أمَا ظلَمْنا هؤلاء الرجال؟
هذه وجهة نظر قَلّ أن يفكر فيها أحد: نحن نتابع مجريات المعارك من خلال الغرف الثورية ولا نتوقف عن طرح آرائنا الإيجابية والسلبية في الإنجازات العسكرية التي تحققها فصائلنا المسلحة، وغالباً نغضب ونعتب ونتساءل بمرارة عن سبب الانهيار في جبهة وعدم الصمود في بلدة والانسحاب المفاجئ من محور وسقوط المناطق بيد الأعداء.
يا ترى ماذا يحصل لو عكسنا المنظار ذات مرة؟ لو دَوَّرنا الطاولة نصف دورة فصرنا نحن المقاتلين في الميدان والمقاتلون هم المنظّرين في غرف الثورة؟ ماذا سنقول؟
ربما مسح الواحدُ منا دماً كسا وجهَه وملأ عينيه ثم نظر إلى رفيقٍ له مسجّى أمامه على التراب وقال: أفٍّ لكم! تعالوا احملوا معي بعض الحمل، على الأقل احفروا لي ولإخواني قبوراً فإنّا ما عاد في طاقتنا أن نحفر لأنفسنا القبور! مُدّوا لنا يداً حانية أو اتركونا لنخوض معركتنا الأخيرة ونموت على تراب أرضنا بسلام!
أظن أننا نظلم شبابنا ونقسو عليهم ونجهل معاناتهم ونتجاهل تضحياتهم ونطالبهم أحياناً بما هو أقرب إلى المستحيل. ربما نحن مَدينون بكلمة شكر صادق من القلب لكل مقاتل حمل السلاح وبات ليلة على الجبهة في برد الشتاء القارس. لعل من حق شبابنا أن يسمعوا ذات يوم منا كلمة طيبة وثناء على الجهد الهائل الذي يبذلونه وتقديراً لتضحياتهم التي لا تقدَّر بثمن. أحسبُ أن علينا الاعتراف أخيراً بأن صمودهم في وجه الآلة العسكرية الروسية الجبارة هو بحدّ ذاته أسطورة ستروي خبرَها الأجيالُ للأجيال.
أمَا لقد بالغنا حقاً في القسوة ونسينا أن الذين يقاتلون روسيا وإيران -في نهاية الأمر- إنما هم حفنة رجال لا يملكون سوى أقل القليل من السلاح وأكثر الكثير من العزيمة والإيمان. فليباركهم الله.
معذرة يا رجال، سامحونا، فقد بالغنا في الأمانيّ وقصّرنا في الشكر والتقدير، فإنْ غفل عن تقديركم الناسُ فإن ربّ الناس لا يغفل ولا ينسى، وعنده لا تضيع مثقال ذرة من عمل صالح. بارككم الله.
هذه وجهة نظر قَلّ أن يفكر فيها أحد: نحن نتابع مجريات المعارك من خلال الغرف الثورية ولا نتوقف عن طرح آرائنا الإيجابية والسلبية في الإنجازات العسكرية التي تحققها فصائلنا المسلحة، وغالباً نغضب ونعتب ونتساءل بمرارة عن سبب الانهيار في جبهة وعدم الصمود في بلدة والانسحاب المفاجئ من محور وسقوط المناطق بيد الأعداء.
يا ترى ماذا يحصل لو عكسنا المنظار ذات مرة؟ لو دَوَّرنا الطاولة نصف دورة فصرنا نحن المقاتلين في الميدان والمقاتلون هم المنظّرين في غرف الثورة؟ ماذا سنقول؟
ربما مسح الواحدُ منا دماً كسا وجهَه وملأ عينيه ثم نظر إلى رفيقٍ له مسجّى أمامه على التراب وقال: أفٍّ لكم! تعالوا احملوا معي بعض الحمل، على الأقل احفروا لي ولإخواني قبوراً فإنّا ما عاد في طاقتنا أن نحفر لأنفسنا القبور! مُدّوا لنا يداً حانية أو اتركونا لنخوض معركتنا الأخيرة ونموت على تراب أرضنا بسلام!
أظن أننا نظلم شبابنا ونقسو عليهم ونجهل معاناتهم ونتجاهل تضحياتهم ونطالبهم أحياناً بما هو أقرب إلى المستحيل. ربما نحن مَدينون بكلمة شكر صادق من القلب لكل مقاتل حمل السلاح وبات ليلة على الجبهة في برد الشتاء القارس. لعل من حق شبابنا أن يسمعوا ذات يوم منا كلمة طيبة وثناء على الجهد الهائل الذي يبذلونه وتقديراً لتضحياتهم التي لا تقدَّر بثمن. أحسبُ أن علينا الاعتراف أخيراً بأن صمودهم في وجه الآلة العسكرية الروسية الجبارة هو بحدّ ذاته أسطورة ستروي خبرَها الأجيالُ للأجيال.
أمَا لقد بالغنا حقاً في القسوة ونسينا أن الذين يقاتلون روسيا وإيران -في نهاية الأمر- إنما هم حفنة رجال لا يملكون سوى أقل القليل من السلاح وأكثر الكثير من العزيمة والإيمان. فليباركهم الله.
معذرة يا رجال، سامحونا، فقد بالغنا في الأمانيّ وقصّرنا في الشكر والتقدير، فإنْ غفل عن تقديركم الناسُ فإن ربّ الناس لا يغفل ولا ينسى، وعنده لا تضيع مثقال ذرة من عمل صالح. بارككم الله.
لا شجاعةَ اليوم ولا تقوى في الجمعة والجماعة
مع تعليق الجماعات والجُمَع في مساجد الدول التي وصلها الوباء ظهرت دعوات وآراء لا تخلو من غرابة، فبعض الذين سيطرت عليهم الحماسة أصرّوا على الذهاب إلى المسجد وإقامة الجماعة على بابه، وآخرون بدؤوا بالدعوة إلى تحدي القرارات الرسمية وعقد صلاة الجمعة في المسجد في أي حال. هؤلاء يظنون أن اجتماعهم في المساجد للجمعة والجماعة قربة إلى الله وشجاعة تستحق الثناء، وهي في الحقيقة على خلاف ما يتوهمون، فإنهم يأثمون بهذه المجازفة التي يعرّضون فيها أنفسَهم وغيرَهم للخطر، وهو عمل يستحق اللوم وليس الثناء الذي يظنون.
إن المرض عذرٌ مُسْقط للجمعة والجماعة بلا خلاف والخوف عذر مُسْقط بإطلاق، فكيف إذا اجتمع المرض المتحقق في الوباء والخوف الشديد من انتشاره وخروجه عن السيطرة، ولو حصل -لا قدر الله- فربما يموت ملايين الناس؟ في مثل هذه الأحوال الاستثنائية الطارئة تسقط الجمعة مؤقتاً حتى يزول سبب سقوطها بانحسار الوباء، أما الجماعة فإنها تنعقد في كل بيت بمن حضر من أهله، فهي تنعقد باثنين على الأقل عند الأئمة الأربعة، وتصحّ لو صلى مع الإمام مأموم صبيّ غير بالغ عند الشافعية والحنفية، ولو لم يجد المصلي مَن يصلي معه الفريضةَ وصلاها منفرداً فصلاته صحيحة في المذاهب الأربعة.
ولا حجة لمن يزعم أن الوباء لا يُتقى ولا يتحرَّز منه لأنه من قدَر الله، فالثابت عند العلماء والعقلاء أن للمرء أن يفرّ من قدَر الله إلى قدر الله (كما قال العبقري المُلهَم عمر رضي الله عنه) فالمرض قدر والشفاء قدر، ونحن مأمورون باتقاء الأذى والتداوي واتخاذ الأسباب، وقبلها وبعدها التوكل على الله والرضا بالقضاء.
هذا وقد تواترت مؤخراً فتاوى أهل العلم الثقات (الذين يجمعون بين فقه الواقع وفقه الشريعة) بوجوب ترك الجُمَع والجماعات احترازاً من هذا الوباء، فمن ظن أنه يتقرب إلى الله بمخالفة تلك الفتاوى والاجتماع للصلاة (داخل المساجد وخارجها) فإنه آثم وسوف يحاسبه الله لو تسبب بالضرر. والضرر في مثل هذه الحالات متوقع، بل هو غالب، فعلى السلطات منع أمثال هؤلاء الناس الذين تسيّرهم عواطفهم لا عقولهم، على السلطات منعهم بسيف القانون، وعلى العقلاء من أصحابهم وأقاربهم نصيحتهم بالحسنى، أصلحهم الله.
مع تعليق الجماعات والجُمَع في مساجد الدول التي وصلها الوباء ظهرت دعوات وآراء لا تخلو من غرابة، فبعض الذين سيطرت عليهم الحماسة أصرّوا على الذهاب إلى المسجد وإقامة الجماعة على بابه، وآخرون بدؤوا بالدعوة إلى تحدي القرارات الرسمية وعقد صلاة الجمعة في المسجد في أي حال. هؤلاء يظنون أن اجتماعهم في المساجد للجمعة والجماعة قربة إلى الله وشجاعة تستحق الثناء، وهي في الحقيقة على خلاف ما يتوهمون، فإنهم يأثمون بهذه المجازفة التي يعرّضون فيها أنفسَهم وغيرَهم للخطر، وهو عمل يستحق اللوم وليس الثناء الذي يظنون.
إن المرض عذرٌ مُسْقط للجمعة والجماعة بلا خلاف والخوف عذر مُسْقط بإطلاق، فكيف إذا اجتمع المرض المتحقق في الوباء والخوف الشديد من انتشاره وخروجه عن السيطرة، ولو حصل -لا قدر الله- فربما يموت ملايين الناس؟ في مثل هذه الأحوال الاستثنائية الطارئة تسقط الجمعة مؤقتاً حتى يزول سبب سقوطها بانحسار الوباء، أما الجماعة فإنها تنعقد في كل بيت بمن حضر من أهله، فهي تنعقد باثنين على الأقل عند الأئمة الأربعة، وتصحّ لو صلى مع الإمام مأموم صبيّ غير بالغ عند الشافعية والحنفية، ولو لم يجد المصلي مَن يصلي معه الفريضةَ وصلاها منفرداً فصلاته صحيحة في المذاهب الأربعة.
ولا حجة لمن يزعم أن الوباء لا يُتقى ولا يتحرَّز منه لأنه من قدَر الله، فالثابت عند العلماء والعقلاء أن للمرء أن يفرّ من قدَر الله إلى قدر الله (كما قال العبقري المُلهَم عمر رضي الله عنه) فالمرض قدر والشفاء قدر، ونحن مأمورون باتقاء الأذى والتداوي واتخاذ الأسباب، وقبلها وبعدها التوكل على الله والرضا بالقضاء.
هذا وقد تواترت مؤخراً فتاوى أهل العلم الثقات (الذين يجمعون بين فقه الواقع وفقه الشريعة) بوجوب ترك الجُمَع والجماعات احترازاً من هذا الوباء، فمن ظن أنه يتقرب إلى الله بمخالفة تلك الفتاوى والاجتماع للصلاة (داخل المساجد وخارجها) فإنه آثم وسوف يحاسبه الله لو تسبب بالضرر. والضرر في مثل هذه الحالات متوقع، بل هو غالب، فعلى السلطات منع أمثال هؤلاء الناس الذين تسيّرهم عواطفهم لا عقولهم، على السلطات منعهم بسيف القانون، وعلى العقلاء من أصحابهم وأقاربهم نصيحتهم بالحسنى، أصلحهم الله.
كورونا بين لاءَين: لا هَلَعَ ولا استهتار
-1-
في عام 1918 كان العالَم يكافح لإنهاء واحدة من أسوأ الحروب التي عرفها التاريخ حتى ذلك الحين، حرب عالمية استمرت أربع سنوات وأربعة أشهر وغطت نصف الأرض وفتكت بعشرين مليون إنسان.
فيما كانت الحرب العالمية تنحسر عن العالم كان عدوٌّ أكثرُ شراسةً قد انطلق من عقاله وراح ينشر في الدنيا الموت والعذاب، فيروس صغير لا تراه العين انتشر في الكوكب كله وأصاب واحداً من كل أربعة من سكانه، وبعد معركة طويلة يائسة استمرت عامين كاملين انحسر الوباء مخلّفاً وراءه ما يزيد على خمسين مليون وفاة.
-2-
يسمَّى المرض "وباء" [epidemic] عندما ينتشر انتشاراً سريعاً ويصيب عدداً كبيراً من الناس في بقعة جغرافية محدودة، فإذا ازداد انتشاراً وغطى مناطق واسعة متباعدة وتضاعفت أعدادُ المصابين به بسرعة صار اسمه "جائحة" [pandemic] أو وباء عاماً. ولا شك أن قدرة أي وباء على القتل تجعله خطيراً، غير أن الخطورة الحقيقية في الأوبئة تأتي من قدرتها على الانتشار السريع أكثر من قدرتها على القتل، ففيروس إيبولا أشد فتكاً من فيروس كورونا، إلا أن انتشاره أبطأ بما لا يقاس والسيطرة عليه أسهل بكثير.
في أحد خطاباته المبكرة عن الوباء الجديد حاول الرئيس الأمريكي التقليل من شأنه بمقارنته بالأنفلونزا الموسمية التي يموت بسببها مئات الآلاف كل عام. وهذه المقارنة مضلّلة تماماً، لأن الأنفلونزا السنوية التي تسرح وتمرح في طول العالم وعرضه كل شتاء تصيب واحداً من كل ألفين من سكان الكوكب بالمتوسط، أما وباء كورونا الجديد فإنه يمكن أن يصل إلى واحد من كل اثنين من الناس لو فقد العالمُ السيطرةَ عليه، فهو سريع الانتشار بشكل مذهل، وحتى نسبةُ قتل متدنية لا تتجاوز ثلاثةً بالمئة تجعله فتاكاً جداً ومخيفاً جداً مقارَنةً بسائر الأمراض.
-3-
كثيرون تساءلوا باستغراب: هل يستحق وباء كورونا هذه الضجةَ وتلك التدابيرَ الصارمة والاحترازات الشديدة التي اتخذتها كل دول العالم اليوم؟ الجواب: نعم، بالتأكيد، لأن فقدان السيطرة على الوباء تعني أنه سينتشر بنفس الطريقة التي انتشر بها وباء الأنفلونزا الإسبانية سنة 1918، ولن يُستبعَد أن يصاب به ثلاثة مليارات إنسان ويموت بسببه مئة مليون.
لعل أصدق كلمة قيلت في التعامل مع المرض، أيّ مرض، هي "الوقاية خير من العلاج". فتجنُّبُ الوقوع فيه أفضل من علاج آثاره وأسهلُ وأقل ألماً وكلفة، هذا لو أن العلاج كان ممكناً أصلاً، فكيف ولا علاجَ لهذا المرض الجديد؟ كيف والأعدادُ الهائلة للمرضى تستنزف القدرات المحدودة للمؤسسات الطبية؟ حتى دولٌ كبرى انهارت منظوماتها الصحية عندما تعرضت لهذا الامتحان العصيب، فكيف لعاقل أن يخوض مغامرةً الثمنُ فيها ملايينُ الأرواح؟
-4-
الإسلام ليس مرجعاً في الطب، غيرَ أن تعاليمه الشاملة التي نظّمت حياة الناس لم تَغفُل عن أساسياتٍ تتعلق بسلامة الفرد والجماعة، فما هي توجيهاته في الصحة والعلاج، في الأمراض العادية والأوبئة العامة؟
أما على مستوى الفرد فأمَرَ الدينُ بالتداوي من المرض إذا وقع المرض، ولكنه حثّ على اتّقائه ما أمكن اتقاؤه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء"، وهي دعوة صريحة لطلب العلاج. وقال: "لا يورِدنّ مُمْرِضٌ على مُصِحّ"، وهي دعوة لعدم اختلاط المريض بالأصحّاء.
وأما على مستوى الجماعة فالعمدة في الباب هو حديث الطاعون: "ليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد"، وفي رواية عند أحمد: "فيمكث في بيته". وهذا الحديث -بلفظَيه- حُجّةٌ في العزل الفردي والجماعي الذي تمارسه أكثر الدول اليوم.
-5-
من عَجَبٍ أن يلتفت إلى هذه المعاني مَن لم ينشأ في الإسلام ولم يكن الإسلامُ له ديناً ويتجاهلَها من نشأ فيه وهو دينُه ودين آبائه.
الدكتور كريغ كونسِداين محاضرٌ في علم الاجتماع في جامعة رايس (هيوستون، تكساس) وباحث ومؤلف في الإسلام والتاريخ الإسلامي وكاتب في كبرى الصحف الأمريكية: نيويورك تايمز وواشنطون بوست وفورين بوليسي وغيرها، وهو أمريكي كاثوليكي من أصل آيرلندي إيطالي. نشر قبل أيام مقالة في مجلة نيوزويك بعنوان: "هل يمكن مكافحة الوباء بالدعاء وحدَه؟ النبي محمد كان له رأي مغاير".
-1-
في عام 1918 كان العالَم يكافح لإنهاء واحدة من أسوأ الحروب التي عرفها التاريخ حتى ذلك الحين، حرب عالمية استمرت أربع سنوات وأربعة أشهر وغطت نصف الأرض وفتكت بعشرين مليون إنسان.
فيما كانت الحرب العالمية تنحسر عن العالم كان عدوٌّ أكثرُ شراسةً قد انطلق من عقاله وراح ينشر في الدنيا الموت والعذاب، فيروس صغير لا تراه العين انتشر في الكوكب كله وأصاب واحداً من كل أربعة من سكانه، وبعد معركة طويلة يائسة استمرت عامين كاملين انحسر الوباء مخلّفاً وراءه ما يزيد على خمسين مليون وفاة.
-2-
يسمَّى المرض "وباء" [epidemic] عندما ينتشر انتشاراً سريعاً ويصيب عدداً كبيراً من الناس في بقعة جغرافية محدودة، فإذا ازداد انتشاراً وغطى مناطق واسعة متباعدة وتضاعفت أعدادُ المصابين به بسرعة صار اسمه "جائحة" [pandemic] أو وباء عاماً. ولا شك أن قدرة أي وباء على القتل تجعله خطيراً، غير أن الخطورة الحقيقية في الأوبئة تأتي من قدرتها على الانتشار السريع أكثر من قدرتها على القتل، ففيروس إيبولا أشد فتكاً من فيروس كورونا، إلا أن انتشاره أبطأ بما لا يقاس والسيطرة عليه أسهل بكثير.
في أحد خطاباته المبكرة عن الوباء الجديد حاول الرئيس الأمريكي التقليل من شأنه بمقارنته بالأنفلونزا الموسمية التي يموت بسببها مئات الآلاف كل عام. وهذه المقارنة مضلّلة تماماً، لأن الأنفلونزا السنوية التي تسرح وتمرح في طول العالم وعرضه كل شتاء تصيب واحداً من كل ألفين من سكان الكوكب بالمتوسط، أما وباء كورونا الجديد فإنه يمكن أن يصل إلى واحد من كل اثنين من الناس لو فقد العالمُ السيطرةَ عليه، فهو سريع الانتشار بشكل مذهل، وحتى نسبةُ قتل متدنية لا تتجاوز ثلاثةً بالمئة تجعله فتاكاً جداً ومخيفاً جداً مقارَنةً بسائر الأمراض.
-3-
كثيرون تساءلوا باستغراب: هل يستحق وباء كورونا هذه الضجةَ وتلك التدابيرَ الصارمة والاحترازات الشديدة التي اتخذتها كل دول العالم اليوم؟ الجواب: نعم، بالتأكيد، لأن فقدان السيطرة على الوباء تعني أنه سينتشر بنفس الطريقة التي انتشر بها وباء الأنفلونزا الإسبانية سنة 1918، ولن يُستبعَد أن يصاب به ثلاثة مليارات إنسان ويموت بسببه مئة مليون.
لعل أصدق كلمة قيلت في التعامل مع المرض، أيّ مرض، هي "الوقاية خير من العلاج". فتجنُّبُ الوقوع فيه أفضل من علاج آثاره وأسهلُ وأقل ألماً وكلفة، هذا لو أن العلاج كان ممكناً أصلاً، فكيف ولا علاجَ لهذا المرض الجديد؟ كيف والأعدادُ الهائلة للمرضى تستنزف القدرات المحدودة للمؤسسات الطبية؟ حتى دولٌ كبرى انهارت منظوماتها الصحية عندما تعرضت لهذا الامتحان العصيب، فكيف لعاقل أن يخوض مغامرةً الثمنُ فيها ملايينُ الأرواح؟
-4-
الإسلام ليس مرجعاً في الطب، غيرَ أن تعاليمه الشاملة التي نظّمت حياة الناس لم تَغفُل عن أساسياتٍ تتعلق بسلامة الفرد والجماعة، فما هي توجيهاته في الصحة والعلاج، في الأمراض العادية والأوبئة العامة؟
أما على مستوى الفرد فأمَرَ الدينُ بالتداوي من المرض إذا وقع المرض، ولكنه حثّ على اتّقائه ما أمكن اتقاؤه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء"، وهي دعوة صريحة لطلب العلاج. وقال: "لا يورِدنّ مُمْرِضٌ على مُصِحّ"، وهي دعوة لعدم اختلاط المريض بالأصحّاء.
وأما على مستوى الجماعة فالعمدة في الباب هو حديث الطاعون: "ليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد"، وفي رواية عند أحمد: "فيمكث في بيته". وهذا الحديث -بلفظَيه- حُجّةٌ في العزل الفردي والجماعي الذي تمارسه أكثر الدول اليوم.
-5-
من عَجَبٍ أن يلتفت إلى هذه المعاني مَن لم ينشأ في الإسلام ولم يكن الإسلامُ له ديناً ويتجاهلَها من نشأ فيه وهو دينُه ودين آبائه.
الدكتور كريغ كونسِداين محاضرٌ في علم الاجتماع في جامعة رايس (هيوستون، تكساس) وباحث ومؤلف في الإسلام والتاريخ الإسلامي وكاتب في كبرى الصحف الأمريكية: نيويورك تايمز وواشنطون بوست وفورين بوليسي وغيرها، وهو أمريكي كاثوليكي من أصل آيرلندي إيطالي. نشر قبل أيام مقالة في مجلة نيوزويك بعنوان: "هل يمكن مكافحة الوباء بالدعاء وحدَه؟ النبي محمد كان له رأي مغاير".
وصف الدكتور كونسداين في مقالته توصيةَ الأطباء الرئيسية لمحاصرة الوباء: النظافة والعزل، ثم قال: "هل تعلمون مَن أيضاً اقترح هذه الوسائل ذاتها لعلاج الأمراض والأوبئة؟ إنه نبي الإسلام محمد الذي قدم نصيحة ثمينة لمحاربة وقمع فيروس قاتل مثل الكورونا..." ثم استفاض في عرض الأحاديث التي قرأتموها قبل قليل، ومعها حديث التوكل الذي أمر فيه النبي عليه الصلاة والسلام الأعرابيَّ بعَقْل ناقته ثم التوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب. ثم ختم مقالته بهذه الكلمات المعبّرة: "كان محمد يأمُل أن يتخذ الناس إجراءات وقائية احترازية من شأنها ضمان سلامة المجتمع واستقراره، أو بكلمات أخرى: أراد أن يتبع الناس نداء العقل السليم في مثل هذه الظروف" (نص المقالة الكامل في الرابط تحت هذا المنشور).
-6-
ليس المطلوب أن يفزع الناس وهم يواجهون هذا الوباء الخطير، فالفزع قَتّال، وقد رأيت ضحاياه بعينَي رأسي قبل ثلاث وأربعين سنة لمّا تطوعت مع جوالة جامعة الملك عبد العزيز (وأنا طالب فيها) لإرشاد الحجاج في المشاعر. وقعت يومها مَقتلة في يوم النحر عند الجَمرة الكبرى؛ تعثّر بعض الحجاج فسقطوا وسقط فوقهم غيرُهم، فانتشر الفزع وتدافع الناس حتى وطئ بعضهم على بعض ومات بضعة وأربعون منهم دعساً تحت الأرجل، وكدت أموت معهم لولا لطف الله، ولو ضبطوا أنفسهم وتحركوا بهدوء لنجوا جميعاً، رحمهم الله.
ولكن الإفراط في التهاون بالمرض والاستخفاف به ليس أقلَّ شراً من الإفراط في الخوف منه والهلع بسببه، فالوَلاّجون الخَرّاجون الذين يستهترون بخطر العدوى ويتزاحمون ويتخالطون يساعدون على نقل فيروسات المرض ونشرها في المجتمع، فيضرّون أنفسهم ويضرّون غيرهم من الناس، وهم آثمون.
انظروا إلى هذا الحديث الوجيز العظيم الذي قدّم قاعدة من أعظم القواعد الإنسانية: "لا ضرر ولا ضرار". الضرر معروف، والضرار هو مصدر الفعل "أضَرّ"، بمعنى التسبب في الضرر للآخرين. فصار معنى الحديث: غيرُ مسموح لأي فرد في المجتمع أن يضر نفسه أو يضر غيرَه، ومن صنع ذلك فإنه آثم لمخالفته توجيهَ النبي الصريح، عليه صلاة الله وسلامه، وللسلطة التنفيذية في أي بلد أن تمنعه بقوة القانون، لأن من واجبات السلطة توفير الأمان للمجتمع وعموم الناس.
-7-
الخلاصة: الإنسان العادي يجنح بطبيعته إلى التبسيط ولا يحبّ التفكير بالحلول المركبة، لذلك يختار أكثرُ الناس الميل إلى أحد الطرفين في أي مسألة تعرض لهم، و"كلا طرفَي قصد الأمور ذَميمُ". الإنسان العاقل يقاوم الكسل العقلي ويُتعب نفسه للوصول إلى الرؤية الصحيحة في أي مشكلة، وهي غالباً موقف وسيط بين الآراء المتطرفة، وهي في حالة هذا الوباء تحديداً: استجابةٌ عاقلة واعية تبتعد عن الهلع العشوائي (الذي رأينا من صوره في أمريكا ما لم نَرَ مثله في بلادنا بحمد الله) وتبتعد أيضاً عن الاستهتار والاستخفاف اللذين من شأنهما مسارعة انتشار الوباء وخروجه عن السيطرة لا قدّر الله.
لقد أصدرت كل دول العالم تقريباً قوانينَ مؤقتة وتعليمات صارمة من شأنها محاصرة الوباء، والعقلُ والشرع يقتضيان اتباعَ تلك التعليمات واحترامَ القوانين طالما أنها تهدف لتحقيق الصالح العام، وإنّ تَحَدّيها ومخالفتها ليس سلوكاً حضارياً ولا شرعياً ولا هو دالٌّ على الرجولة والشجاعة.
قبل نحو عشرة أيام دخلت إلى القاموس الإنكليزي كلمة جديدة صفةً للشخص الذي يستهتر بوباء كورونا ويتحدى توجيهات السلطات الصحية الساعية إلى الحد من انتشاره: "كوفِدْيوت" [covidiot] (اشتقاقاً من اسم الفيروس). المطلوب أن لا نكون كوفِديوتيّين مستهترين ولا فَزِعين هَلِعين، المطلوب موقف وسط بين الوقوع ضحايا لفوبيا كورونا أو الاستخفاف الكامل به. المطلوب موقف إسلامي وعقلاني يهتدي بهدي النبي عليه الصلاة والسلام وبهدي الفطرة السويّة والعقل السليم: الحرص الشديد والاحتياط الكامل، مع الاتكال الحقيقي على الله والرضا الكامل بقضاء الله. حماكم الله من البلاء والوباء.
_______________
* رابط مقالة الدكتور كونسيداين
https://www.newsweek.com/prophet-prayer-muhammad-covid-19-coronavirus-1492798
** تعريف بالدكتور كونسداين من موقع جامعة رايس
https://sociology.rice.edu/craig-considine
-6-
ليس المطلوب أن يفزع الناس وهم يواجهون هذا الوباء الخطير، فالفزع قَتّال، وقد رأيت ضحاياه بعينَي رأسي قبل ثلاث وأربعين سنة لمّا تطوعت مع جوالة جامعة الملك عبد العزيز (وأنا طالب فيها) لإرشاد الحجاج في المشاعر. وقعت يومها مَقتلة في يوم النحر عند الجَمرة الكبرى؛ تعثّر بعض الحجاج فسقطوا وسقط فوقهم غيرُهم، فانتشر الفزع وتدافع الناس حتى وطئ بعضهم على بعض ومات بضعة وأربعون منهم دعساً تحت الأرجل، وكدت أموت معهم لولا لطف الله، ولو ضبطوا أنفسهم وتحركوا بهدوء لنجوا جميعاً، رحمهم الله.
ولكن الإفراط في التهاون بالمرض والاستخفاف به ليس أقلَّ شراً من الإفراط في الخوف منه والهلع بسببه، فالوَلاّجون الخَرّاجون الذين يستهترون بخطر العدوى ويتزاحمون ويتخالطون يساعدون على نقل فيروسات المرض ونشرها في المجتمع، فيضرّون أنفسهم ويضرّون غيرهم من الناس، وهم آثمون.
انظروا إلى هذا الحديث الوجيز العظيم الذي قدّم قاعدة من أعظم القواعد الإنسانية: "لا ضرر ولا ضرار". الضرر معروف، والضرار هو مصدر الفعل "أضَرّ"، بمعنى التسبب في الضرر للآخرين. فصار معنى الحديث: غيرُ مسموح لأي فرد في المجتمع أن يضر نفسه أو يضر غيرَه، ومن صنع ذلك فإنه آثم لمخالفته توجيهَ النبي الصريح، عليه صلاة الله وسلامه، وللسلطة التنفيذية في أي بلد أن تمنعه بقوة القانون، لأن من واجبات السلطة توفير الأمان للمجتمع وعموم الناس.
-7-
الخلاصة: الإنسان العادي يجنح بطبيعته إلى التبسيط ولا يحبّ التفكير بالحلول المركبة، لذلك يختار أكثرُ الناس الميل إلى أحد الطرفين في أي مسألة تعرض لهم، و"كلا طرفَي قصد الأمور ذَميمُ". الإنسان العاقل يقاوم الكسل العقلي ويُتعب نفسه للوصول إلى الرؤية الصحيحة في أي مشكلة، وهي غالباً موقف وسيط بين الآراء المتطرفة، وهي في حالة هذا الوباء تحديداً: استجابةٌ عاقلة واعية تبتعد عن الهلع العشوائي (الذي رأينا من صوره في أمريكا ما لم نَرَ مثله في بلادنا بحمد الله) وتبتعد أيضاً عن الاستهتار والاستخفاف اللذين من شأنهما مسارعة انتشار الوباء وخروجه عن السيطرة لا قدّر الله.
لقد أصدرت كل دول العالم تقريباً قوانينَ مؤقتة وتعليمات صارمة من شأنها محاصرة الوباء، والعقلُ والشرع يقتضيان اتباعَ تلك التعليمات واحترامَ القوانين طالما أنها تهدف لتحقيق الصالح العام، وإنّ تَحَدّيها ومخالفتها ليس سلوكاً حضارياً ولا شرعياً ولا هو دالٌّ على الرجولة والشجاعة.
قبل نحو عشرة أيام دخلت إلى القاموس الإنكليزي كلمة جديدة صفةً للشخص الذي يستهتر بوباء كورونا ويتحدى توجيهات السلطات الصحية الساعية إلى الحد من انتشاره: "كوفِدْيوت" [covidiot] (اشتقاقاً من اسم الفيروس). المطلوب أن لا نكون كوفِديوتيّين مستهترين ولا فَزِعين هَلِعين، المطلوب موقف وسط بين الوقوع ضحايا لفوبيا كورونا أو الاستخفاف الكامل به. المطلوب موقف إسلامي وعقلاني يهتدي بهدي النبي عليه الصلاة والسلام وبهدي الفطرة السويّة والعقل السليم: الحرص الشديد والاحتياط الكامل، مع الاتكال الحقيقي على الله والرضا الكامل بقضاء الله. حماكم الله من البلاء والوباء.
_______________
* رابط مقالة الدكتور كونسيداين
https://www.newsweek.com/prophet-prayer-muhammad-covid-19-coronavirus-1492798
** تعريف بالدكتور كونسداين من موقع جامعة رايس
https://sociology.rice.edu/craig-considine
Newsweek
Can Prayer Alone Stop a Pandemic? Even the Prophet Muhammad Wouldn't Agree
Some religious leaders have suggested eschewing social distancing in favor of prayer. The founder of one of the world's great religions would have a thing or two to say about that.
كورونا والسيناريوهات الأربعة
كورونا: أسابيع أم شهور؟
هل فزع منظمة الصحة العالمية من انتشار كورونا مبرَّر؟
هل يحتاج العالم إلى صدمة كورونا ليدرك معنى المسير والمصير؟
من بين كل اليوتيوبات التي شاهدتُها عن وباء كورونا مؤخراً هذا هو الأفضل، جزى الله "قناة رواسخ" خيراً على هذا الإنتاج الراقي المفيد.
https://www.youtube.com/watch?time_continue=3&v=1uTUG1X51Yg
#كورونا
#رواسخ
#الزم_بيتك
#خليك_بالبيت
#سلامتك_في_بيتك
#Corona
#COVID19
كورونا: أسابيع أم شهور؟
هل فزع منظمة الصحة العالمية من انتشار كورونا مبرَّر؟
هل يحتاج العالم إلى صدمة كورونا ليدرك معنى المسير والمصير؟
من بين كل اليوتيوبات التي شاهدتُها عن وباء كورونا مؤخراً هذا هو الأفضل، جزى الله "قناة رواسخ" خيراً على هذا الإنتاج الراقي المفيد.
https://www.youtube.com/watch?time_continue=3&v=1uTUG1X51Yg
#كورونا
#رواسخ
#الزم_بيتك
#خليك_بالبيت
#سلامتك_في_بيتك
#Corona
#COVID19
ما لا يعرفه الناس عن علي الطنطاوي (1)
حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
الحلقة الأولى: عالم علي الطنطاوي
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/523663124705297/?type=2&video_source=user_video_tab
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
الحلقة الأولى: عالم علي الطنطاوي
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/523663124705297/?type=2&video_source=user_video_tab
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
ما لا يعرفه الناس عن علي الطنطاوي (2)
الزهد والتقشف في حياة علي الطنطاوي
الحلقة الثانية من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/524069471331329/?type=2&video_source=user_video_tab
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
الزهد والتقشف في حياة علي الطنطاوي
الحلقة الثانية من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/524069471331329/?type=2&video_source=user_video_tab
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
Facebook
مجاهد
في صحبة جدي علي الطنطاوي
الحلقة الثالثة: الزهد والتقشف
الحلقة الثالثة: الزهد والتقشف
ما لا يعرفه الناس عن علي الطنطاوي (3)
التربية بالتشجيع
الحلقة الثالثة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/524577721280504/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
#التربية
#التربية_بالتشجيع
التربية بالتشجيع
الحلقة الثالثة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/524577721280504/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
#التربية
#التربية_بالتشجيع
في زمن كورونا: كيف تجمع في بيتك مئة من الأصحاب ولا تخالف القانون؟
كثيرون في هذه الأيام يتبرّمون ويَشْكون الوَحشة بسبب حبسهم في البيوت الوقتَ الأطول. أمّا أنا فلم أُبالِ بحبس ولا ضقت بالحجر المنزلي ولو طال، لأنني أعيش مع مئات من الأصحاب الذين أبَوا أن يتركوني وحيداً في هذه الظروف، وإني لهم لَمَدين بالشكر والعرفان.
فمَن يحب أن يحصل على ما مثل ما حصلت عليه وأن يُمضي وقته مع مثل هؤلاء الأصحاب الكرام؟
* * *
روى ياقوت في معجم الأدباء عن ابن الأعرابي (وهو من أئمة اللغة ومن علمائها الكبار في القرن الهجري الثاني) أن أحد أصحابه أرسل إليه يدعوه لزيارته، فلما جاءه الغلام وبلّغه الدعوة اعتذر عن إجابتها متعللاً بأنه لا يستطيع أن يترك الضيوف. ثم التقي بصاحبه من بعدُ فسأله عن أولئك الضيوف الذين حالوا بينه وبين تلبية دعوته، قال: سألت الغلام فقال إنه لم يَرَ أحداً عندك. فأنشد ابن الأعرابي:
لنا جُلَساءُ لا نَمَلّ حديثهم *** ألِبّاءُ مأمونون غيباً ومَشهدا
يُفيدوننا من علمهم علم من مضى *** وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدّدا
فلا فتنة نخشى ولا سوء عِشْرة *** ولا نتّقي منهم لساناً ولا يدا
* * *
وبعد، فكيف يسأم من أغلق عليه باب بيته ومعه مئات ومئات من أولئك الأصحاب من كل فن ولون، إنْ مَلّ صحبة هذا انتقل لصحبة ذاك، وإذا لم يجد ضالّته عند واحد منهم وجدها عند سواه؟
فيا أيها القارئ الكريم: كم كتاباً أعجبك في مَواضي الأيام وتمنيت لو تتاح لك فسحة من الوقت لقراءته، ثم لم تجد الفسحة التي تتمنى وتريد؟ كم مرة قلّبت فيها متحسراً كتباً طال مُكثها على الرف حتى جللها غبارُ الترك وقد حالت بينك وبينها الشواغل وصرفتك عنها الأعمال التي لا تنتهي؟
فالآن الوقت المناسب والآن الفرصة التي كنت ترجو وتتمنى، فاغتنمها قبل أن تضيع، فإنْ هي إلا أيام تنقضي ثم نغرق في لُجّة الحياة من جديد. عافانا الله جميعاً من البلاء والوباء وحفظكم وإيّاي من كل ضر ومكروه. وكل عام وأنتم جميعاً بخير.
كثيرون في هذه الأيام يتبرّمون ويَشْكون الوَحشة بسبب حبسهم في البيوت الوقتَ الأطول. أمّا أنا فلم أُبالِ بحبس ولا ضقت بالحجر المنزلي ولو طال، لأنني أعيش مع مئات من الأصحاب الذين أبَوا أن يتركوني وحيداً في هذه الظروف، وإني لهم لَمَدين بالشكر والعرفان.
فمَن يحب أن يحصل على ما مثل ما حصلت عليه وأن يُمضي وقته مع مثل هؤلاء الأصحاب الكرام؟
* * *
روى ياقوت في معجم الأدباء عن ابن الأعرابي (وهو من أئمة اللغة ومن علمائها الكبار في القرن الهجري الثاني) أن أحد أصحابه أرسل إليه يدعوه لزيارته، فلما جاءه الغلام وبلّغه الدعوة اعتذر عن إجابتها متعللاً بأنه لا يستطيع أن يترك الضيوف. ثم التقي بصاحبه من بعدُ فسأله عن أولئك الضيوف الذين حالوا بينه وبين تلبية دعوته، قال: سألت الغلام فقال إنه لم يَرَ أحداً عندك. فأنشد ابن الأعرابي:
لنا جُلَساءُ لا نَمَلّ حديثهم *** ألِبّاءُ مأمونون غيباً ومَشهدا
يُفيدوننا من علمهم علم من مضى *** وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدّدا
فلا فتنة نخشى ولا سوء عِشْرة *** ولا نتّقي منهم لساناً ولا يدا
* * *
وبعد، فكيف يسأم من أغلق عليه باب بيته ومعه مئات ومئات من أولئك الأصحاب من كل فن ولون، إنْ مَلّ صحبة هذا انتقل لصحبة ذاك، وإذا لم يجد ضالّته عند واحد منهم وجدها عند سواه؟
فيا أيها القارئ الكريم: كم كتاباً أعجبك في مَواضي الأيام وتمنيت لو تتاح لك فسحة من الوقت لقراءته، ثم لم تجد الفسحة التي تتمنى وتريد؟ كم مرة قلّبت فيها متحسراً كتباً طال مُكثها على الرف حتى جللها غبارُ الترك وقد حالت بينك وبينها الشواغل وصرفتك عنها الأعمال التي لا تنتهي؟
فالآن الوقت المناسب والآن الفرصة التي كنت ترجو وتتمنى، فاغتنمها قبل أن تضيع، فإنْ هي إلا أيام تنقضي ثم نغرق في لُجّة الحياة من جديد. عافانا الله جميعاً من البلاء والوباء وحفظكم وإيّاي من كل ضر ومكروه. وكل عام وأنتم جميعاً بخير.
ما لا يعرفه الناس عن علي الطنطاوي (4)
البصيرة وبُعد النظر
الحلقة الرابعة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/525037494567860/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
البصيرة وبُعد النظر
الحلقة الرابعة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/525037494567860/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
لَذّة التراويح البيتيّة
في هذه الأيام التي لزم الناس فيها بيوتَهم وحال الوباء بينهم وبين المساجد التي أَلِفوا صلاةَ التراويح فيها في رمضان كل عام، فيها يتحسّر كثيرون على لذة التراويح الجماعية التي حُرموا منها والجو الرمضاني الجميل الذي خسروه.
ولكنْ مهلاً، فلئن كانت لجماعة التراويح في المساجد نكهة رمضانية ساحرة فإن لصلاة التراويح فُرادى في البيوت لَذّة روحية لا توصَف، وفي كل خير.
وأكثر ما يشعر المرء بهذه اللذة إذا خلا بسَجّادته ومصحفه. فأغلق عليك بابك واحمل بيدك مصحفك، ثم اقرأ في كل ركعة ما يحقق لك الخشوع والرضا. اقرأ ما شعرت أن التلاوة تتغلغل في أعماق نفسك وتمسّ شغاف قلبك، غيرَ عابئ بعَدّ الصفحات ومن غير أن تُلزم نفسك بقدر محدد من التلاوة في الركعة الواحدة. فلتكن آية في ركعة وصفحتين في أخرى، المهم أن تقرأ بتدبر وتلذذ وخشوع وقلب حاضر.
تقبل الله منكم، وكل عام وأنتم بخير.
#رمضان
#كورونا
#الزم_بيتك
#خليك_بالبيت
#سلامتك_في_بيتك
في هذه الأيام التي لزم الناس فيها بيوتَهم وحال الوباء بينهم وبين المساجد التي أَلِفوا صلاةَ التراويح فيها في رمضان كل عام، فيها يتحسّر كثيرون على لذة التراويح الجماعية التي حُرموا منها والجو الرمضاني الجميل الذي خسروه.
ولكنْ مهلاً، فلئن كانت لجماعة التراويح في المساجد نكهة رمضانية ساحرة فإن لصلاة التراويح فُرادى في البيوت لَذّة روحية لا توصَف، وفي كل خير.
وأكثر ما يشعر المرء بهذه اللذة إذا خلا بسَجّادته ومصحفه. فأغلق عليك بابك واحمل بيدك مصحفك، ثم اقرأ في كل ركعة ما يحقق لك الخشوع والرضا. اقرأ ما شعرت أن التلاوة تتغلغل في أعماق نفسك وتمسّ شغاف قلبك، غيرَ عابئ بعَدّ الصفحات ومن غير أن تُلزم نفسك بقدر محدد من التلاوة في الركعة الواحدة. فلتكن آية في ركعة وصفحتين في أخرى، المهم أن تقرأ بتدبر وتلذذ وخشوع وقلب حاضر.
تقبل الله منكم، وكل عام وأنتم بخير.
#رمضان
#كورونا
#الزم_بيتك
#خليك_بالبيت
#سلامتك_في_بيتك
ما لا يعرفه الناس عن علي الطنطاوي (5)
الصدق والاستقامة
الحلقة الخامسة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية"، تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدّي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/525516751186601/?type=2&video_source=user_video_tab …
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
الصدق والاستقامة
الحلقة الخامسة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية"، تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدّي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/525516751186601/?type=2&video_source=user_video_tab …
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
Facebook Watch
مجاهد مأمون ديرانية
في صحبة جدي علي الطنطاوي الحلقة السادسة: الصدق والاستقامة
ما لا يعرفه الناس عن علي الطنطاوي (6)
التوازن والاعتدال
الحلقة السادسة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/526041827800760/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
التوازن والاعتدال
الحلقة السادسة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/526041827800760/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
ما لا يعرفه الناس عن علي الطنطاوي (7)
التواضع والاعتذار
الحلقة السابعة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/526489577755985/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
التواضع والاعتذار
الحلقة السابعة من حلقات قصيرة سجلتها لقناة "المجد العلمية" تحدثت فيها عن الجوانب غير المعروفة في شخصية جدي وحياته رحمه الله.
https://www.facebook.com/Mujahed.Diraneyya.2/videos/vb.100011848412182/526489577755985/?type=2&video_source=user_video_tab
#الطنطاوي
#علي_الطنطاوي
#على_مائدة_الإفطار
Facebook Watch
مجاهد مأمون ديرانية
في صحبة جدي علي الطنطاوي الحلقة الثامنة: التواضع والاعتذار
التراويح في البيوت: جماعة أم فُرادى؟
مع تعليق صلاة التراويح في المساجد وأدائها في البيوت يسأل كثيرون: هل الأفضل أن يصليها كل واحد من أهل البيت منفرداً أو يجتمعون لأدائها جماعةً وراء إمام؟
هذا المسألة فرعٌ عن أصل، وأصلها هو: أيهما أفضل في صلاة التراويح، أداؤها جماعة في المساجد أم أداؤها في البيوت على انفراد؟
اختلف جواب الفقهاء عن هذا السؤال بسبب اختلاف نظرتهم إلى التراويح: هل هي كغيرها من النوافل الفردية التي يُستَحبّ أداؤها في خفاء وانفراد في البيوت لا في المساجد، كالرواتب وصلاة التهجد، أم أنها من نوع الشعائر الظاهرة التي يُستحَب إظهارها وإعلانها وأداؤها في جماعة، كصلاة العيد وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء؟
المشهور هو الرأي الثاني والعملُ جارٍ عليه في كل الأزمان، إلا أن الذين فضّلوا الانفراد بالتراويح في البيوت (بشرط أن لا تتعطل جماعة المسجد) كثيرون، فقد ذهبت إلى هذا القول طائفة من السلف فيهم ابن عمر وعروة وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع، واختاره أبو يوسف من كبار فقهاء الحنفية، وهو الراجح عند المالكية، وهو أيضاً اختيار أكثر فقهاء الشافعية كما نقله الماوردي في "الحاوي الكبير"، قال (2/291): "إن صلاة المنفرد في قيام شهر رمضان أفضل إن لم يكن في انفراده تعطيل الجماعة، وهو قول أكثر أصحابنا".
وفي شرح ابن بطال على صحيح البخاري (3/126): "احتج قوم من الفقهاء بقعود النبي عليه الصلاة والسلام عن الخروج إلى أصحابه الليلةَ الثالثة أو الرابعة وقالوا: إن صلاة رمضان في البيت للمنفرد أفضل من صلاتها في المسجد، منهم مالك وأبو يوسف والشافعي. وقال مالك: كان ربيعة وغيرُ واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، فما قام رسول الله صى الله عليه وسلم إلا في بيته. وذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه عن ابن عمر وسالم وعلقمة والأسود أنهم كانوا لا يقومون مع الناس في رمضان، وقال الحسن البصري: "لأن تَفوهَ بالقرآن أحبُّ إليّ من أن يُفاهَ به عليك". ومن الحجة لهم أيضاً حديث زيد بن ثابت أن النبي عليه الصلاة والسلام حين لم يخرج إليهم قال لهم: إني خشيت أن يُفرض عليكم، فصلّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
وقد عقب ابن عبد البر في الاستذكار (5/164) على هذا الحديث تعقيباً لطيفاً، قال: "فإذا كانت النافلة في البيت أفضلَ منها في مسجد النبي رغم أن الصلاة فيه بألف صلاة، فأي فضل أبْيَنُ من هذا؟ ولهذا كان مالك والشافعي ومن سلك سبيلهما يرون الانفراد في البيت أفضل في كل نافلة، فإذا قامت الصلاة في المساجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذ في البيت أفضل".
* * *
لعل التفصيل السابق لم يقدم الجواب الحاسم المأمول، وليس الجواب الواحد مطلوباً في المسائل الخلافية التي وسع الخلاف فيها علماء الأمة على أي حال، فليصلّ التراويحَ كل واحد بالطريقة التي يشعر فيها بقدر أكبر من الخشوع والتدبّر والتركيز، سواء في المسجد مع الناس، أو في البيت منفرداً أو في جماعة.
أنا -كأكثر المسلمين في كل البلاد- كنت أرتاح لأفضلية صلاة الجماعة في المسجد لدهر طويل، ثم ملت إلى الرأي الآخر وشعرت فيه براحة نفسية أكبر، فانتقلت إلى الصلاة في البيت من أكثر من عشرين سنة. وكنت أقيم التراويح جماعة في أهل البيت، فأصلي أربعاً ثم أقدّم ولديّ الكبيرين فيصلي كل منهما اثنتين (وفي مثل هذا العمل تدريب عملي لأولادنا على الإمامة) ثم أختم بكلمة قصيرة فيها تعليق على بعض الآيات التي قُرئت في الصلاة. ثم كبر الأولاد وتزوج منهم من تزوج وتفرق الباقون للدراسة في البلاد فصرت أصلي منفرداً، فأطيل وأقصر وأركع وأسجد كما شئت غيرَ عابئ بمأموم أخشى عليه الملل والتعب لو طال القيام والسجود.
فهذه ثلاث صور جربتها كلها في التراويح: جماعة في المسجد وجماعة في البيت ثم منفرداً فيه، والصورة الأخيرة هي أقربها إلى قلبي وفيها أجد لذة التراويح العظيمة. على أنني لا أنصح غيري بأن يصنع مثل صنيعي ولا أنصح بخلافه، فالأمر متسع وفي الرأيين وجاهة معتبَرة ولكل مجتهد نصيب، المهم أن يصلي المرء صلاة تقربه من الله ويمتلئ فيها قلبه بالخشوع والإيمان والاطمئنان.
ولعل القول الفصل في المسألة هي كلمة ابن عبد البر في التمهيد (2/288): "القيام في رمضان تطوع، وكذلك قيام الليل كله، وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرض على أمته، فمن أوجبه فرضاً أوقع ما خشيه رسول الله وخافه وكرهه على أمته. وإذا صَحّ أنه تطوع فقد علمنا بالسنة الثابتة أن التطوع في البيوت أفضل، إلا أنّ قيام رمضان [يعني في المساجد] لا بد أن يُقام اتّباعاً لعمر واستدلالاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قامت الصلاة في المساجد فالأفضل عندي حينئذ حيث تصلح للمصلي نيته وخشوعه وإخباته وتدبر ما يتلوه في صلاته، فحيث كان ذلك فهو أفضل إن شاء الله".
مع تعليق صلاة التراويح في المساجد وأدائها في البيوت يسأل كثيرون: هل الأفضل أن يصليها كل واحد من أهل البيت منفرداً أو يجتمعون لأدائها جماعةً وراء إمام؟
هذا المسألة فرعٌ عن أصل، وأصلها هو: أيهما أفضل في صلاة التراويح، أداؤها جماعة في المساجد أم أداؤها في البيوت على انفراد؟
اختلف جواب الفقهاء عن هذا السؤال بسبب اختلاف نظرتهم إلى التراويح: هل هي كغيرها من النوافل الفردية التي يُستَحبّ أداؤها في خفاء وانفراد في البيوت لا في المساجد، كالرواتب وصلاة التهجد، أم أنها من نوع الشعائر الظاهرة التي يُستحَب إظهارها وإعلانها وأداؤها في جماعة، كصلاة العيد وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء؟
المشهور هو الرأي الثاني والعملُ جارٍ عليه في كل الأزمان، إلا أن الذين فضّلوا الانفراد بالتراويح في البيوت (بشرط أن لا تتعطل جماعة المسجد) كثيرون، فقد ذهبت إلى هذا القول طائفة من السلف فيهم ابن عمر وعروة وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع، واختاره أبو يوسف من كبار فقهاء الحنفية، وهو الراجح عند المالكية، وهو أيضاً اختيار أكثر فقهاء الشافعية كما نقله الماوردي في "الحاوي الكبير"، قال (2/291): "إن صلاة المنفرد في قيام شهر رمضان أفضل إن لم يكن في انفراده تعطيل الجماعة، وهو قول أكثر أصحابنا".
وفي شرح ابن بطال على صحيح البخاري (3/126): "احتج قوم من الفقهاء بقعود النبي عليه الصلاة والسلام عن الخروج إلى أصحابه الليلةَ الثالثة أو الرابعة وقالوا: إن صلاة رمضان في البيت للمنفرد أفضل من صلاتها في المسجد، منهم مالك وأبو يوسف والشافعي. وقال مالك: كان ربيعة وغيرُ واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، فما قام رسول الله صى الله عليه وسلم إلا في بيته. وذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه عن ابن عمر وسالم وعلقمة والأسود أنهم كانوا لا يقومون مع الناس في رمضان، وقال الحسن البصري: "لأن تَفوهَ بالقرآن أحبُّ إليّ من أن يُفاهَ به عليك". ومن الحجة لهم أيضاً حديث زيد بن ثابت أن النبي عليه الصلاة والسلام حين لم يخرج إليهم قال لهم: إني خشيت أن يُفرض عليكم، فصلّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
وقد عقب ابن عبد البر في الاستذكار (5/164) على هذا الحديث تعقيباً لطيفاً، قال: "فإذا كانت النافلة في البيت أفضلَ منها في مسجد النبي رغم أن الصلاة فيه بألف صلاة، فأي فضل أبْيَنُ من هذا؟ ولهذا كان مالك والشافعي ومن سلك سبيلهما يرون الانفراد في البيت أفضل في كل نافلة، فإذا قامت الصلاة في المساجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذ في البيت أفضل".
* * *
لعل التفصيل السابق لم يقدم الجواب الحاسم المأمول، وليس الجواب الواحد مطلوباً في المسائل الخلافية التي وسع الخلاف فيها علماء الأمة على أي حال، فليصلّ التراويحَ كل واحد بالطريقة التي يشعر فيها بقدر أكبر من الخشوع والتدبّر والتركيز، سواء في المسجد مع الناس، أو في البيت منفرداً أو في جماعة.
أنا -كأكثر المسلمين في كل البلاد- كنت أرتاح لأفضلية صلاة الجماعة في المسجد لدهر طويل، ثم ملت إلى الرأي الآخر وشعرت فيه براحة نفسية أكبر، فانتقلت إلى الصلاة في البيت من أكثر من عشرين سنة. وكنت أقيم التراويح جماعة في أهل البيت، فأصلي أربعاً ثم أقدّم ولديّ الكبيرين فيصلي كل منهما اثنتين (وفي مثل هذا العمل تدريب عملي لأولادنا على الإمامة) ثم أختم بكلمة قصيرة فيها تعليق على بعض الآيات التي قُرئت في الصلاة. ثم كبر الأولاد وتزوج منهم من تزوج وتفرق الباقون للدراسة في البلاد فصرت أصلي منفرداً، فأطيل وأقصر وأركع وأسجد كما شئت غيرَ عابئ بمأموم أخشى عليه الملل والتعب لو طال القيام والسجود.
فهذه ثلاث صور جربتها كلها في التراويح: جماعة في المسجد وجماعة في البيت ثم منفرداً فيه، والصورة الأخيرة هي أقربها إلى قلبي وفيها أجد لذة التراويح العظيمة. على أنني لا أنصح غيري بأن يصنع مثل صنيعي ولا أنصح بخلافه، فالأمر متسع وفي الرأيين وجاهة معتبَرة ولكل مجتهد نصيب، المهم أن يصلي المرء صلاة تقربه من الله ويمتلئ فيها قلبه بالخشوع والإيمان والاطمئنان.
ولعل القول الفصل في المسألة هي كلمة ابن عبد البر في التمهيد (2/288): "القيام في رمضان تطوع، وكذلك قيام الليل كله، وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرض على أمته، فمن أوجبه فرضاً أوقع ما خشيه رسول الله وخافه وكرهه على أمته. وإذا صَحّ أنه تطوع فقد علمنا بالسنة الثابتة أن التطوع في البيوت أفضل، إلا أنّ قيام رمضان [يعني في المساجد] لا بد أن يُقام اتّباعاً لعمر واستدلالاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قامت الصلاة في المساجد فالأفضل عندي حينئذ حيث تصلح للمصلي نيته وخشوعه وإخباته وتدبر ما يتلوه في صلاته، فحيث كان ذلك فهو أفضل إن شاء الله".
خواطر كورونية (1)
الأسرة السعيدة
لهذه الجائحة العالمية وجهها القبيح الذي يعرفه كل الناس، ولكنّ لها أيضاً وجهَها الحسن وفوائدَها التي لا تُنكر، وعلى رأسها التآلفُ والتعارف والتوادُّ والتراحم بين أهل البيت الواحد.
صحيحٌ أنهم يعيشون معاً وينبغي أن يعرف كل واحد منهم سائر أهل البيت معرفة وثيقة، لكنْ ما كل ما ينبغي أن يكون يكون، ولا سيما في عصرٍ انشغل فيه كل واحد بخاصّة نفسه واختل التواصل بين الناس جميعاً، فلو سألتَ الأب عن أولاده، عن هواياتهم وميولهم وأفكارهم وأصحابهم وجميع شأنهم، كاد يعجز عن الإجابة عن سؤالين من كل ثلاثة. ولو سألت الزوج عن زوجته، عن همومها واهتماماتها وما تحب وما تكره، لرسب في الامتحان كثيرون.
فلما حبس الوباء الناسَ في البيوت واضطروا إلى قضاء الوقت الأطول متصاحبين تفتحت في الجُدُر المُصمَتة بينهم ثغراتٌ ونوافذُ نفذ منها كل واحد إلى عوالم الآخرين، فعرف الواحدُ أهلَ بيته كما لم يعرفهم من قبل، وزادت الألفة والمحبة والتفاهم والانسجام بين الجميع.
أعلم أن الأخبار تطير بالخلافات التي زادت في الأُسَر وأن الإحصاءات تشير إلى زيادة العنف في البيوت، ولكنها لا تُحمل على ظاهرها بإطلاق، فالإعلام يبرز السيّئ من الأخبار ويواري الحَسَن، لأنه يختار الشاذ الذي يثير اهتمام الناس ويتجاهل الشائع المألوف الذي لا يثير الاهتمام، فيصوّر عاصفة من غبار ويهمل تفتّحَ ملايين الأوراد والأزهار، ويخبرنا عن طيارة سقطت ومات ركابها ولا يخبرنا عن مئة ألف طيارة وصلت إلى غاياتها بسلام.
لا ريب أن الخلافات زادت في البيوت مع الحجر الإلزامي وزاد العنف الأسري، ولكنْ مَن قال إن الأخيار صاروا بالحَجْر من الأشرار؟ إن القويّ الذي يَفُشّ غليله وينفّس غضبه في الضعيف لم يكن إنساناً صالحاً قط، وإنما زادته الظروف الجديدة سوءاً فوق سوء. أما أصحاب الطبع النبيل والخلق الأصيل (وهم الأكثرون بحمد الله) فقد زادتهم هذه المحنة عطفاً ولطفاً وتقارباً وتفاهماً وألفة ومودة.
عاش الزوج مع زوجته في البيت ساعات النهار كلها فأدرك كم تَشقى لجعل البيت مكاناً صالحاً للحياة، فقدّرها كما لم يفعل من قبل. ولعله جاد عليها بالحنان ومَدّ لها يد العون (اقتداء بالحبيب المصطفى الذي كان في مهنة أهله) فعَظُم في عينها واحتل من قلبها أعلى الدرجات. واجتمع الآباء مع الأبناء أطول الأوقات فتقاربوا وتواددوا، وعرف الآباء من أخبار الأولاد ما جهلوه ونال الأولاد من فوائد الآباء ما حُرموه. ووجد الإخوةُ والأخوات فسحةً طويلة لتبادل الأخبار والأفكار والتشارك بالهوايات والاهتمامات، فازدادوا تقارباً وتوثقت علاقة بعضهم ببعض كما لم يحصل من قبل حين كان لكل منهم عالمه الذي يصرّم فيه أكثرَ وقته.
ربما كانت البيوت التي عصفت بها الخلافات خمسة آلاف فصارت عشرة آلاف، ولكن عشرات الملايين حلوا خلافاتهم وباتوا يعيشون في سعادة وهناء. وربما زاد العنف الأسري (الذي لا يُرضي الله) ولكن التفاهم والتراحم أيضاً زاد. ولئن كان الحجر الإلزامي في البيوت قد استخرج من بعض أصحاب الخلق السيّئ أسوأ ما في أنفسهم فقد ازداد به أصحابُ الخلق الكريم كرماً ونبلاً، وكان الذي كسبوه أكثر بكثير من الذي خسروه. وهذه من فوائد كورونا، ولها فوائد أخرى يأتي خبرها في المقالات الآتيات.
عافاكم الله.
الأسرة السعيدة
لهذه الجائحة العالمية وجهها القبيح الذي يعرفه كل الناس، ولكنّ لها أيضاً وجهَها الحسن وفوائدَها التي لا تُنكر، وعلى رأسها التآلفُ والتعارف والتوادُّ والتراحم بين أهل البيت الواحد.
صحيحٌ أنهم يعيشون معاً وينبغي أن يعرف كل واحد منهم سائر أهل البيت معرفة وثيقة، لكنْ ما كل ما ينبغي أن يكون يكون، ولا سيما في عصرٍ انشغل فيه كل واحد بخاصّة نفسه واختل التواصل بين الناس جميعاً، فلو سألتَ الأب عن أولاده، عن هواياتهم وميولهم وأفكارهم وأصحابهم وجميع شأنهم، كاد يعجز عن الإجابة عن سؤالين من كل ثلاثة. ولو سألت الزوج عن زوجته، عن همومها واهتماماتها وما تحب وما تكره، لرسب في الامتحان كثيرون.
فلما حبس الوباء الناسَ في البيوت واضطروا إلى قضاء الوقت الأطول متصاحبين تفتحت في الجُدُر المُصمَتة بينهم ثغراتٌ ونوافذُ نفذ منها كل واحد إلى عوالم الآخرين، فعرف الواحدُ أهلَ بيته كما لم يعرفهم من قبل، وزادت الألفة والمحبة والتفاهم والانسجام بين الجميع.
أعلم أن الأخبار تطير بالخلافات التي زادت في الأُسَر وأن الإحصاءات تشير إلى زيادة العنف في البيوت، ولكنها لا تُحمل على ظاهرها بإطلاق، فالإعلام يبرز السيّئ من الأخبار ويواري الحَسَن، لأنه يختار الشاذ الذي يثير اهتمام الناس ويتجاهل الشائع المألوف الذي لا يثير الاهتمام، فيصوّر عاصفة من غبار ويهمل تفتّحَ ملايين الأوراد والأزهار، ويخبرنا عن طيارة سقطت ومات ركابها ولا يخبرنا عن مئة ألف طيارة وصلت إلى غاياتها بسلام.
لا ريب أن الخلافات زادت في البيوت مع الحجر الإلزامي وزاد العنف الأسري، ولكنْ مَن قال إن الأخيار صاروا بالحَجْر من الأشرار؟ إن القويّ الذي يَفُشّ غليله وينفّس غضبه في الضعيف لم يكن إنساناً صالحاً قط، وإنما زادته الظروف الجديدة سوءاً فوق سوء. أما أصحاب الطبع النبيل والخلق الأصيل (وهم الأكثرون بحمد الله) فقد زادتهم هذه المحنة عطفاً ولطفاً وتقارباً وتفاهماً وألفة ومودة.
عاش الزوج مع زوجته في البيت ساعات النهار كلها فأدرك كم تَشقى لجعل البيت مكاناً صالحاً للحياة، فقدّرها كما لم يفعل من قبل. ولعله جاد عليها بالحنان ومَدّ لها يد العون (اقتداء بالحبيب المصطفى الذي كان في مهنة أهله) فعَظُم في عينها واحتل من قلبها أعلى الدرجات. واجتمع الآباء مع الأبناء أطول الأوقات فتقاربوا وتواددوا، وعرف الآباء من أخبار الأولاد ما جهلوه ونال الأولاد من فوائد الآباء ما حُرموه. ووجد الإخوةُ والأخوات فسحةً طويلة لتبادل الأخبار والأفكار والتشارك بالهوايات والاهتمامات، فازدادوا تقارباً وتوثقت علاقة بعضهم ببعض كما لم يحصل من قبل حين كان لكل منهم عالمه الذي يصرّم فيه أكثرَ وقته.
ربما كانت البيوت التي عصفت بها الخلافات خمسة آلاف فصارت عشرة آلاف، ولكن عشرات الملايين حلوا خلافاتهم وباتوا يعيشون في سعادة وهناء. وربما زاد العنف الأسري (الذي لا يُرضي الله) ولكن التفاهم والتراحم أيضاً زاد. ولئن كان الحجر الإلزامي في البيوت قد استخرج من بعض أصحاب الخلق السيّئ أسوأ ما في أنفسهم فقد ازداد به أصحابُ الخلق الكريم كرماً ونبلاً، وكان الذي كسبوه أكثر بكثير من الذي خسروه. وهذه من فوائد كورونا، ولها فوائد أخرى يأتي خبرها في المقالات الآتيات.
عافاكم الله.
أخطاء شائعة في التلاوة والتجويد (1)
أكرمني الله عز وجل بتدريس التجويد زماناً، احتساباً أرجو به وجه الله، وقد لاحظت دائماً مشكلات شائعة في الأداء يعاني منها كثيرون. وهذا شهر القرآن الذي يتفرغ فيه المسلمون للتلاوة والختمات، فخطر ببالي أن أنشر بعض الفوائد والملاحظات، ليس على سبيل تعليم التجويد، فإنه لا يُتلقى إلا مشافَهة وله مدارسه ومدرّسوه، وإنما على سبيل التنبيه إلى طائفة من أكثر أخطاء الأداء شيوعاً بين المتعلمين.
سأبدأ بواحد من أشيع الأخطاء في الأداء، وهو "عدم تحقيق الضم والكسر"، وإمالتهما إلى صَوتين لا تعرفهما العربية الفصيحة وليسا من الأصوات الليّنة التي توجد في القرآن.
لنتعرف أولاً إلى الأصوات اللينة، ما هي؟ المشهور أن في لغتنا العربية الفصيحة ستة أصوات ليّنة، ثلاثة طويلة هي الألف والواو والياء، وهي حروف المد في التجويد، وثلاثة قصيرة هي الفتحة والضمة والكسرة. وأنا أستحسن أن أجعل الأصوات الطويلة أربعة لأن للألف الليّنة طبقتين، مفخَّمة ومرقَّقة بحسب ما بعدها، حرف استعلاء أو حرف استِفال، فهما صورتان في النطق وإن رُسمتا صورةً واحدةً في الكتابة. لاحظوا مثلاً الفرق بين نطق الألفَين في "قال" و"مال". ضع إصبعَي السبابة والإبهام على طرفَي الفم ولاحظ كيف يتحرك الحنكان في فكك السفلي مع نطق هذه الكلمة وتلك، ومَن نظر إلى المرآة وهو ينطق الكلمتين لاحظ الفرق بوضوح.
هذا ما أراه أقرب إلى الصواب، وهو أكثر اتفاقاً مع قواعد علم الصوتيات الحديث.
* * *
ينبغي على قارئ القرآن أن يدرك أن كل ما في القرآن من أصوات ليّنة محصورٌ بهذه الأصوات السبعة، ما عدا كلمةً واحدةً فيها ألفٌ مُمالة، هي كلمة "مَجراها" (وتُرسم في المصحف بالياء "مَجريها") في قوله تعالى في سورة هود: "وقال اركبوا فيها، باسم الله مَجراها ومُرساها". وكلكم تعرفون طريقة لفظها، كما نلفظ ياء "بيت" في عامية بلاد الشام. وتعريف الإمالة في كتب اللغة هو أن ينحو القارئ في الألف نحو الياء، ومثلها أن ينحو في الفتحة نحو الكسرة.
ليس في القرآن (في رواية حفص عن عاصم التي نقرأ بها في المشرق) إمالة إلا في هذه الكلمة، وتوجد في مواضع كثيرة في المصحف عند غيره من القرّاء (باستثناء ابن كثير المكي وأبي جعفر المدني) على تفصيل يعرفه علماء القراءات.
* * *
أعود إلى الخطأ الشائع في التلاوة الذي بدأت به، وهو إمالة الكسرة والضمة وعدم تحقيق نطقهما على الأصل. ويمكن ملاحظة هذا الخطأ بوضوح في قراءة الصغار الذين لم يتعلموا التجويد عندما ينطقون حرفاً مضموماً أو مكسوراً قبل حرف ساكن، كالقاف المضمومة في قوله تعالى "قُلْ هو الله أحد" والباء المكسورة في قوله "فسبِّحْ بحمد ربك".
الصواب هو نطق الضمة كما تُنطق الواو، فهما صوت واحد من حيث المخرج وإنما يختلفان بالطول، فوقت أداء الضمة هو نصف وقت أداء الواو، ولو نظر القارئ في المرآة فسوف يلاحظ أن شكل الفم لا يختلف عندما ينطق أياً منهما. والكسرة كذلك، فإنما هي ياء قصيرة فحسب. لذلك سمّى ابن جني الحركات "أبعاض حروف"، فالفتحة عنده بعض الألف والضمة بعض الواو والكسرة بعض الياء، وكان متقدّمو النحاة يسمون الفتحة "الألف الصغيرة" والضمة "الواو الصغيرة" والكسرة "الياء الصغيرة".
فمن أراد أن يدرب نفسه على نطق الضمة بإحكام فليُشْبعها حتى تصبح واواً ويدّربْ نفسه على نطقها مرات ومرات: "قُولْ هو الله أحد"، وبعد أن يألفها يقصر طولها إلى النصف فتصبح ضمة مُشبَعة. وكذلك يصنع مع الكسرة فيشبعها حتى تصبح ياء ويدرب نفسه على نطقها مرات ومرات: "فسبِّيحْ بحمد ربك"، وبعد أن يألفها يقصر طولها إلى النصف فتصبح كسرة مُشبَعة.
وقد صار تدريبُ الإنسان نفسَه على النطق الصحيح أيسرَ مع انتشار أدوات التسجيل والسماع في هذه الأجهزة الذكية التي يحملها الناس. فمن أراد الإتقان فليبدأ بالمرآة: يقف أمامها وينظر إلى شكل فمه عندما يلفظ الضمة والواو، وينبغي أن يكون شكلاً واحداً، وكذلك الشأن مع الكسرة والياء. ثم ينتقل إلى التسجيل، فيسجل التدريب الذي وصفته في الفقرة السابقة ويعيد سماعه حتى يعلم أنه وصل إلى الإتقان. وأخيراً ليسمع تلاوة القرّاء المجيدين (وأفضلهم عندي الحصري رحمه الله) وينتبه إلى مواضع الضم والكسر في آي القرآن، وبذلك كله يصل إلى الإتقان الكامل بإذن الله.
أكرمني الله عز وجل بتدريس التجويد زماناً، احتساباً أرجو به وجه الله، وقد لاحظت دائماً مشكلات شائعة في الأداء يعاني منها كثيرون. وهذا شهر القرآن الذي يتفرغ فيه المسلمون للتلاوة والختمات، فخطر ببالي أن أنشر بعض الفوائد والملاحظات، ليس على سبيل تعليم التجويد، فإنه لا يُتلقى إلا مشافَهة وله مدارسه ومدرّسوه، وإنما على سبيل التنبيه إلى طائفة من أكثر أخطاء الأداء شيوعاً بين المتعلمين.
سأبدأ بواحد من أشيع الأخطاء في الأداء، وهو "عدم تحقيق الضم والكسر"، وإمالتهما إلى صَوتين لا تعرفهما العربية الفصيحة وليسا من الأصوات الليّنة التي توجد في القرآن.
لنتعرف أولاً إلى الأصوات اللينة، ما هي؟ المشهور أن في لغتنا العربية الفصيحة ستة أصوات ليّنة، ثلاثة طويلة هي الألف والواو والياء، وهي حروف المد في التجويد، وثلاثة قصيرة هي الفتحة والضمة والكسرة. وأنا أستحسن أن أجعل الأصوات الطويلة أربعة لأن للألف الليّنة طبقتين، مفخَّمة ومرقَّقة بحسب ما بعدها، حرف استعلاء أو حرف استِفال، فهما صورتان في النطق وإن رُسمتا صورةً واحدةً في الكتابة. لاحظوا مثلاً الفرق بين نطق الألفَين في "قال" و"مال". ضع إصبعَي السبابة والإبهام على طرفَي الفم ولاحظ كيف يتحرك الحنكان في فكك السفلي مع نطق هذه الكلمة وتلك، ومَن نظر إلى المرآة وهو ينطق الكلمتين لاحظ الفرق بوضوح.
هذا ما أراه أقرب إلى الصواب، وهو أكثر اتفاقاً مع قواعد علم الصوتيات الحديث.
* * *
ينبغي على قارئ القرآن أن يدرك أن كل ما في القرآن من أصوات ليّنة محصورٌ بهذه الأصوات السبعة، ما عدا كلمةً واحدةً فيها ألفٌ مُمالة، هي كلمة "مَجراها" (وتُرسم في المصحف بالياء "مَجريها") في قوله تعالى في سورة هود: "وقال اركبوا فيها، باسم الله مَجراها ومُرساها". وكلكم تعرفون طريقة لفظها، كما نلفظ ياء "بيت" في عامية بلاد الشام. وتعريف الإمالة في كتب اللغة هو أن ينحو القارئ في الألف نحو الياء، ومثلها أن ينحو في الفتحة نحو الكسرة.
ليس في القرآن (في رواية حفص عن عاصم التي نقرأ بها في المشرق) إمالة إلا في هذه الكلمة، وتوجد في مواضع كثيرة في المصحف عند غيره من القرّاء (باستثناء ابن كثير المكي وأبي جعفر المدني) على تفصيل يعرفه علماء القراءات.
* * *
أعود إلى الخطأ الشائع في التلاوة الذي بدأت به، وهو إمالة الكسرة والضمة وعدم تحقيق نطقهما على الأصل. ويمكن ملاحظة هذا الخطأ بوضوح في قراءة الصغار الذين لم يتعلموا التجويد عندما ينطقون حرفاً مضموماً أو مكسوراً قبل حرف ساكن، كالقاف المضمومة في قوله تعالى "قُلْ هو الله أحد" والباء المكسورة في قوله "فسبِّحْ بحمد ربك".
الصواب هو نطق الضمة كما تُنطق الواو، فهما صوت واحد من حيث المخرج وإنما يختلفان بالطول، فوقت أداء الضمة هو نصف وقت أداء الواو، ولو نظر القارئ في المرآة فسوف يلاحظ أن شكل الفم لا يختلف عندما ينطق أياً منهما. والكسرة كذلك، فإنما هي ياء قصيرة فحسب. لذلك سمّى ابن جني الحركات "أبعاض حروف"، فالفتحة عنده بعض الألف والضمة بعض الواو والكسرة بعض الياء، وكان متقدّمو النحاة يسمون الفتحة "الألف الصغيرة" والضمة "الواو الصغيرة" والكسرة "الياء الصغيرة".
فمن أراد أن يدرب نفسه على نطق الضمة بإحكام فليُشْبعها حتى تصبح واواً ويدّربْ نفسه على نطقها مرات ومرات: "قُولْ هو الله أحد"، وبعد أن يألفها يقصر طولها إلى النصف فتصبح ضمة مُشبَعة. وكذلك يصنع مع الكسرة فيشبعها حتى تصبح ياء ويدرب نفسه على نطقها مرات ومرات: "فسبِّيحْ بحمد ربك"، وبعد أن يألفها يقصر طولها إلى النصف فتصبح كسرة مُشبَعة.
وقد صار تدريبُ الإنسان نفسَه على النطق الصحيح أيسرَ مع انتشار أدوات التسجيل والسماع في هذه الأجهزة الذكية التي يحملها الناس. فمن أراد الإتقان فليبدأ بالمرآة: يقف أمامها وينظر إلى شكل فمه عندما يلفظ الضمة والواو، وينبغي أن يكون شكلاً واحداً، وكذلك الشأن مع الكسرة والياء. ثم ينتقل إلى التسجيل، فيسجل التدريب الذي وصفته في الفقرة السابقة ويعيد سماعه حتى يعلم أنه وصل إلى الإتقان. وأخيراً ليسمع تلاوة القرّاء المجيدين (وأفضلهم عندي الحصري رحمه الله) وينتبه إلى مواضع الضم والكسر في آي القرآن، وبذلك كله يصل إلى الإتقان الكامل بإذن الله.
أخطاء شائعة في التلاوة والتجويد
مقدمة متأخرة: هل يمكن تعلم التجويد بلا معلم؟
كان ينبغي أن أبدأ بهذه المقدمة قبل نشر الحلقة الأولى من السلسلة مساء أمس، فقد تصور بعض القراء الكرام أن القصد منها هو تعليم التجويد. وهذا بعيد، فالتجويد علم يُتلقى مشافَهةً ويكاد يستحيل تعليمه بلا معلم، لأن جوهره هو الصوت، والصوت لا يوصَف بالكتابة وإنما يُتلقى بالتمرين والتلقين الحضوري مع الاستماع والمحاكاة والتوجيه والتصحيح. لذلك بدأتُ هذه السلسلة بملاحظة أكررها من باب التوكيد: ليس القصد من هذه المقالات تعليم التجويد، وإنما القصد تنبيه المتعلمين إلى أخطاء في الأداء يستطيعون تمييزها بالوصف النظري لأنهم يعرفون أصولها وأسسها بالتعلم العملي الذي تلقوه في حلقات التحفيظ ودروس التجويد.
فمن كان مُلمّاً بأساسيات التجويد وقد تلقاه مشافَهة من قبلُ فإنه سوف يستفيد من هذه الحلقات -بإذن الله- مستعيناً بثلاث أدوات متاحة لكل إنسان: الأولى هي المرآة، والثانية جهاز تسجيل واستماع، والثالثة تسجيلٌ مصوَّر لقارئ حاذق. فأما المرآة فإنها تساعد المتعلم على اتخاذ الوضعية الصحيحة للشفتين عند النطق بالحرف، وأما التسجيل والاستماع فإنه يساعده على معرفة نجاحه وإخفاقه، ويتحقق له ذلك بالأداة الثالثة، فإنه يسمع تسجيل نفسه ثم يسمع تلاوة القارئ الضابط ويقارن بينهما، ثم يكرر السماع فيدرك موضع الخلل عنده، وما يزال يكرر التسجيل والاستماع حتى يصل إلى الإتقان الكامل بإذن الله.
هذا الأسلوب في تعلم الأداء الصوتي وإتقانه مجرَّب معروف، وأنا نفسي لي معه تجربة مثمرة سأرويها باختصار من باب الفائدة. فقد تعلمت في شبابي اللغة الإنكليزية في معهد أمريكي، ثم أردت أن أتعلم اللهجة البريطانية فاقتنيت مجموعة تعليمية متقدمة من إصدار جامعة أكسفورد، كان فيها كتاب وأربعة أشرطة صوتية (كاسيت) ومرآة صغيرة. وكان عليّ أن أسمع النطق في الشريط وأشاهد شكل الشفتين في الكتاب ثم أحاكيه وأنا أراقب شفتَيّ في المرآة، وما أزال أكرر وأغير حتى أصل إلى محاكاة صحيحة للصوت المسجل.
وكنت في تلك الأيام أحدَ وكلاء معاجم أكسفورد في الشرق الأوسط، فاتفق أن زرت في وقت لاحق مطبعة جامعة أكسفورد (التي تطبع تلك المعاجم الشهيرة منذ أكثر من قرن، وهي ثانية أقدم مطبعة جامعية في العالم بعد مطبعة جامعة كامبريدج) واصطحبني مدير المبيعات في جولة في الجامعة والمطبعة، وفيما نحن نتبادل الحديث سألني بغتة: هل تعلمت في جامعة أكسفورد؟ عجبت من سؤاله وأجبته بالنفي، فقال (وهنا الشاهد) لأن لك لهجة أكسفورد العريقة. قلت ضاحكاً: هذه ثمرة برامجكم التعليمية اللطيفة التي أغنتني عن صرف الوقت وإنفاق المال في الدروس والدورات.
فالخلاصة: من أراد أن يستفيد من هذه السلسلة من المقالات وهو لم يتلقّ شيئاً من علم التجويد مشافَهةً فلن يستطيع، فهي ليست مكتوبة له وإنما لمن تعلم التجويد وعرف قواعده وأصوله. فمن أراد الاستفادة منها فليستعن بجهازه الذكي ليسجل أداءه ويستمع إليه، ولتكن أمامه أثناء التمرين مرآة يراقب فيها وجهه ليلاحظ شكل الشفتين وحركة الحنكين، وليجهز تسجيلاً لقارئ متقن ضابط ليسمعه ويحاكيه في النطق الصحيح. وفي القراء متقنون كثيرون، ولو أني سُئلت عن أفضلهم وأعلاهم في الأداء لاخترت الشيخ الحصري رحمه الله.
وإلى بقية الحلقات.
مقدمة متأخرة: هل يمكن تعلم التجويد بلا معلم؟
كان ينبغي أن أبدأ بهذه المقدمة قبل نشر الحلقة الأولى من السلسلة مساء أمس، فقد تصور بعض القراء الكرام أن القصد منها هو تعليم التجويد. وهذا بعيد، فالتجويد علم يُتلقى مشافَهةً ويكاد يستحيل تعليمه بلا معلم، لأن جوهره هو الصوت، والصوت لا يوصَف بالكتابة وإنما يُتلقى بالتمرين والتلقين الحضوري مع الاستماع والمحاكاة والتوجيه والتصحيح. لذلك بدأتُ هذه السلسلة بملاحظة أكررها من باب التوكيد: ليس القصد من هذه المقالات تعليم التجويد، وإنما القصد تنبيه المتعلمين إلى أخطاء في الأداء يستطيعون تمييزها بالوصف النظري لأنهم يعرفون أصولها وأسسها بالتعلم العملي الذي تلقوه في حلقات التحفيظ ودروس التجويد.
فمن كان مُلمّاً بأساسيات التجويد وقد تلقاه مشافَهة من قبلُ فإنه سوف يستفيد من هذه الحلقات -بإذن الله- مستعيناً بثلاث أدوات متاحة لكل إنسان: الأولى هي المرآة، والثانية جهاز تسجيل واستماع، والثالثة تسجيلٌ مصوَّر لقارئ حاذق. فأما المرآة فإنها تساعد المتعلم على اتخاذ الوضعية الصحيحة للشفتين عند النطق بالحرف، وأما التسجيل والاستماع فإنه يساعده على معرفة نجاحه وإخفاقه، ويتحقق له ذلك بالأداة الثالثة، فإنه يسمع تسجيل نفسه ثم يسمع تلاوة القارئ الضابط ويقارن بينهما، ثم يكرر السماع فيدرك موضع الخلل عنده، وما يزال يكرر التسجيل والاستماع حتى يصل إلى الإتقان الكامل بإذن الله.
هذا الأسلوب في تعلم الأداء الصوتي وإتقانه مجرَّب معروف، وأنا نفسي لي معه تجربة مثمرة سأرويها باختصار من باب الفائدة. فقد تعلمت في شبابي اللغة الإنكليزية في معهد أمريكي، ثم أردت أن أتعلم اللهجة البريطانية فاقتنيت مجموعة تعليمية متقدمة من إصدار جامعة أكسفورد، كان فيها كتاب وأربعة أشرطة صوتية (كاسيت) ومرآة صغيرة. وكان عليّ أن أسمع النطق في الشريط وأشاهد شكل الشفتين في الكتاب ثم أحاكيه وأنا أراقب شفتَيّ في المرآة، وما أزال أكرر وأغير حتى أصل إلى محاكاة صحيحة للصوت المسجل.
وكنت في تلك الأيام أحدَ وكلاء معاجم أكسفورد في الشرق الأوسط، فاتفق أن زرت في وقت لاحق مطبعة جامعة أكسفورد (التي تطبع تلك المعاجم الشهيرة منذ أكثر من قرن، وهي ثانية أقدم مطبعة جامعية في العالم بعد مطبعة جامعة كامبريدج) واصطحبني مدير المبيعات في جولة في الجامعة والمطبعة، وفيما نحن نتبادل الحديث سألني بغتة: هل تعلمت في جامعة أكسفورد؟ عجبت من سؤاله وأجبته بالنفي، فقال (وهنا الشاهد) لأن لك لهجة أكسفورد العريقة. قلت ضاحكاً: هذه ثمرة برامجكم التعليمية اللطيفة التي أغنتني عن صرف الوقت وإنفاق المال في الدروس والدورات.
فالخلاصة: من أراد أن يستفيد من هذه السلسلة من المقالات وهو لم يتلقّ شيئاً من علم التجويد مشافَهةً فلن يستطيع، فهي ليست مكتوبة له وإنما لمن تعلم التجويد وعرف قواعده وأصوله. فمن أراد الاستفادة منها فليستعن بجهازه الذكي ليسجل أداءه ويستمع إليه، ولتكن أمامه أثناء التمرين مرآة يراقب فيها وجهه ليلاحظ شكل الشفتين وحركة الحنكين، وليجهز تسجيلاً لقارئ متقن ضابط ليسمعه ويحاكيه في النطق الصحيح. وفي القراء متقنون كثيرون، ولو أني سُئلت عن أفضلهم وأعلاهم في الأداء لاخترت الشيخ الحصري رحمه الله.
وإلى بقية الحلقات.
أخطاء شائعة في التلاوة والتجويد
(2) تطويل الغُنّة
كل المتعلمين يعرفون أحكام التجويد العامة، وإنما يتميز قارئ عن قارئ ويحتل القارئ موقعه في الطبقة العالية من طبقات القرّاء بمقدار الضبط والإتقان والعناية بالتفاصيل، تماماً كما يتقن الخياط الحاذق تفصيل الثوب، فلا يَطول الكم ولا يَقصر ولا تتسع الياقة ولا تَضيق، ففي مثل هذه الفروق الدقيقة يتنافس المتنافسون من أهل الصنعة.
والغُنّة من أكثر الأصوات شيوعاً في القرآن، لأن أي صفحة فيه لا تخلو من ميمات ونونات مشدّدة أو نونات ساكنة وتنوينات تعقبها حروف الإدغام والإخفاء. ولا يجهل أي قارئ تعلّمَ مبادئ التجويد كيف يؤديها لأن اختبارها من أسهل الاختبارات: انطقها ثم سُدّ أنفك بالضغط عليه بأصبعيك، فإذا انقطع الصوت فأنت تؤديها بشكل صحيح، لأنها صوتٌ مصدرُه الخيشوم كما يقرر علماء التجويد.
ومع سهولة أدائها فإن كثيرين يرتكبون خطأين فيها، أولهما يسير والانتباه إليه كفيل بعلاجه على الفور، أما الثاني فيحتاج لشرح أكثر وتمرين أدق، لذلك سأرجئ مناقشته إلى الحلقة الآتية.
الخطأ الأول هو تطويل الغُنّة تطويلاً فاحشاً يجعلها أقربَ إلى المدود، وهذا الخطأ يرتكبه أكثر من نصف الأئمة الذين أصلي وراءهم في كل الأوقات، وأحسب أنه من أشيع الأخطاء في الأداء. فمن المقرر أن طول الغنة حركتان، فإذا زاد الطول قليلاً (فاقترب من ثلاث حركات مثلاً) قلنا إنه تجاوزَ الكمال لكنه قد يُقبل من باب التساهل، أما أن يبلغ طولها أربع حركات وخمساً وستاً فإنه خلل كبير في الأداء ينبغي علاجه.
* * *
لنبدأ بتعريف الحركة التي يقيسون بها، كم طولها؟ اجتهد بعض علماء التجويد بتقييدها بزمن قبض الإصبع أو بَسْطه (أو بسطها، فكلمة الإصبع يجوز فيها التذكير والتأنيث)، وهو وقت قريب من الثانية الزمنية. مع ملاحظة أن طولها يتفاوت تفاوتاً ضئيلاً حسب سرعة القراءة بين الحدر والتدوير والتحقيق، لأن الأصل عندهم أنها زمن نطق حرف متحرك، وهو زمن يزيد وينقص بنسبة ضئيلة مع التأنّي والسرعة في التلاوة.
لذلك فإنني أجد أن أفضل ضابط لطول الغنّة هو ضبطها بطول المد الطبيعي، لأن لهما في قواعد التجويد طولاً واحداً قدره حركتان، فإذا قرأت "قل أعوذ برب النّاس" وجب أن يستوي وقتُ نطق الغنّة في نون "الناس" المشددة مع ألف المد التي تأتي بعدها، فإذا زادت الغنة عن هذا الطول علمتَ أنك لم تحسن الأداء. فأعد مرة بعد مرة بعد مرة حتى تصل إلى الضبط الكامل.
ثم جرب مواضعَ أخرى على سبيل التأكيد: "وأمّا بنعمة ربك فحدِّثْ"، تأكد أن الميم المشددة المُغَنّاة في "أمّا" والألف اللينة بعدها متساويان في وقت الأداء. "ونفسٍ وما سواها"، تأكد أن غنّة الإدغام والألف اللينة في "ما" وفي "سوّاها" متساوية في وقت الأداء. "وأنّهُ تعالى جَدُّ ربنا"، تأكد أن النون المشددة المُغَنّاة وهاء الصِّلَة بعدها وألف المد في "تعالى" والمقصورة في آخرها متساوية كلها في وقت الأداء... درب نفسك على هذه الآيات وعلى أمثالها، وأمثالها في القرآن كثير كثير.
هذه هي المشكلة الأولى التي تتعلق بالغنة، وعلاجها -كما قلت آنفاً- يسير بإذن الله. فإذا فرغنا منها انتقلنا إلى المشكلة الثانية، وهي مناسَبةُ صوت الغنة لمخرج حرف الإخفاء الذي بعدها، وسوف أناقشها في الحلقة الآتية إن شاء الله.
#أخطاء_شائعة_في_التلاوة_والتجويد
الحلقة الثانية
(2) تطويل الغُنّة
كل المتعلمين يعرفون أحكام التجويد العامة، وإنما يتميز قارئ عن قارئ ويحتل القارئ موقعه في الطبقة العالية من طبقات القرّاء بمقدار الضبط والإتقان والعناية بالتفاصيل، تماماً كما يتقن الخياط الحاذق تفصيل الثوب، فلا يَطول الكم ولا يَقصر ولا تتسع الياقة ولا تَضيق، ففي مثل هذه الفروق الدقيقة يتنافس المتنافسون من أهل الصنعة.
والغُنّة من أكثر الأصوات شيوعاً في القرآن، لأن أي صفحة فيه لا تخلو من ميمات ونونات مشدّدة أو نونات ساكنة وتنوينات تعقبها حروف الإدغام والإخفاء. ولا يجهل أي قارئ تعلّمَ مبادئ التجويد كيف يؤديها لأن اختبارها من أسهل الاختبارات: انطقها ثم سُدّ أنفك بالضغط عليه بأصبعيك، فإذا انقطع الصوت فأنت تؤديها بشكل صحيح، لأنها صوتٌ مصدرُه الخيشوم كما يقرر علماء التجويد.
ومع سهولة أدائها فإن كثيرين يرتكبون خطأين فيها، أولهما يسير والانتباه إليه كفيل بعلاجه على الفور، أما الثاني فيحتاج لشرح أكثر وتمرين أدق، لذلك سأرجئ مناقشته إلى الحلقة الآتية.
الخطأ الأول هو تطويل الغُنّة تطويلاً فاحشاً يجعلها أقربَ إلى المدود، وهذا الخطأ يرتكبه أكثر من نصف الأئمة الذين أصلي وراءهم في كل الأوقات، وأحسب أنه من أشيع الأخطاء في الأداء. فمن المقرر أن طول الغنة حركتان، فإذا زاد الطول قليلاً (فاقترب من ثلاث حركات مثلاً) قلنا إنه تجاوزَ الكمال لكنه قد يُقبل من باب التساهل، أما أن يبلغ طولها أربع حركات وخمساً وستاً فإنه خلل كبير في الأداء ينبغي علاجه.
* * *
لنبدأ بتعريف الحركة التي يقيسون بها، كم طولها؟ اجتهد بعض علماء التجويد بتقييدها بزمن قبض الإصبع أو بَسْطه (أو بسطها، فكلمة الإصبع يجوز فيها التذكير والتأنيث)، وهو وقت قريب من الثانية الزمنية. مع ملاحظة أن طولها يتفاوت تفاوتاً ضئيلاً حسب سرعة القراءة بين الحدر والتدوير والتحقيق، لأن الأصل عندهم أنها زمن نطق حرف متحرك، وهو زمن يزيد وينقص بنسبة ضئيلة مع التأنّي والسرعة في التلاوة.
لذلك فإنني أجد أن أفضل ضابط لطول الغنّة هو ضبطها بطول المد الطبيعي، لأن لهما في قواعد التجويد طولاً واحداً قدره حركتان، فإذا قرأت "قل أعوذ برب النّاس" وجب أن يستوي وقتُ نطق الغنّة في نون "الناس" المشددة مع ألف المد التي تأتي بعدها، فإذا زادت الغنة عن هذا الطول علمتَ أنك لم تحسن الأداء. فأعد مرة بعد مرة بعد مرة حتى تصل إلى الضبط الكامل.
ثم جرب مواضعَ أخرى على سبيل التأكيد: "وأمّا بنعمة ربك فحدِّثْ"، تأكد أن الميم المشددة المُغَنّاة في "أمّا" والألف اللينة بعدها متساويان في وقت الأداء. "ونفسٍ وما سواها"، تأكد أن غنّة الإدغام والألف اللينة في "ما" وفي "سوّاها" متساوية في وقت الأداء. "وأنّهُ تعالى جَدُّ ربنا"، تأكد أن النون المشددة المُغَنّاة وهاء الصِّلَة بعدها وألف المد في "تعالى" والمقصورة في آخرها متساوية كلها في وقت الأداء... درب نفسك على هذه الآيات وعلى أمثالها، وأمثالها في القرآن كثير كثير.
هذه هي المشكلة الأولى التي تتعلق بالغنة، وعلاجها -كما قلت آنفاً- يسير بإذن الله. فإذا فرغنا منها انتقلنا إلى المشكلة الثانية، وهي مناسَبةُ صوت الغنة لمخرج حرف الإخفاء الذي بعدها، وسوف أناقشها في الحلقة الآتية إن شاء الله.
#أخطاء_شائعة_في_التلاوة_والتجويد
الحلقة الثانية
أخطاء شائعة في التلاوة والتجويد
(3) أداء الغُنّة مع حروف الإخفاء
المشكلة الثانية الشائعة في الغنّة هي في طريقة نطقها مع حروف الإخفاء، وهو عيب في الأداء يمكن فهمه بشكل أفضل إذا فهمنا الفروق بين مخارج الحروف المختلفة. وهذا مبحث متقدم ليس هنا موضعه وسوف أعود إليه في إحدى الحلقات الآتية من هذه السلسلة إن شاء الله، وإنما يكفينا الآن أن نلاحظ أن لكل حرف طريقةَ نطقِه الخاصة التي تتناسب معها حركةُ اللسان والشفتين (ما عدا الحروف الحلقية بطبيعة الحال).
حاول مثلاً أن تلفظ حرفَي الباء والسين متعاقبَين ثم لاحظ: هل حركتَ اللسان عندما نطقت الباء؟ لا، إنما لزم إطباق الشفتين فحسب. أما السين فقد جاء صوتها عندما حركت اللسان ولمست بطرفه السطح الداخلي للأسنان الأمامية (الثنايا). ولو نطقتَ الحرفين أمام المرآة ستلاحظ ما يطرأ على شكل الشفتين من اختلاف عند الانتقال من واحد إلى آخر.
* * *
والآن تعالوا ننظر إلى الإخفاء، ما هو؟ يقول علماء التجويد أنه درجة بين الإظهار والإدغام يذهب فيها حرف النون وتبقى صفته، وهي الغنّة. سأوضحه بتفصيل أكثر: لو نطقنا النون نوناً واضحة لصارت مُظهَرة، والإظهار له موضعه مع حروف الحلق الستة. ولو غيّبناها تماماً وانتقلنا من فورنا إلى مخرج الحرف التالي (الواو مثلاً) لصارت إدغاماً، والإدغام له موضعه مع حروفه المعروفة. فإذا كان الإخفاء وسطاً بينهما -كما قالوا- لوجب أن نغادر مخرج النون الذي نتشبث به مع الإظهار، ولا ننتقل انتقالاً فورياً إلى مخرج الحرف التالي الذي يحلّ محل النون (نطقاً) مع الإدغام.
ماذا نفعل إذن؟ ننتقل عبر صوت وسيط يجمع بين صفة الحرف التالي (أي مخرجه) وصفة النون (أي غُنّتها)، وهذا هو مفتاح الأداء الصحيح للغنّة مع حروف الإخفاء الخمسة عشر. كلمة السر في أدائها الصحيح هي أن تتهيأ لنطق الحرف التالي وتتخذ وضعية مخرجه خلال الثانيتين اللتين تستغرقهما الغنة. وبذلك ينجو القارئ من واحد من أكثر أخطاء التلاوة شيوعاً، وهو نطق الغُنَن كلها بشكل واحد والتركيز على مخرج النون دون ظهور أي أثر لمخرج حرف الإخفاء التالي.
* * *
لنتمرن على الأداء الصحيح مستعينين بأدوات التعلم الذاتي التي اقترحتُها في الحلقة الأولى، ولنأخذ حرفين بين مَخرجيهما فرقٌ واضح على سبيل التدريب: الطاء والفاء.
انظر إلى المرآة واقرأ: طافا طافا طافا طافا... هل لاحظت كيف يتغير شكل شفتيك ولحييك (خَدَّيك) وأنت تتنقل بينهما؟ حسناً، والآن طبق أحكام التجويد على هذه الكلمة "مِنْطِنْف". هنا عندنا نونان ساكنتان بعد كل منهما حرف إخفاء، فحَقُّ النون الإخفاء مع الغنة. أرجو أن تبالغ في تطويل الغنة لعدة ثوان، وأن تركز انتباهك أثناء نطقها: هل تشعر أنك مهيأ تماماً للحرف التالي؟ هل تشعر باختلاف طبقة الغنة والفرق الدقيق بين صوتها في الحالتين؟ ضع أصبعيك على خديك أثناء التمرين: هل تشعر بانقباضهما مع غنّة الطاء وانبساطهما مع غنّة الفاء؟
إذا كان الجواب بالإيجاب فأنت قريب من تحقيق الأداء الصحيح، وأفضل اختبار له أن تنطق غنّة طويلة وأنت تُضمر ما سيأتي بعدها وتسأل مستمعاً ضابطاً: ما الحرف الذي سيأتي بعد هذه الغنة؟ فإذا عرفه فالنطق صحيح تماماً بإذن الله.
وأخيراً انتقل إلى التدريب العملي مع جهاز التسجيل، فسجل بتلاوتك صفحةً من القرآن، ثم استمع إليها واستمع إلى الآيات نفسها بتلاوة الشيخ الحصري (اختر مصحفه المجوّد لأنه أبطأ في الأداء وأسهل بالمحاكاة) وكرر التدريب مرات ومرات وسوف تصل إلى طبقة عالية في الأداء بإذن الله.
#أخطاء_شائعة_في_التلاوة_والتجويد
الحلقة الثالثة
(3) أداء الغُنّة مع حروف الإخفاء
المشكلة الثانية الشائعة في الغنّة هي في طريقة نطقها مع حروف الإخفاء، وهو عيب في الأداء يمكن فهمه بشكل أفضل إذا فهمنا الفروق بين مخارج الحروف المختلفة. وهذا مبحث متقدم ليس هنا موضعه وسوف أعود إليه في إحدى الحلقات الآتية من هذه السلسلة إن شاء الله، وإنما يكفينا الآن أن نلاحظ أن لكل حرف طريقةَ نطقِه الخاصة التي تتناسب معها حركةُ اللسان والشفتين (ما عدا الحروف الحلقية بطبيعة الحال).
حاول مثلاً أن تلفظ حرفَي الباء والسين متعاقبَين ثم لاحظ: هل حركتَ اللسان عندما نطقت الباء؟ لا، إنما لزم إطباق الشفتين فحسب. أما السين فقد جاء صوتها عندما حركت اللسان ولمست بطرفه السطح الداخلي للأسنان الأمامية (الثنايا). ولو نطقتَ الحرفين أمام المرآة ستلاحظ ما يطرأ على شكل الشفتين من اختلاف عند الانتقال من واحد إلى آخر.
* * *
والآن تعالوا ننظر إلى الإخفاء، ما هو؟ يقول علماء التجويد أنه درجة بين الإظهار والإدغام يذهب فيها حرف النون وتبقى صفته، وهي الغنّة. سأوضحه بتفصيل أكثر: لو نطقنا النون نوناً واضحة لصارت مُظهَرة، والإظهار له موضعه مع حروف الحلق الستة. ولو غيّبناها تماماً وانتقلنا من فورنا إلى مخرج الحرف التالي (الواو مثلاً) لصارت إدغاماً، والإدغام له موضعه مع حروفه المعروفة. فإذا كان الإخفاء وسطاً بينهما -كما قالوا- لوجب أن نغادر مخرج النون الذي نتشبث به مع الإظهار، ولا ننتقل انتقالاً فورياً إلى مخرج الحرف التالي الذي يحلّ محل النون (نطقاً) مع الإدغام.
ماذا نفعل إذن؟ ننتقل عبر صوت وسيط يجمع بين صفة الحرف التالي (أي مخرجه) وصفة النون (أي غُنّتها)، وهذا هو مفتاح الأداء الصحيح للغنّة مع حروف الإخفاء الخمسة عشر. كلمة السر في أدائها الصحيح هي أن تتهيأ لنطق الحرف التالي وتتخذ وضعية مخرجه خلال الثانيتين اللتين تستغرقهما الغنة. وبذلك ينجو القارئ من واحد من أكثر أخطاء التلاوة شيوعاً، وهو نطق الغُنَن كلها بشكل واحد والتركيز على مخرج النون دون ظهور أي أثر لمخرج حرف الإخفاء التالي.
* * *
لنتمرن على الأداء الصحيح مستعينين بأدوات التعلم الذاتي التي اقترحتُها في الحلقة الأولى، ولنأخذ حرفين بين مَخرجيهما فرقٌ واضح على سبيل التدريب: الطاء والفاء.
انظر إلى المرآة واقرأ: طافا طافا طافا طافا... هل لاحظت كيف يتغير شكل شفتيك ولحييك (خَدَّيك) وأنت تتنقل بينهما؟ حسناً، والآن طبق أحكام التجويد على هذه الكلمة "مِنْطِنْف". هنا عندنا نونان ساكنتان بعد كل منهما حرف إخفاء، فحَقُّ النون الإخفاء مع الغنة. أرجو أن تبالغ في تطويل الغنة لعدة ثوان، وأن تركز انتباهك أثناء نطقها: هل تشعر أنك مهيأ تماماً للحرف التالي؟ هل تشعر باختلاف طبقة الغنة والفرق الدقيق بين صوتها في الحالتين؟ ضع أصبعيك على خديك أثناء التمرين: هل تشعر بانقباضهما مع غنّة الطاء وانبساطهما مع غنّة الفاء؟
إذا كان الجواب بالإيجاب فأنت قريب من تحقيق الأداء الصحيح، وأفضل اختبار له أن تنطق غنّة طويلة وأنت تُضمر ما سيأتي بعدها وتسأل مستمعاً ضابطاً: ما الحرف الذي سيأتي بعد هذه الغنة؟ فإذا عرفه فالنطق صحيح تماماً بإذن الله.
وأخيراً انتقل إلى التدريب العملي مع جهاز التسجيل، فسجل بتلاوتك صفحةً من القرآن، ثم استمع إليها واستمع إلى الآيات نفسها بتلاوة الشيخ الحصري (اختر مصحفه المجوّد لأنه أبطأ في الأداء وأسهل بالمحاكاة) وكرر التدريب مرات ومرات وسوف تصل إلى طبقة عالية في الأداء بإذن الله.
#أخطاء_شائعة_في_التلاوة_والتجويد
الحلقة الثالثة
