Telegram Web Link
ضرورةُ التفلسُف
أرسطو


" إنّ كلمة التفلسف تدل من ناحية على السؤال عمّا إذا كان من واجب الإنسان أن يتفلسف، كما تدل من ناحية أخرى على أن نهِب أنفسنا للفلسفة.
لمّا كنا نتوجه بحديثنا إلى أناس من البشر، لا إلى أولئك الذين لهم حياة ذات طبيعة إلهية، فلا بُدّ أن نضيف إلى تلك التنبيهات السابقة، تنبيهات أخرى نافعة في الحياة الاجتماعية والعلمية.
وفي هذا الصدد نقول : إن ما يقع تحت تصرفنا لتيسير شؤون الحياة، كالجسد وما يخدم الجسد، إنما يقع تحت تصرفنا كنوع من الأداة، واستخدام هذه الأدوات مقرون بالخطر، فهي تؤدي إلى عكس نتيجتها على يد أولئك الذين لا يُحسِنون استعمالها. ولهذا يجب علينا أن نسعى إلى معرفة تعيننا على استخدام كل هذه الأدوات على الوجه الصحيح، كما يجب علينا أن نسعى إلى تحصيلها هذه المعرفة، وتطبيقها بطريقة ملائمة.
يجب علينا أن نصبح فلاسفة إذا أردنا أن نُصرِّف شؤون الدولة بصورة صحيحة، ونُشكِّل حياتنا الخاصة بطريقة نافعة.
بيد أن المعرفة على أنواع مختلفة، فهناك المعرفة التي تنتج خيرات الحياة، وهناك المعرفة التي تستخدمها. و ثمة تقسيم آخر : فهناك أنواع المعرفة التي تخدم وتطيع وهناك الأنواع التي تأمر، والأنواع الأخيرة أعلى درجة، وفيها يكمن الخير بمعناه الحقيقي. ولمّا كان هذا النوع الوحيد من المعرفة الذي يتوصّل للحكم الصحيح، ويستخدم العقل، ويضع الخير في مجموعه نُصبَ عينيه - ونعني به الفلسفة - هو الذي يستطيع الانتفاع بسائر أنواع المعرفة وتوجيهها وفق قوانين الطبيعة. فإن هذا دليل آخر على ضرورة التفلسف. ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصُّر المعصوم من الخطأ الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال، وأن ندع.

___________________

أرسطو ، دعوة للفلسفة ، ترجمة عبد الغفار مكاوي ، دار التنوير ، بيروت.
من هو طاليس Thales وما هي أبرز معالم فلسفته؟ - ٦٢٤ق.م–٥٥٠ق.م (تقريبًا)


أرسل الإنسان بصره إلى الكون يستطلع تلك المادة التي تتكون منها الأشياء جميعًا، والتي ترتد إليها الأشياء جميعًا، وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلًا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فلن يصادف إلا عددًا قليلًا من ألوان المادة التي يجوز عقلًا أن تكون كذلك؛ إذ لا بُدَّ لتلك المادة الأولية المنشودة أن تكون مرنة شديدة المرونة في قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وألا تكون محدودة الصفات محصورة الخواص حتى تتسع لكل شيء، أفلا تستطيع أن تحزر ماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته، ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساءٌ أو أصبح صباحٌ؟ إنها الماء! فليس عجيبًا إذن أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، ويجهر بأن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء الذي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارًا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرًا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجًا؟ وإذن فو غاز حينًا، وسائل حينًا، وصلب حينًا، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.

كان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكره حتى خُيِّلَ إليه أن الأرض قرص متجمد، يسبح فوق لجج مائية ليس لأبعادها نهاية، ويرجح أرسطو أن يكون طاليس قد خلص إلى هذه النتيجة لما رأى أن الحياة تدور مع الماء وجودًا وعدمًا، فتكون الحياة حيث الماء وتنعدم حيث ينعدم.

تلك خلاصة موجزة لرأي طاليس في نشأة الكون، وقد كان عالمًا بالرياضة، عالمًا في الفلك، حتى قيل إنه تنبأ بكسوف الشمس الذي حدث سنة ٥٨٥ق.م قبل وقوعه، وقيل أيضًا إنه علم المصريين كيف يقيسون ارتفاع الهرم بواسطة ظله، وإنه ابتكر طريقة لمعرفة أبعاد السفن من الشاطئ بالوقوف على نشز عال من الأرض، ولكنه في الفلسفة لم يؤثر عنه إلا هذان المبدآن: الكون يتألف من ماء، والأرض قرص يسبح فوق ماء!

وإذا كانت هذه الفكرة الساذجة هي كل إنتاجه الفلسفي، فكيف جاز لنا أن نحشره في زمرة الفلاسفة، بل نجمع على أنه أبو الفلسفة ومُنْشئُها؟٢ ولكنك إن كنت تستطيع أن تنكر على الفلسفة المائية خطرها وقدرها، فلن تنكر على طاليس أنه أول إنسان حاول أن يفسر الكون، لا بالأساطير ولا بقوى الآلهة المتعددة التي اتخذها أسلافه، بل على أساس علمي، وسواء فشلت محاولته أم لم تفشل، فهي المحاولة الفلسفية الأولى على كل حال، ولِمَ تطالب طاليس أن يأتيك بتعليل صحيح للكون؟ ألا يكفيك أنه أثار المشكلة لخلفه؟ ألا يكفيك أنه وضع الأساس فجاء من بعده يقيمون البناء عليه؟ ثم ألا يكفيك أنه طبع الفلسفة طابعًا خاصًّا ظل يلازمها إلى عهد سقراط؟ نعم، هو أول من أدرك أن هذه الكائنات المتباينة لا بُدَّ أن تكون قد صدرت عن أصل واحد، ثم أخذ يبحث عن ذلك الأصل، فشق بذلك الطريق، وأخذت الفلسفة تدور حول هذه المشكلة وتجيب عن سؤاله: رأى طاليس أن الماء أصل الوجود، وقال أَنَكْسِمَنْدَرْ: بل هو مادة لا تحدها حدود، وأعلن انكسمينس أنه الهواء، وذهب الفيثاغوريون إلى أنه العدد، وأجاب هرقليطس بل هو النار، ورده إمبذوقليس إلى عناصر أربعة، وقال ديمقريطس: إنه ذرات … وهكذا لبث الفلاسفة يقتفون أثر زعيمهم طاليس في جوهر البحث وأساسه، وإذن فطاليس هو الذي صبغ الفلسفة فيما قبل سقراط بتلك الصبغة المادية التي عُرفت بها، وحسبه ذلك خطرًا.

الفيلسوف الجديد

@Newphilosopher
" على الفلسفة في أحيانٍ كثيرة أن تتحمل عبء الإستماع إلى أناس لم يُكلفوا أنفسهم أية مشقة من أجل فهمها ثم يتحدثون عنها حديث العالم بكل تفاصيلها، وهكذا تراهم، دون أي إعداد يجاوز التعليم العادي، لا يترددون في التفلسف وفي نقد الفلسفة، لاسيما، تحت تأثير العاطفة الدينية"

هيجل
لم يتولد عن العقل خلال الأزمان الهائلة الماضية سوى الأخطاء، ومن هذه الأخطاء ما ثبت نفعه وقدرته على حفظ النوع؛ إذ استطاع من اهتدى إليه أو تلقَّاه بالميراث، أن يحرز في نضاله من أجل ذاته ومن أجل ذريته مزيدًا من النجاح؛ ومن قبيل هذه المعتقدات الباطلة، التي ظلت تُتوارث حتى كادت في نهاية الأمر أن تُعَد كامنة في ماهية النوع الإنساني، الاعتقاد بأن ثمت أشياء ثابتة، وبأن ثمت أشياء متماثلة، وبأن ثمت أشياء، وجواهر، وأجسامًا، وبأن الشيء يكون على النحو الذي يتبدَّى عليه، وبأن لنا إرادة حرة، وبأن ما هو خير بالنسبة إليَّ هو خير في ذاته ولذاته.

ولم يَظهر مَن يُنكر مثل هذه المعتقدات أو يشك فيها إلا في وقت متأخر جِدًّا؛ أعني أن الحقيقة لم تظهر إلا متأخرة جِدًّا، بوصفها أضعف صور المعرفة وأقلها أثرًا. وعندئذٍ، وضح للمرء أنه لا يستطيع أن يحياها؛ إذ إن الكائن العضوي فينا قد تلاءم مع ضدها، وكل الوظائف العليا لهذا الكائن العضوي، كالإدراك الحسي وسائر أنواع الإدراك بوجه عام، إنما مورست من خلال هذه الأخطاء الأساسية القديمة التي سرَت فيها. بل إن هذه المبادئ قد غدَت هي ذاتها المعايير التي يُقاس بها ما هو «حقيقي» وما هو «غير حقيقي» في المعرفة؛ حتى تغلغلت في أعمق مجالات المنطق الخالص.

وعلى ذلك «فقوة» المعرفة لا تكون في مدى حقيقتها، بل في قِدَمها، ومدى تغلغُلها فينا، وطبيعتها بوصفها شرطًا من شروط الحياة. وحيثما بدت الحياة والمعرفة في تعارضٍ، لم ينشب أي صراعٍ جدِّي، فهنا يُعد الإنكار والشك ضربًا من الجنون. أمَّا أولئك المفكرون الذين شذُّوا عن هذه القاعدة، كالإيليين، الذين أكدوا برغم ذلك ما في الأخطاء الطبيعية من أضداد، وثبَّتوها، فقد اعتقدوا أن من الممكن أيضًا أن «نحيا» هذا التضاد؛ ومن هنا ابتدعوا شخصية الحكيم، بوصفه ذلك الذي يتصف بالثبات، واللاشخصية، وشمول الأفق، ويكون واحدًا وكُلًّا في الآن نفسه، وتتوافر لديه قدرة خاصة على هذه المعرفة المعكوسة. وهكذا كانوا يعتقدون أن معرفتهم هي في الوقت نفسه «مبدأ الحياة». على أنه كان يتعين عليهم، لكي يتسنى لهم أن يؤكدوا كل ذلك، أن «يخدعوا» أنفسهم في موقفهم الخاص؛ أعني أنه كان يتعيَّن عليهم أن ينسبوا إلى أنفسهم اللاشخصية والثبات الذي لا يعرف تحولًا، وأن يسيئوا فهم ماهية العارف، وينكروا أهمية الغرائز في المعرفة، وبالإجمال، أن يتصوروا العقل على أنه فاعلية كاملة الحرية، نابعة عن ذاتها فحسب. ونسوا أنهم ما وصلوا إلى مبادئهم هذه إلا بمناقضة ما هو شائع، أو بدافع الرغبة في السكينة، الاستحواذ أو السيطرة. على أن التطور الأعماق الذي سارت فيه نزعات الشك الأمينة قد جعل وجود مثل هؤلاء الناس مُحالًا في نهاية الأمر، فقد تبيَّن أن حياتهم وأحكامهم تعتمد بدورها على الغرائز المتأصلة والأخطاء الأساسية القديمة التي تكمن في كل كائن مُدرِك.

1
ولقد كانت مثل هذه النزعة الأعمق، التي تتصف بالأمانة والشك، تظهر حيثما يبدو مبدآن متعارضان قابلَين للانطباق على الحياة، ما دام كلٌّ منهما يتفق والأخطاء الأساسية؛ أعني أنها كانت تظهر حيثما أمكن أن يُثار الجدال حول وجود قدر أعظم أو أقل من النفع للحياة، وكذلك حيثما تبيَّن أن ثمت قضايا جديدة، هي حقًّا غير نافعة للحياة، ولكنها على الأقل ليست ضارة بها؛ أعني أنها كانت من إنتاج ميل غريزي إلى اللهو العقلي، وفيها من البراءة والطرافة ما في سائر مظاهر اللهو. وبالتدريج امتلأ الذهن الإنساني بمثل هذه الأحكام والمعتقدات، وثار في هذا الخليط فوران، وصراع، ونزوع إلى القوة، ولم يكن النفع واللذة هما وحدهما اللذان تدخَّلا في هذا الصراع من أجل «الحقائق»، بل تدخَّلت فيه كل أنواع الغرائز، وأصبح الصراع العقلي انشغالًا، وحماسةً، ورسالةً، وواجبًا، وكرامةً، وانتهى الأمر بالمعرفة وبالسعي وراء الحقيقة إلى أن يصبح حاجة ضمن سائر الحاجات. ومنذ ذلك الحين لم يعُد الإيمان والاقتناع وحدهما «قوة». بل غدا البحث، والإنكار، والريبة، والتناقض، «قوة» بدورها، وانتظمت في خدمة المعرفة كل الغرائز «الشريرة»، واستغلَّتها هذه لصالحها، واكتسبت تلك الغرائز مكانة النزعات المشروعة، المبجلة، المفيدة، وأصبح لها أخيرًا مظهر «الخير»، وبراءته.
وهكذا أصبحت المعرفة قطعة من الحياة ذاتها، ولما كانت هي ذاتها حياة، فقد غدت قوةً دائمة النمو حتى انتهى الأمر إلى تصادُم المعارف وتلك الأخطاء الأساسية القديمة، ما دامت كلٌّ منهما حياة، وكلٌّ منهما قوة، وكلٌّ منهما تتمثل في الإنسان عينه؛ فالمفكر هو الآن ذلك الكائن الذي يتصارع فيه لأول مرة ذلك الميل إلى الحقيقة مع تلك الأخطاء التي تحفظ الحياة، بعد أن «اتضح» أن الميل إلى الحقيقة هو ذاته ميل حافظ للحياة. والحقُّ أن كل أمر آخر ليغدو، بالقياس إلى أهمية هذا الصراع، غير ذي بال، فهنا يُثار السؤال الأخير عن شرط الحياة، وهنا تبذل المحاولة الأولى للإجابة عن هذا السؤال عن طريق التجربة. فإلى أي حد تحتمل الحقيقة أن تُتمثل؟ ذلك هو السؤال، وتلك هي التجربة.

2

فريدريك نيتشه - العلم المرح

@Nietzsche1
@Newphilosopher
الوجودية ومواقع التواصل الاجتماعي
ديفيد جونسون


ترجمة: ريم بنت سعد المري
تحرير: محمد عبيدة




هناك ما أقلق فلاسفة الوجودية، و عبر عن هذا القلق لأول مرة جان بول سارتر. وقد جسَّد هذا القلق وضخمه الانتشارُ الواسع لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي. ويتمحور هذا القلق حول شيء أسماه سارتر: “النظرة”، في مسرحيته:” لا مخرج”، ويشير قول الشخصية “غارسين”: “الجحيم هو الآخرون”، إلى هذه المعضلة.

ماذا يقصد فيلسوف الوجودية؟

لفهم ما عناه علينا أن نعلم القليل عن جان بول سارتر. سارتر فيلسوف فرنسي ظهر على الساحة من عام 1940 إلى عام 1960، واعتبر أكثر شخصية محورية في الفلسفة الوجودية. في الواقع، محاولة وضع جميع الفلاسفة الذين يعرفون عادة بالوجوديين – مثل: كيركيغور، نيتشه، هيدجر، سارتر، بوفوار، وكامو – في فئة واحدة سيؤدي الى توسعة الأمور قليلا. عموما، هناك ما يقلق الوجوديين أنفسهم، وهو طبيعة حالة الانسان، مثل: القلق من الموت، معنى أو عبثية الحياة، حجم وطبيعة الحياة. ويصعب تفسير أقوالهم حول هذه الأشياء. وعلى عكس الفلاسفة التحليلين الذين يهدفون تحديدًا إلى تقديم حجج منطقية وواضحة، فالوجوديون غالبا ما يطرحون نقاطهم في شروحات طويلة وبمصطلحات غير محددة، أو بسرد القصص، أو بكتابة المسرحيات.

تشييئ النظرة

لتوضيح “النظرة”، طلب سارتر من شخص ما أن تخيل نفسه ينظر بفضول عبر ثقب الباب لمعرفة ما يجري في الغرفة المجاورة. حيث ركز على من هم في الغرفة الأخرى، ولم يعر انتباهًا لنفسه وأفعاله، فالأشخاص في الغرفة الأخرى هم أهداف يصب عليهم تركيزه. ولكن في اللحظة التي سمع فيها أصوات أقدام قادمة من خلفه وأدرك بأن شخصًا ما يراقبه، تحول تركيزه، مما جعله فجأة يدرك أنه نفسه صار هدفا لتركيز وتصور شخص آخر، فأصبح مشغول البال بما يظنه “الآخرون” به؛ وعلى الأرجح أنهم سينظرون إليه كمتلصص أو مختلس النظر. وبهذا يجادل سارتر أن “نظرة” الآخرين تجعل الشخص شيئا، وهي تغير حتى الطريقة التي ينظر بها الشخص إلى نفسه. ربما المدخنون يعرفون “النظرة” أفضل من غيرهم. فهنالك المنظر الذي يراه الشخص أمام مبنى المكتب، عند مرور الناس بالمدخنين، فلا ينظر إلى ذلك الشخص على أنه يدخن، بل كمدخن. ليس كأب أو كأم أو كانسان؛ بل مجرد مدخن قذر ونتن. وهنا يدرك الشخص مباشرة أنه صار “شيئًا” بدلا من كونه إنسانا. بالطبع، قد ينكر الشخص الصورة التي يراه بها الآخرون، ولكن – كما يقول سارتر- لا يمكنه ذلك؛ فمن ناحية الواقع، فهم مدخنون؛ وهي حقيقة ناتجة عن كونهم مدخنين؛ لكن يمكنهم في الحقيقة تجاوز تلك الصورة، فهم ليسوا فقط مدخنين، وإنما أيضا هم آباء وأصدقاء، فهم بشر في النهاية. ولكن “نظرة” “الآخرين” هي التي تهددهم وتقوم بحصرهم داخل صندوق وتحويلهم إلى شيء وموضوع للتركيز.

“نظرة الآخرين” في مواقع التواصل الاجتماعي


1
بالطبع، بإمكان “النظرة” أن تحدث في أي مكان: في العمل، في المنزل، في العلاقات. لكن بشكل خاص في هذا العصر، لا يحتاج الشخص حتى الى التواجد جسديا بين الآخرين ليشعر بالنظرة. وهنا يأتي دور مواقع التواصل الاجتماعي؛ وبسبب ما يقال في هذه المواقع، فإن الفيسبوك وتويتر موجودان فقط لكي يرى المرء الآخرين، ويراه الآخرون. يحاول الناس جعل الآخرين ينظرون إليهم بالطريقة التي يريدونها، لتحديد كيف يعاملهم الاخرون كأهداف للتركيز. وهذا هو السبب وراء نشرهم لتعليقات ذكية، ومشاركتهم لبعض الميمات، وانتقادهم لآراء معينة. كما يريد الناس تشكيل الصورة التي يراهم بها الاخرون. بالنسبة لسارتر، هذا ما تعنيه جميع العلاقات تقريبًا: استمرارية محاولة تشييء بعضهم البعض. وهذا لا يعيق حرية أي شخص. فالناس ليسوا ملزمين أو مجبرين بما يعتقده الآخرين عنهم.

الجحيم هو الآخرون

في مسرحية سارتر لا مخرج، تدرك الشخصيات الثلاث أن عذابهم هو حبسهم مع بعضهم البعض للأبد. يؤمن سارتر بأن الأشخاص لديهم حرية جوهرية، فلديهم القدرة على فعل ما يرغبون وأن يكونوا أي شيء يريدون. لكن هذا النضال المستمر ليكون الشخص على طبيعته، ولا يخضع لتوقعات الاخرين، هي عملية بائسة مجردة من الإنسانية. ولهذا السبب، “كان الجحيم هو الآخرين”. وصور سارتر ذلك في مسرحيته لا مخرج، حيث يجد الأشخاص الثلاثة أنفسهم محبوسين في غرفة في الجحيم، ينتظرون وصول عقابهم. تكشف المسرحية ما فعله كل واحد منهم ليستحق الجحيم. أحدهم أساء معاملة زوجته، والآخر أغوى زوجة صديقه، أما الأخرى فقد قامت بقتل ابنتها. لكنهم يدركون ببطء أنه لا يوجد عقاب. وعقابهم هو البقاء في غرفة مغلقة مع بعضهم البعض للأبد. وهذا العذاب بسبب “نظرة” كل طرف للآخرين. غارسين على سبيل المثال، الذي لم يقاتل بالحرب، يرى نفسه من دعاة السلام، لكن اينيز تراه مجرد جبان. ولكن لأنها أحد اثنين سوف يراهما إلى الأبد، يحتاج غارسين بشدة إلى تغيير هذه النظرة؛ فيتعهد إلى الأبد بإقناعها بخلاف ذلك.
وبالطبع فإن المعنى الضمني هو أن الحال التي تمر بها هذا الأرواح الثلاثة المسكينة في الجحيم، هي أساسًا الحال نفسها التي يمر بها الجميع، في العالم الحقيقي: ذلك أن الناس محاطون بالآخرين، وهؤلاء الآخرون “ينظرون” إليهم، بينما يحاولون كسب رضاهم.
2
الفيلسوف الجديد
#سارتر
#الوجودية
@Newphilosopher
قراءة في الرسالة السياسية للفيلسوف باروخ سبينوزا
سومر إلياس




تميز الفكر السياسي الأوروبي الحديث بفلسفة خاصة مميزة له على الرغم من تنوع مدارسه المختلفة، كان من نتائجها ظهور النموذج السياسي المسمى بالدولة الليبرالية الديمقراطية، تلك الدولة التي باتت تطرح نفسها وكأنها النموذج الوحيد والمنتصر في عالم الافكار السياسية، أو كما تجرأ بعض منظريها وأعلنها بأنها نهاية التاريخ، ويدفعنا هذا النموذج خصوصا وأنه بات يطرح نفسه غازيا للشعوب الاخرى الى الغوص في تفاصيل هذه الفلسفة وجذورها الفكرية لفهم عالم الأفكار السياسية من حولنا والذي من حيث لاندري يصوغ لنا حياتنا ومصيرنا.

والرسالة السياسية التي نحن بصدد القراءة في صفحاتها تعتبر من الركائز التي قامت عليها تلك الفلسفة، وما أعنيه هنا تلك الفلسفة التي كونت مفهوم دولة الحق الاجتماعي أو دولة العقد الاجتماعي أو الدولة المدنية الحديثة وريثة الدولة الدينية أو دولة الحق الإلهي، وصاحب الرسالة هو باروخ سبينوزا فيلسوف أمستردام المنبوذ، المولود عام 1632 والمتوفي عام 1677 في أشد العصور ظلامية تاركا للتراث الفلسفي للبشرية أربع كتب وأبحاث جعلته أحد عمالقة الفلسفة في التاريخ.

وعلى الرغم من أن البحث الاخير وهو الرسالة السياسية لم يكتمل بسبب موت الرجل إلا أنه قد قدر لسبينوزا أن يصوغ من خلاله فلسفته السياسية بشكل واضح، وقدر للكتاب أن يكون من أمهات الكتب السياسية و أن يمتلك قدرة عجيبة لإختراق أي فلسفة سياسية أتت بعده، ويمكن تقسيم الرسالة الى ثلاثة أجزاء رئيسية حسب المواضيع المطروحة، الأول ويضم خمسة فصول وفيه يتحدث سبينوزا عن علم السياسة بشكل عام ونشوء الدولة المدنية، والثاني ويضم فصلين عن الملكيات، والثالث ويضم ثلاثة فصول عن الأرستقراطيات، ومات سبينوزا وهو يكتب الفصل الحادي عشر عن الديمقراطية، وفهم فيما بعد من رسالة كتبها لأحد أصدقاءه أنه كان ينوي التحدث في فصول قادمة عن القانون وأنه كان سيضمن الكتاب أسئلة هامة في السياسة.



مقدمة

يبدأ سبينوزا بحثه بضربة معلم كما يقال في العامية عندما يبتدأ بالحديث عن علم السياسة كغيره من العلوم الأخرى القابلة للتطبيق، ناقلا السياسة من طوباوية كلاسيكية تميزها في كل مجتمع تقليدي الى مكان أكثر واقعية، ولا عجب في ذلك لفيلسوف لقب مهندسا، فيعتبر أنه لايوجد أسوأ من الفلاسفة والمفكرين عندما يتحدثون أو يكتبون في السياسة أو في إدارة شؤون الجماهير، فمشكلة هؤلاء الأساسية كانت في أنهم لم يتخيلوا أبدا نظريات قابلة للتطبيق ولم ينظروا الى الناس كما هم، بل نظروا إليهم أو تخيلوهم كما يريدونهم أن يكونوا وباسلوب طوباوي، فمجدوا الطبيعة البشرية حيثما كانت غير موجودة على أرض الواقع وإسترسلوا في هجاء الطبيعه البشرية الحقيقية للناس، فكان في كتاباتهم الكثير من الهجاء واللوم والقليل من علم الأخلاق والسياسة، أما نظرياتهم فوجدت نفسها دوما في يوتوبيا قصية عصية على التطبيق.

1
👍1
ولكن على الطرف الآخر فإن رجال الدولة والسياسة أيضا لهم مشاكلهم عند تناولهم السياسة، فهم مهوسون بالمؤامرة دوما وأبدا، وتخامرهم الشكوك بالناس أكثر من مراعاتهم لمصالح هؤلاء الناس، وهم بالأساس قد تم إختيارهم لكونهم مخادعين لا لكونهم على درجة من العلم والمعرفة، وهم يعلمون بالخبرة أن الخوف هو الذي يقود الناس دائما، وأما العقل والسبب فلم يكن ليحرك بهم ساكن، كما أن التجربة علمتهم أن الخطيئة موجودة في الطبيعة ما دام الإنسان موجودا، ولكن و بشكل عام فقد إستطاع هؤلاء السياسيون أن يكتبوا بالسياسة بنجاح أكثر مما كتب الفلاسفة، ونادرا ما قد تجد في كتاباتهم شيئا يتعارض مع التطبيق، وهنا تبرز المعضلة الفلسفية بحسب سبينوزا، فمن جهة أولى فإن الناس لا تطيق ذرعا بان تعيش بلا قانون ومن جهة أخرى فإن الذي يسن القانون هو اكثرها حذاقة ودهاء، وقل ان شئت مكرا وخداعا، وكم يصعب على فيلسوف أن يصدق أن قانونا يخدم الصالح العام لم تصنعه الضرورة أو المصادفة.

ويبتدأ سبينوزا في شرح أفكاره السياسية عن طريق فهم التصرفات البشريه منطلقا من العواطف البشرية، وهنا ضربة معلم اخرى ومهمة في ذلك العصر تحسب للرجل وهي أن تسبق الدراسة السياسة بدراسة النفس البشريه، أي ان تسبق علم السياسة بعلم النفس، وكان سبينوزا قد أشار في موضع آخر الى أن هدف رسالته السياسية الأساسي هو البحث عن حكومة قادرة على التعامل مع عواطف البشر ونوازعهم المختلفة، ويقصد بالعواطف البشريه المحبة والكراهية، الطموح والحسد، الغضب والرحمة، ويقول بانني ساتناول في رسالتي العواطف البشرية بنفس تلك الروح الفكرية التي تدرس بها الرياضيات، هذه العواطف التي تلعب دورا أساسيا في تحريك الناس ورسم مسار حياتهم، وبسخرية لاذعة يقول ان الناس عاشت منذ البدء بعواطف جياشة، فكان المريض يثير في نفوسهم الشفقه دائما وفي ذات الوقت كانوا يحسدون الأصحاء، يتعاطفون مع الفقير ويغرقون في النميمة على الأثرياء، يمدون يد العون للضعفاء ومن هم ورائهم والخناجر المسمومة في ظهور الأقوياء ومن هم في المقدمة، وكما أن لديهم ميلا ملفتا للرحمه فان لديهم ميلا اكثر للإنتقام، وكل فرد منهم يتمنى في قرارة نفسه أن يرى الآخرين ورائه، يوافقون على ما يوافق عليه ويرفضون ما يرفضه، وهم متساوون في توقهم لأن يكونوا أولين ، فتراهم ساقطين في النزاع كيفما نظرت اليهم، ويدهشك المعتدي الغازي منهم فخورا بالأذى الذي ألحقه بالاخرين اكثر مما هو فخور بالصالح الذي فعله في نفسه.

وعلى الرغم من ان العقائد الدينية تعلم بني البشر أن يحب الانسان جاره كنفسه وأن يصون حقوق الاخرين كما يصون حقه، إلا أنه وكما يبدو فإن للعقيدة تاثيرا ضعيفا على العاطفة البشرية، ومؤسف أن لا يظهر تاثيرتلك العقائد وصوت الرب إلا ساعة الموت وعلى فراشه، عندما يضعف المرض تلك العاطفة ويقهرها، وعلى الرغم من أن العقل او السبب أكثر قدرة على السيطرة على هذه العاطفة الهوجاء وتلك الرغبة الجموح، وأكثر قدرة على تهذيبها وتشذيبها والتخفيف من غلوائها من العقائد الدينية، إلا أن النقطة التي يشير اليها هذا العقل السببي شاهقة الإرتفاع، وطريقه وعرة و شديدة الإنحدار الى ذلك الحد الذي يجعل أغلب الناس وخاصة السياسيون منهم أن لا يحتملون حكمه، وان يبحثوا عن طرق أقل وعورة وأكثر رحابة، كما تجعلهم ينعتون من أخضع حياته للعقل والسبب من بني البشر بالحالم بعصر الشعراء الذهبي في التاريخ.

2
👍1
نشوء الدولة المدنية

هناك خلل مهم جدا تستنبطه عند قراءة الفلسفة السياسية الاوروبية في الفكر والثقافة العربية، وفي فهمها لحركه التاريخ عندما تلاحظ كيف يقسم التاريخ البشري لدى سبينوزا وكيف يستنتج ظهور الدولة من هذا التقسيم، فالتاريخ هنا يقسم كما هو مع هوبز ولوك وروسو وكل فيلسوف أوروبي تنويري الى الإنسان الإجتماعي والإنسان الماقبل اجتماعي، لا الى الإنسان الجاهلي والإنسان المؤمن بالله كما هو الحال لدى المثقفين العرب إجمالا، فالحياة الاجتماعية الصالحة تبتدأ بالعقل والسبب في الفكر الغربي ولا تبتدأ بالوحي الإلهي كما هي في الفكر العربي، ويثير هذا الإختلاف الجوهري في المنطلق لفهم نشوء التنظيم الإجتماعي من واقع وحي إلهي كسمة أساسية مميزة للثقافة العربية ألف تساؤل في راسك عندما تربطه بكون هذه المجتمعات من أسوأ المجتمعات البشرية على الإطلاق من ناحية التنظيم الإجتماعي والقدرة على إنتاج إدارة شرعية للدولة في ظل فكر يعتبر أن الشرعية شيئا نازلا من السماء.

يستنتج سبينوزا نشوء الدولة المدنية كغيره من فلاسفه التنوير من دولة الطبيعة أو دولة الغابة، والتي هي نقطة مفترضة في التاريخ ومنها تنطلق كل المدارس السياسية الغربية سواء كانت واقعية نفعية انجليزية أو مثالية المانية، وما من شك أن سبينوزا ينتمي الى المدرسة الانجليزية فنراه يميز بين نوعين متمايزين من الوجود البشري، الأول قبل وجود قوانين الإجتماع الاخلاقية والثاني بعد وجود قوانين الإجتماع الأخلاقية، حيث إفترض سبينوزا إن الإنسان في البداية قد عاش وحيدا في الغابة وبدون تنظيم إجتماعي متمتعا بما سماه الحق الطبيعي، هذا الحق الفردي الذي منحته إياه الطبيعة والذي ليس له من حدود سوى قوة هذا الفرد، حتى انه يمكن القول ان الحق والقوة هما الشيء ذاته في دولة الطبيعة، هذا الحق الذي يعطي الانسان حرية مطلقة تمتد مع إمتداد القوة في ظل غياب مفاهيم الخير والشر، الخطأ والصواب، العدل والجور، والتي هي مجرد مفاهيم اجتماعية، وسمى سبينوزا هذا النوع من الوجود بدولة الطبيعة السابقة للدولة المدنية، والإنسان في دوله الطبيعة لا يرى سوى منفعته الخاصة، ويعين الصالح والطالح وفقا لقوته وفائدته وهواه، فالقانون في دولة الطبيعة والذي يولد بموجبه البشر الغير اجتماعيين هو قانون غابوي تسنه الشهوة والحاجة الفردية، وهو لا يحرم على الإنسان أي شيء إلا ما لا يرغب هذا الإنسان في اتيانه، فكما هي وحوش البربة كل يعيش لنفسه وعلى هواه وفي ظل خطر عظيم على حياته ولا يمكن لاحد ان يدرك الخطيئة.

ولكن الحرية بالنسبة للنوع الانساني ليست كل شيء، فالإنسان مثله مثل باقي الكائنات يرغب بالحفاظ على وجوده ودرء الأخطار عنه وتامين ضروريات حياته، وتسري عليه قوانين حفظ النوع كما تسري على غيره من المخلوقات، كما أنه يخاف العزلة، لذلك تراه ينزع نحو التنظيم الإجتماعي، فالحاجات المشتركة بين الناس تولد المساعدة المتبادلة بينهم، وهكذا نرى أنه وضمن سياق تطوري تاريخي للإنسان قد ظهرت الجماعات، و قانون القوة الفردية او قانون الطبيعة قد تحول الى قانون حقوقي للجماعة ذو سمة اخلاقية أو عقد اجتماعي، وإن الحق الطبيعي قد تحول الى حق مدني، لتنشا شيئا فشيئا الدولة المدنية على أنقاض دولة الطبيعة، حيث يشترع فيها وبموافقة عامة الناس على ما يكون صالحا وطالحا، وما هو خير وما هو شر وما هو عدل وما هو جور، ويظهرضمن هذا السياق التطوري ذاته الإنسان الارقى والذي يعتبر نفسه مسؤولا أمام المجموع.

وتنشأ داخل الإنسان درجة ما من الضمير، الذي هو ليس بأي حال من الأحوال فطريا في الإنسان كما تزعم بعض المدارس الفلسفية، ولكنه مكتسب بالتجربة ومختلف بإختلاف البيئة وإختلاف التجربة، وهو في جوهره مخزون التقاليد الاجتماعية للجماعة، وهو حليف للمجتمع الذي نشأ حديثا من حالة الطبيعة يخلقه من واقع الحاجة والتجربه، يخلقه في نفس عدوه، والمقصود هنا بعدو المجتمع هنا هي النفس الفرديه الغابوية وشريعتها، من هنا يسيطر عقلا إجتماعيا في نفوس الأفراد جوهره ضمير عام سائد في نفس الجماعة يعطي الانسان قدرة على التنازل عن جزء من قوته واستقلاليته للمجتمع المنظم نظير توسيع ميدان باقي حقوقه أوحرياته في ميادين أخرى.

3
بقي أن نذكر أنه متى نشأ المجتمع فإن القانون الذي سوف يحكم علاقة هذا المجتمع بالمجتمع الآخر هو نفسه القانون الذي كان يحكم علاقة هذا الإنسان بالإنسان الآخر في دولة الطبيعة، وكما كان الرجال أعداء بالطبيعة في دولة الغابة فإن الدول أيضا متعادية ومتنازعة في طبيعة وجودها، ويمكن ملاحظه ذلك بسهولة عندما نلاحظ سلوك تلك الدول وكيف انه لاتوجد ايثارية بينها، قالقانون الإخلاقي في نظر سبينوزا قابل للتطبيق في مجتمع واحد وليس بين مجتمع ومجتمع آخر، لأن هذا القانون نشأ كما أسلفنا من السبب، ولا توجد بعد أسباب كافية للأخلاقية بين المجتمعات المتغايرة والمختلفة، وكما كان الحال في دولة الطبيعة حيث ان الإنسان الأكثر قوة هو ذلك الإنسان الذي يستخدم العقل والسبب، فكذلك الحال بين المجتمعات والدول، حيث ان أكثر الدول قوة واستقلالية دائما هي تلك الدول التي أنشأها السبب والتي يقودها ويرشدها العقل.

ولا يختلف سبينوزا عن أرسطو في تقسيمه لشكل الدول، فالدول إما ملكية او أرستقراطية أو ديمقراطية، وأفراد الدولة أما مواطنون اذا سنوا هم قوانينهم، أو رعايا إذا أجبروا على إطاعة قوانين مستبدة بهم، والدولة المدنية أيا كان شكلها فإن أفضلها هي الدولة التي تخلق السلام والإستقرار والأمان لمواطنيها، والتي لا يتم فيها خرق القوانين والعصيان, ويرجع سبينوزا أسباب خرق القوانين وإحتقارها والتحريض على العصيان الى الإدارة السيئة للدولة أكثر مما يرجعه الى الطبيعة المخادعة للجماهير، حيث إن الناس لم تخلق للمواطنة ولكنها خلقت للغابة، وبالتالي يجب ان يكون هناك دائما من يجعلهم إناس لائقين لتلك المواطنة, فالغرائزالإجتماعية هي غرائز مستحدثة وأضعف من الغرائز الفردية المتأصلة في الانسان والمتجذره في نفسيه هذا القادم من دولة الغابة، وتحتاج دائما الى من يرعاها وينميها ويحميها، وتلك هي مسؤولية الدولة او الوعي الجمعي على جميع الأحوال، إن الدولة التي لا تعالج أسباب العصيان وخرق القوانين ونوازع التمرد الانسانية لا تعود تختلف كثيرا عن دولة الطبيعة حيث ان لسان حال أفرادها أو وحوشها الضارية يصبح: كل يعيش لنفسه وعلى هواه و في ظل خطر عظيم على حياته.

الملكيات والديمقراطيات

كما بينا قبل قليل أنه حتى بعد ظهور الدولة المدنية يبقى في الانسان دوما شيء من دولة الطبيعة ومن وحوش البرية، وكما كان هذا الإنسان بالإمس تقوده نفسا واحدة هي نفسه، يبقى هذا الميل لديه في الدوله المدنيه وفي أعماق نفسه، وهكذا وبتاثير هكذا ميل وبتأثير عاطفه عامه بين الجماهير وبعيدا عن صوت العقل والسبب، تتجمع الناس وتتجمهر وتتمنى في قرارة نفسها بان تقودها نفس واحدة ورجل واحد وتترجى فيه الخلاص، ومن هنا تنشا الملكيات .
ويتناول سبينوزا الملكيات من حيث كونها حكم مطلق تضعه الجماهير في يد الملك فلم تكن الملكيات الدستورية قد ظهرت بعد الى الوجود، فيعتبر ان الطبيعة البشرية لا تجعل الناس إجمالا يطلبون ما هو مفيد لهم، ولو كان الامر كذلك وعقلا سببيا راجحا يحرك الناس لما ظهرت الحاجة الى القانون أساسا، ولكن المؤسف أن الطبيعة البشرية غير ذلك، ومن هنا تظهر الحاجه الى تسليم السلطات جميعها الى رجل واحد قوي، حيث تصل النزاعات في المجتمع الى طريق مسدود وتظهر حاجة ملحة الى أن تصبح الدولة منظمة بشكل صارم ومؤتمرة بحيث أن جميع الناس سواء أرادوا أم لم يريدوا أن يجبروا على فعل ما هو للصالح العام بدوافعهم الشخصية أو بالقوة.

4
ويفاضل سبينوزا بين الملكيات والديمقراطيات بسخرية فيلسوف مظهرا عيوب النظامين وميزاتهما، فيقول ان الخبرة تعلمنا أنه ما من دولة وقفت جبارة ثابتة كالدولة العثمانية وأنه ليس هناك أقصر عمرا وأكثر إضطرابا من الديمقراطيات التي تفتك بها حركات العصيان في كل زمان وكل عصر، ولكن من جهه اخرى إذا كانوا يسمون العبودية ثباتا والبربرية سلاما واستقرارا فما أسوأ طالع الرجال عندها وأي بؤس ينتظرهم، حيث يعتقد سبينوزا أن الملكيات المطلقه تؤدي الى العبودية وليس الى السلام، فالسلام ليس هو مجرد غياب الحرب الذي يضمنه البطش ولكنه واقع في وحدة واتفاق العقول طوعا، و يخطأ خطأ جسيما من يعتقد بقدرة رجل واحد على ان يجمع في يديه سلطات الدولة جميعها.

فسبينوزا كباقي الفلاسفه يعتبر ان الحق هو القوه دائما حتى وإن كابر الطوباويون، إذ حتى في دوله الشعب فإن حق الشعب هو قوة هذا الشعب المتمثلة في وعيه الاجتماعي الذي يترجم نفسه مؤسسات صلبة راسخة، وحيث أنه ليس للحق من حدود سوى القوة دائما، فانه وفي الحاله الملكيه من الطبيعي أن يكون حق الملك في الحكم هو قوه هذا الملك نفسه، ولكن المشكله كما يراها سبينوزا تكمن في أن قوة رجل واحد غير كافية من أجل حمل ثقيل كحمل الدولة، فجوهر الدولة هو القدرة على التعامل مع الطبيعه البشريه وتقيد نوازعها، وقوه رجل واحد غير كافيه من اجل هكذا حمل ثقيل، وهكذا فإنه غالبا ما نرى ان الرجل الذي اختارته الجماهير ملكا ومخلصا قد سقط تحت هكذا حمل للطبيعة البشرية يجثم فوق ظهره،وأنصرف في البحث عن مصالحه الشخصية ومصالح اقرباءه واصدقائه ومستشاريه، ففي نهاية المطاف ليس ثمه عين قادرة لوحدها أن تبقى على الدوام ساهرة وليس ثمة جفن لا يغافله النعاس.

وبما إن الصالحين قلة وأما الطالحون فحدث ولا حرج، فهكذا تجد أن خطر الدولة الملكية قد ياتي من مواطنيها اكثر مما ياتي من أعدائها، ومن هنا يصبح الملك خائفا من مواطنيه اكثر مما هو خائف من أعدائه، وسيهتم بأمنه وسلامته أكثر من إهتمامه بمصالح رعاياه، حتى انه قد يتآمر عليهم في أوقات السلم كما يتآمر على أعداء الدولة الخارجيين في أوقات الحرب، وخصوصا على أولئك الرعايا الذين يظهرون ميلا نحو التعليم والفهم، أو من لهم تاثير في المجتمع عن طريق ثرواتهم، فالمرء قد يذعن لسيطرة الدولة على افعاله لكنه لا يسلم بسهولة بسيطرتها على رأيه وعقله كما في الحالة الملكية السائرة بطبيعتها نحو الاستبداد, وبما أنه ليس للجميع دائما الرأي نفسه، فالاقضل أن يكون لرأي الاغلبية قوة القانون، أي ان القوة هنا من الأفضل لها أن تنتقل من الرجل الواحد الرازح تحت حمل الدولة الثقيل الى قوة الاغلبية أو مجموعة كبيرة من الناس، وهذه هي الديمقراطية او حكم الجماهير.

5
ولكن من جهه اخرى فان للديمقراطيات عيوبها ايضا. فالعدد في الديمقراطيات هو من يحكم ومنه تتحدد القوه او الحق في هذه الحالة، ولكن بالمقابل فمن الاعداد لا تنبثق الحكمه، والعدد هو منتج طبيعي للغوغاء والدهماء وليس أدل على ذلك كيف تفقذ الناس عقلها عندما يزداد عددها وتتجمهر، ومن هنا يمكن فهم ميل الديمقراطيه دائما لتوليه المتوسطين من الناس عقلا وقدره مقاليد الأمور في الدولة، فالجماهير تهب مناصبها لمن يحابيها ويداهنها وليس لأصحاب الكفاءات، وهي بالأساس قد جبلت على الاهواء المتقلبة ونوازع الحرق والتدمير وعصيان القوانين، وليس العقل والسبب ما يرشدها كما هو مرشد للنخب الفكربه في المجتمع، وهي تبدو لاعقلانيه الى حد مرعب كيفما نظرت اليها، وتحرق الأخضر واليابس لأتفه الأسباب، كل هذا يساهم غالبا في تحول الحكومات الديمقراطيه الى موكب من المنافقين والمداهنين والمختصين في التعامل مع الطبيعة السيئة للبشر، والمختصين في تسخير تلك الطبيعة السيئة للوصول الى المنصب والبقاء به.

وبالنتيجه من الطبيعي أن تشمئز النخب الفكرية واصحاب الحكمة والمعرفة من دخول مجالس حكوماتها الديمقراطية، حيث يتوجب على تلك النخب سماع تقييم من هم دونهم لهم، وتلقي الأحكام والأوامر من الغوغاء ومنتج الغوغاء، وعاجلا أم اجلا سوف ينتفض ذوي الكفاءة الأجدرعلى نظام يهمشهم ويستهين بعقولهم على الرغم من كونهم أقلية في المجتمع، ومن هذا الباب تتحول الديمقراطيات الى أرستقراطيات نخبوية، أو تلك التي تعتمد مبدأ الإصطفاء لا الإنتخاب أساسا لها، وما تلبث أن تقبض تلك النخب ونبلاء النفوس هؤلاء على زمام الأمور في الدولة وحيث يتم إقصاء الغوغاء عن شؤؤن الادارة والحكم فيها.
هذا وتتحول الأرستقراطيات ايضا الى ملكيات بمرور الزمن وإستمرار ميل الإنسان وحاجته الفطرية الى النفس الواحدة والرجل الواحد، وهكذا تدور الدائرة .
إن الناس في نهاية المطاف تفضل الطغيان على الفوضى, وهم في النهاية يعلمون في قرارة نفوسهم بأنهم غير متساويين، وأن من يطلب المساواة بين اللامتساويين إنما يطلب المستحيل، ويعتقد سبينوزا أنه على الديمقراطية وقبل كل شيء أن تحل مشكلتها الرئيسية الكامنة في تجنيد طاقات الأجدر والأكفىء بين الناس حتى يمكن أن يعتد بها كنظام سياسي له أهميته وله قيمته.

غاية الدولة هي الحرية

سوف تصاب بالدهشة عندما تقارن النتيجة التي توصل اليها سبينوزا مع بدايات الفلسفة السياسية في أوروبا بالنتيجة التي وصلت اليها في ذروتها مع هيجل, فكما يعتبر هيجل أن غاية التاريخ هي الحرية وما عدا ذلك باطل الأباطيل وقبض الريح، واضعا كل فلاسفة التاريخ وأفكارهم وصراعاتهم تروسا في ماكينة من تصميمه لإنتاج الحرية وفقط الحرية، كذلك إعتبر سبينوزا قبل قرون من هيجل أن غاية الدولة هي الحرية وفقط الحرية .
فالدولة الكاملة بنظر سبينوزا، وهي أيضا نقطة مفترضة في التاريخ، حيث أن الدولة بالنسبة الى الفرد لدى سبينوزا هي كالعقل بالنسبه للعاطفة لدى الانسان وكما أنه لا يوجد عقل كامل فلا توجد كذلك دولة كاملة، إن الدولة الكاملة هي تلك الدولة التي لن تحد من حريات أو حقوق أو قوى مواطنيها إلا عندما تكون تلك الحريات أو الحقوق أو القوى مدمرة بشكل متبادل بين الأفراد، كحرية السرقة عند اشتهاء مقتنى الآخر مثلا، او القتل عند الغضب، وهي لن تحرم أي حرية إلا لتضيف حريات أوسع دائما، فتحريم القتل عند الغضب مثلا يعطي بالمقابل حريات أو حقوق للناس بأن تعيش بأمان وهكذا دواليك.

6
إن غاية الدولة النهائية لا تتمثل بالسيطرة على الناس وتخويفهم وإرهابهم، بل على العكس إن غايتها تحريرهم من الخوف ليعملوا بأمن وإطمئنان حتى تتحرر طاقاتهم، فغاية المجموع البشري بالأساس وإنطلاقا من الفرضية الأساسية ألا وهي دولة الطبيعة أو دولة الغابة هو إتاحة فرصة للنماء والتطور للنوع البشري لم تكن لتتوفر للناس إذا عاشوا فرادى، وبما إن النماء والتطور غير ممكن إلا في ظل أجواء الحرية، فإن غاية الدولة واقعا وفعلا هي الحرية.
تظهر هنا عبقرية الرجل واضحه في عرض سابق لعصره لما يصطلح على تسميته بالكلمة النهائية في علم السياسة، و ربما علم الاخلاق أيضا، وما أعنيه هنا هو سؤال السياسة النهائي: كيف يمكن لنا أأن نحد من شهواتنا وعواطفنا وغرائزنا في ضوء تجاربنا؟ أو بتعبير آخر: كيف لنا أن ننظم طاقاتنا وجهودنا كبشر بالشكل الأمثل؟ كما يظهر لنا الفرق واضحا بين النظام المدني والنظام الديني والذي يحد من الشهوة والغريزة والعاطفة في ضوء وحي الهي كموني، ويحد من طاقات البشر بنصوص مقدسة، فالمتراجحة السياسية في الفكر السياسي الحديث وفي أي دولة حديثة تتكون من قطبين أساسيين، القطب الأول هو الحريه والقطب الثاني هو النظام، وهذه هي القاعدة الأساسية في أي دولة مدنية حديثة حتى لحظة كتابة هذا المقال , والدولة العبقرية في علم السياسه الحديث هي دائما تلك الدولة التي تؤمن لمواطنيها أكبر قدر ممكن من الحرية مع أكبر قدر ممكن من النظام في ذات الوقت، وقد يبدو للوهله الأولى أن النظام في الدولة الحديثة هو غاية أيضا كما هي الحرية، ولكن واقع الامر ليس كذلك، فالنظام ليس غاية بحد ذاته أبدا، لكنه في النهاية موجودا لحماية الحرية فقط، أي أن قيمته هي من قيمة الحرية التي ينظمها ويحددها نفسها، فمحدد حرية الفرد في الدولة المدنية ومتى أرادت أن تكون دولة مدنية حقيقية وليس دولة دينية بلبوس مدني أو مرجعيه دينيه كما يزعم بعض المرجعيات الدينية السياسية، فمحدد حرية الفرد هو حرية الأفراد الآخرين والتي يكفلها القانون المدني والنظام الإجتماعي وليس محددها وحيا أو حقا إلهيا يأتي من ماوراء النجوم ويمتد ويمتد في نفوس الافراد بحسب أهوائهم وقناعاتهم الإيمانية وفهمهم للميتافيزيقي أو إحتكارهم له.
بالعودة الى سبينوزا نجد أن المشكلة كما يراها تكمن دائما في تحول الدولة وهي تنشد الحفاظ على وجودها والذي هو عمليا محافظة ذوي المناصب على مناصبهم الى نظاما ميكانيكيا ظالما وجائرا ومستبدا، أي وكما أسلفنا سابقا أن يصبح النظام بحد ذاته غاية، ويتساثل سبينوزا عما يجب فعله في هذه الحالة ويجيب كغيره من الفلاسفة وبنفس القدر من الحكمة بان أطيعوا هذا القانون الجائر اذا كان هناك هامشا لحرية النقاش والإعتراض المعقولين حتى نستطيع أن نغير تلك الحالة وتلك القوانين سلميا وبدون فوضى تأأتي على الأخضر واليابس.
تدهش أيضا من نتيجة مهمة وصل إليها سبينوزا في ذلك العصر عند مقارنتها بفلسفة جون ستيوارت ميل الليبراليه بعد قرون، عندما فصل ميل حرية الرأي عن باقي الحريات وإعتبرها حقا مطلقا في منظومته الفلسفية, فبشكل مشابه يعتقد سبينوزا أن القانون الذي يحرم حرية الرأي هو ذلك القانون الهادم لجميع القوانين الأخرى، فالناس لاتحترم على المدى الطويل تلك القوانين التي لا يجوز لهم إنتقادها, والمشكلة تكمن في أنه كلما زادت جهود الحكومة لخنق حرية التفكير و التعبير أو حرية الرأي كلما كانت مقاومة الناس لها اشد ضراوه وعنادا، وعلى أرض الواقع لا يقاوم هذا الكبت للحريه هؤلاء المشغولين بجمع الأموال ولكن اولاءك الذين جعلت منهم علومهم وثقافتهم أناسا أوسع حرية من هؤلاء المكتنزين.
إن الناس وبشكل عام لا تستطيع أن تفهم كيف يمكن أن تكون تلك الآراء الخاصه بها جرائم ضد القانون في عرف الدولة والمجتمع، وفي ظروف كهذه فإن هؤلاء الناس البؤساء سيجدون أنه ومن المشرف لهم ان يمقتوا تلك القوانين ويحتقرونها, حتى إنهم لن يتورعوا عن أي عمل ضد الدولة, وكمخرج يعتقد سبينوزا أنه من الأفضل للدولة إعتبار أفعال الناس لا آرائهم هي الأساس والمرجع للملاحقات القانونية الجزائية, وذلك حتى تستطيع الدولة من أن تحرم الفتنة من جميع أوجه التبرير لها. وكلما تناقصت سلطة الدولة على العقل كان ذلك افضل للدولة والمواطن سواء بسواء ويقول بهذا الصدد: إن إنتقال السلطة من أجساد الناس الى عقولهم وأفكارهم ما هو إلا موت للجماعة البشرية ونهاية للنماء.

7
خاتمة

ما من شك إننا أمام أفكار ذات محتوى تدميري هائل وخطير جدا لبنية المجتمع التقليدية في ذلك العصر بل ولبنية الانسان النفسية التقليدية, فيا لها من رسالة خطيرة ومزلزلة لكل عقل تقليدي في أي عصر من العصور، حيث يمكن من خلال هذه الرسالة السياسية تتبع الفضيلة الساقطة في أوروبا التنوير، ألا وهي فضيلة الايمان المسيحي، وكذلك تتيع الفضيلة الصاعدة في الفكر الإنساني ايضا ألا وهي فضيلة المواطنة الاغريقية، ففي علم السياسة وانطلاقا من السؤال الفلسفي الكلاسيكي والجوهري ما هي غايه الحياه؟ يميزون دائما بين نوعين من الفضيلة، الأولى هي المدرسة الأخلاقية المسيحية والتي تعتبر أن الفضيلة النهائية أو الغاية هي الإيمان وبالتالي فإن الخيرالأعلى بحسب تلك المدرسة موجود في عالم آخر ما وراء النجوم، والثانية هي المدرسة اليونانية وهي تلك المدرسة السياسية التي تعتير أن الفضيلة أو غاية الحياة هي الحرية، وبالتالي فإن الخير الأعلى موجود في دولة المواطنة حيث يعيش الإنسان حرا في دولة حرة.
لقد كان الرجل هو ذلك الهدام والمدمر بإمتياز بمفهوم عصره، وربما كان هذا من الأسباب التي دعت رؤساء المجمع اليهودي في أمستردام أن يصدروا بحقه تلك الأحكام الجائرة وأن يمنعوا الناس من الإقتراب منه لأربعة أذرع، وأن يأمروهم بأن لا يكلمه أحد بكلمة وأن لا يقرأ أحدا أي شيء جرى به قلمه او أملاه لسانه، وأن يلعنوه وعلى رؤوس الاشهاد جميع اللعنات الواردة في سفر الشريعة نهارا وليلا, وفي نومه وصبحه, وفي ذهابه وإيابه, وفي دخوله وخروجه، وربما يكون هذا هو السبب أيضا في أنه طبع كتبه بدون أن يجرأ على وضع اسمه عليها تاركا كنوزه الثمينة لأجيال اخرى وقرون تالية, عقل فلسفي جبار رفض مجدا زائلا في عصره باحثا عن مجد أعظم من ذلك، مجد يزداد عظمة بتقدم العصور وخلود يحسد عليه في ذاكرة الانسانية, تقول الحكمة الفلسفية القديمة: الويل لذلك الذي يعلم الناس بسرعة تفوق مقدرتهم على التعلم، لقد دفع الرجل ثمن الحكمة و أوفى حتى الفلس الأخير، فلقد كرهه معاصريه وكرهته أجيالا أتت بعده، ولكن الفلسفة صنفته عبقريا عبر القرون إستطاع أن يقلب عالي الامور سافلها في النفس البشريه , لقد حطم ذلك الرجل العظيم موازينا كثيره وخلق وصنع وإبتكر موازينا اخرى.

8
الفيلسوف الجديد
باروخ سبينوزا
#باروخ_سبينوزا


@spinoza_2021
www.tg-me.com/newphilosopher
عندما نقول إن اللذة هي المقصد، فنحن لا نعني بذلك لذة المنغمسين في الشهوات أو من يقضون أوقاتًا في المتعة كما يدَّعي البعض نتيجةً لجهلهم ورفضهم فَهم ما نقول، بل اللذة هي التحرُّر من ألم الجسد وقلق الروح. فما يَهَبُ الحياة سعادتها ليس الانغماس في الشراب والحفلات، ولا إقامة العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء، ولا التلذذ بالأسماك والمأكولات غالية الثمن … وإنما العتق من الأفكار التي تسبب اضطراب الروح.

- أبيقور
من الرسالة إلى مينيسي
ترجمة محمد طلبة نصار
كيف نداوي الجراح اللامرئية؟
رائد العيد




بعدما شرّح العصر الحديث وما آل إليه من كوارث طبيعية ومآسٍ أخلاقية وتصدعات اجتماعية في كتابه “اختلال العالم”، يقول أمين معلوف: “لم يعد ثمة غرباء في هذا العصر، لم يعد ثمة إلا رفاق سفر”. نعيش الحياة كرحلة سفر نبحث فيها عن رفقة تُخفف عنّا وعثاء الطريق وكآبة المنظر وسوء المنقلب. وتزداد الحاجة لهذه الرفقة بازدياد خصوصية الحالة التي نعيش فيها، ومن هذه الحالات الخاصة العيشُ بمرض نفسي، والتي لها مسببات خِلقية في كثيرٍ من الحالات، إلا أنها تكاثرت في السنوات الأخيرة بما سببته أنظمة العصر الحديث من شروخ في اللحمة البشرية وتباعدات اجتماعية روحية أكثر أثرًا من التباعد الجسدي الذي سببه وباء كورونا، بالإضافة إلى أثر الرأسمالية التي أوهمت البشرية بتساوي الفرص المعيشية مما أدى إلى ارتفاع سقف التطلّعات لدى الإنسان المعاصر، فهوى من فوقه بعدما عرَف قصور إمكانياته عن بلوغ طموحاته، وباتت جملة هيرمان ملفل تصوّر الواقع: “تحت تلك النجوم، هناك كونٌ من الوحوش التي تتزلج”.

لأن العزلة أصبحت الحل الأمثل في هذا الزمن لدى كثير من الناس، وقلة الخلطة والمكاشفة مع الآخر باتت أكثر شيوعًا، احتاج المرء إلى البحث عن رفقةٍ قليلة الكلَفة عديمة التطلّب، يسهل الانكشاف أمامها دون تحرّج، فكانت الكتب الخيار الأمثل للطرفين: الكاتب لكي يُفصح عن مكنوناته وهمومه وهواجسه، والقارئ الباحث عمن يُعالج أزماته ويفك مغاليق مشكلاته ويهون مخاوفه. ومن بين أنواع الكتب كان النصيب الأوفر للسير الذاتية الآخذة لدور المعالج النفسي والمشابهة لرحلة التحليل النفسي.

نقرأ السير الذاتية لنغوص في أعماقنا من خلال الآخرين فنعرف أنفسنا، ولكي نواسيها أيضًا بأن ما كانت تظنّه لم يحدث إلا لها، قد حصل للكثير من قبلنا، وأن ما نراه نهاية العالم وجَدَه آخرون أكثر عادية ولطفًا من مخاوفنا.

نقرأ السير الذاتية النفسية لنستبق المرض، نعرف بوادر ظهوره، مراحل استفحاله، لنعرف كيف نتعامل مع المصاب به، مع أهله، مع الوحوش حين تتسلل إلى ذواتنا، نقرأها لنبنيَ جسور العيش المشترك، دون إغراق فيها فنبدأ بالوسوسة.

1
👍1
ملامسة الجنون

كتب ممدوح عدوان في أولَ المقدّمات التي جمعها كتابُه “دفاعًا عن الجنون”: “نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون”، وإن كان يقصد بقوله هذا الفنان التشكيلي السوري لؤي كيالي الذي شُخِّص بالجنون فعلًا، إلا أني أرى في الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي ما يستحق الاحتفال حقًّا، خاصة أن اضطرام عالم لؤي الداخلي كان أشد عصفًا وعنفًا من أن يجد بديله الموضوعي في فنٍّ خارجي، لكن حسين استطاع أن يُسائل جنونه من خلال سيرته ويستثمره في أعماله، وهذا ما دفعني للبدء به.

دشّن حسين البرغوثي سيرته الذّاتية على سطح أملس أسماه «الضوء الأزرق»، لا ليرسم شيئاً من خارطة المغامرة وحسب، ولكن ليخلق منظومته الصّوفية المشحونة بكلّ تعبيرات الجنون في قالب فلسفي يحاكي العقل، قاطعًا الطريق على القارئ كي لا يَحار كثيراً في تفسير اختيار هذا العنوان في الصّفحات الأولى من سرديّته، بأنّه “لون النفس الأمّارة بالسوء” بحسب الطائفة الصوفيّة النقشبنديّة، و”لون طاقة الخلق فينا” لدى البوذيّة “التيبت”، إلاّ انّه أكمل شرح الأمر عبر توضيح سرّ اهتمامه باللون الأزرق الذي رافقه منذ الطفولة قائلاً: “عندي، الأزرق لون الغربة، والغيب، وسماء الطفولة”، ووصل به الأمر حدّ تأليفه للحن موسيقيّ، لم يكتشف سرّ تعلّقه به حتى قرأ أنّ لكلّ نوتة موسيقيّة لونًا خاصًّا بها، وعندما بحث عن لون النوتة التي سحرته وجده أزرق. وشغف الكاتب باللّون الأزرق دفعه للبحث عن معناه في الأساطير والحكايات القديمة، ما أكدّ له أنّه والأزرق ملمحان لقناع واحد.

تمضي السيرة على هيئة حكايةِ معلّم مجنون ومريد كادت أن تنفصم شخصيّته، كان الجنون بوصلة التواصل المهيمنة على نصّ يروي حكاية مريد، عثر مصادفة على شيخ طريقته، ليكتشفا معًا أنّ الحياة لغةُ “خيالٍ واسع في عالم ضيق”. واللغة أداة بناء فكريّ يمكنها أن ترتدي ما شاءت من الأقنعة إلى أن يجد الإنسان إجابة شافية لسؤال حائر: كيف يمكن للذِّهن أن يعيد تصميم نفسه؟ ليفرّق ما بين “الذّهن ومحتواه”؟

المريد في السيرة هو حسين البرغوثي، الباحث عن نفسه وهويّته في ظلّ ما تاه منه بوصفه إنسانًا أولًا، وفلسطينيًا ثانيًا، وأما المعلّم أو شيخ الطريقة في سيرة البرغوثي فكان شخصيّة “برّي” الصوفيّ، التركيّ، التاجر، الطبّاخ، الطالب المشرد المجنون، أستاذ الجنون الذي أراد أن يتعلّم منها “فن التذبذب بين الصحو والجنون”. يصف طفولته بوصفٍ أرى أنه صاحَبَه طيلة حياته: “ليس المهم أنني كنت فرخ “أهبل” أو أطرش، أو عبقريًّا، بل كوني دائمًا خارج السياق، لا أنتمي إلى أحد، شاذًّا وغريبًا، وعلى هامش الدنيا”. عاش حالة رعب في صغره لم يستطع تجاوزها، دخل البحر حتى كاد أن يأخذه من أهله، “كنت أخشى الفصام لأنني كنت منفصمًا أصلًا! كان البحر يطاردني لأنه أعمق وأصدق وأوسع شكل عرفه غضبي، ونواياه تدمير العالم كله”، فصاغ فلسفته استنادًا على خوفه، “هذا هو الفهم: سمكتك الذهبيّة، من طبيعتها أن تسبح في كل نظريّة، كل تجربة، كل رأي، كل نوع من المعرفة، كل ماء، وتبقى هي هي: سمكة ذهبيّة. إن من طبيعة الذّهن أن يفهم نفسه، كما أن من طبيعة السّمكة أن تسبح. وأين يسبح العقل؟ في نفسه: إنه الشلاّل والسّمكة التي تسبح في الشلاّل. هل فهمت معنى قولك: كن شلالًا وكن سمكة؟”.

2
الإطار الزمني لسيرته فترة دراسته في أمريكا، والأماكن التي تسير فيها الأحداث تدور حول الحانات وشقق الأشخاص، وللمقاهي النصيب الأكبر، “غريب كم يبدو المكان كمصيدة، أحيانًا.. وجدتني أتنقّل بين هذه المقاهي الثلاثة، وأبحث عن نفسي، ليس في الكتب. سئمت كل الكتب، بل في المقاهي، وبين المشبوهين بالجنون، والشواذّ، والصعاليك، حيث الخرائط أكثر دقّة ووضوحاً وإثارة”. ذهب إلى هناك ليتعلم، فلم يمتنع عن الكثير من التجارب بحثًا عن المعرفة؛ إذ “عمق الغنا يأتي، أحيانًا، من عمق الوجع، كما يأتي الضحك الذهبي أحيانًا من كثرة المتاهات”، لكنه لم يكتب ليُعلّمنا، بل ليثير الكثير من الأسئلة حول أنفسنا، وما أحوجنا إلى ذلك، “فأن تتأمل نفسك يعني أن تفهم ما كنت تعرفه دائمًا من غير أن تفهمه”.

بعد دراسةِ ذهنية المنتحرين والتفكير في سؤال: كيف يشتغل الذهن المبدع؟ خَلُص إلى فكرة ستقلب حياته كلها، وهي أن “الذهن له تصميم معين، ككل كيان آخر في الكون، وهو كيان قادر على أن يعيد تصميم نفسه وعالمه”. ويرى أن “أزمة الذهن العربي أنه فقد هذا بالضبط: قدرته على الخلق. لا أعني فقط، قدرته على “خلق عالمه”، وتصميم “الدنيا التي يحيا فيها، بل، على أن يكون عنده جديد كل ليلة، وكل ذهن فَقَد قدرته على تصميم نفسه سيقوم غيره بتصميمه”. يحاول فهم حالته التي وصل إليها فلم يُفلح، “كل ما توصّلت إليه في (عقلنة جنوني) أنه نوع من إشاحة الوجه عن (معرفة أكيدة، وحتمية جدًا) عن شيء أعرفه، موجود في قلبي كله، ولكن لا أريد أن أراه، أو لا أجرؤ، أو لا أقدر على رؤيته”.

جنون حسين كان من نوع خاص يصعب القبض عليه، حتى لدى صاحبه الذي يقول: “الجنون عندي كان كالرب، زنبقة من هذا النوع، أعرف أنها موجودة، وكانت ما كانت، وهي ما هي، وستكون ما ستكون، كنت أجهل أي شيء عنها ما عدا وجودها”. وإن كان يصعب معرفة تشخيصه بمرض نفسي، يمكن اعتبار حالته ضمن جنون المبدعين الذين تتلبسهم حالات يصعب القبض على ماهيتها، فهو يؤمن أنه “في الفن، يجب أن تلامس الجنون دون أن توقظه، وكنت أُلامس الجنون وأوقظه، في الحياة، وهذا أخطر”، وما حرّضه على هذه الخطوة الخطرة أنه يرى “الجنون نوع من أنواع الضعف، وللخروج منه، لا بدّ من الإيمان بأننا لسنا فريسة، بل نمور وصيادو نمور وخطرون “.

تتداخل في سيرة حسين الرموز والتراث إلى جوار الفلسفة والتخييل، في نسيج لغويّ متحرّك ما بين الشعر والنثر، الرّواية والسيرة، وهو ما أشار إليه محمود درويش في تقديمه للكتاب بقوله: “تحقّقت شَاعريّة حسين البرغوثي الحقيقيّة في “الضوء الأزرق” كما لم تتحقق في محاولاته الشّعريّة. إنه نصّ لا يُصنف في جنس أدبيّ واحد، وهو ليس سيرة ذاتيّة، بالمعنى المتعارف عليه. ولا هو رواية، إنه يذكّرنا بسرديّات الرواية وبحميميّة السيرة…فهو خليط غريب من البوح الشّخصيّ والتّأمُّلات الذهنيّة”.

3
غرق البهجة

كتَب الروائي الأمريكي وليام ستايرون تجربته الشخصية مع المرض النفسي واصفًا معاناته وشكل حياته تحت وطأة الاكتئاب بـ”ظلام مَرئيّ”؛ مُستوحيًا ذلك من الشاعر الإنجليزي جون ميلتون حين قال: “لا ضوء، فقط ظلام مرئي”، مؤكدًا على أن ‏الاكتئاب شبح أسود، ظلام يُخيِّم على كلّ تفاصيل حياتك.

‏وصل ستايرون إلى مرحلة صعبة عند وصوله باريس لتسلّم جائزة عريقة، وبينما هو يُلقي خطابه بهذه المناسبة كان شبح الاكتئاب قد استولى على عقله، فصار كما عبّر الشاعر: “على وجهِه عُرسٌ، وفي القلب مَأتَمُ”، في الوقت الذي يُنتظر من الجائزة أن تُعلي تقديرَه لذاته، إذ بانعدام تقدير الذات يستفحل ويتفاقم. يبدأ بعد هذه الحادثة باستعادة تاريخه المرضي من البداية إلى النهاية، محاولًا اكتشاف مسبباته، وهو ما أوصله إلى التحليل الأسهل بأنه نتيجة اضطراره التوقف عن شرب الكحول التي أصبحت تسبب له الغثيان. لكنه يعاود في نهاية الكتاب التفكير بالمسببات الأساسية القديمة، ويُرجعها إلى ما بات يُعرف بـ”الحداد الناقص” وهو عدم التطهر الكافي من حالات الفقد، وخاصة فقد الأم في الصغر، مما يورث عبئًا لا يُطاق، وهو عبء مشحون بمشاعر الغضب والذنب وليس الحزن الدفين فقط، والذي يتحول إلى بذور لإهلاك النفس.

لا يرى ستايرون في كلمة “الاكتئاب” التعبير الأنسب لطبيعة المرض القاتل، ويحاول جاهدًا اقتراح كلمات بديلة لكنه في النهاية يقبل بها حتى تتكرم اللغة بوصف أدق. يؤمن أن العصر الحديث قد ساهم في تحسين المصطلحات التي يوصم بها المرضى النفسيين، إلا أنه في لحظة مصارحة مع القراء يقول: “لا تدعوا الشك يساوركم لحظة في أن الاكتئاب، في شكله الحاد، ما هو إلا جنون”، وهو ما دفعه لوضع “مذكرات الجنون” كعنوان فرعي لسيرته الذاتية. يحكي أيضًا عن تجاربه السيئة مع المعالج النفسي الذي كاد أن يودي به إلى الانتحار بسبب إصراره على العلاج الدوائي واقتراحه على ستايرون عدم الذهاب إلى المستشفى، وخطئه في اقتراح أدوية لا تناسب سنّه ولا حالته المرضية، والتي استطاع تداركها بعد دخول المستشفى. مما يؤكد أهمية زيارة أكثر من معالج والتأكد من صحة التشخيص وسلامة التوصيف العلاجي خاصة مع تفاقم الأعراض.

وصل الحال بستايرون إلى التفكير الجاد بمحاولة الانتحار، ذهب إلى المحامي محاولًا كتابة وصيته، ليكتشف “أن كتابة رسالة انتحار هي أصعب مهمة تصديت لها في مجال الكتابة”، وفي إحدى الليالي التي سبقته زوجته فيها إلى السرير وظلّ سهرانًا يشاهد إحدى مسرحياته، أدرك أنه لا يقوى على التخلي عن حياته مهما سيطرت عليها المآسي والصعوبات، فأيقظ زوجته لتذهب به إلى المستشفى. يخبر ستايرون عن شعور المكتئب عندما تنهال عليه وصايا التماسك والحفاظ على حبل الحياة، ويُشبّه هذه الوصايا بوصية الواقف على الشاطئ للغريق الذي يتخبط في البحر بالابتسام والابتهاج!

4
2025/07/13 16:42:18
Back to Top
HTML Embed Code: