Telegram Web Link
خواطر كورونية (2)

فرصة للصيانة والترميم

لكل آلة من الآلات وللسيارات والطيارات أوقاتٌ للصيانة لا بُدّ منها بعد الاستهلاك الطويل الذي تَبلَى فيه أجزاؤها مع الحركة والدوران، وكل بناء بناه الإنسان يحتاج إلى الترميم بين آن وآن لأن الزمان يأكل أبّهتَه ويشقق الجدران والأركان.

ونحن -البشرَ- نعيش أعمارنا نعمل مثل الآلات، فنستهلك أبداننا وأذهاننا ونبدّد أوقاتنا وقواتنا في مطحنة الحياة التي لا يتوقف رَحاها عن الدوران. وكم من مرة تمنينا فيها فسحة من الزمن نخرج فيها من تلك المطحنة، من الدُّوامة الآسرة، لنجدد أنفسنا ونتعهد ذواتنا بالصيانة والترميم؟

فالآن وقد اتسع الوقت مع الحجر الإلزامي (الجزئي والكلي) في البيوت جاءت فرصة العمر وتحققت أعظم الأمنيات، الآن يملك كل واحد فينا وقتاً فائضاً كان يرجوه ويتمناه، ولعله ودّ أن يشتريه بالمال لو كان الوقت بضاعة تُباع في الأسواق!

* * *

كم كتاباً رجوت قراءته ولم تجد لقراءته فسحة من الوقت؟ كم محاضرة أحببت سماعها ثم لم تسمعها؟ كم دورة تمنيت المشاركة فيها ثم لم تفعل؟ كم ختمة فاتتك وقطعَتْها الشهورُ وأنت منشغل بالدنيا عنها؟ كم بَعُدَ عهدك بالاسترخاء والتأمل والتفكر والتدبر في شأن نفسك وشؤون أسرتك وأمتك والعالم الذي تعيش فيه؟ متى نظمت آخرَ مرة أوراقك وملفاتك، سواء ما كان منها ورقاً تراكَمَ في الأدراج أو ملفات ازدحمت بها أجهزتك الإلكترونية؟ ثم كم في بيتك من أعمال تنتظر فراغك: إصلاحات وتركيبات وترتيبات؟

ألفُ عمل كنت ترجو تنفيذه، ويمر الشهر بعد الشهر ويتصرّم العام بعد العام وهو حيث هو، لم تبدأ به ولم تقطع فيه خطوة. فاخْطُ الخطوة المنتظَرة اليوم. أخرج كتبك وابدأ بقراءتها، جهّز المحاضرات والدورات وبادر إلى سماعها، انشر مصحفك بين يديك وصِلْ ما انقطع من علاقتك به وبربك الكريم، امنح نفسك فرصة للاسترخاء والتأمل والتفكر والتدبر، أصلح وركّب ورتب ما ينتظر ذلك كلَّه في بيتك، استخرج أوراقك وصورك وملفاتك فرتّب ونظم ما يستحق منها الترتيب والتنظيم واحذف وتخلص من المهملات التي تجعل حياتك مزدحمة مضطربة بلا نظام.

* * *

الخلاصة: إن هذه الأيام التي يَضيق كثيرون فيها بالبقاء في البيوت هي فرصة ذهبية للصيانة والترميم، قليل منها لصيانة الجمادات التي نعيش معها ولا نستغني عنها وتخدمنا ما خدمناها، وأكثرها لصيانة الروح والعقل والحياة والعلاقات؛ لترميم وتجديد علاقة المرء بنفسه كما قلت هنا، ولترميمها وتجديدها بشريك الحياة (الزوج مع زوجته والزوجة مع زوجها) ومع الأولاد كما قلت في الجزء الأول من هذه الخواطر الكورونية. فاغتنموا الفرصة قبل أن تعود دُوّامة الحياة المعتادة إلى الدوران وتغرقوا في لُجة بحرها الزخّار من جديد.

عافانا الله جميعاً من البلاء والوباء وحفظنا من كل ضر ومكروه. وكل عام وأنتم جميعاً بخير.
أخطاء شائعة في التلاوة والتجويد
(4) كسر حرف القلقلة

هذا الخطأ شائع جداً في الأداء حتى ليكاد يقع فيه أكثر من نصف المتعلمين، وعلاجه سهل بمشيئة الله.

يعرّف علماء التجويد القلقلة بأنها "اضطراب في نبرة الصوت". وهي حالة تعتري خمسة أحرف من الحروف الجهرية عندما تُلفَظ ساكنة (أي غيرَ متحركة لا بفتح ولا بضم ولا بكسر) لذلك عبّر عنها ابن الجزري بقوله: "وبيِّنَنْ مقلقلاً إنْ سكنا". وهي مرتبتان، كبرى وصغرى، فالكبرى تكون عند الوقف على الحرف (كما في رؤوس آيات سورة الصمد) والصغرى إذا جاء الحرف الساكن وسط الكلمة (كالباء في كلمة "يَبْتغون") أو إذا اتصلت التلاوة (كالدال في "قَدْ كانت"). ويرى بعض علماء التجويد أن القلقلة الكبرى طبقتان، أعلاهما الوقف على ساكن مشدد (كالباء في آخر آية "تبت يدا أبي لهب وتَبّ") فهي عندهم الكبرى، ويسمون الوقف على الساكن المخفَّف قلقلة وسطى.

والآن أرجو أن تتأملوا كلمة "القلقلة"، بماذا توحي لكم؟ هذه الكلمة توصيفٌ عبقري للحالة التي تطرأ على حرف القلقلة الساكن عند نطقه، ولا أحسب أن في العربية كلمة أخرى أكثر منها توفيقاً وتعبيراً عن الحالة. انظر إلى قولك: تقلقل فلان في مجلسه. هل يدل هذا الوصف على أنه نهض وغيّر مقعده؟ لا. هل يفيد أنه بقي ثابتاً بلا أدنى حركة؟ لا. إنه يعني فقط أنه تحرك حركة بسيطة، أنه تململ قليلاً دون أن يترك المقعد.

وهذا هو معنى القلقلة في اللغة. في لسان العرب: "القلقلة والتقلقل قلّة الثبوت في المكان، وقلقل الشيءَ حرّكه فتحرك واضطرب". هل لاحظتم؟ مجرد اضطراب بسيط، يكمله المعنى الآخر، أيضاً في اللسان: "التقلقل الخفة والإسراع".

فنجد إذن أن المعنى الذي تضمنته كلمة "القلقلة" هو: اضطراب خفيف أو اهتزاز خاطف يحرك الشيء دون أن ينقله من مكانه. ولعل أفضل تصوير له في عالم الأشياء أن تضع قارورة على سطح مستو ثم تهز السطح هزاً خفيفاً بحيث تضطرب القارورة وتتمايل في موضعها، دون أن تنقلب إلى الخلف ولا إلى الأمام ولا لأي من الجهتين.

* * *

ما هو الخطأ الشائع الذي يقع فيه كثير من المتعلمين؟ إنهم يقلبون القارورة ولا يكتفون بهزها هزاً خاطفاً فحسب. بعبارة أخرى: إنهم ينقلون الحرف المقلقل من السكون إلى واحدة من حالات الحركة الثلاث، والأغلب أنهم يختارون الكسر، فينطقون الحرف المقلقل الساكن وكأنه حرف مكسور.

سيقول قائل: إذا كانت القلقلة حركة خفيفة فلا بد لها من صوت، فكيف لا يظهر في الحرف المقلقل صوتُ أيٍّ من الحركات الثلاث. ما هو هذا الصوت إذن؟

أولاً لنتذكر أنه صوت خاطف، وهو معنى متضمَّنٌ في عبارة اللسان التي قرأناها قبل قليل: "التقلقل الخفة والإسراع". ولو أنكم استمعتم لقراءة الشيخ الحصري (التي أوصي بها دائماً) فسوف تلاحظون أن طول هذا الصوت الخاطف يكاد يبلغ نصف حركة فقط. وهذا هو المتوقع، لأننا وقفنا على الحرف الساكن ثم هززناه هزاً خفيفاً، كل ذلك في ثانية واحدة (حركة واحدة) فاستغرق السكون نصفَ وقت الأداء والصوتُ الخاطف نصفَه الآخر.

وسوف نلاحظ أن الصوت يميل ميلاً خفيفاً إلى واحد من الأصوات الثلاثة (الضم والفتح والكسر) بحسب حركة الحرف الذي سبق حرف القلقلة. هذا هو القول الأشهر، وهو الصحيح، واختار بعض علماء التجويد الميل إلى الفتح مطلقاً أو إلى حركة الحرف التالي، وكلا القولين ضعيف مرجوح. الصواب الميل إلى حركة الحرف السابق، والمهم أن نتذكر دائماً: إنه ميل خفيف جداً إلى الحركة لا تحقيق لها، وهذا هو مفتاح النجاة من الخطأ الشائع: نطق حرف القلقلة وكأنه حرف مكسور.

* * *

تستطيع أن تعرف إن كان أداؤك للقلقلة متقَناً تماماً باختبار بسيط: اختر كلمات فيها قلقلة صغرى (لأن ظهور هذا العيب في حالة الوصل أكثر منه في القطع) ولتكن هي نفسها التي تمثلنا بها آنفاً: "يبتغون" و"قد كانت". اقرأها بتلاوة متأنية وصوت واضح على مسمع من شخص مميز (والأفضل أنه لا يعرف أحكام التجويد) واطلب منه أن ينتبه إلى الباء الساكنة في "يبتغون" والدال الساكنة في "قد كانت" ثم اسأله: ما هي الحركة التي سمعها مع نطق الباء والدال، فتحة أم ضمة أم كسرة؟

إذا قال إنه سمع صوت الكسرة في آخر الحرف فأنت من الذين يرتكبون هذا الخطأ، وإذا قال إنه لم يسمع أي حركة سوى الحرف الساكن نفسه فأنت لم تقلقل أصلاً، وإذا حارَ في الصوت الذي سمعه ولم يستطع تحديده: أفتحٌ هو أم كسر؟ فأنت قارئ متقن.

والآن مارس التمرين الذاتي بالطريقة التي اتفقنا عليها في الحلقات السابقة. سجل تلاوتك واستمع إليها مرات متتالية، واسمع تلاوة الشيخ الحصري للمقطع نفسه، ثم قارن بين أدائك للحروف المقلقلة وأدائه، واستمر في التمرين (مع تجنب الوقوع في فخ الكسر) حتى تصل إلى الإتقان.
أخطاء شائعة في التلاوة والتجويد
(5) السكت في غير موضع السكت

ابتُلينا في مسجدنا مدةً بإمامٍ قراءتُه متوسطة ومخارجُه دون الوسط، وكان من عيوبه أنه يَمُدّ حيث لا مَدَّ (وهي مشكلة شائعة سأتعرض لها في الحلقة الآتية إن شاء الله) ويسكت حيث لا سكت، ولا سيما في موضعين: على رأس الآية الأولى في سورة الفجر والآية الأولى في سورة العصر، فيقرأ: "والعصرْ"، كذا بالسكون، ثم يستأنف بعد ثانية واحدة دون استنشاق نفَس جديد: "إن الإنسان لفي خسر". وكذلك في آية الفجر.

ولأنه كان يكثر من قراءتهما في الصلوات فقد شجعت نفسي على لفت نظره إلى خطئه فيهما، فسلمت عليه بعد الصلاة ذات يوم وأثنيت على تلاوته (من باب المجاملة، قياساً على جواز الكذب من أجل الإصلاح) ثم قلت له إن من تمام حسن تلاوته أن يقف هنا وهنا ولا يسكت، أو يصل الآيتين فيحرّك آخر الكلمة ولا يسكّنها (أي يقرأ: والعصرِ إنّ الإنسانَ لفي خسر). ولفتّ نظره أيضاً إلى الإسراف بالمد حيث لا مد، أما المخارج فلم أتطرق إليها لأنها نصف التجويد، ونصف العلم لا يُتعلَّم في حوار عابر. على أني لم أستفد شيئاً وبقي أداؤه على حاله، لأن مَن تعلم العلم خطأً واستمر على خطئه زماناً لا يَسهُل شفاؤه منه، ومن هنا كان علماؤنا يكرهون التصدر قبل التمكن ويذمون التزبّب قبل الحَصْرَمة.

* * *

وبعدُ، فما الفرق بين الوقف والسكت؟ تسعة أعشار قراء هذه المقالة يعرفون الجواب، فالوقف هو انقطاع الصوت تماماً واستنشاق نفَس جديد قبل استئناف التلاوة، وله مواضع قليلة يلزم فيها وجوباً، ومواضع قليلة لا يجوز فيها الوقف، ومواضع يجوز الوقف فيها وهو أفضل من الوصل، أو يجوز والوصل أولى.

والغالب أن يكتفي القارئ بعلامات المصحف لمعرفة تلك المواضع كلها، مع أخذ ملاحظتين بعين الاعتبار: أن تلك العلامات لا تستوعب كل وقف جائز في القرآن، بل إن فيه أوقافاً كثيرة سائغة يمكن للقارئ أن يقف عليها إذا تم بها المعنى، حتى لو لم يجد في المصحف علامة الوقف عندها.

هذه الأولى، والثانية أن الوقف على رؤوس الآي جائز مطلقاً، بل إن هذه هي السنّة على أصحّ قولَي العلماء في المسألة، سواء أتعلّقت الآية بما بعدها أم انقطع المعنى بها. وأذكر أنني صليت مرة بجماعة صغيرة في مركز تجاري وقرأت سورة الماعون فوقفت على رأس الآية الرابعة، فلما سلمت اعترض أحد المصلين قائلاً إن هذا الوقف لا يجوز. قلت: بل هو جائز يا أخي الكريم، إن لم يكن أفضلَ من الوصل، أما الممنوع فهو القطع مطلقاً، يعني أن أقف عند رأس الآية وأركع مُنهياً التلاوة. فلم يقتنع، أما أنا فندمت على تلك القراءة ولم أعد إليها في جماعة في مكان عام لأن مناقشة العوام لا تفيد.

* * *

إذن فإن الوقف هو قطع الصوت زمناً قصيراً مع التنفس. قال في "إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر" (1/313): "هو قطع النطق في آخر الكلمة زمناً يتنفس القارئ فيه بغية استئناف القراءة، ولا بد من التنفس معه كما حرره صاحب النشر".

وهذا هو الفرق الجوهري بينه وبين السكت، فالسكت توقف خاطف، تقديره أن يكون نحو نصف وقت الوقف، والضابط فيه أنه بلا تنفس. أي أن القارئ يكمل التلاوة بالنفَس نفسه الذي بدأ به. وفي قراءتنا (حفص عن عاصم، عن طريق الشاطبية) أربعُ سكتات واجبة واثنتان جائزتان. فهذا سِتُّ سكتات، ثلاثٌ منها في وسط الآيات، وكلها واجبة، وثلاث في رؤوس الآيات، اثنتان جائزتان وواحدة واجبة. ولن أطيل المقالة بتفصيل هذه الثلاث الأخيرة لأن الوقف على رؤوس الآي يَحُلّ مشكلة السكت فيها.

السكتات الثلاث الواجبة في وسط الآيات هي الآية 27 في سورة القيامة: {وقيلَ مَن/راق}، والآية 14 في سورة المطففين: {كلا بَل/رانَ على قلوبهم}، والآية 52 في سورة "يس": {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا/هذا ما وعد الرحمن}، والوقف هنا (في هذا الموضع الأخير خاصة) جائز للقارئ، لكنْ إن وصلَ وجب السكتُ حتى لا يَهِمَ السامعُ ويظن أن "هذا" تبع لما قبلها، وإنما هي استئناف لكلام جديد.

وقد علّلوا وجوب السكت في الموضعين الأوّلين بالخشية من توهّم الكلمتين كلمة واحدة، فلو اتصلت التلاوة لَوَجب إدغام الأولى بالثانية في الحالتين؛ في الأولى نون ساكنة بعدها راء فتُدغم بلا غُنّة كما هو معروف، فتصبح "مَرّاق"، وهي لفظة موهمة قد لا يَستبين معناها الأصلي للسامع من الوهلة الأولى. وكذلك في الموضع الثاني، التقى حرفان متقاربان مخرجاً (اللام والراء) فوجب إدغامهما، فتصبح "بَرّان". وهي أيضاً كلمة موهمة يضيع معها المعنى الأصلي للكلمتين المنفصلتين.

#أخطاء_شائعة_في_التلاوة_والتجويد
#التجويد
#السكت
#الوقف
في ذكرى الثورة العاشرة:
تحيّة لحَمَلة مشعل الحرية

في الخامس والعشرين من آذار 2011، في "جمعة العزة"، فتحت عصاباتُ الأمن في الصنمين النارَ على المظاهرات السلمية في المدينة فسقط جرحى وقتلى كثيرون وبلغ عدد الشهداء ثلاثة وعشرين. كانت تلك أوّلَ حادثة قتل جماعي في الثورة السورية العظيمة، وكان أولئك الشهداء السعداء من أسبق شهداء الثورة إلى جنان الخلد (بإذن الله الكريم المَنّان).

يومَها لم يكن أهل الثورة قد ألِفوا بعدُ مشاهد القتل والدماء، فلما أدركوا شهيداً يلفظ أنفاسه ظهرت في وجوه بعضهم لوعة وشفقة، فتبسّم الشهيد أحلى ابتسامة يمكن أن يبتسمها إنسان ثم طمأنهم وهو يَجود بنفسه مودِّعاً الدنيا فقال: لا تأسفوا، لقد كانت هذه أجملَ سبعة أيام في حياتي!

رحمه الله، ورحم الله كل شهداء الثورة، المتقدمين منهم والمتأخرين، ويا لَحظّهم العظيم، حظهم بالشهادة التي نالوها وبالسعادة التي حصلوا عليها وهم يشاركون الثورة في خطواتها الأولى على الأرض.

* * *

لكل زمان أبطاله، والذين كسروا جدران الخوف وتظاهروا في أيام الثورة الأولى هم أبطال هذا الزمان بلا منازع. أولئك هم النجوم، الذين أوقدوا نار الثورة وحملوا حملها الثقيل في أيامها العصيبة المبكرة، الرجال الذين تظاهروا والذين اعتُقلوا والذين عُذّبوا والذين قُتّلوا، والنساء اللائي حملنَ الحِمْل كاملاً غيرَ منقوص، فكُنّ مع الرجال في المظاهرات والاعتصامات يوم كانت الثورة مظاهرات واعتصامات، وما أكثرَ ما تقدّمنَ الصفوف وكُنّ الفارسات المُجَلّيات في الميادين.

في هذا اليوم ونحن نُحيي ذكرى ثورتنا العظيمة نرسل تحية تقدير وإكبار للذين فجّروها وحملوا عبئها الهائل في ذلك اليوم البعيد، الذين ثاروا وليس في أيديهم قطعة من سلاح، فخرجوا إلى الشوارع قِلّةً ضَعَفةً عُزْلاً في جو كئيب مشحون بالرعب والرهبة وقالوا: توقف أيها الطاغية عن الطغيان، لقد آن لهدم عرشك الأوان.

لم يقولوها همساً بين أربعة حيطان، إنما هتفوا بها بأعلى الصوت حتى تشققت منها الحناجر فبلغت عنان السماء، وبلغ من قوّتها أن أفاق منها شعبٌ أمضى في الرُّقاد نصفَ قرن مستسلماً للذل والاستعباد والهوان، فهتف الهاتفون مع الهاتفين: نعم، لن نسكت بعد اليوم، نموت ولا نعيش يوماً واحداً آخَرَ في الذل والاستعباد والهوان.

* * *

ما غبطت أحداً على شيء كما غبطت المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع في أيام الثورة المبكرة فقطعوا على أقدامهم الأمتارَ القليلة الأولى في طريق الحرية، طريقٍ طال حتى بلغ طولُه ألفَ ميل وازدحم فيه السائرون حتى بلغوا عشرة آلاف ألف إنسان، ولكن الأميال اللاحقات لا تشبه أولى الخطوات وأولئك الملايين لا يشبهون تلك القلة المختارة من ثوارنا الأوائل العِظام، وفي كل خير.

الأولون والآخِرون من أهل الثورة، الذين أوقدوا نارها أولاً والذين حملوا مشعلها من بعدُ ومشوا به المشوار الطويل فأبقوه وقّاداً وهم يعيشون في قلب الإعصار، هؤلاء جميعاً يجدّدون اليوم العهد رغم الجراحات والآلام. لقد كانوا حَمَلة الثورة وحاضنتها وما يزالون، وكانوا هم الأملَ الأكبر في هدم عرش الاستبداد والطغيان، وما يزالون هم الأملَ الأكبر بعد الله رب العالمين.

اللهم ارحم من مضى من أهل الثورة وامنح من بقي منهم الصبرَ والعزيمة لتكملة الطريق، وانصر -اللهمّ- ثورة الغرباء، الثورة التي تخلى عنها الشرق والغرب وخذلها القريب والبعيد وتنكّر لها العدو والصديق، الثورة التي انقطع أملها في أهل الأرض ولم يبقَ لها أمل ورجاء إلا فيك يا رب العالمين.

* * *
#الذكرى_العاشرة
#ثورة_لا_تموت
10 سنوات، ومستمرّون

بالطبع مستمرون، ولو بلغت ثورتنا من عمرها عشراً وبلغت عشرين وثلاثين. ليس لأن الباقي أمامنا من رحلتنا إلى الحرية قصير يسير، بل هو -فيما يبدو- طويل عسير. وليس لأننا نعيش في سعة ورخاء، بل نحن في شدة وعناء وبأساء، ولقد اشتدّ الكرب وثَقُل الحِمل وطالت المحنة حتى أوشك كثيرون على رفع الراية البيضاء.

كل هذا يعرفه أهل الثورة ولا ينكرونه، وهم رغم هذا كله مستمرون، مستمرون لأن طريق العودة أشقّ وأطول، ولأنهم على يقين أن ما ينتظرهم -لو رجعوا إلى حيث كانوا- أصعبُ من كل الصعوبات التي تكتنف الجزء الباقي من الرحلة بما لا يُقاس.

يا أيها الناس، يا أيها الصابرون المرابطون في سوريا: إن الثورةَ سفينةٌ أقلعت بركّابها من ميناء العبودية والذل والأغلال إلى ميناء الحرية والكرامة والاستقلال، وإنها اليومَ في عُرض البحر تغالب الأمواج العاتية، فلو يئس أهل السفينة وتركوها للموج ابتلعها الموجُ وهلكوا جميعاً، ولو ردّوها على أعقابها عادوا إلى ما كانوا فيه من الذل والهوان، فليس لهم إلا الاستمرار في الإبحار وسط الموج والإعصار حتى يصلوا إلى ميناء الظفر والانتصار.

فامضوا واصبروا واثبتوا، واسألوا الله العون والصبر والعزيمة مهما اشتد الكرب وطال الطريق.

#الذكرى_العاشرة
#ثورة_لا_تموت
في الذكرى العاشرة:
عندما أشرقت شمس الحرية

في الثامن من آذار عام ثلاثة وستين دخلت سوريا في نفق الضياع، في سرداب الموت والعذاب. وانقضت السنون سنةً بعد سنة ولا يبدو في آخر النفق بصيصُ ضياء، وأشرقت شمس اليوم الأول من عام 2011 والحال هو الحال، ثم أضيئت في النفق المظلم شمعة، ثم اتّقدَت في آخره نار، ثم تفجرت شُعاعات شمس الحرية بعد طول انتظار.

* * *

في مطلع عام 2011، في الثامن عشر من كانون الثاني، وُلدت في العالم الافتراضي صفحةٌ فيسبوكية جديدة حملت اسماً مثيراً لا يكاد يصدَّق: "الثورة السورية ضد بشار الأسد". وتساءل الناس مشدوهين: ثورة؟ ضد طاغية سوريا الصغير ابن الطاغية الكبير؟ أأنتم في يقظة أم في منام؟ ألم تعلموا ما صنع المجرم الكبير من قبلُ وما يمكن أن يصنعه سليلُه ووريثُه في الطغيان والإجرام؟

دعت الصفحة إلى "يوم الغضب" في الخامس من شباط، لكن الدعوة تبددت مع الريح ولم يخرج في الموعد أحد، فانتشى النظام ونام المسؤولون الأمنيون مطمئنين. لقد أثبتت التجربة الجديدة أن "هرمونات الخوف" ما زالت تعمل بالكفاءة القديمة ذاتها... أو هكذا كانوا يظنون.

* * *

في الأسابيع التالية كانت سوريا مِرجلاً يغلي فوق النار، وما أسرعَ ما وقع الانفجار. لقد بدأت أعظمُ ثورة في التاريخ الحديث في آذار لتضع نهاية للعصر الكئيب الطويل الذي بدأ قبل ثمان وأربعين سنة في آذار؛ بوركَت من ثورةٍ وبورك أهلُها من ثوار.

ثورة عظيمة أراد لها أصحابها أن توصلهم إلى الحرية من أقصر طريق، وشاء الله لها أن تكون ثورة شاقة طويلة ثمنها دماء ودمار. غير أن أصحابها صبروا على المحنة وآمنوا بأنهم لا بد أن يكافَؤوا على الصبر والتضحية في آخر المسار، آمنوا بأن الله ناصرهم على عدوهم ولو طال الانتظار. وما يزالون بعد عشر سنين واثقين مطمئنين: ذات يوم -بمشيئة الله- سيصل قطار الثورة إلى محطة الانتصار.

#الذكرى_العاشرة
#ثورة_لا_تموت
في الذكرى العاشرة:
ثورة لن تموت

يعتقد فريق من أهل الثورة أن ثورتنا انتهت عندما خسرنا مساحات واسعة من الأراضي المحررة. هؤلاء يخلطون بين حرب عسكرية غايتها تحرير الأرض من الاحتلال وثورة شعبية هدفها تحرير الإنسان من العبودية والأغلال، فالثورة ليست حرباً بين جيوش لتنتهي بانحسار السيطرة العسكرية على الأرض، ولقد بدأت ثورتنا وليس في يدها أرضٌ سوى الأرض التي مشت فيها قوافل الحرية في أول الأمر، شوارعُ وأزقّة وحاراتٌ وميادين تداولها الثوار والنظام، ساعاتٍ من بعض الأيام لنا وباقي الساعات والأيام لنظام الاحتلال. ونجحنا، وعاشت الثورة.

يخطئ من يظن أن قوة الثورة الكبرى هي قوة السلاح، فإن السلاح يفنى والثورة تبقى، وها هو النظام قد ملك من السلاح ما لا يوصَف ولم يستطع القضاء على الثورة. إن القوة الحقيقية هي قوة الجماهير، هي قوة الشعب، هي "قوة الروح"، فإنّ الأحرار العزل من السلاح هم الذين صنعوا الثورة وهم الذين حافظوا عليها نابضة بالحياة حتى اليوم.

في آذار 2011 لم يكن في أيدي ثوار سوريا سلاح، ولا في نيسان ولا أيار ولا حزيران وتموز. عندما انتهت تلك السنة كانت لنا خمس كتائب صغيرة لا غير، وبدأنا السنة التالية وليس في سوريا كلها بطولها وعرضها ثلاثة آلاف ثائر مسلَّح، ولكنها كان فيها ثلاثة آلاف ألف ثائر حرّ حملوا في قلوبهم شعلة الثورة وانطلقوا بها في طريق الخوف والخطر غيرَ مبالين بالمخاوف والأخطار. ثَمّ وُلدت أعظم ثورة في التاريخ الحديث، وهنالك ازدهرت وشعَّت شُعاعاتُ شمسها حتى غطت أرض سوريا كلها بالأمل والنور.

لقد أراد الله لهذه الثورة العظيمة أن تكون ثورة أجيال لا ثورة جيل واحد، ولقد انطلق في طريق الحرية شعبٌ طلب الحرية وأقسم أن ينالها الأولادُ إن لم ينَلْها الآباء، والأحفادُ إن لم ينلها الأولاد، وحَفَدةُ الأحفاد إن لم ينلها الأحفاد.

مهما طال الطريق لا بد أن نبلغ الغاية ذات يوم بإذن الله، فالطغاة يموتون والشعوب تبقى ولا تموت؛ أشواق الحرية وأحلام الكرامة لا تموت، الثورة لا تموت.

#الذكرى_العاشرة
#ثورة_لا_تموت
في الذكرى العاشرة:
ردّنا على المتشائمين

يزعم المتشائمون أن الثورة لن تنتصر أبداً لأنها لم تنتصر في عشر سنين. ونحن نقول بالمنطق نفسه: لن تموت الثورة أبداً بإذن الله لأنها لم تُهزَم إلى اليوم رغم كل الصعاب والعوائق والمؤامرات.

ويزعم المتشائمون أننا لا نستطيع المضي في طريق الثورة بسبب ما أصابنا من خسائر وآلام وجراحات، ونحن نقول بالمنطق نفسه: لن يستطيع النظام البقاء والاستمرار بسبب ما أصابه من خسائر وآلام وجراحات.

ويزعم المتشائمون أن الثورة إلى زوال لأن أهل الأرض خذلوها ولم يقف معها أحد. ونحن نقول بالمنطق نفسه: أين الله؟ إنْ يخذلنا الناس فإن معنا ربّ الناس، وما خاب من كان معه الله.

* * *

صحيح أننا خسرنا الكثير، ولكنهم أيضاً يخسرون كما نخسر ويألمون كما نألم، ولسنا سواء، فإن بيننا وبينهم اختلافاً عظيماً في مسألتين، إحداهما من عالم الشهادة والثانية من عالم الغيب. الأولى هي أن "خزّاننا البشري" أكبر من خزّانهم بما لا يقاس، فنسبة خسائرهم إلى حجمهم أكبر من نسبة خسائرنا إلى حجمنا بكثير. الثانية هي الأهم: إن معنا إرادة الله وعناية الله ورعاية الله التي بها انطلقت الثورة ابتداءً، وبها قطعت الشوطَ الطويل عابرة بحاراً ومحيطات من الصعوبات والتحديات.

إنها ليست معركة سلاح فحسب؛ إنها معركة الإرادة والعزيمة، معركة الإيمان واليقين. فإن يكونوا أكثرَ سلاحاً فعسى أن نكون أقوى عزيمة، وإن تفوقوا علينا في ميدان القوة المادية فإننا نتفوق عليهم في ميادين الإيمان واليقين. اللهم إنّا نسألك الصبر والعزيمة والثبات، ونسألك النصر الكريم والفتح المبين.

#الذكرى_العاشرة
#ثورة_لا_تموت
في عيد الثورة العاشر
هل يمكن إنقاذ الثورة؟

-1-

لنعترف أولاً -بصدق وشجاعة- بأن الثورة فقدت الكثير وأنها أرهقها المرضُ حتى شارفت على الموت، ولكنها ما تزال حية لمّا تَمُتْ، ولن تموت ما بقي مَن يحملها فكرةً في قلبه ومشروعاً يعيش من أجله، وهؤلاء كثيرون كثيرون -بحمد الله- حتى لَيكاد يعجز عن إحصائهم العاّدون.

صحيحٌ أن الثورة ضعفت وفقدت الكثير، ولكنها ما زال فيها نَفَسٌ يتردد وما تزال أقوى مما كانت عليه في أيامها الأولى بما لا يقاس. أينسى أصحاب الثورة تلك الأيامَ العصيبةَ الموحشةَ التي مشوا فيها في درب الثورة قليلين مستضعَفين يخافون أن تتخطفهم أجهزة الأمن من البيوت والطرقات؟ إنهم لا يفعلون؛ لا ينسون ولا يستبدلون بتلك الذكريات كرائمَ الأموال ونفائسَ الأعطيات لأنها أعظم الكنوز وأغلى المقتنيات، فليس مَن خطا على أرض الثورة أولى الخطوات كمن ركب قطارها في المحطات اللاحقات.

لقد مضى زمانٌ خشينا فيه على الثورة أن تموت، فكنا نترقب وندعو، نرجو إذا أمسى المساء أن تصبر ثورتنا إلى الصباح وإذا أصبح الصباح أن تصبر إلى المساء، ونَعُدّ عمرها بالأيام. ثم كافأنا الله على الصبر والأمل والعمل فجاء يومٌ صرنا نعدّ فيه ما بقي من عمر النظام بالأيام، فإذا أصبح الصباح ترقبنا سقوطه في المساء، وإذا أمسى المساء ترقبنا سقوطه في الصباح.

ثم دار الزمان دورة ثانية فإذا الانتصارات انكسارات وإذا بأرضنا المحررة التي غطتها أعلامُنا الخضراء ذاتَ يوم تغطّيها في يومٍ بعدَه الراياتُ السوداء والصفراء والحمراء. لماذا حصل ذلك؟ الجواب في ثنايا التاريخ: انتصر المسلمون في بدر بالطاعة وهُزموا في أُحُد بالمعصية، ثم خضنا بعد بدر وأُحُد آلاف المعارك فلم يتغير القانون من تلك الأيام إلى يومنا الحاضر. لو أن دارساً صبر على دراسة التاريخ فسوف يجد أن المسلمين لم ينتصروا قط لأنهم كانوا أقوى ولا غُلبوا لأنهم كانوا أضعف، إنما ترتبت الهزيمة دائماً على الخطأ وتعلق الانتصار دائماً بالصواب.

-2-

هذه المقالة لن يفهمها غير المؤمنين. لا أعني الذين يؤمنون بوجود الله فحسب، فهؤلاء كثيرون بحمد الله، بل أعني المؤمنين حقاً، الذين يؤمنون بخبر الله عن نفسه وعن قوانينه وسننه التي سَنّها في الوجود.

الله الكريم العظيم قدم لنا وعداً مشروطاً: "أن يغير حالنا إذا غيّرنا أنفسنا أولاً". فلمّا أنجزنا ما علينا أكرمَنا الله بما وعدَنا: أمضينا أربعين سنة في التيه والضياع، تهنا فيها عن كرامتنا وفرّطنا بحرّيتنا وغرقنا في الذل ورضينا لأنفسنا الهوان، ثم انفجر البركان وقام الناس كما يقوم النائم الوَسْنان من جوف المنام فهتفوا في فضاء الدنيا الواسع: "لا سكوت بعد اليوم عن ظلم ولا سكوت عن عدوان، لا رضا بعد اليوم بالمذلة والهوان". فعندها أنجز الله الوعد وغيّر الحال غيرَ الحال، وما لبثت الثورة أن حققت إنجازات وانتصارات يكلّ في وصفها القلم ويعجز عن تصورها الخيال.

كان ينبغي عندها أن نشكر الله بطاعته والتزام أمره، ولكنّا لم نفعل. لقد أمرَنا ربنا تبارك وتعالى أمراً واضحاً صريحاً فقال: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا} ونهانا عن التنازع فقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا}، فماذا صنعنا؟

لبث ثوارنا أشتاتاً متفرقين حتى جاءت داعش فقضمت أول قطعة من الأرض يوم غطى الأخضرُ ثلثَي سوريا، فقال لهم العقلاء: "إن معركتنا مع داعش معركة صفرية وجودية لا ينتصر فيها المتفرقون، فإما أن تقاتلوها اليوم صفاً واحداً أو تضيع الأرض". وقد كان، فما مضت غيرُ سنة حتى أخذت داعش أربعة أخماس الأرض التي كانت معنا، ثم قدمتها لأعداء الثورة: للمشروع الكردي الانفصالي والنظام.

ثم سطا الجولاني على فصيل ضعيف بعد فصيل وسكت الآخرون، فقال لهم العقلاء: "إنه سيأكلكم كلكم ذات يوم ما لم تجمعوا الكلمة وترصوا الصفوف ويدافِعْ قويُّكم عن ضعيفكم وتمنعوا المعتدي من العدوان". وقد كان، فما مضت غيرُ ثلاث سنين حتى كانوا كلهم أصفاراً واحتل هو الأرضَ وقدم نصفها للنظام عربون وفاء.

ثم اختلفوا على جُزازات من الأرض، فاستقلّ كل فصيل ببضعة أميال مربعة أنشأ فيها إمبراطورية خَيّلَ له خيالُه القاصر أنها أرض الأحلام أو دولة الإسلام، فقال لهم العقلاء: "إنكم إن لم تجمعوا كلمتكم وتتركوا ما بينكم من خلاف فإن التاريخ سيطويكم جميعاً وتغدون أثراً بعد عين". وقد كان، فما مضت غيرُ بضع سنين حتى حملتهم كلَّهم الباصاتُ الخضراء إلى المَنافي، وضاع الوهم الذي ضيعوا في سبيله الأرض وخذلوا الناس.

وحمل كل منهم مشروعه وتشبّث به وظن أنه مشروع الأمة الواحد الذي لا مشروعَ معه ولا مشروعَ بعده، فقال لهم العقلاء: "إن التنازع على المشروعات قبل سقوط النظام إنما هو قلاعٌ تُرفَع في الهواء وقصور تُنقَش على وجه الماء، فاتركوا ذلك كله واشتركوا بالهدف الواحد الذي يجمع ولا يفرق، لأن النظام إن لم يسقط أولاً فلا محل لأي مشروع وسوف تفشلون حتماً وكلكم إلى زوال". وقد كان؛ فشلوا جميعاً وجرّوا معهم الثورة إلى واقوصة الضياع.
في عيد الثورة العاشر
هل يمكن إنقاذ الثورة؟

-3-

تراجعت الثورة باطّراد منذ نهاية عامها الثالث وانحسرت راياتها الخضراء عن مساحات واسعة من الأرض التي غطتها في سنتَي الثورة الثانية والثالثة، وقد اجتهد كثيرون في تفسير التراجع والانحسار فأرجعوه إلى الخذلان الدولي والتدخل الروسي وما شئتم من أسباب مادية ظاهرة، أما أنا فبحثت عن سبب الانحسار والانكسار في الموضع نفسه الذي بحثت فيه عن سبب الانتشار والانتصار، في قوانين الله وسننه التي سنّها في الوجود، تلك التي أشرت إليها في السطور الأولى من هذه المقالة.

لا تتعبوا أنفسكم بالبحث عن الأسباب المادية، فلو كان ضعف التسليح وشحّ التمويل وتفوّق العدو هو السبب لما صنعت ثورتنا الأعاجيبَ في سنواتها الثلاث الأولى، يوم كان النظام في أعلى درجات القوة والجبروت وكانت الثورة بلا حول ولا قوة ولا حليف ولا نصير إلا الله. ولا ينفي عاقلٌ أنّ للأسباب المادية أهمية هائلة في صناعة النصر، ولكن اعتمادنا الجوهري لم يكن عليها قط لأن ما نملكه منها لا يمكن أن يقارَن بما يملكه منها أعداؤنا الكثيرون. لقد كان أملنا الأكبر على الدوام بالله وبنصر الله في صراع غير متكافئ بين ظالم قوي ومظلوم ضعيف، فأنّى لنا بالانتصار على عدونا لو خذلَنا الله وتخلى عنا وتركنا للأسباب المادية وحدها؟

لقد كنت واثقاً بنصر الله لما بدأت الثورة، ويعلم الله أني ما كتبت كلمة تنبض بالثقة بنصر الله إلا وأنا أعتقد جازماً بأنني أصف الحق الذي أراه بعين اليقين وليس الحلم الذي أتمناه بعين الخيال. وبقيَت هذه الثقة في قلبي ثابتة ثبات الجبال الراسخات، لم يزعزعها كل ما حاق بالثورة من مصاعب وما كرثها من كوارث في بضع سنين، حتى بدأ بغي داعش وظلمها وعدوانها أولاً ثم بغي النصرة وظلمها وعدوانها آخِراً، فلمّا رأيت فينا، في أهل الثورة وجمهورها، مَن يدافعون عن بغي البغاة وعدوان المعتدين وظلم الظالمين لم أعد واثقاً أننا نستحق نصر الله.

عندما فشا في ثورتنا الظلم وكَثُرَ فيها المدافعون عنه والمسوِّغون له علمت أن الله سيتخلى عنا ويتركنا للقوانين المادية الأرضية البحتة، وبهذه القوانين نحن قطعاً مهزومون، فعندما يستوي الطرفان في الظلم تنتفي معيّة الله ويغيب دعم السماء وتتحول المعركة إلى صراع بين قوى مادية، فيعمل قانون الأرض: "القوي ينتصر"، ويتنحّى قانون السماء: "الحق هو الأَولى بالانتصار". عندما يقع الظلم من الطرفين يحكم الطرف الأضعف على نفسه بالفناء لأن الله لا ينصر ظالمين ضَعَفة على ظالمين أقوياء.

-4-

لم يرفعوا علم الثورة، حاربه الغلاة والمتنطعون، فارتفعت محلَّه أعلام النصرة وداعش وقسد وحزب اللات والنظام. قسموا الأرض المحررة مزارعَ ودكاكين ثم نصبوا إمبراطوراً على كل مزرعة ودكان، فسقط الأباطرة وطارت المزارع والدكاكين. لم يجتمعوا طوعاً في الرخاء فاجتمعوا قسراً في الباصات الخضراء، ثم سيجتمعون غداً في محكمة الديّان يوم الحساب.

أنّى نستحق نصرَ الله وهذا حالُنا؟ كيف نستحقه بعدما انتشرت في ثورتنا الفُرقة والفساد وانتشر فيها البغي والظلم والدفاع عن البغاة والظالمين؟ كيف نرجوه وكثيرون، كثيرون جداً من الذين ثاروا على ظلم الأسد صاروا أعواناً وداعمين لظلمِ غيرِه باسم الدين؟ لقد أكل الظلمُ الثورةَ عندما سار في مسارين: أولهما الظلم الأصغر على أيدي الفاسدين مقابل سلبية أهل الثورة وعجزهم عن لجمه، والثاني (وهو الأهم) الظلم الأكبر على أيدي المنتسبين إلى الدين، وهو ظلم أيّده وصفّق له من جمهور الثورة كثيرون.

لو أن الفصائل كلها وقفت أمام عدوان داعش موقفاً رجولياً حازماً منذ بدأت داعش باجتياح المناطق المحررة، ولو أنها حالت دون عصابة الجولاني وافتراس الفصائل فصيلاً بعد فصيل فتخلصت من غدره وإجرامه وتفرغت للقتال وفتح الجبهات، ولو أنها تمردت على داعميها واستقلّت بقرارها وقذفت بقوتها كلها في الميدان حينما بدأت المناطق المحاصرة بالسقوط، ولو اجتمعت في قيادة موحدة وكانت للثورة هيئة أركان مركزية تدير العمليات العسكرية على التراب السوري كله... لو حصل ذلك لتغير مسار التاريخ.
في عيد الثورة العاشر
هل يمكن إنقاذ الثورة؟

-5-

ونعود -ختاماً- إلى سؤال المقالة الافتتاحي: هل يمكن إنقاذ الثورة؟ نعم، ما تزال الفرصة قائمة، ولكنها تتضاءل يوماً بعد يوم، وما يزال في الوقت متسع، ولكنه يتآكل ساعة بعد ساعة. ولا يَسألْ أحد: كيف يمكن إنقاذ الثورة؟ فقد سُوِّدت في مشروعات إنقاذها صحائفُ وكُتبت مجلدات، فما على الذين يملكون الرغبة والإرادة إلا نفض الغبار عن تلك الصحائف وإنقاذ الثورة قبل أن لا تبقى ثورةٌ لا قدّر الله.

على أن لكتاب الإنقاذ ملخصاً فيه الكفاية لو فقهناه: سوف نستحق نصر الله عندما ننبذ الفرقة والتشتت ونجتمع على ثورتنا كما اجتمع أهل الثورة على ثورتهم في أيامها المبكرة. وسوف تنتصر ثورتنا اليوم عندما ننبذ من أنفسنا أخلاقَ عدونا الذي ثرنا عليه ونعود إلى أخلاق ثورتنا الأولى، عندما نحاصر كل خطأ ونستأصل من أرضنا المحررة كل فساد، وعندما نسقط الجولاني وعصابته ونسترجع مشروع الثورة من سارقيه الذين سطوا عليه بتفرقنا وضعفنا وسلبيتنا المَقيتة، وعندما نحارب كل مستبد ظالم وننهَى عن كل ظلم وننتصف لكل مظلوم من ظالميه.

فليبادر أهل الخير إلى التحرك والعمل وليُحيوا "مشروع إنقاذ الثورة" قبل فوات الأوان. وإني لأعلم أنه مشروع صعب وأن دونه صعوبات ومعوقات، ولكنها -مهما بلغت- لا يمكن أن تقارَن بما واجهته ثورتنا الأولى قبل عشر سنوات من صعوبات ومعوقات، وكما استحق الذين ثاروا يومها -صادقين متوكلين على الله- معيّةَ الله وعونَ الله ونصرَ الله سيستحق هؤلاء الصالحون المصلحون اليومَ معيّةَ الله وعونَ الله ونصرَ الله بإذن الله.

#الذكرى_العاشرة
#ثورة_لا_تموت
الثورة ومسؤولية الأقوياء

لو أنصفنا وبحثنا عن السبب الأكبر الذي أوصلَنا إلى الحالة المُرّة التي تعيشها ثورتُنا اليوم لقررنا أنه "الخذلان". ولا يظنّنَّ أحدٌ أن المقصود هو خذلان العالم لثورتنا، فما كان يُرجَى منه أن يساعدنا قَطّ، ولا نحن استأذنّاه ولا طلبنا معونته يوم انطلقنا في ثورتنا المباركة أولَ مرة. لا، إنما أعني خذلاننا نحن لأنفسنا، إنما أعني الخاذلين من أنفسنا الذين خذلونا وخذلوا ثورتنا، هؤلاء هم قَتَلة الثورة الحقيقيون.

فمن هؤلاء الخاذلين قادة عسكريون مزّقوا الجسم الثوري في سبيل المناصب والمكاسب والجاه والسلطان، ومنهم سياسيون فرّطوا بحقوق الثورة ودحرجوها على سلالم التنازلات، ومنهم دعاة و"شرعيون" باعوا ضمائرهم وسخّروا علمهم لخدمة الظَّلَمة والدفاع عن المعتدين، ومنهم إعلاميون وكُتّاب عرفوا شرّ الغلاة ولبثوا ينافقون ويكذبون ويضلّلون الناس.

ولعل من أعظم الخاذلين خذلاناً وأشدّهم حساباً فصائلُ منحها الله القوة والقدرة ثم تخاذلت عن ردع الظالمين والفاسدين بسبب أخوّة المنهج والورع البارد أو مداراةً للداعمين ومجاملةً للجيران، فتفتّتَ بعضها وذَرَتْهُ الريح، وبقي بعضها ينظر بلامبالاة إلى الظلم والفساد وينتظر ذاتَ المصير.

* * *

يحسب كثيرون أن الزكاة حق في المال فحسب، وهذا تصور ناقص، فالإسلام يوجب حقاً للناس في كل عطاء أعطاه الله للإنسان، ففي مال الأغنياء حق للفقراء، وفي قوة الأقوياء حق للضعفاء، وفي علم العلماء حق للجاهلين، وفي شهادة الشهود حق لمن يحتاجون إليها... وتتربع على قمة هرم الحقوق نصرةُ المظلوم التي جعلها الله -تبارك في عُلاه- حقاً واجباً على كل قوي قادر على النصرة.

في حديث البخاري عن أبي بردة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة". قالوا: يا نبيّ الله، فمَن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "يُعين ذا الحاجة الملهوف". وفي حديث مسلم: "من كان معه فَضْلُ ظَهر فليَعُدْ به على من لا ظَهرَ له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له". قال الراوي أبو سعيد الخدري: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منا في فضل.

وفي الحديث العظيم المتفَق عليه: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة". قال أهل العلم: المقصود هو ترك نصرة المسلم مع وجود القدرة عليه بالقول أو الفعل، ومنه الحديث الذي أخرجه أحمد: "مَن أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره و هو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة".

* * *

إذا علمنا ذلك أدركنا حجم المسؤولية التي يحملها الأقوياء القادرون على حماية الثورة وإنقاذها من الفاسدين والظَّلَمة والغلاة، ومَن فَقِهَ هذه المعاني ما كان له أن يقول في يوم مضى: "هؤلاء الظلمة المعتدون إخواننا في الدين فلن نقاتلهم دفاعاً عن المستضعفين"، ومَن فَقِهَها لن يقول في يوم آت: "هؤلاء الظلمة المعتدون في حماية جيراننا الداعمين فلا طاقة لنا بردّ أذاهم وكفّ شرهم عن الناس".

لو فقه الأوّلون هذه المعاني لَنَجَوا من حساب الله ولَنَجت الثورة مما أصابها من بلاء على أيدي الغلاة وتجّار الدين، ولو فقهها الآخِرون لنجوا من حساب الله ونجا ما بقي من الثورة من إفساد المفسدين وعبث العابثين. ولن يفعلوا، ستضيع هذه الصرخة في وديان التجاهل والنسيان كما ضاعت من قبلها آلاف الصرخات، ولن يصنع الآخِرون شيئاً كما لم يصنع شيئاً الأولون، يا ويلهم جميعاً من حساب الله ومن دعاء الناس ولعنة التاريخ.
بفضل الله انتهيت من مراجعة وتصحيح كتاب "تعريف عام بدين الإسلام" وصدرت طبعته الجديدة المصحَّحة والمنقَّحة قبل عدة أشهر.

يسرني تقديم نسخة إلكترونية عالية الدقة من الكتاب صدقة جارية عن روح جدي رحمه الله، فلا تنسوه ولا تنسوني من الدعاء في هذه الأيام المباركة، وكل عام وأنتم بخير
مجموعة "حكايات من التاريخ" لعلي الطنطاوي

بعدما قدّمت كتاب "تعريف عام بدين الإسلام" للتحميل المجاني راسلني عدد من المتابعين الكرام طالبين مجموعة "حكايات من التاريخ" التي انقطعَت من السوق لسنوات طويلة وصدرت طبعتُها الجديدة من قريب بفضل الله. وسألوني عن عملي فيها، ما هو؟

أهم ما صنعته في هذه الحكايات هو أنني ضبطت كلماتها بالتشكيل، وهو أمر صنعته في كل كتب جدّي التي راجعتها وأخرجتها من قبل، إلا أنني أقتصرُ هناك على تشكيل الكلمات التي يغلب على ظني أن كثيرين لا يتقنون ضبطها، أما هنا فقد توسعت في التشكيل لأنها حكايات مكتوبة لتلاميذ أواخر المرحلة الابتدائية وما بعدَها، وهؤلاء يجب أن يتعلموا الصواب حتى يصبحَ فيهم سليقةً ولا يألفوا الخطأ فيصعبَ عليهم إصلاحُه في الآتي من الأيام.

ثم إنني جمعت الحكايات التي صدرت في الطبعات القديمة مُفرَدةً فجعلتها في كتاب واحد لتسهيل اقتنائها وقراءتها، واستعنت برسام محترف لإعادة رسم الرسمات القديمة (مع إضافة غيرها إليها) فصارت المجموعة أكثرَ جاذبية للناشئة الذين كُتبت هذه الحكايات من أجلهم ووُجِّهَت إليهم. أسأل الله أن ينفع بها ويأجر كاتبها خيراً ويُشركني معه في الثواب.
لماذا هجرتُ فيسبوك؟
(منشور نشرته أمس في حسابي الفيسبوكي)

مضى وقت طويل منذ توقفت عن النشر في فيسبوك، سنتان وثلاثة أشهر. خلال هذه الفترة الطويلة سألني كثيرون (ولكن ليس كثيرين جداً 😊) عن سبب انقطاعي عن هذا العالم، وما زالوا يسألون. وها أنَذا أقدم الجواب.

السبب الأهم هو أنني شعرت أن فيسبوك صار ثقباً أسود يمتص أغلى ما أملكه، الوقت الذي هو حياة الإنسان ورأسُماله في الوجود، وهو ممّا يُحاسَب عليه كلُّ واحد يومَ الحساب: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسألَ عن عمره فيمَ أفناه".

ونظرت فوجدت أني قد استنفدتُ أكثرَ عمري ولم يبقَ منه إلا القليل، فكم أعيش بعدُ وقد بلغت الخامسة والستين؟ فصرت كالمسافر الذي كان بينه وبين سفره شهرٌ فبدّد الأيامَ الطوال في أقلّ العمل وبقي أكثرُه للوقت القليل، فصارت الساعة في ميزانه أثمنَ من الشهر والدقيقةُ القصيرة أغلى من اليوم الطويل.

وأنا كهذا المسافر: أنظر أمامي فأرى من الواجبات التي أطمح إلى إنهائها قبل "المغادرة النهائية" ما يستغرق أكثرَ من السنوات التي عشتها من قبل، فكيف أضيّع ما بقي من رأسمالي القليل؟ إني لو وجدت الوقت بضاعة تباع في الأسواق لأنفقت في شرائها جُلَّ ما أملكه من مال! فصرت أقتصد في إنفاق ما بقي لي منه كاقتصاد البخيل المقتّر في إنفاق المال.

ثم إني نظرت فوجدت أن فيسبوك قد استعبدني (وأنا لا أحب أن يستعبدني أحد) فكل مَن انتمَى إلى هذا العالم بات مُضطَراً للنشر بلا توقف لئلا يخرج منه، فصارت الوسيلةُ غايةً وانقلب الحالُ من "ادخل إلى فيسبوك لتنشر" إلى "انشر في فيسبوك لتبقى فيه". أي ليبقى لك قراء ومتابعون، فإذا انقطعت عن النشر زماناً نسيك الناس!

ثم إني لقيت من فيسبوك من التنكيل ما بغّضه إلى قلبي وزهّدني فيه، فإنه ما زال يتعقبني بالعقوبات حتى أمللني، وهذه آخر سلسلة شرعت في نشرها في خريف سنة 2019 (خواطر في المدرسة والتعليم) تفرّقَت حلقاتها العشرون على خمسة أشهر أوقف فيسبوك حسابي خلالها تسعَ مرات، تدرّج فيها بمنعي من النشر من أسبوع إلى شهرين! فصرت أختم الحلقة بعبارة "التكملة غداً" فأعود إلى تكملتها بعد ستين يوماً، حتى يئست أخيراً فتركت السلسلة ولمّا أُكملْها. وترافقت كل عقوبة مع ما يسميه فيسبوك "تقليل الوصولية"، حتى انتهى بي الأمر إلى أن أكتب لنفسي ولعشرات من المحبين الذين بقوا مخلصين للصفحة فيما تفرق الباقون!

فلما صار الأمر كذلك هجرت فيسبوك وانصرفت إلى ما فيه خير، وبارك الله في وقتي وأعانني في السنتين الماضيتين على إنجاز مشروعات ما كان لي أن أنجزها في عشر سنين لو بقيت في "الأسْر الفيسبوكي"، فنشرت من كتب جدي علي الطنطاوي رحمه الله ستة كتب في طبعات جديدة مصححة منقحة، واشتغلت بكتبي التي تجمّعَت مادتها بين يدي على مر السنين وبقي عليّ العمل بمراجعتها وتحريرها، وأرجو أن أفرغ منها وأنشرها كلها في نسخ رقمية مباحة للناس في يوم قريب إن شاء الله.
ماذا صنعتُ بكتب جدي التي أعدت نشرها؟

أشرت في منشور البارحة إلى كتب جدي التي أعدت إصدارها في طبعات مصحَّحة منقحة، فسألني أخ فاضل: ما الذي صنعتَه في هذه الكتب وقد طُبعت في حياته؟

للأسف حفلت أكثر الطبعات الجديدة التي نُشرت في أواخر حياة علي الطنطاوي رحمه الله بتطبيعات وأخطاء كثيرة، ووقع في بعضها سَقْط تراوح بين كلمات في بعض المواضع وسطور كاملة في غيرها، لأنها لم تكن تصويراً للطبعات القديمة التي أشرف الشيخ على تدقيقها بنفسه، بل أُعيد صَفّها بالكامل وأوكلت مهمة مراجعة تجارب طباعتها إلى الطابع الذي لم يحسن أداء هذه المهمة. حتى إن أخاً فاضلاً أرسل إليّ معاتباً لأنه أحصى في أحد الكتب أكثر من مئة خطأ مطبعي، فقلت له: هذا قليل، فإني أحصيت في بعضها أكثر من ثلاثمئة، وفي أكثرها سَقْط واضطراب في بعض المواضع يُفسد المعنى. ولكني لست أنا محلَّ العتب، فأنا مسؤول فقط عن الطبعات المصحَّحة التي تجد اسمي في أولها وليس عن سواها من الطبعات.

أما السؤال عمّا صنعتُه بتلك الكتب فهذا جوابه: عندما أبدأ بمراجعة كتاب فإني أجمع أولاً أصوله كلها (المطبوعة والمخطوطة) فأقابل الطبعة الجديدة عليها وأصحح ما في النص من تطبيعات (أغلاط مطبعية) وأستكمل النقص وأصلح الاضطراب حيثما وُجد نقص أو اضطراب. وربما وجدت تعليقات وإضافات بخط الشيخ تركها على نسخته التي كان يميزها بعبارة "نسخة المؤلف" ويسجل فيها ما يبدو له من تصحيحات واستدراكات، فأدرجها في مواضعها من الكتاب. وإذا وجدت في النص ما يحتاج إلى توضيح قدّمت التوضيح اللازم في حاشية على الكتاب وميزتها باسمي لئلا تختلط بحواشي المؤلف الأصلية، وكذلك أصنع بشرح المفردات الغريبة التي أشعر أن فهمها قد يستعصي على أكثر القراء.

ثم إني نظرت فوجدت أن كتب البلدان والرحلات تُكمل فيها الصورةُ الكلمةَ وتزيد الوصفَ بَهاء وجلاء، فاجتهدت بتزويدها بصور تناسبها، وأنفقت في البحث وقتاً طويلاً لجمع الصور، ثم وقتاً مثلَه في معالجتها فوتوشوبياً لأن في كثير منها رداءة تقتضي التحسين والترميم. وبعد ذلك أشتغل بتنسيق النص والصور في برنامج "إنديزاين" الذي أعتمد عليه في إخراج كتب الشيخ، ثم أصدّر ملفات تجارب الطبع فأدققها تدقيقاً أخيراً قبل تصدير ملفات الطباعة النهائية.

هذا العمل الذي ألتمس فيه غاية الإتقان الممكن يستغرق مني وقتاً طويلاً، فإذا كان الكتاب متوسط الحجم ولا صور فيه فإنني أنجزه في نحو أسبوعين، كما صنعت بكتاب "تعريف عام بدين الإسلام" الذي اعتمدت في مراجعته على ثلاثة أصول مطبوعة، ومعها المقالات الأصلية التي نُشرت في جريدة "المدينة" السعودية قبل جمعها في الكتاب، ومعها بعض الأصول المخطوطة التي استطعت العثور عليها في أوراق جدي رحمه الله.

أما الكتاب الذي أزوده بالصور فقد يستغرق عملي فيه أربعة أسابيع، كما في كتاب "من نفحات الحرم" الذي راجعته على خمسة أصول: الكتاب المطبوع بطبعتَيه الأولى والثانية، ومجلدات "الرسالة" التي نشر فيها المؤلف أكثرَ مقالات الرحلة، والجزء الثالث من مجموعة "الذكريات" الذي سرد فيه طرفاً من أخبارها، وبعض الأوراق المخطوطة التي بقيَت من أيام الرحلة نفسها ولم تجد طريقها إلى النشر في أي يوم من الأيام. أما الكتابان الكبيران "رجال من التاريخ" و"أعلام من التاريخ" (وهو كتاب جديد لم يصدر من قبل) فقد زودتهما بخرائط توضح كثيراً من الأحداث التي وُصفت فيهما، ولم يَخلُ إعداد تلك الخرائط من صعوبة، واستغرق عملي في كل منهما نحو ستة أسابيع.

* في الصورة المرفقة نموذج من السقط والغلط في الطبعات السابقة، وهي من كتاب "في سبيل الإصلاح" الذي فرغت من مراجعته أخيراً ولم يُطبع بعد.
2025/10/24 12:25:14
Back to Top
HTML Embed Code: