلى غابة يأكل فيها كلُّ قوي من العصابة كلَّ ضعيف من عامة الناس، حتى صار الجولاني لعنة في الهتافات وسُبّة على ألسنة الناس.

إن الظلم والفساد يُهلك الأمم والجماعات، هذه سنّة من سنن الله في الوجود. وهي سنة مفهومة ضمن عالم الأسباب والنتائج الذي خلقه خالق النتائج والأسباب، فقاعدة الثورة الشعبية هي عامة الناس الذين يتبنَّون الثورة ويقدمون في سبيلها كرائم التضحيات، يصنعون ذلك راغبين لا راغمين، يصنعونه لأن الثورة هي خيارهم الذي اختاروه راضين بكل ما ينشأ عنه من نتائج وصعوبات. وإنما صنعوا ذلك ليستبدلوا بالواقع الدميم القديم واقعاً جديداً جميلاً يعيشون فيه. فإذا صار الواقع الجديد الذي صنعوا ذلك كله من أجله بمثل سوء الواقع القديم ومرارته فقدوا الدافع للصبر والاحتمال، ثم تفرقوا عن ثورتهم فتركوا الفصائل والقوى الثورية مكشوفة بلا أرض ولا غطاء، فما أسهلَ اغتيالَ الثورة وإفناءها إذا وصلت الحال إلى هذه الحال!

ثم إن المقاتلين الذين ينتمون إلى الفصائل الثورية لا يَنبتون على الشجر، إنما هم أولاد الناس، فإذا لم يَعِش الناس بكرامة وأمان ويحصلوا على أساسيات الحياة من مأوى وغذاء فسوف ينشغل كل مقاتل بأهله، يقول: للثورة مئة ألف إنسان يعملون من أجلها، أما أهلي فليس لهم سواي! ثم ينسحب من الجبهة وينطلق بحثاً عن أهله الذين ذابوا في طوابير الهجرة والعذاب.

* * *

الخلاصة: لقد ثار أحرار سوريا على نظام الأسد من أجل الإنسانية المهدورة والكرامة المسفوحة، ثاروا لتحرير سوريا من الظلم والاستبداد والاستعباد، ومن أجل هذا الهدف النبيل العظيم التفّوا حول ثورتهم غيرَ آبهين بضراوة المحنة وطول الطريق، وما زالوا ملتفّين حول ثورتهم ما بقيت ثورتُهم وفيّة للأهداف التي ثاروا من أجلها. فإذا تلبّس أهلُ الثورة بالظلم سيفقدون مبرر وجودهم، لأنهم سيصيرون عندئذ إلى ما ثاروا عليه، وإذا عانى الناس في ظل الثورة من الاستبداد والقهر فسوف ينفضّون عنها، ولا ثورة بلا ناس ولا فصائل بلا حاضنة. فيا أحرار ثورة الحرية والكرامة: تواصُوا بالحق والعدل وتناهُوا عن الظلم والفساد. ويا أيها الفصائل جميعاً: تعقّبوا كل حالات الظلم والفساد وأخرجوا من الثورة كل الظالمين والمفسدين، لأنهم يخرقون في سفينتها خروقاً ستغرقها -لو لم تأخذوا على أيديهم- ولو بعد حين.
حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة
(6)

لكيلا يهلكنا الصمت
(1 من 2)

يروي أصحاب التاريخ أن مدينة يونانية قديمة اسمها إميكلي أزعجها ما كان يُشاع فيها باستمرار عن قرب غزو الإسبرطيين لها، فصدر قانون يمنع ذكر العدو ويحذّر من التحذير منه. بعد مدة وصل الإسبرطيون فلم يجرؤ أحد على إنذار الناس، فسقطت المدينة وقُتل أكثر سكانها، وصار اسمها في التاريخ "المدينة التي أهلكها الصمت".

* * *

يسألني كثير من الأفاضل: ماذا نفعل في سبيل إنقاذ الثورة؟ ماذا نفعل لنعيد للثورة ألَقَها الأول الذي تبدد كثيرٌ منه بمرور الأيام؟ ماذا نفعل لننقذ ثورتنا العظيمة الغالية من الفناء؟ ماذا نصنع ونحن بعيدون عاجزون؟

يا أيها الكرام: إننا لا نعاني من أزمة في التشخيص؛ لقد عرفنا الداء وعرفنا الدواء، إلا أننا نستثقل أن نتجرّعه أو نعجز عن حمل المرضى على تجرّع الدواء. والداء فينا لا في غيرنا؛ نعم، هو من عند أنفسنا، وإلاّ نُصلحْ ثورتَنا ونَنْفِ عنها أخطاءها فإنها -لا قدّر الله- إلى زوال. فماذا نملك؟ ماذا أملك أنا وماذا تملكون سوى النصيحة الصادقة والتنبيه بعد التنبيه؟ لا نملك إلا الكلمة التي نقدمها حتى لا يهلكنا الصمت.

يقولون إن الإعلام هو السلطة الرابعة، وهو في ثورتنا رأس السلطات وأهمها لأنه البوصلة التي يُنتظَر منها أن تحافظ على الاتجاه الصحيح، فإنْ ضَلّ حاملُ البوصلة تاهت السفينة ولم تصل إلى بَرّ الأمان. إنها مسؤوليةٌ عامة يشترك في حملها أهل الإعلام وأصحاب الأقلام، فكل من حمل قلماً وكل من وقف على منبر سيسأله الله عن الكلام الذي كتبه وقاله: لِمَ كتبه ولِمَ قاله؟ وعن الكلام الذي لم يقله ولم يكتبه: لِمَ كتمه ولم يبيّنه في مقام البيان؟

من أجل ذلك كتبت الحلقات الخمس الماضية في هذه السلسلة، ولم أستَقصِ، إنما وقفت عند الأساسيات والإصلاحات الكبرى التي تُطلب من أهل الثورة لإنقاذ الثورة، وبقيَت كلمة عن "الإعلام الثوري" أختم بها وأعود إلى الصمت والاعتزال اللذين عشت فيهما في العام الأخير.

* * *

لنبدأ بتقرير قاعدة أولية يغفل عنها كثيرون: "ليس في الدنيا إعلام محايد". بل إن كلمة الحياد ذاتها توقع المرء في تناقض منطقي، لأن المحايد هو الشخص الذي آثر الانحياز إلى موقف غير منحاز لأي من طرفَي الصراع. فإذا قال لك شخص ما أنه محايد بالنسبة للثورة (فلا هو معها ولا مع النظام) فاعلم أنه منحاز للموقف الحذر الذي يُعفيه من عواقب الانحياز، إما لأنه لا يحتمل دفع ثمن الانتماء للثورة ونصرتها، أو لأنه مقتنع بأن النظام لا يستحق البقاء لكن الثورة عجزت عن إقناعه بأنها البديل الصالح. وهذا استطراد ليس محله هذه المقالة على أي حال.

نعم، الإعلام المحايد ليس له وجود إلا في الخيال. كل إعلام في الدنيا يخدم قضية من القضايا بشكل مباشر أو غير مباشر، فالإعلام الإسلامي سيهتم دوماً بتقديم المعلومات والأخبار التي تعزّز الإيمان ويحجب المواد الإعلامية التي تسبب الشك وتدعو إلى الإلحاد، والإعلام الإلحادي سيكون حريصاً بالمقابل على تكريس اللادينية وحجب أي مواد تدعم الإيمان وتدعو إلى اليقين. وكذلك كل قضيتين مختلفتين في هذه الدنيا، لا بد أن ينحاز الإعلام، أيُّ إعلام، إلى هذه أو تلك، بصورة فجة مكشوفة أحياناً (إذا كان إعلاماً بدائياً متهافتاً) أو بصورة خفية في غالب الأحيان (عندما يكون إعلاماً محترفاً، كما هو الحال في معظم الصحف والمحطات والفضائيات الشهيرة).

باختصار: إن الإعلام صَرْحٌ له سور، وللسور بوابة عليها بوّاب لا يسمح بالمرور إلا لما يوافق سياسة الجهاز الإعلامي وبرنامجه. من هنا جاءت نظرية "حارس البوابة" (gatekeeper) التي طورها عالم النفس النمساوي (الأمريكي لاحقاً) كيرْت ليفين (Kurt Lewin) في أربعينيات القرن الماضي، وهي تقول ببساطة: "إن المادة الإعلامية لا تصل إلى الجمهور إلا بعد رحلة طويلة تمر فيها عبر بوابات تخضع فيها للتفتيش لتقرير ما يمر وما يُحجَب". أو لأقل بعبارة أكثر تبسيطاً: إن لكل جهاز إعلامي مَصافيه التي يصفّي بها المعلومات والأخبار فيسمح ويمنع بما يوافق اختياره الاعتقادي والثقافي والأخلاقي.

* * *

بعد هذا الشرح المختصر نصل إلى النتيجة المهمة: لا يمكن ولا يجوز لإعلام الثورة إلا أن ينحاز إلى الثورة، ولكنه انحياز عاقل أمين نظيف يخدم أهدافها النبيلة السامية. فما الدور المرتقَب من إعلام الثورة؟ ما هي المصافي الإعلامية التي ينبغي على إعلاميي الثورة مراعاتُها في المعركة؟ الجواب في تتمة هذه المقالة إن شاء الله.
لكيلا يهلكنا الصمت
(2 من 2)

انتهى الجزء الأول من المقالة بالسؤال المهم الذي أنشأتها من أجله: ما الدور المرتقب من إعلام الثورة؟ وما هي المصافي الإعلامية التي ينبغي على إعلاميي الثورة مراعاتها في المعركة؟

المهمة الأساسية معروفة: الصدق والشفافية في تغطية أخبار الثورة بما يُبقي حاضنتها وجمهورها على اطلاع دائم على ثورتهم ومعرفة وثيقة بما تمر به من ظروف وما تحققه من إنجازات وإخفاقات. هذا هو أصل عمل الإعلام ومن هنا جاء اسمه، فهو "إعلام العامة بما لا يصلون إليه بأنفسهم من أنباء". لكن هذا القدر من الأداء الإعلامي لا يكفي وحده لجعل الإعلام ثورياً، فماذا أيضاً؟ ما الخصوصية التي تميز إعلام الثورة عن سواه؟

إنها طبيعة صياغة الأخبار وتقديمها، فالإعلام الثوري هو رأس الحربة في "الحرب النفسية" التي تتكامل مع معركة السلاح. إن إعلامي الثورة لا يكذب على جمهوره ولا يخفي حقائقَ من حق الجمهور معرفتها ولا يغير الوقائع مجاملة لبعض الأطراف وخوفاً من سواها، ولكنه يستغل موهبته الإعلامية لصياغة الأخبار بطريقة ترفع الروح المعنوية وتدفع الإحباط واليأس عن نفوس أهل الثورة وتصنع العكس مع الأعداء، مع حجب الأخبار الحرجة والأسرار العسكرية التي قد يستفيد العدو من كشفها... إلى آخر البديهيات التي يعرفها كل إعلامي محترف.

ثم تبقى لإعلامنا بعد ذلك إضافة مهمة لا يملكها إعلام العدو ولا يجيدها، لأن معركتنا أخلاقية قبل أن تكون معركةَ سيطرةٍ وغلبة ونفوذ، وما قامت الثورة أساساً إلا من أجل رعاية وتحقيق المبادئ الأخلاقية الكبرى، الحرية والكرامة والعدالة والإنسانية، فلا يجوز لإعلام الثورة أن يتناقض مع أهداف ثورته ومبادئها النبيلة السامية.

من هذا الباب: حماية الأرواح والممتلكات وتوفير الحرية والكرامة لكل الناس والتعامل الإنساني والإسلامي مع المدنيين والأبرياء بغض النظر عن الانتماء العرقي والديني، وإحقاق الحقوق ورد المظالم وكفّ أيدي الجُناة والمعتدين ومحاسبة الظلَمة والمخطئين، وتكريس أم القواعد الشرعية والإنسانية: الانتصاف للضعفاء من الأقوياء والانتصار للمظلومين على الظالمين.

فمَن خالف هذه القواعد الشرعية والإنسانية من الفصائل وغيرها وجب تشغيل آلة الضغط الإعلامي عليه حتى يفيء إلى الحق، ومن لم يستجب وأصرّ على الظلم وتلبّسَ بالفساد فينبغي أن يصبح مادة دائمة للإعلام الثوري، يلاحقه في كل صعيد حتى يَصلح ويُصلح أو يفارق الثورة ويكفّ أذاه عن الناس، فليس أحدٌ فوق الحق، وويلٌ لثورة يأكل فيها القويُّ الضعيفَ ولا يجد المظلومون فيها ناصرين على الظالمين.

* * *

بقيت ملاحظة أخيرة عن "صحافة الثورة الصفراء". هل تعرفون ما الصحف الصفراء؟ إنها تلك التي تبحث عن القراء والمتابعين من خلال المبالغة في نشر الأخبار الشاذة العجيبة، ليس لأنها أخبار مهمة بل لأنها تُرضي فضول الناس، وليس لأنها أخبار صادقة أو نافعة وإنما لأنها تزيد أعداد القراء والمتابعين فحسب.

ولكن التركيز على هذا النوع من الأخبار ليس عملاً مهنياً شريفاً ويغلب أن يتسبب في تشويه الحقائق والإساءة إلى أفراد وجماعات ومجتمعات. في وقت ما أردت معرفة أخبار بلد عربي فتابعت موقعاً أخبارياً محلياً فيه لا أسمّيه، وبعد بعض الوقت بدأت أشعر أن البلد ليس فيه إلا فساد وسرقة وسطو مسلح وانتحار وقتل وتهريب مخدرات وسوى ذلك من الآفات. ولكني أعرف أنه بلد نظيف آمن وأن أهله أهل نخوة وشهامة وأنهم قوم طيبون مسالمون، فمن أين أتى هذا الانطباع السلبي؟ إنها مشكلة في "بوّاب الموقع" الذي تقمص أسلوب الصحافة الصفراء، فهو يختار عشر حوادث قبيحة شاذة ويهمل عشرة آلاف حادثة خيّرة جميلة، لأن الغاية الأساسية من النشر ليست تقديم صورة حقيقية صادقة عن مجتمعه وإنما هي تقديم أخبار مثيرة تُرضي فضول القراء.

إذا كانت هذه الممارسة مُعيبة وضارة في مجتمع السلم فإنها مدمرة في مجتمع الحرب، لأنها يمكن أن تقتل المعنويات وتكشف الأسرار وتسم الثورة والثوار بأقبح السمات وتتسبب في كوارث لا يعلمها إلا الله، كل ذلك من أجل سبق وخبر وزيادة القراء والمتابعين! فمن صنع ذلك في ثورتنا فلا يستحق شرف لقب "إعلام ثوري"، سواء في ذلك الأفراد والمواقع والصفحات.

* * *

الخلاصة: إن الإعلام الثوري هو بوصلة الثورة وحارسها الأمين، وهو المطالَب بدفعها إذا انطلقت في طريقها الصحيح وردّها عن الخطأ إذا ضلت الطريق، وهو رأس الحربة في الحرب النفسية التي ترفد الجيوش على الأرض. فلا يجوز له أن يسلك سبيلاً يخذّل الهمم ويُضعف النفسيات ويوهن القلوب، ولا أن يتغاضى عن أخطاء الثورة ويتصالح مع الفاسدين، لأن الخطر إذا جاء من خارج الجسم الثوري وعجزنا عن دفعه بقدراتنا الذاتية لم نملك إلا أن نلجأ إلى بالله بالدعاء والرجاء وإلى الناس بخطاب التشجيع والتصبير ورفع المعنويات، أما عندما يأتي الخطر من داخل الجسم الثوري فعلينا أن نملك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بالخطأ، وما يكفي من الحكمة والبصيرة للبحث عن العلاج قبل فوات الأوان.
إعلام الثورة والمعادلة الصعبة

الجمعُ بين رسالتين: الصدق مع الجمهور والامتناع عن بيع الأوهام الزائفة، ورعاية شمعة الأمل وصيانتها وحمايتها من أن تطفئها رياح اليأس العاتية.

إنها مهمة صعبة قطعاً، ولكنها ليست مستحيلة أبداً، فإما أن تنجح فيها -يا حاملَ القلم- أو تكسر القلم وتعتزل الكتابة، فقد اكتفى الناس من اثنين: إعلاميين وكتّاب لو امتلأت الكأسُ بالماء إلا قطرةً لأبصروا موضع القطرة وغفلوا عن الكأس المَلأى وما فيها من ماء، وآخرين لو بقيت في قعر الكأس قطرةٌ واحدة لخَيّل لهم خيالُهم الجامح أنها ستمتلئ بالماء بمعجزة من غير عمل نعمله ودون الأخذ بالأسباب.

والحقيقة أن معركة الحرية مع الاستبداد صعبةٌ اليومَ كما كانت صعبةً في آذار عام 2011، وأن أكثر القُوى الدولية لا تريد للثورة أن تنتصر اليوم كما لم تُرِدْ لها النصر يوم انفجرت في آذار عام 2011، وأن الثورة يمكن أن تحقق اليوم الكثيرَ بالإخلاص والعمل الجاد كما حققت بهما الكثيرَ في ذلك اليوم البعيد، وأن الثورة ما تزال حية مهما أصابتها العلل والأمراض، وأنها أثمنُ ما ملكناه في القرن الأخير وأغلاه، وأن المرء لا يتخلى عن أثمن ما يملكه إذا اعتلّ ولا عن أغلى الناس وأحبهم إليه إذا مرض، بل يُصلح هذا ويداوي ذاك ويستفرغ في العلاج والإصلاح الوسعَ وما بعد الوسع وما فوق الوسع بكثير.

وأم الحقائق وأكبرها -في الختام- هي أن منشأ علل الثورة ومشكلاتها منّا ومن داخلها قبل أن تكون من خارجها ومن غيرنا، وأننا نملك القدرة على الإصلاح والتغيير لو تضافرت الأصوات المخلصة وتراكمت الجهود الخيّرة، وأن الثورة ستبقى حيّة ما بقيت يدٌ واحدة، واحدة فحسب، ترفع مشعلها المتّقد وتمضي به في طريق الحرية العظيم.
مهلاً يا نُعاةَ الثورة!

الذين طبعوا نَعيات الثورة منذ شهور وأوشكوا أن يبدؤوا بتعليقها على الحيطان (أو بدؤوا) استعجلوا وخانهم التقدير.

خلال آخر 48 ساعة حرر أبطال الجيش الوطني -بفضل الله- مدينة سراقب الإستراتيجية وثلّةً من بلدات إدلب وقراها: آفس والصالحية والترنبة وجوباس وداديخ وتلة داديخ وكفر بطيخ ومجارز وسان ومعارة عليا وشركة الكهرباء وشابور وزكار، واستعادوا بلدة كنصفرة في جبل الزاوية.

هذا الإنجاز الهائل يؤكد حقيقة مهمة ينبغي على إعلام الثورة الاهتمامُ بترسيخها في نفوس حاضنة الثورة، وقصفُ مؤيدي النظام بها في الوقت ذاته: إن المعركة لم تنتهِ بعدُ. قد نخسر في يومٍ أرضاً وقد نضعُف في بعض الأحيان، ولكن الثورة ما تزال قادرة على استرداد عافيتها واسترجاع عنفوانها في أي وقت ينتفضُ فيه أبناؤها المخلصون، فهي ماردٌ قد يغفو هُنَيّة ولكنه لا ينام أبدَ الزمن، وقد يمرض أو يتعب ولكنه لا يموت بإذن الله الذي يمدّه بالصبر والقوة والحياة.

تذكروا هذه الحقيقة أبداً يا أهل الثورة فلا تُجْزعكم هزيمةٌ ولا يُبْطركم انتصار، تذكروها لئلا يتلاعب بعواطفكم بائعو اليأس الذين لا يملّون من تسويق القنوط من الثورة ومن رحمة الله.

وتذكروها أبداً يا عبيد النظام، تذكروها لتعلموا أن شعلة ثورتنا ما زالت متّقدة، وأن معركة الحرية التي بدأناها في آذار عام 2011 لمّا تَضَعْ أوزارَها. تذكروا أن الحَكَم لم يطلق صفارةَ النهاية بعد، فأخّروا احتفالكم بالنصر ووفروا دموع الفرح والانتصار لتذرفوها دموعَ ألم وانكسار في يومٍ آتٍ بإذن القاهر الجبّار.
من وسط الظلام الحالك تتسرب شُعاعات الفجر الصادق

قبل بضعة أيام كانت القرى والبلدات تتهاوى أمام زحف مليشيات النظام وحلفائه، وطياراته تسرح وتمرح في السماء مع طيارات العدو الروسي فتحرق البشر والحجر، والمدنيون يتركون بيوتهم وهم ينظرون إليها نظرة مودّع لا يظن أنّ بعد الفراق لقاء، وكانت مدن وبلدات حوران هادئة (أو كالهادئة)، وظن كثيرون أن الثورة ميتة لا محالة!

مَن كان يظن أنها لا تأتي ثلاثةُ أيام حتى تتهاوى طيّارات العدو في السماء كالفَراش، وتفتك الطيارات الصديقة بدبابات العدو وآلياته وعناصره على الأرض، وتتحول مطارات العدو العسكرية إلى خرائب، وتتحرر مناطقنا المحتلة بالجملة، إحدى عشرة قرية في إحدى عشرة ساعة، واحدة كل ساعة، وتُوسّط عصابةُ حزب اللات إيرانَ لسحب عناصرها المحاصرين وجثث قتلاها من سراقب، وتنفجر حوران (مهد الثورة) فيأتي رجالها الصناديد بأعاجيب البطولات؟

ما أجملَ التوكلَ على الله (بعد الأخذ بالأسباب وبذل غاية الجهد البشري الممكن)! ما أجملَ فرجَ الله الذي يأتي من حيث لا يحتسب أهلُ البلاء! اللهم زد وبارك، ولك الحمد.

#ثورة_لا_تموت
#استبشروا
#Bismillah
في يوم المرأة العالمي

حرائرنا المَنسيّات: مَن المَلوم؟

أسيراتنا في سجون النظام هُنّ الأسى الذي لا يُنسى وهُنّ جرح الثورة النازف.

ولكنْ مَن نلوم على مرور السنين بعد السنين وهُنّ منسيات ضائعات؟ أنلوم النظام وهو الإمام في الإجرام؟ لا يُسأَل عن ذنوبهم المجرمون (لكثرتها وبشاعتها، فيُلقَون في النار بغير سؤال، على قولٍ في الآية). أم نلوم المجتمع الدولي؟ إنما نحن في نظر القوم ذباب، ولو كانت لنا قيمة لصنعوا شيئاً يَقفون به نهرَ الدم المتدفق في أرضنا منذ تسع سنين.

إنما يُلام من يستطيع من أهل الثورة أن يصنع شيئاً ثم لم يصنع. إنما يُلام السياسيون والعسكريون الذين كان في يدهم شيء من قوة ثم لم يستغلوا القوة التي في يدهم لإطلاق أسيراتنا وتحرير أسرانا من السجون والمعتقلات.

السياسيون الذين ذهبوا يهرولون من مؤتمر إلى مؤتمر خاضعين خانعين وفي يدهم سلاح لم يستخدموه: الضغط والمقاطعة والاستعصاء حتى يحقق النظام شرطاً مسبقاً من الشروط الأممية، هو إطلاق الأسرى وإغلاق ملف المعتقلين.

العسكريون الذين امتلكوا بعض القوة في بعض الأوقات وكانت في يد بعضهم ذات يوم أوراق، فلم يبالوا بأسيراتنا وأسرانا وبعثروا أوراق القوة أو تركوها حتى أبْلَتها الأيام وأكلتها الحادثات الجسام. وعلى رأسهم الجولاني وجبهته المخذولة، الذين باعوا رهائن كثيرين وقبضوا أثمانهم بالملايين ولم يفكروا في حرائرنا قط، سوى مرة واحدة أطلقوا فيها زوجة البغدادي لا أكثر، عليهم وعلى البغدادي غضب الله!

* * *

على أنها تبقى شهادة لا بد من تسجيلها للتاريخ: لم يحمل هذا الهَمّ إلا قائدٌ واحد لم تعرف الثورة أنبل منه، والباقون يتنافسون في الجحود وانعدام الوفاء واللامبالاة بحرائرنا اللائي يعانينَ في السجون ما لا طاقة به لصخور الجبال. القائد النبيل عمار داديخي قائد عاصفة الشمال، الذي أسر ذات يوم ثلّة من قادة حزب اللات فعُرض عليه مقابل إطلاق سراحهم من المال ما لا يحلم مثلُه بمثله، عشرات الملايين من الدولارات، وتوافدت عليه الوفود وتوسطت بين يديه الوساطات من دول كبيرة، فأبى وأصر على إطلاق سراح أسيراتنا من باستيلات الأسد، وقدّم للوسطاء قوائم بألف من حرائرنا، فلا يُطلَق أسرى حزب اللات حتى يطلقهنّ النظام من المعتقَلات.

ثم استُشهد الرجل بعد إصابته في معركة مطار منّغ، فحافظ إخوانه على عهده، واستلم ملفَّ الأسرى نائبه الشيخ منير حسّون، الذي خشي أن يفتن المال الكثير مقاتليه فراح يطوف بهم مستفزاً نخوتهم وشرفهم، يسأل كل واحد: الناموس أم الفلوس؟ فكان جواب الفصيل كله: الناموس ولا الفلوس!

عندئذ لم يجد أعداء الثورة إلا أن يطلقوا عليهم كلاب البشر، داعش، فقاتلوهم وخذلتهم الفصائل، واشترطت داعش تسليم اللبنانيين التسعة حتى توقف الهجوم على الفصيل، فاضطروا إلى تسريع التفاوض وإنهائه تحت النار وسلموا الأسرى للمفاوضين الأتراك، ثم نجحت عملية التبادل في إطلاق سراح خمس وستين حرة من حرائرنا وطيارَين تركيين كانا في الأسر عند حزب اللات. ولم يلبث الشيخ منير أن دفع حياته ثمناً لهذا الإنجاز العظيم، فاستُشهد مع ثلة من رفاقه في معسكر جبل برصايا فجر يوم عيد الأضحى بعدما تفردت بهم داعش وتخلت عنهم الفصائل وخذلهم الأقربون والأبعدون. ولسوف يقفون جميعاً في يوم آتٍ بين يدي الديّان في محكمة السماء، فيومئذ يقتص الحكم العادل للقتيل المظلوم من الذين قتلوه ومن الذين أسلموه ظلماً لقاتليه.

* * *

مضى عمار ومنير ورفاقهما وبقيت القصة في سجلات التاريخ، قصة قادة نبلاء تربعوا على قمة هرم النبل والوفاء، كانت حرائرنا هَمّهم حتى الممات وقدموا الناموس والشرف على الملايين وعشرات الملايين، وقصة آخرين اختاروا العيش في قعر النذالة والجحود، كانت في أيديهم أوراق يملكون بها فكَّ أسر أسيراتنا وأسرانا من السجون ثم لم يفعلوا، وعند الله الحساب.
سؤال الثورة الأكبر في عيدها التاسع

السؤال الأول والأكبر الذي يبحث عن جوابه كتّابُ الثورة ومؤرّخوها هو: هل كان قرار الثورة قراراً صائباً كما يقول أهل الثورة، أم كان مجازفة غيرَ محسوبة كما يزعم حزب "كنّا عايشين"؟

على أنه سؤال جدلي لا تترتب عليه نتيجة، فإن كان قرار الثورة صواباً لن نجد من نشكره عليه، وإن كان خطأ لن نجد من نلومه بسببه، لأن أحداً لا يعلم كيف بدأت الثورة ومَن يتحمل مسؤولية إطلاقها. نعم، بدأت الحكايةُ بخربشة أطفال درعا على الحيطان ثم خرج مئات الأحرار في أولى المظاهرات، لكن مَن الذي دفع الأطفال إلى الكتابة ومن أخرج الآخرين إلى الطرقات؟

كلما تأملنا ازددنا يقيناً بأن إرادة ربّانية كانت وراء تحريك الثورة ابتداء، وأن رعاية ربانية كانت خلف ثباتها واستمرارها رغم التحديات والصعوبات والمعوّقات. لقد وُجد ألفُ سبب لتُهزَم هذه الثورة وتموت ووُجدت خمسة أسباب لتنجح في البقاء، وانتصرت الخمسة على الألف، كيف؟ إنها المعجزة التي أعْيَتْ أهل العصر فلم يجدوا جوابها، وستُعجز كتّاب التاريخ ولن يجدوا لها الجواب.

* * *

رغم ذلك يبقى السؤال ضرورياً من باب المراجعة، من باب "محاكمة الثورة" في عيدها التاسع: أكانت الثورة صواباً يُشكر عليه كل من كان سبباً فيه، أم خطأ يُلام عليه كل من تورط فيه؟

يقول أعضاء حزب "كنا عايشين" إننا كنا عايشين، وهذا صحيح بمقاييس الأنعام لا بمقياس البشر، فالبهائم وحدها هي التي تكتفي بالأكل والشرب والسفاد، أما الإنسان فإن له أشواقاً روحية ورغبات نفسية وحاجات فكرية تجعله إنساناً مختلفاً عن الحيوان، وقد كانت الاستجابة لتلك الأشواق والرغبات والحاجات جرائمَ في قانون نظام الاحتلال الأسدي الطائفي، جرائم يستحق مرتكبوها أفظع الويلات وأشد العقوبات.

كان القانون غير المعلَن لذلك النظام الآثم: اخلع كرامتك وتجرد من إنسانيتك ثم ادخل في قفص الاستعباد الأكبر الذي كان اسمه ذات يوم سوريا، فانسَ أنك إنسان وعش فيها ذليلاً أسيراً كسيراً بلا كرامة ولا لسان، أو مُتْ وحيداً في المعتقلات أو شريداً في المغترَبات.

* * *

النتيجة التي نصل إليها: لو كان تفجير الثورة في سوريا جريمة فإنها سوف تسجَّل حتماً ضد مجهول، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هي واجب شرعي ووطني وأخلاقي لا مفر منه، فما كان لأهل سوريا أن يرضَوا بحياة الذلة والاستعباد، ولا أن يسمحوا بأن تنتقل هذه الذلة والعبودية إلى الأولاد والأحفاد وأن تتسلسل في الأعقاب بلا نهاية، وما كان لهذا النظام المجرم أن يتنازل طوعاً عن استبداده، ولا كانت طائفته لتتنازل بإرادتها عن تحكّمها في أكثرية سكان البلاد. ما كان لشيء من هذا أن يأتي على طبق من فضة ولا على طبق من ذهب، إنما تنتزع الحرية والكرامة من هذا النظام قسراً بالثورة التي تروّيها الدماء والتضحيات.

فشكراً لكم يا أطفال درعا، يا من كنتم في ذلك اليوم الخالد أطفالاً وصرتم اليوم في جملة الرجال. وشكراً لكم يا طلائع الثوار الأحرار، يا من كنتم قلّة قليلة ثم غدوتم الكثرة الكاثرة من السوريين. والحمد لله من قبلُ ومن بعد، الحمد له على ما قدّر وعلى ما اختار، ونسأله عز وجل وتبارك أن يقصر المحنة ويقرب الفرج، وأن يعين أهل سوريا على طول الطريق وأن يكلل صبرهم وجهادهم بالنصر الكامل وبالحرية والاستقلال.
2025/10/25 19:35:30
Back to Top
HTML Embed Code: