ب: لكنَّ لديَّ روحًا تعقل كثيرًا، ولا يكاد كلبي يعقل على الإطلاق. لديه فقط تقريبًا أفكار بسيطة، بينما لديَّ ألف فكرة ميتافيزيقية.
أ: حسنًا، أنت حرٌّ أكثر منه بألف مرة؛ أي أن لديك قوة تفكير أكثر مما لديه بألف مرة؛ لكنك لا تُفكر بطريقة غير التي يفكر بها.
ب: ماذا! ألستُ حرًّا في أن أتمنى ما أتمنى؟
أ: ماذا تعني بذلك؟
ب: أعني ما يعنيه الجميع. ألا يُكرِّر المرء كل يوم أن الأماني حرة؟
أ: المَثَل ليس حُجة. عبِّر عن نفسك بمزيد من الوضوح.
ب: أعني أني حرٌّ في أن أتمنى كما يحلو لي.
أ: بعد إذنك، هذا لا يعني شيئًا. ألا ترى أنه سخيفٌ أن تقول أتمنى ما أتمنى؟ أنت تتمنى بالضرورة، نتيجةً للأفكار التي قدَّمت نفسها لك. هل ترغب في أن تتزوَّج؟ نعم أم لا؟
ب: ولكن ماذا إن أخبرتُك أني لا أريد هذا أو ذاك؟
أ: حينها ستكون إجابتك كمن يقول: «بعض الناس يُصدقون أن الكاردينال مازارين قد مات، والآخرون يُصدِّقون أنه حي، ولكني لا أُصدق هذا أو ذاك.»
ب: حسنًا … أريد أن أتزوج.
أ: آه. هذه إجابة. لماذا تريد أن تتزوج؟
ب: لأني أحب فتاة جميلة، حلوة، شابة مهذَّبة، غنية بقدر معقول، وتُجيد الغناء، ووالداها أمينان؛ لأني أيضًا أُوهم نفسي بأنني محبوبٌ منها وأني موضع ترحاب من أهلها.
أ: هذا سبب. ترى أنك لا تستطيع أن تتمنى بلا سبب. أُعلن لك أنك حرٌّ في أن تتزوج؛ أي أنك تملك القوة لكي توقع العقد، ويكون لديك مراسم عرسك، وتنام مع زوجتك.
ب: ما معنى هذا؟ لا أستطيع أن أرغب في شيء دون سبب؟ وماذا سيكون ذلك المثل الآخر: إرادتي هي سببي؛ أرغب لأني أرغب؟
2
أ: حسنًا، أنت حرٌّ أكثر منه بألف مرة؛ أي أن لديك قوة تفكير أكثر مما لديه بألف مرة؛ لكنك لا تُفكر بطريقة غير التي يفكر بها.
ب: ماذا! ألستُ حرًّا في أن أتمنى ما أتمنى؟
أ: ماذا تعني بذلك؟
ب: أعني ما يعنيه الجميع. ألا يُكرِّر المرء كل يوم أن الأماني حرة؟
أ: المَثَل ليس حُجة. عبِّر عن نفسك بمزيد من الوضوح.
ب: أعني أني حرٌّ في أن أتمنى كما يحلو لي.
أ: بعد إذنك، هذا لا يعني شيئًا. ألا ترى أنه سخيفٌ أن تقول أتمنى ما أتمنى؟ أنت تتمنى بالضرورة، نتيجةً للأفكار التي قدَّمت نفسها لك. هل ترغب في أن تتزوَّج؟ نعم أم لا؟
ب: ولكن ماذا إن أخبرتُك أني لا أريد هذا أو ذاك؟
أ: حينها ستكون إجابتك كمن يقول: «بعض الناس يُصدقون أن الكاردينال مازارين قد مات، والآخرون يُصدِّقون أنه حي، ولكني لا أُصدق هذا أو ذاك.»
ب: حسنًا … أريد أن أتزوج.
أ: آه. هذه إجابة. لماذا تريد أن تتزوج؟
ب: لأني أحب فتاة جميلة، حلوة، شابة مهذَّبة، غنية بقدر معقول، وتُجيد الغناء، ووالداها أمينان؛ لأني أيضًا أُوهم نفسي بأنني محبوبٌ منها وأني موضع ترحاب من أهلها.
أ: هذا سبب. ترى أنك لا تستطيع أن تتمنى بلا سبب. أُعلن لك أنك حرٌّ في أن تتزوج؛ أي أنك تملك القوة لكي توقع العقد، ويكون لديك مراسم عرسك، وتنام مع زوجتك.
ب: ما معنى هذا؟ لا أستطيع أن أرغب في شيء دون سبب؟ وماذا سيكون ذلك المثل الآخر: إرادتي هي سببي؛ أرغب لأني أرغب؟
2
أ: هذا هُراء يا صديقي العزيز؛ أن يكون بداخلك أثر بلا سبب.
ب: ماذا تقول؟ حينما ألعب لعبة زوج أم فرد أيكون لدى السبب في اختيار الفرد بدلًا من الزوج؟
أ: بلا شك.
ب: وما ذلك السبب لو تكرَّمت؟
أ: السبب هو أن فكرة الفرد، لا الفكرة المعاكسة، تُقدِّم نفسها إلى عقلك. سيكون مضحكًا لو كانت هناك حالات رغبت فيها لأنه كان هناك سبب للتمني، وأن هناك حالات رغبت فيها دون أي سبب! حينما ترغب في الزواج، تشعر بوضوح بالسبب المُهيمِن؛ ولا تشعر به حينما تُراهن على الزوج والفرد؛ لكن مع ذلك فلا بد من وجود سبب.
ب: لكني، أُكرر، ألا أكون حرًّا حينئذ؟
أ: إرادتُك ليست حرة، ولكن أفعالك حرة. أنت حرٌّ في الفعل حينما تملك القدرة على الفعل.
ب: لكن كل الكتب التي قرأتُها عن حرية عدم الاكتراث …
أ: ماذا تعني بحرية عدم الاكتراث؟
ب: أعني بها حرية البصق يمينًا أم يسارًا، النوم على الجانب الأيمن أو الأيسر، سير هذه المسافة أو تلك.
أ: الحرية التي ستكون لديك عندئذ ستكون حرية كوميدية حقًّا! سيكون الله قد منحك هبة رفيعة. ستكون شيئًا تفخر به حقًّا! أي جدوى لك من قُدرة مورست فقط في مثل هذه المناسَبات العبثية؟ الحقيقة أنه من السخيف أن تفترض أن الإرادة هي أن ترغب في البصق على اليمين. ليست فقط عبَثية تلك الإرادة في أن ترغب، لكن أكيد أيضًا أن بضعة ظروف تافهة تُلزمك بهذه التصرُّفات التي تدعوها عدم الاكتراث. لست حرًّا في هذه الأفعال أكثر مما أنت حرٌّ في غيرها. لكني أُكرر أنك حر في كل الأوقات وفي كل الأماكن طالَما أنك تفعل ما ترغب في أن تفعله.
ب: أظن أنك محق. سأُفكر في الأمر.١
3
قاموس فولتير الفلسفي
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
ب: ماذا تقول؟ حينما ألعب لعبة زوج أم فرد أيكون لدى السبب في اختيار الفرد بدلًا من الزوج؟
أ: بلا شك.
ب: وما ذلك السبب لو تكرَّمت؟
أ: السبب هو أن فكرة الفرد، لا الفكرة المعاكسة، تُقدِّم نفسها إلى عقلك. سيكون مضحكًا لو كانت هناك حالات رغبت فيها لأنه كان هناك سبب للتمني، وأن هناك حالات رغبت فيها دون أي سبب! حينما ترغب في الزواج، تشعر بوضوح بالسبب المُهيمِن؛ ولا تشعر به حينما تُراهن على الزوج والفرد؛ لكن مع ذلك فلا بد من وجود سبب.
ب: لكني، أُكرر، ألا أكون حرًّا حينئذ؟
أ: إرادتُك ليست حرة، ولكن أفعالك حرة. أنت حرٌّ في الفعل حينما تملك القدرة على الفعل.
ب: لكن كل الكتب التي قرأتُها عن حرية عدم الاكتراث …
أ: ماذا تعني بحرية عدم الاكتراث؟
ب: أعني بها حرية البصق يمينًا أم يسارًا، النوم على الجانب الأيمن أو الأيسر، سير هذه المسافة أو تلك.
أ: الحرية التي ستكون لديك عندئذ ستكون حرية كوميدية حقًّا! سيكون الله قد منحك هبة رفيعة. ستكون شيئًا تفخر به حقًّا! أي جدوى لك من قُدرة مورست فقط في مثل هذه المناسَبات العبثية؟ الحقيقة أنه من السخيف أن تفترض أن الإرادة هي أن ترغب في البصق على اليمين. ليست فقط عبَثية تلك الإرادة في أن ترغب، لكن أكيد أيضًا أن بضعة ظروف تافهة تُلزمك بهذه التصرُّفات التي تدعوها عدم الاكتراث. لست حرًّا في هذه الأفعال أكثر مما أنت حرٌّ في غيرها. لكني أُكرر أنك حر في كل الأوقات وفي كل الأماكن طالَما أنك تفعل ما ترغب في أن تفعله.
ب: أظن أنك محق. سأُفكر في الأمر.١
3
قاموس فولتير الفلسفي
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
Forwarded from فريدريك نيتشه (Mr. محمد)
فكرة العود الأبدي لفريدريك نيتشه.
تعد فكرة العود الأبدي إحدى أهم القضايا التي يطرحها الجزء الثالث من مؤلف “هكذا تكلم زرادشت” وهي المركز الذي تدور حوله أفكاره، لأنها تأتي بعد فكرتيه الأخيرتين عن “الإنسان الأعلى” وعن” إرادة القوة”، وبذلك فهي قلب الكتاب النابض.
لقد بدأ زاردشت بالتبشير بالإنسان الأعلى “أنا أعلمكم الإنسان الأعلى”، الإنسان الأعلى، هو معنى الأرض، هو الصاعقة، والإنسان شيء ينبغي التفوق عليه فهو حبل مربوط بين الإنسان والحيوان، وهو وسيلة لا غاية.
غير أن الإنسان الأعلى الذي يطالب به زاردشت لا يمكن أن يتحقق حتى تتحطم الميتافيزيقا كلها،وينهار صرح المثالية الأفلاطونية- المسيحية بأسرها.
فإذا عرف الإنسان أن كل ما يعلو عليه من آلهة وأخلاق مثالية هو سبب شقائه وغربته عن نفسه وعن الأرض، أمكن للمثالية أن تنقلب رأسا على عقب، وتجاوز الميتافيزيقا وانتهاؤها، لا سبيل إليه إلا إذا سأل زاردشت كل موجود، وتسلل إلى قلب كل حي، ليكتشف هناك إرادة قوة .سوف يعرف أن إرادة القوة هي حقيقة الموجود وسر حياته وحركته “الصيرورة”.
ومادام كل موجود يتحرك داخل وعاء العالم، والعالم محكوم بحركة دائمة، فان الإنسان نفسه منجرف في دورة لا نهائية أو في ما يسميه نيتشه “بالعود الأبدي” .ولكن فكرته هاته سر يتهيب من الكلمة، ولغز يخشى التعبير عنه، إن زاردشت يتردد في الإفصاح عنه، ويحيطه بجدار من الكتمان ما بعده جدار، ذلك انه وليد الرؤية والإلهام، بعيد عن المنطق والعقل، انه يتخفى في ظل الرهبة والسكون، ويرتعش بحمى الكشف والجنون .فكرة العود الأبدي زحفت إلى زارادشت كما تزحف الحية إلى جوف الإنسان، أنها فكرة خانقة تلك التي تهمس له بأن كل شيء سيعود، سيرجع إلى ما لانهاية، وأن الحياة في ترحال وتجدد دائم .
العود الأبدي هو التحول العام في حياة الإنسان، الذي سيحول الجد مرحا، والثقل خفة، والتشاؤم رقصا وفرحا، كما أنه فضاء للحركة والحيوية الدائمين، ومجال يتسع للجسد حتى يعبر عن طبيعته المتحولة والمنفعلة؛فالعود الأبدي هو الذي سينتزع الجسد من تقوقعه وجموده ليلحقه بعالم التحول والصيرورة، حيث كل الأشياء في دينامية ونشاط، انه قانون الحياة . وهنا لا يخفي نيتشه إعجابه بقول هراقليطس “لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين”، ولما كان جوهر الوجود هو الصيرورة، فستنتهي الفروق بين الروح والجسد، بين الماضي والمستقبل، عندئذ يكون الجسد هو ما كان في عمق التاريخ وهو ما سيشكل مستقبله، الجسد المشتاق هذا الشوق العظيم ليعانق العالم بكليته، يغمر ذاته في النور الشامل، يقف تحث سماء البراءة والاحتمال.
يعتبر نيتشه أن الحياة المستقبلية هي حياة الإنسان المبدع، الراقص والمرح، وهي ما ستتخذ فيها الأشياء أسماء جديدة، وينتصر فيها ديونيزوس على أبولون، ويحل الجسد مكان العقل، وستشهد الإنسانية عصر أفول الأصنام وميلاد الإنسان الأعلى (superman).
يقول نيتشه على لسان زاردشت:
“أواه .كيف ا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقا إلى خاتم الزواج ودائرة الدوائر، إذ يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء، أنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها لأني احبك أيتها الأبدية، أيتها الأبدية.
@Nietzsche1
تعد فكرة العود الأبدي إحدى أهم القضايا التي يطرحها الجزء الثالث من مؤلف “هكذا تكلم زرادشت” وهي المركز الذي تدور حوله أفكاره، لأنها تأتي بعد فكرتيه الأخيرتين عن “الإنسان الأعلى” وعن” إرادة القوة”، وبذلك فهي قلب الكتاب النابض.
لقد بدأ زاردشت بالتبشير بالإنسان الأعلى “أنا أعلمكم الإنسان الأعلى”، الإنسان الأعلى، هو معنى الأرض، هو الصاعقة، والإنسان شيء ينبغي التفوق عليه فهو حبل مربوط بين الإنسان والحيوان، وهو وسيلة لا غاية.
غير أن الإنسان الأعلى الذي يطالب به زاردشت لا يمكن أن يتحقق حتى تتحطم الميتافيزيقا كلها،وينهار صرح المثالية الأفلاطونية- المسيحية بأسرها.
فإذا عرف الإنسان أن كل ما يعلو عليه من آلهة وأخلاق مثالية هو سبب شقائه وغربته عن نفسه وعن الأرض، أمكن للمثالية أن تنقلب رأسا على عقب، وتجاوز الميتافيزيقا وانتهاؤها، لا سبيل إليه إلا إذا سأل زاردشت كل موجود، وتسلل إلى قلب كل حي، ليكتشف هناك إرادة قوة .سوف يعرف أن إرادة القوة هي حقيقة الموجود وسر حياته وحركته “الصيرورة”.
ومادام كل موجود يتحرك داخل وعاء العالم، والعالم محكوم بحركة دائمة، فان الإنسان نفسه منجرف في دورة لا نهائية أو في ما يسميه نيتشه “بالعود الأبدي” .ولكن فكرته هاته سر يتهيب من الكلمة، ولغز يخشى التعبير عنه، إن زاردشت يتردد في الإفصاح عنه، ويحيطه بجدار من الكتمان ما بعده جدار، ذلك انه وليد الرؤية والإلهام، بعيد عن المنطق والعقل، انه يتخفى في ظل الرهبة والسكون، ويرتعش بحمى الكشف والجنون .فكرة العود الأبدي زحفت إلى زارادشت كما تزحف الحية إلى جوف الإنسان، أنها فكرة خانقة تلك التي تهمس له بأن كل شيء سيعود، سيرجع إلى ما لانهاية، وأن الحياة في ترحال وتجدد دائم .
العود الأبدي هو التحول العام في حياة الإنسان، الذي سيحول الجد مرحا، والثقل خفة، والتشاؤم رقصا وفرحا، كما أنه فضاء للحركة والحيوية الدائمين، ومجال يتسع للجسد حتى يعبر عن طبيعته المتحولة والمنفعلة؛فالعود الأبدي هو الذي سينتزع الجسد من تقوقعه وجموده ليلحقه بعالم التحول والصيرورة، حيث كل الأشياء في دينامية ونشاط، انه قانون الحياة . وهنا لا يخفي نيتشه إعجابه بقول هراقليطس “لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين”، ولما كان جوهر الوجود هو الصيرورة، فستنتهي الفروق بين الروح والجسد، بين الماضي والمستقبل، عندئذ يكون الجسد هو ما كان في عمق التاريخ وهو ما سيشكل مستقبله، الجسد المشتاق هذا الشوق العظيم ليعانق العالم بكليته، يغمر ذاته في النور الشامل، يقف تحث سماء البراءة والاحتمال.
يعتبر نيتشه أن الحياة المستقبلية هي حياة الإنسان المبدع، الراقص والمرح، وهي ما ستتخذ فيها الأشياء أسماء جديدة، وينتصر فيها ديونيزوس على أبولون، ويحل الجسد مكان العقل، وستشهد الإنسانية عصر أفول الأصنام وميلاد الإنسان الأعلى (superman).
يقول نيتشه على لسان زاردشت:
“أواه .كيف ا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقا إلى خاتم الزواج ودائرة الدوائر، إذ يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء، أنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها لأني احبك أيتها الأبدية، أيتها الأبدية.
@Nietzsche1
باروخ سبينوزا (1632 - 1677)
كان سبينوزا وديكارت يشتركان في أشياء كثيرة. فوجد كلاهما في هولندا درجة من التسامح مكنته من التعبير عن أفكاره. وكان كلاهما مصمما على الشك في كل ما لم يكن في وسعه إثباته. وأبعد المجتمع كليهما لاتهامه بالإلحاد نتيجة لآرائه غير المستقيمة عن الله. كما رسم كلاهما لله صورة تجمع الكمال كله في الكون.
ولكن ديكارت وقف عند هذا الحد، أما سبينوزا فأخذ يسير قدمًا إلى الأمام. وكان ديكارت يرى في العالم ثالوثًا فلسفيًّا: جسما ماديًّا، ونفسًا مفكرة، وإلهًا كائنًا في كل شيء. أما سبينوزا فكان يتمثل العالم كوحدة - " الجسم والنفس والله وحدة واحدة ".
وهكذا تعرف فلسفة سبينوزا بالمذهب الحلولي، أي وحدة الوجود. [فكلمة Pantheism من اليونانية Pan ( كل شيء) بالإضافة إلى Theos ( الله)]. وتوضح هذه الفلسفة أن الله كائن في كل واحد منا، وأن كل واحد منا جزء من الله.
ولم يكن سبينوزا قد تعدى الثامنة عندما شهد منظرًًا دفعه إلى التأمل الفلسفي. وكان هذا المشهد في معهد اليهود بأمستردام. حيث أخذ أعضاء المجمع يطأون بأقدامهم رجلا كان يرقد عند مدخل الباب.
فسأل سبينوزا أباه: " ما اسم هذا الرجل "؟.
" أوريل أكوستا ".
" وماذا فعل حتى حق عليه هذا العقاب "؟.
" إنه مفكر حر يا باروخ ". ثم أخذ أبوه يشرح له كيف سبق أن طرد أكوستا من المجمع اليهودي لأنه كان قد شك في أمر دينهم، وكيف كان أعضاء المجمع آنئذ يستأصلون الخطايا منه بأقدامهم قبل أن يسمح بدخوله مرة ثانية إلى المعبد.
وعاد سبينوزا الصغير إلى المنزل وهو غارق في الأفكار، وفي عصر ذلك اليوم، بينما كان يلعب في الشارع، حاول أن يعبر عن عطفه على ضحية الصباح؛ فما كان من أحد زملائه في اللعب إلا أن صفعه على وجهه.
وفي اليوم التالي بلغت مأساة أكوستا ذروتها. فلما وجد المفكر الحر الشاب أنه لا يستطيع أن يواجه الناس بعد ما حل به من هوان وعار، أطلق الرصاص على نفسه ولقي حتفه.
وبدأ سبينوزا الصغير يفكر في ذلك العالم الغريب؛ عالم الحمقى. وبدا له أن كل واحد يحاول أن يؤذي كلا من الآخرين. وكانت حكمة باروخ تفوق سني عمره. فلاحظ أنه طرد وبقية أفراد أسرته من إسبانيا بسبب كراهية المسيحيين لليهود، وأن في هولندا حيث كان يعيش آنئذ، كان اليهود كذلك يكرهون أبناء جلدتهم. فماذا كان معنى هذا كله؟ لذلك قال لأبيه: " عندما أشب، سأحاول أن أجد وسيلة أضع بها حدًّا لكره الناس بعضهم بعضًا ".
1
كان سبينوزا وديكارت يشتركان في أشياء كثيرة. فوجد كلاهما في هولندا درجة من التسامح مكنته من التعبير عن أفكاره. وكان كلاهما مصمما على الشك في كل ما لم يكن في وسعه إثباته. وأبعد المجتمع كليهما لاتهامه بالإلحاد نتيجة لآرائه غير المستقيمة عن الله. كما رسم كلاهما لله صورة تجمع الكمال كله في الكون.
ولكن ديكارت وقف عند هذا الحد، أما سبينوزا فأخذ يسير قدمًا إلى الأمام. وكان ديكارت يرى في العالم ثالوثًا فلسفيًّا: جسما ماديًّا، ونفسًا مفكرة، وإلهًا كائنًا في كل شيء. أما سبينوزا فكان يتمثل العالم كوحدة - " الجسم والنفس والله وحدة واحدة ".
وهكذا تعرف فلسفة سبينوزا بالمذهب الحلولي، أي وحدة الوجود. [فكلمة Pantheism من اليونانية Pan ( كل شيء) بالإضافة إلى Theos ( الله)]. وتوضح هذه الفلسفة أن الله كائن في كل واحد منا، وأن كل واحد منا جزء من الله.
ولم يكن سبينوزا قد تعدى الثامنة عندما شهد منظرًًا دفعه إلى التأمل الفلسفي. وكان هذا المشهد في معهد اليهود بأمستردام. حيث أخذ أعضاء المجمع يطأون بأقدامهم رجلا كان يرقد عند مدخل الباب.
فسأل سبينوزا أباه: " ما اسم هذا الرجل "؟.
" أوريل أكوستا ".
" وماذا فعل حتى حق عليه هذا العقاب "؟.
" إنه مفكر حر يا باروخ ". ثم أخذ أبوه يشرح له كيف سبق أن طرد أكوستا من المجمع اليهودي لأنه كان قد شك في أمر دينهم، وكيف كان أعضاء المجمع آنئذ يستأصلون الخطايا منه بأقدامهم قبل أن يسمح بدخوله مرة ثانية إلى المعبد.
وعاد سبينوزا الصغير إلى المنزل وهو غارق في الأفكار، وفي عصر ذلك اليوم، بينما كان يلعب في الشارع، حاول أن يعبر عن عطفه على ضحية الصباح؛ فما كان من أحد زملائه في اللعب إلا أن صفعه على وجهه.
وفي اليوم التالي بلغت مأساة أكوستا ذروتها. فلما وجد المفكر الحر الشاب أنه لا يستطيع أن يواجه الناس بعد ما حل به من هوان وعار، أطلق الرصاص على نفسه ولقي حتفه.
وبدأ سبينوزا الصغير يفكر في ذلك العالم الغريب؛ عالم الحمقى. وبدا له أن كل واحد يحاول أن يؤذي كلا من الآخرين. وكانت حكمة باروخ تفوق سني عمره. فلاحظ أنه طرد وبقية أفراد أسرته من إسبانيا بسبب كراهية المسيحيين لليهود، وأن في هولندا حيث كان يعيش آنئذ، كان اليهود كذلك يكرهون أبناء جلدتهم. فماذا كان معنى هذا كله؟ لذلك قال لأبيه: " عندما أشب، سأحاول أن أجد وسيلة أضع بها حدًّا لكره الناس بعضهم بعضًا ".
1
👍2
ولما شب سبينوزا عن طوقه ازدادت معرفته أكثر فأكثر بقوة الإنسان على أخيه الإنسان.
وكما تنساب على غير هدى أجزاء كثيرة من حطام السفينة الغارقة، اتجه بعض اللاجئين اليهود إلى أفريقيا حيث أعدموا بغية الحصول على الحلي والجواهر التي أشيع أنهم قد ابتلعوها إمعانا في إخفائها. وحاول بعضهم أن يدخلوا إيطاليا ولكنهم ما إن حطوا رحالهم حتى أمروا بمتابعة رحلتهم. ولكن آخرين استقر بهم النوى في بولندا وروسيا حيث جمعوا كقطيع من الماشية في الحي المحدد لهم. ولكن أسرة سبينوزا كانت من بين الأسرات القليلة التي قوبلت بروح الود في هولندا.
وبالرغم من ذلك وجد سبينوزا حتى في هولندا نصيبه من النكبات من حيث هو إنسان، فدرس اللغة اللاتينية على يدي عالم هولندي اسمه فان دن أندن، ثم وقع في غرام ابنة مدرسه الجميلة. وتقدم بطلب يدها ولكنها فضلت رجل أعمال ثريا على فيلسوف معدم، فظل سبينوزا أعزب بقية حياته.
ثم توالى الفشل بعد خيبة الأمل، فبعد وفاة أبيه حاولت شقيقته أن تخدعه في نصيبه من الميراث فأقام دعوى ضدها مطالبا بنصيبه وكسَبَ الدعوى - ولكنه مزق الحكم الذي صدر في صالحه. وأعطى كل ميراثه لشقيقته. ولنستمع إليه يقول في هذا الصدد: " إنني أرثى لجشعها، ولكنني أرق لعوزها ".
ولم يكن يحتاج إلا إلى قليل من المال ليقيم أوده، إذ كانت مطالبه غاية في البساطة. وقرر آباء المجمع اليهودي منحه راتبا سنويا قدره يساوي خمسمائة دولار - لا أجرا لتلقينهم الحكمة، بل ثمنا لسكوته، إذ كانوا يخشون آراءه التي لا تتفق وعقائدهم. ولكنه رفض منحتهم فكان قانعا، كما قال، أن يحيا خاوي الوفاض، متحرر النفس.
ولكن آباء المجمع لم يكونوا ليتركوه يستمتع بحريته؛ ففي السابع والعشرين من يوليو عام 1656 أصدروا عليه حكمهم بالفصل والحرمان كما سبق أن فصلوا أكوستا قبله منذ ستة عشر عاما.
وكان مشهد الفصل والحرمان ذا طابع وحشي؛ إذ أعلن القرار وسط ولولة أعضاء المجمع ورنين البوق. أما الشموع التي كان يشع ضؤوها عند بدء الاجتماع فقد أطفئت أنوارها، الواحدة تلو الأخرى، حتى غدا المجمع في ظلام مطبق في النهاية - وكان هذا رمزًا للحياة المظلمة الموحشة التي قضوا على سبينوزا أن يحياها، وهكذا أصبح شخصًا لعينًا بين إخوانه. " نحن نقضي عليه باللعنة التي بها لعن أليشع الأبناء ... فلتنزل عليه اللعنة بالنهار وبالليل، ولتحل به اللعنة في نومه ويقظته وليكن معلونًا في حله، معلونًا في ترحاله، ولينزلن عليه غضب الله، وليحرمنه من عفوه، وليمحون اسمه من سفر الحياة ... ".
وبعدئذ أمر رئيس كهنة المجمع جميع اليهود أن يطردوه من بيوتهم وقلوبهم. " فلا يقدمنَّ أحدكم له أية خدمة، ولا يقيمن أحدكم وإياه تحت سقف واحد، ولا يقربنه أحدكم لمسافة أقل من أربع أذرع، ولا يقرأن أحدكم أي كتاب أملاه أو خطه بيده ".
واستمع سبينوزا إلى هذا القضاء من غير أن يشعر بأية ضغينة نحو مضطهديه. بل إنه كتب يقول: " ليست مهمتي أنه أنقد أو أسب أو أمقت أو أدين، وإنما مهمتي هي أن أفهم وأعي ". فقد كان متأكدًا أن آباء المجمع اليهودي يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنهم على صواب. وهذا ما حدا بهم إلى اعتبار سبينوزا خائنًا
2
وكما تنساب على غير هدى أجزاء كثيرة من حطام السفينة الغارقة، اتجه بعض اللاجئين اليهود إلى أفريقيا حيث أعدموا بغية الحصول على الحلي والجواهر التي أشيع أنهم قد ابتلعوها إمعانا في إخفائها. وحاول بعضهم أن يدخلوا إيطاليا ولكنهم ما إن حطوا رحالهم حتى أمروا بمتابعة رحلتهم. ولكن آخرين استقر بهم النوى في بولندا وروسيا حيث جمعوا كقطيع من الماشية في الحي المحدد لهم. ولكن أسرة سبينوزا كانت من بين الأسرات القليلة التي قوبلت بروح الود في هولندا.
وبالرغم من ذلك وجد سبينوزا حتى في هولندا نصيبه من النكبات من حيث هو إنسان، فدرس اللغة اللاتينية على يدي عالم هولندي اسمه فان دن أندن، ثم وقع في غرام ابنة مدرسه الجميلة. وتقدم بطلب يدها ولكنها فضلت رجل أعمال ثريا على فيلسوف معدم، فظل سبينوزا أعزب بقية حياته.
ثم توالى الفشل بعد خيبة الأمل، فبعد وفاة أبيه حاولت شقيقته أن تخدعه في نصيبه من الميراث فأقام دعوى ضدها مطالبا بنصيبه وكسَبَ الدعوى - ولكنه مزق الحكم الذي صدر في صالحه. وأعطى كل ميراثه لشقيقته. ولنستمع إليه يقول في هذا الصدد: " إنني أرثى لجشعها، ولكنني أرق لعوزها ".
ولم يكن يحتاج إلا إلى قليل من المال ليقيم أوده، إذ كانت مطالبه غاية في البساطة. وقرر آباء المجمع اليهودي منحه راتبا سنويا قدره يساوي خمسمائة دولار - لا أجرا لتلقينهم الحكمة، بل ثمنا لسكوته، إذ كانوا يخشون آراءه التي لا تتفق وعقائدهم. ولكنه رفض منحتهم فكان قانعا، كما قال، أن يحيا خاوي الوفاض، متحرر النفس.
ولكن آباء المجمع لم يكونوا ليتركوه يستمتع بحريته؛ ففي السابع والعشرين من يوليو عام 1656 أصدروا عليه حكمهم بالفصل والحرمان كما سبق أن فصلوا أكوستا قبله منذ ستة عشر عاما.
وكان مشهد الفصل والحرمان ذا طابع وحشي؛ إذ أعلن القرار وسط ولولة أعضاء المجمع ورنين البوق. أما الشموع التي كان يشع ضؤوها عند بدء الاجتماع فقد أطفئت أنوارها، الواحدة تلو الأخرى، حتى غدا المجمع في ظلام مطبق في النهاية - وكان هذا رمزًا للحياة المظلمة الموحشة التي قضوا على سبينوزا أن يحياها، وهكذا أصبح شخصًا لعينًا بين إخوانه. " نحن نقضي عليه باللعنة التي بها لعن أليشع الأبناء ... فلتنزل عليه اللعنة بالنهار وبالليل، ولتحل به اللعنة في نومه ويقظته وليكن معلونًا في حله، معلونًا في ترحاله، ولينزلن عليه غضب الله، وليحرمنه من عفوه، وليمحون اسمه من سفر الحياة ... ".
وبعدئذ أمر رئيس كهنة المجمع جميع اليهود أن يطردوه من بيوتهم وقلوبهم. " فلا يقدمنَّ أحدكم له أية خدمة، ولا يقيمن أحدكم وإياه تحت سقف واحد، ولا يقربنه أحدكم لمسافة أقل من أربع أذرع، ولا يقرأن أحدكم أي كتاب أملاه أو خطه بيده ".
واستمع سبينوزا إلى هذا القضاء من غير أن يشعر بأية ضغينة نحو مضطهديه. بل إنه كتب يقول: " ليست مهمتي أنه أنقد أو أسب أو أمقت أو أدين، وإنما مهمتي هي أن أفهم وأعي ". فقد كان متأكدًا أن آباء المجمع اليهودي يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنهم على صواب. وهذا ما حدا بهم إلى اعتبار سبينوزا خائنًا
2
ولكن سبينوزا هو الآخر كان مقتنعًا أشد الاقتناع مثلهم أنه على صواب، إذ كان ينظر إلى العالم خلال منظار الخلود، بينما كان قضاته ينظرون إليه خلال منظار اللحظة الراهنة، فقر قراره على البقاء في امستردام، وحيدًا مع أفكاره وكتبه، غريبًا في وسط قومه، ولكنه " رفيق دائم لله ".
ومع هذا رفض قومه أن يتركوه يعيش في سلام، فحدث في إحدى الليالي أن حاول أحد المتعصبين أن يقتله بخنجر، ولكن سبينوزا نجا بحياته بعد أن أصيب بجرح يسير، وقر رأيه على الانتقال إلى حي أووركيرك الذي لا يقيم فيه أحد من اليهود، وهو إحدى ضواحي أمستردام. واستبدل باسمه الأول باروخ الذي معناه " مبارك " بالعبرية، اسما آخر يقابل الأول باللاتينية هو " بندكت Benedict " ، واستأجر غرفة في طابق علوي وعاد يشتغل بصقل العدسات الزجاجية لكي يكسب قوت يومه. فبالرغم من أن عقيدته في اليهودية لم تكن صحيحة مستقيمة إلا أنه كان يتمسك بالقانون اليهودي الذي يحتم أن يحترف كل طالب، حرفة يدوية، إذ كان الأحبار القدامى يقدمون النصح قائلين: " فلتستعملن يديك في الأعمال الدنيوية، ورأسك في الأفكار السماوية ".
وهكذا أقام سبينوزا آنئذ بين المسيحيين، ولو أنه لم يعتنق أيًّا من مذاهبهم. " إن الأديان المخلتفة تقسم الناس شيعًا، ولكن غايتي هي أن أوحد بينهم ".
ولما وجد صاحب الدار وصاحبته المسيحيان فيه رجلا دمثا، أغرياه أن يرافقهما عندما انتقلا (في عام 1660) إلى ريجسبرج القريبة من مدينة ليدن وهنا اعتزل العالم " وكأنه دودة القز في شرنقتها، لا يخرج إلا لرياضة المشي أحيانا، أو لابتياع طعامه البسيط المكون من اللبن وخبز الذرة وحفنة من زبيب العنب، وكان ميله الرئيسي أن يراقب معارك العناكب التي تسكن غرفته.
وقد لاحظ أن العناكب والناس يشتركون في كثير من الصفات، فهي تتميز ببراعتها المذهلة في نسج خيوطها وبناء بيوتها، ثم بحماقتها البالغة في عدم ما صنعت أيديها بطيش وتهور!!
وكان سبينوزا في الثامنة والعشرين من عمره في هذا الوقت، ولم يكن يخالط أحدًا إطلاقا خارج محيط الدار، ولكنه كان ينزل من برجه أحيانًا ليحادث صاحب الدار وصاحبته، وكان حديثه معهما على قدر مستوى إدراكهما ولو أن عباراته من آن لآخر كانت تنير أمامهما الطريق إلى السموات - على حد تعبيرهما - ولنستمع إلى صاحب الدار يقول: " إن هذا اليهودي هو الشخص الوحيد الذي يتحدث مثل القديسين ".
وكان مظهره، كأسلوبه، لا هيبة فيه - متوسط الطول، أسمر البشرة، شعره مجعد أدكن، وشعر حاجبيه طويل أسود، وعيناه تشتعلان حمى السل المزمن، وكان لا يرتدي من الثياب إلا رداء قذرًا - " لا ينبغي أن يلفَّ شيء تافه في غلاف ثمين "، ولم يكن يكسب من صناعته إلا القليل ولكنه استطاع أن يقيم أوده في حدود دخله، وقال في ذلك: " إنني لكالثعبان الذي يصنع بجسمه دائرة بوضع ذيله في فمه؛ فدخلي يساوي نفقاتي تمامًا، فلا يتبقى لي شيء بعد ذلك في نهاية العام ".
وهكذا كان يقضي وقته في غرفته في الطابق العلوي. ينسج ديباجة فلسفته ويبذل كل ما في طاقته لينهي عمله وهو في صراع محموم مع الموت. ولكنه لم ينجح نجاحا كاملا في هذه المحاولة، إذ لم يستطع أن يكمل آخر كتبه، ولعله
أحسنها " رسالة في السياسة ". كما صرح أن كتبه الأخرى - رسالة في الدين، وفي إصلاح العقل، والأخلاق - لم تضم بين دفاتها إلا " فتاتا من الحقيقة "، لأن أعظم الفلاسفة، كما قال، ينظر إلى العالم مثلما ينظر السجين خلال شرخ في حائط جسمه الذي هو سجنه مدى حياته.
والرغم من ضيق هذه النظرة، فإنها لمحة من الرؤية الحقيقية إذا ما نظرنا إليها في إطار الخلود، وهذه الكلمات الثلاث - Sub Specie Aeternitatis ، في إطار الخلود - تمثل جوهر فلسفة سبينوزا. فمعارك العناكب، وصراع الشعوب، والعذاب على آلة التعذيب، والفصل والحرمان من المجمع اليهودي، وسوء التفاهم والكراهية والمؤامرات بين الأفراد والأسر والدول - كل هذه ليست إلا الخيوط القائمة في النسيج الأبدي لديباجة الحياة وصورتها. وكان يشترك سبينوزا مع جميع أعلام الفلاسفة الآخرين ابتداء من زرادشت إلى فلاسفة عصره، في الاعتقاد بأن الخيوط القائمة والمشرقة على السواء ضرورية لا غنى عنها في نسج الديباجة الكاملة ورسم صورتها. فالشر إن هو إلا نظرتنا من جانب واحد إلى الكل. " والخير فيما كانت نهايته خيرا ". ففي النهاية - أو كما عبر عنها سبينوزا، في الصورة الكلية - نجد أن العالم خيّر.
وهكذا علينا أن نتعلم النظر إلى العالم كما يراه الله، فليس هناك شيء منفرد منعزل. فمسراتنا وأحزاننا، ونكباتنا، وحرائقنا، وفيضاناتنا، وحتى حروبنا - كل هذه إن هي إلا لمحات جزئية من صورة الكون الخالدة. وكما أنه في وسعنا أن ننسى ما حل بنا من مصائب في الماضي، فإنه علينا أن نحاول رؤية نكباتنا المستقبلية في صورة المنظور الشامل، ثم لا نهتم بها ما دمنا نعدها خيوطا عرضية طارئة في صورة الحياة الكاملة.
3
ومع هذا رفض قومه أن يتركوه يعيش في سلام، فحدث في إحدى الليالي أن حاول أحد المتعصبين أن يقتله بخنجر، ولكن سبينوزا نجا بحياته بعد أن أصيب بجرح يسير، وقر رأيه على الانتقال إلى حي أووركيرك الذي لا يقيم فيه أحد من اليهود، وهو إحدى ضواحي أمستردام. واستبدل باسمه الأول باروخ الذي معناه " مبارك " بالعبرية، اسما آخر يقابل الأول باللاتينية هو " بندكت Benedict " ، واستأجر غرفة في طابق علوي وعاد يشتغل بصقل العدسات الزجاجية لكي يكسب قوت يومه. فبالرغم من أن عقيدته في اليهودية لم تكن صحيحة مستقيمة إلا أنه كان يتمسك بالقانون اليهودي الذي يحتم أن يحترف كل طالب، حرفة يدوية، إذ كان الأحبار القدامى يقدمون النصح قائلين: " فلتستعملن يديك في الأعمال الدنيوية، ورأسك في الأفكار السماوية ".
وهكذا أقام سبينوزا آنئذ بين المسيحيين، ولو أنه لم يعتنق أيًّا من مذاهبهم. " إن الأديان المخلتفة تقسم الناس شيعًا، ولكن غايتي هي أن أوحد بينهم ".
ولما وجد صاحب الدار وصاحبته المسيحيان فيه رجلا دمثا، أغرياه أن يرافقهما عندما انتقلا (في عام 1660) إلى ريجسبرج القريبة من مدينة ليدن وهنا اعتزل العالم " وكأنه دودة القز في شرنقتها، لا يخرج إلا لرياضة المشي أحيانا، أو لابتياع طعامه البسيط المكون من اللبن وخبز الذرة وحفنة من زبيب العنب، وكان ميله الرئيسي أن يراقب معارك العناكب التي تسكن غرفته.
وقد لاحظ أن العناكب والناس يشتركون في كثير من الصفات، فهي تتميز ببراعتها المذهلة في نسج خيوطها وبناء بيوتها، ثم بحماقتها البالغة في عدم ما صنعت أيديها بطيش وتهور!!
وكان سبينوزا في الثامنة والعشرين من عمره في هذا الوقت، ولم يكن يخالط أحدًا إطلاقا خارج محيط الدار، ولكنه كان ينزل من برجه أحيانًا ليحادث صاحب الدار وصاحبته، وكان حديثه معهما على قدر مستوى إدراكهما ولو أن عباراته من آن لآخر كانت تنير أمامهما الطريق إلى السموات - على حد تعبيرهما - ولنستمع إلى صاحب الدار يقول: " إن هذا اليهودي هو الشخص الوحيد الذي يتحدث مثل القديسين ".
وكان مظهره، كأسلوبه، لا هيبة فيه - متوسط الطول، أسمر البشرة، شعره مجعد أدكن، وشعر حاجبيه طويل أسود، وعيناه تشتعلان حمى السل المزمن، وكان لا يرتدي من الثياب إلا رداء قذرًا - " لا ينبغي أن يلفَّ شيء تافه في غلاف ثمين "، ولم يكن يكسب من صناعته إلا القليل ولكنه استطاع أن يقيم أوده في حدود دخله، وقال في ذلك: " إنني لكالثعبان الذي يصنع بجسمه دائرة بوضع ذيله في فمه؛ فدخلي يساوي نفقاتي تمامًا، فلا يتبقى لي شيء بعد ذلك في نهاية العام ".
وهكذا كان يقضي وقته في غرفته في الطابق العلوي. ينسج ديباجة فلسفته ويبذل كل ما في طاقته لينهي عمله وهو في صراع محموم مع الموت. ولكنه لم ينجح نجاحا كاملا في هذه المحاولة، إذ لم يستطع أن يكمل آخر كتبه، ولعله
أحسنها " رسالة في السياسة ". كما صرح أن كتبه الأخرى - رسالة في الدين، وفي إصلاح العقل، والأخلاق - لم تضم بين دفاتها إلا " فتاتا من الحقيقة "، لأن أعظم الفلاسفة، كما قال، ينظر إلى العالم مثلما ينظر السجين خلال شرخ في حائط جسمه الذي هو سجنه مدى حياته.
والرغم من ضيق هذه النظرة، فإنها لمحة من الرؤية الحقيقية إذا ما نظرنا إليها في إطار الخلود، وهذه الكلمات الثلاث - Sub Specie Aeternitatis ، في إطار الخلود - تمثل جوهر فلسفة سبينوزا. فمعارك العناكب، وصراع الشعوب، والعذاب على آلة التعذيب، والفصل والحرمان من المجمع اليهودي، وسوء التفاهم والكراهية والمؤامرات بين الأفراد والأسر والدول - كل هذه ليست إلا الخيوط القائمة في النسيج الأبدي لديباجة الحياة وصورتها. وكان يشترك سبينوزا مع جميع أعلام الفلاسفة الآخرين ابتداء من زرادشت إلى فلاسفة عصره، في الاعتقاد بأن الخيوط القائمة والمشرقة على السواء ضرورية لا غنى عنها في نسج الديباجة الكاملة ورسم صورتها. فالشر إن هو إلا نظرتنا من جانب واحد إلى الكل. " والخير فيما كانت نهايته خيرا ". ففي النهاية - أو كما عبر عنها سبينوزا، في الصورة الكلية - نجد أن العالم خيّر.
وهكذا علينا أن نتعلم النظر إلى العالم كما يراه الله، فليس هناك شيء منفرد منعزل. فمسراتنا وأحزاننا، ونكباتنا، وحرائقنا، وفيضاناتنا، وحتى حروبنا - كل هذه إن هي إلا لمحات جزئية من صورة الكون الخالدة. وكما أنه في وسعنا أن ننسى ما حل بنا من مصائب في الماضي، فإنه علينا أن نحاول رؤية نكباتنا المستقبلية في صورة المنظور الشامل، ثم لا نهتم بها ما دمنا نعدها خيوطا عرضية طارئة في صورة الحياة الكاملة.
3
👍2
وما معنى هذه الصورة؟ وحدة العالم المقدسة. فلأننا سجناء حواسنا البدنية ترانا لا ندرك إلا أجزاء عرضية من الكل المقدس. ومع ذلك فإن هذه اللمحات المشرقة عند سبينوزا تبين بينا كافيًا أن كل واحد منا جزء محدود من الله - خلية في جسم الله، فكرة في عقله، مقطع في قصيدته عن الحياة. فالشخص الأعشى لا يميز إلا بعض ألوان غير واضحة. وكذلك حواسنا مصابة بعمى الألوان أمام صفات الله المتعددة وصفاتنا. والدودة التي تقيم في حفرة في الأرض ليس لديها إلا فكرة لامتناهية في الصغر عن العالم الشاسع الذي هي جزء منه. وكذلك نحن ليس لنا إلا وجهة نظر الدودة إلى العالم. ويؤكد سبينوزا أن أعظم فيلسوف إن هو إلا طفل في إدراكه وفهمه لطبيعة الله الحالة في كل شيء. وهنا يردد سبينوزا صدى فكرة أخناتون.
ولحسن الحظ أن فيلسوفنا قد لمح قبسا من الصورة - فهو يعرف أنه يجب ألا يخلط ذكاءه المحدود الضئيل بذكاء الله الذي لا حدود له. فالعالم لا يسير تبعًا لرغباتنا الفردية، وإنما يدبر طبقا لإرادة الله الشاملة ورسمه. " ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ". فالقصة التي أدمجها الله في تمثيلية حيواتنا البشرية بعيدة كل البعد عن إدراكنا، ويكفي أن نعرف أن هذه القصة مشهد أساسي لازم في تمثيلية الحياة البشرية. وليس لنا أن نحكم عليها، إذ أنها لم تكتب لتحقيق خططنا البشرية الأنانية. كما أن عقلنا البشري ليس في استطاعته أن يتفهم التمثيلية كلها. نعم، إن كل الأشياء تشارك في ذكاء الله - كما يشارك الكلب في ذكاء الإنسان. أو بعبارة أخرى يضم العالم درجات كثيرة متباينة من الذكاء. فذكاء الشجرة، مثلا، أحط بكثير من ذكاء الحيوان. وذكاء الحيوان أقل بكثير من ذكاء الإنسان، كما أن ذكاء الإنسان عادي أقل بكثير من ذكاء شاعر عظيم. ولكن حتى ذكاء شخص كشكسبير إذا قورن بذكاء الله لا يشبه إلا ذكاء شجرة إذا ما قورن ذكاء شكسبير.
وإلى هنا ما زلنا نجد أن فلسفة سبينوزا الحلولية سلبية إلى حد ما. فهي توكد لنا أننا أجزاء من الله ولكنها أجزاء تافهة لا يعتد بها إذا ما نظر إليها في ضوء الخلود. وكما علق ساخر من أتباع سبينوزا بقوله إن الأرض كلها حصاة لا خير فيها بين أصابع الله.
وبالرغم من ذلك فإن لفلسفة سبينوزا وجهًا مشجعًا؛ إذ أنه يصرح بأن ما قدر لنا أعظم مما نظن - فمع أن كلا منا جزء صغير من الله إلا أن نصيبه من الأهمية مساو لنصيب كل فرد آخر، ففي ظل الخلود لا يكون بين الناس تفاوت، بل إن حياتنا الحاضرة، كما لاحظ والت ويتمان وهو من مدرسة سبينوزا، إن هي إلا مرحلة في تطورنا النهائي. فكلنا من الشريد في الوحل إلى الملك على عرشه - تلاميذ تربطهم صلات متبادلة في حجرة دراسة الخلود. نعم إننا في هذه اللحظة الراهنة لعلى درجات متفاوتة تفاوتنا في تطورنا العقلي والروحي. ونتعلم كلنا طبقًا لمقدرتنا على التعلم ولكن في النهاية البعيدة، بالرغم من تفاوت معرفتنا درجة ومقدارًا في هذه المرحلة، فإن كل واحد منا سيصل إلى الصف الأعلى الذي يضم الصفوة المختارة.
ففي الوقت الحاضر، إذن، لنكن زملاء دراسة متحابين في مدرسة وما هذا القانون في فلسفة سبينوزا إلا جوهر الديمقراطية؛ لأنه يتقدم المبدأ القائل بأن كلا منا له فرصة متكافئة في مدرسة الحياة - وتهدف التربية في هذه المدرسة إلى أن نتزود " بمحبة عقلية لله ". أي بحب ذكي نحو إخواننا في البشرية، " فكلنا نشترك مع الله ونأخذ نصيبنا منه ". ويعلن سبينوزا أن هناك رباطًا من المحبة لا حدود له يربط بين نفوسنا المقدسة. وأن كل من يدرك طبيعته المقدسة بوضوح وجلاء يسلم نفسه إلى هذا الحب الذي لا حدود له، والذي ينبع من الله ويظل الأشياء الحية كلها.
وقد دفعت هذه الفكرة الشاملة المقدسة عن الكون ارنست رينان لإبداء ملاحظته عن تصوير سبينوزا لله إذ قال: " لعلها أصدق صورة رسمتها البشرية لله ".
4
ولحسن الحظ أن فيلسوفنا قد لمح قبسا من الصورة - فهو يعرف أنه يجب ألا يخلط ذكاءه المحدود الضئيل بذكاء الله الذي لا حدود له. فالعالم لا يسير تبعًا لرغباتنا الفردية، وإنما يدبر طبقا لإرادة الله الشاملة ورسمه. " ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ". فالقصة التي أدمجها الله في تمثيلية حيواتنا البشرية بعيدة كل البعد عن إدراكنا، ويكفي أن نعرف أن هذه القصة مشهد أساسي لازم في تمثيلية الحياة البشرية. وليس لنا أن نحكم عليها، إذ أنها لم تكتب لتحقيق خططنا البشرية الأنانية. كما أن عقلنا البشري ليس في استطاعته أن يتفهم التمثيلية كلها. نعم، إن كل الأشياء تشارك في ذكاء الله - كما يشارك الكلب في ذكاء الإنسان. أو بعبارة أخرى يضم العالم درجات كثيرة متباينة من الذكاء. فذكاء الشجرة، مثلا، أحط بكثير من ذكاء الحيوان. وذكاء الحيوان أقل بكثير من ذكاء الإنسان، كما أن ذكاء الإنسان عادي أقل بكثير من ذكاء شاعر عظيم. ولكن حتى ذكاء شخص كشكسبير إذا قورن بذكاء الله لا يشبه إلا ذكاء شجرة إذا ما قورن ذكاء شكسبير.
وإلى هنا ما زلنا نجد أن فلسفة سبينوزا الحلولية سلبية إلى حد ما. فهي توكد لنا أننا أجزاء من الله ولكنها أجزاء تافهة لا يعتد بها إذا ما نظر إليها في ضوء الخلود. وكما علق ساخر من أتباع سبينوزا بقوله إن الأرض كلها حصاة لا خير فيها بين أصابع الله.
وبالرغم من ذلك فإن لفلسفة سبينوزا وجهًا مشجعًا؛ إذ أنه يصرح بأن ما قدر لنا أعظم مما نظن - فمع أن كلا منا جزء صغير من الله إلا أن نصيبه من الأهمية مساو لنصيب كل فرد آخر، ففي ظل الخلود لا يكون بين الناس تفاوت، بل إن حياتنا الحاضرة، كما لاحظ والت ويتمان وهو من مدرسة سبينوزا، إن هي إلا مرحلة في تطورنا النهائي. فكلنا من الشريد في الوحل إلى الملك على عرشه - تلاميذ تربطهم صلات متبادلة في حجرة دراسة الخلود. نعم إننا في هذه اللحظة الراهنة لعلى درجات متفاوتة تفاوتنا في تطورنا العقلي والروحي. ونتعلم كلنا طبقًا لمقدرتنا على التعلم ولكن في النهاية البعيدة، بالرغم من تفاوت معرفتنا درجة ومقدارًا في هذه المرحلة، فإن كل واحد منا سيصل إلى الصف الأعلى الذي يضم الصفوة المختارة.
ففي الوقت الحاضر، إذن، لنكن زملاء دراسة متحابين في مدرسة وما هذا القانون في فلسفة سبينوزا إلا جوهر الديمقراطية؛ لأنه يتقدم المبدأ القائل بأن كلا منا له فرصة متكافئة في مدرسة الحياة - وتهدف التربية في هذه المدرسة إلى أن نتزود " بمحبة عقلية لله ". أي بحب ذكي نحو إخواننا في البشرية، " فكلنا نشترك مع الله ونأخذ نصيبنا منه ". ويعلن سبينوزا أن هناك رباطًا من المحبة لا حدود له يربط بين نفوسنا المقدسة. وأن كل من يدرك طبيعته المقدسة بوضوح وجلاء يسلم نفسه إلى هذا الحب الذي لا حدود له، والذي ينبع من الله ويظل الأشياء الحية كلها.
وقد دفعت هذه الفكرة الشاملة المقدسة عن الكون ارنست رينان لإبداء ملاحظته عن تصوير سبينوزا لله إذ قال: " لعلها أصدق صورة رسمتها البشرية لله ".
4
كتب سبينوزا يقول: إننا لو تتبعنا طبيعتنا المقدسة فإننا لا بد واصلون إلى الهدف النهائي من الحياة - ألا وهو السعادة الفائقة. " فسعادة الإنسان تنحصر في ازدياد قوته - أي لذته في البقاء " وهذه القوة الزائدة - للبقاء وللعمل وللمجهود النبيل - ليست إلا نتيجة " حب الذات ". ولكن علينا ألا نسيء فهم معنى كلمة " الذات " في الفلسفة السبينوزية. فحب الذات عند سبينوزا ليس هو الأنانية بمعناها الضيق عند الباغي، أو مدبر المكائد، أو من يأكل قلبه الحقد والحسد والكراهية، وإنما هي الأنانية المستنيرة الشاملة؛ أنانية الشخص الإنساني ومصلح ذات البين، ومحب البشر.
وفي رأي سبينوزا أن العالم كله يتكون من: إله واحد، جسم واحد روح واحدة، ذات عامة شاملة واحدة. وكما جاء في إحدى رسائل القديس بولس وهو أحد الذين تأثر بهم سبينوزا تأثرًا عميقًا: " فنحن أعضاء بعضا لبعض كل واحد للآخر ".
وكان سبينوزا يؤمن بأن الجنس البشري كله وحدة من حياة عضوية. فأنت إن آذيت شخصًا آخر فإنك تؤذي نفسك - أي " الجوهر المقدس لذاتك الحسنى " ولم يكن ما دفع سبينوزا لكي يهب ميراثه لشقيقه مجرد تفاخر أو تظاهر بالبطولة. فإنه بعد أن كفلت له العدالة حقه في الميراث اتخذ جانب الرحمة فوق العدل. " ومن أراد أن يبادل الإساءة بالإساءة عاش دوما في تعاسة ". لأنه سيعيش - كما يعيش العالم اليوم - في جو دائم من الشك والثأر والحرب. ولما كان سبينوزا عادلا على الدوام وأينما حل أو رحل؛ فإنه لم يكن يعرف غير نوع واحد من العدوان - عدوان عام من أجل السلام. وكان يؤكد: " أن أعظم الانتصارات هي التي تنالها بنبل الأرواح لا بقوة السلاح ".
وما نبل الروح إلا " قوة الإنسان الحكيم "؛ فالإنسان الحكيم حقًّا في عبارة أخرى " الإنسان العارف بروحه الاجتماعية ". فهو يهب نفسه للآخرين لأنه يعرف أننا جميعًا أبناء الخلود ويستمتع بالحريات الوحيدة التي يجدر الاستمتاع بها، وهذه هي: التحرر من الكراهية: " فإن أكبر ضرر يمكنك أن تصيبني به هو أن تزرع الكراهية في نفسي ". والتحرر من الخوف: " فإذا كنا أنت وأنا أحرارًا، فَلِمَ يحسد أحدنا الآخر؟ " والتحرر من الذل والعبودية: " فالرجل الحر سيد نفسه وليس خادم أحد ". والتحرر من الجهل والتعصب والحقد: " فالحكمة تؤدي إلى الأناة، والأناة إلى مزيد من الحكمة ".
وهكذا نجد أن الإنسان المتحرر حقًّا - أي الإنسان الحكيم حقًّا - " لا يحب لنفسه إلا ما يحب بقية الجنس البشري ".
5
وفي رأي سبينوزا أن العالم كله يتكون من: إله واحد، جسم واحد روح واحدة، ذات عامة شاملة واحدة. وكما جاء في إحدى رسائل القديس بولس وهو أحد الذين تأثر بهم سبينوزا تأثرًا عميقًا: " فنحن أعضاء بعضا لبعض كل واحد للآخر ".
وكان سبينوزا يؤمن بأن الجنس البشري كله وحدة من حياة عضوية. فأنت إن آذيت شخصًا آخر فإنك تؤذي نفسك - أي " الجوهر المقدس لذاتك الحسنى " ولم يكن ما دفع سبينوزا لكي يهب ميراثه لشقيقه مجرد تفاخر أو تظاهر بالبطولة. فإنه بعد أن كفلت له العدالة حقه في الميراث اتخذ جانب الرحمة فوق العدل. " ومن أراد أن يبادل الإساءة بالإساءة عاش دوما في تعاسة ". لأنه سيعيش - كما يعيش العالم اليوم - في جو دائم من الشك والثأر والحرب. ولما كان سبينوزا عادلا على الدوام وأينما حل أو رحل؛ فإنه لم يكن يعرف غير نوع واحد من العدوان - عدوان عام من أجل السلام. وكان يؤكد: " أن أعظم الانتصارات هي التي تنالها بنبل الأرواح لا بقوة السلاح ".
وما نبل الروح إلا " قوة الإنسان الحكيم "؛ فالإنسان الحكيم حقًّا في عبارة أخرى " الإنسان العارف بروحه الاجتماعية ". فهو يهب نفسه للآخرين لأنه يعرف أننا جميعًا أبناء الخلود ويستمتع بالحريات الوحيدة التي يجدر الاستمتاع بها، وهذه هي: التحرر من الكراهية: " فإن أكبر ضرر يمكنك أن تصيبني به هو أن تزرع الكراهية في نفسي ". والتحرر من الخوف: " فإذا كنا أنت وأنا أحرارًا، فَلِمَ يحسد أحدنا الآخر؟ " والتحرر من الذل والعبودية: " فالرجل الحر سيد نفسه وليس خادم أحد ". والتحرر من الجهل والتعصب والحقد: " فالحكمة تؤدي إلى الأناة، والأناة إلى مزيد من الحكمة ".
وهكذا نجد أن الإنسان المتحرر حقًّا - أي الإنسان الحكيم حقًّا - " لا يحب لنفسه إلا ما يحب بقية الجنس البشري ".
5
👍1
وما إن قدم سبينوزا فلسفته إلى العالم حتى هاجمته الدوائر المتمسكة بالقديم واعتبرته " أكثر من ظهر من الملحدين كفرًا ". وبالرغم من ذلك ارتفعت بعض الأصوات التي تؤيده هنا وهناك. فتقدم إليه أحد المعجبين، سيمون دي فريز، وكان من أثرياء التجار في أمستردام، بمنحة مقدارها 1000 دولار. ولكن سبينوزا رفضها بإباء. كما منحه الملك لويس الرابع عشر إشارة منه بالتقدير والإطراء الزائد له. فقد كان ملك فرنسا يتوق إلى شراء أعظم عقليات عصره وضمها إلى جانبه فوعد سبينوزا بدخل عريض طوال حياته، ولم يكن للملك غير شرط واحد هو أن يهدي سبينوزا كتابه التالي إلى الملك. وللمرة الثانية رفض الفيلسوف العرض.
وبعدئذ في عام 1673 عرض عليه أيضًا أن يكون أستاذ الفلسفة في جامعة هيدلبرج، وأكد له نائب الحاكم في ألمانيا أنه سيكون له حرية رأي مطلقة في قاعات الدرس على شريطة أن يبتعد عن نقد الدين القائم في الدولة. ولكنه مرة أخرى اعتذر عن قبول العرض في أدب جم. " فالرجل الحر سيد نفسه، وليس خادم أحد ". وكان الرأي الذي استقر عليه هو أن يعبر عما يجول بخاطره من غير ما أمر أو مِنَّة من أحد.
وهكذا ظل وحيدا في غرفة السطح يبعث بعدساته لإصلاح البصر، وبآرائه لإنارة بصيرة إخوته في البشرية. وكان لا يتأثر ألبتة بذم أو إطراء أو تهديد. فقد حدث مرة أن كاد جماعة من الدهماء الساخطين يفتكون به؛ إذ كان قد أرسل في دعوته الأمير دي كونديه، الذي غزا هولندا في ذلك الوقت، ليتحدث إليه في شئون الفلسفة. وبينما هو في طريق عودته من المعسكر إلى البيت هاجمه الغوغاء بالحجارة وهم يتصايحون في غضب: " المرتد! " " الملحد! " " الخائن! ". فوجد صعوبة كبيرة آنذاك في إقناع الغوغاء بأنه مجرد فيلسوف، لا جاسوس. ولم تكن تعنيه المنازعات بين الناس أكثر مما تعنيه معارك العناكب. ولم يكن سبينوزا ينتمي إلى قوم أو وطن ما، وإنما كان يسهم فحسب في خلق أخوة دولية تضم قوما أحرارا لا يخشون شيئا.
وشاء القدر أن يقضي " الفيلسوف الطاهر المقضي عليه بالحرمان " نحبه وهو متحرر لا يخشى شيئا.
وكان ذلك بعد ظهر يوم الأحد، التاسع والعشرين من فبراير، 1677، ولم يتجاوز سبينوزا من العمر أربعة وأربعين عاما. ولم يكن معه في تلك اللحظة سوى طبيبه وصديقه الدكتور ميير Meyer إذ كان صاحب الدار وصاحبته قد توجها إلى الكنيسة. وهكذا أسلم سبينوزا الروح في هدوء بين ذراعي الدكتور ميير. فقد كان من أقواله: " إن أقل ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت. ذلك أن حكمته هي تأمل في الحياة لا في الموت ".
6
الفيلسوف الجديد
@spinoza_2021
@Newphilosopher
وبعدئذ في عام 1673 عرض عليه أيضًا أن يكون أستاذ الفلسفة في جامعة هيدلبرج، وأكد له نائب الحاكم في ألمانيا أنه سيكون له حرية رأي مطلقة في قاعات الدرس على شريطة أن يبتعد عن نقد الدين القائم في الدولة. ولكنه مرة أخرى اعتذر عن قبول العرض في أدب جم. " فالرجل الحر سيد نفسه، وليس خادم أحد ". وكان الرأي الذي استقر عليه هو أن يعبر عما يجول بخاطره من غير ما أمر أو مِنَّة من أحد.
وهكذا ظل وحيدا في غرفة السطح يبعث بعدساته لإصلاح البصر، وبآرائه لإنارة بصيرة إخوته في البشرية. وكان لا يتأثر ألبتة بذم أو إطراء أو تهديد. فقد حدث مرة أن كاد جماعة من الدهماء الساخطين يفتكون به؛ إذ كان قد أرسل في دعوته الأمير دي كونديه، الذي غزا هولندا في ذلك الوقت، ليتحدث إليه في شئون الفلسفة. وبينما هو في طريق عودته من المعسكر إلى البيت هاجمه الغوغاء بالحجارة وهم يتصايحون في غضب: " المرتد! " " الملحد! " " الخائن! ". فوجد صعوبة كبيرة آنذاك في إقناع الغوغاء بأنه مجرد فيلسوف، لا جاسوس. ولم تكن تعنيه المنازعات بين الناس أكثر مما تعنيه معارك العناكب. ولم يكن سبينوزا ينتمي إلى قوم أو وطن ما، وإنما كان يسهم فحسب في خلق أخوة دولية تضم قوما أحرارا لا يخشون شيئا.
وشاء القدر أن يقضي " الفيلسوف الطاهر المقضي عليه بالحرمان " نحبه وهو متحرر لا يخشى شيئا.
وكان ذلك بعد ظهر يوم الأحد، التاسع والعشرين من فبراير، 1677، ولم يتجاوز سبينوزا من العمر أربعة وأربعين عاما. ولم يكن معه في تلك اللحظة سوى طبيبه وصديقه الدكتور ميير Meyer إذ كان صاحب الدار وصاحبته قد توجها إلى الكنيسة. وهكذا أسلم سبينوزا الروح في هدوء بين ذراعي الدكتور ميير. فقد كان من أقواله: " إن أقل ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت. ذلك أن حكمته هي تأمل في الحياة لا في الموت ".
6
الفيلسوف الجديد
@spinoza_2021
@Newphilosopher
❤1
إن أقل ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت. ذلك أن حكمته هي تأمل في الحياة لا في الموت.
باروخ سبينوزا
باروخ سبينوزا
❤1
(كيركجور.. عدم إذعان الفرد أمام الحشد)
مقال لماريا بوبوفا
ترجمة: دعاء شاهين
سرن كيركجور، عن Mental floss
كتبت إليانور روزفلت في تأملاتها عن السعادة والإذعان: «عندما تتبنى معايير ومبادئ شخصٍ آخر، فإنك تتخلى عن نزاهتك وتصبح أقل من إنسان على حسب مدى استسلامك». ولا يمثل الإذعان للآخر مجرد إستراتيجية للبقاء بالنسبة لنا، بل هو شيءٌ زُرع في ثقافتنا بشكلٍ مؤسسي.
قبلها بقرنٍ، تأمل المفكر والكاتب الدنماركي العظيم سُرن كيركجور (5 مايو 1813- 11 نوفمبر 1855)، الذي يحتفي به العالم باعتباره أول فيلسوف وجودي حقيقي، وهو مؤيد نشط لفوائد الاحتفاظ بالمذكرات، هذا التوتر الأبدي بين الفرد والحشد. وفي كتابه الذي يحمل اسم «يوميات سرن كريكجور The Diary of Søren Kierkegaard»، يتأمل الفيلسوف الدنماركي الكيفية التي يتسبب بها عجزنا عن التأمل الهادئ في انفصالنا عن أنفسنا الحقيقية، وما يؤديه ذلك إلى تشربنا السلبي لمبادئ الآخرين.
وفي رثائه للميل لأخذ مبادئنا من «الخطاب شديد الصخب» للحشود بدلًا من «ذهاب كل فردٍ وحده إلى خلوته السرية كي يتصل بنفسه في هدوء» -وهو أمرٌ يعتبره ممثلاً لجذور تعاستنا- يكتب كيركجور:
«يمكن للمرء أن يأكل الخس قبل أن يكتمل قلبه، غير أن الرقة النضرة لقلب الخسة وأوراقها الملتفة حول نفسها تختلف تمامًا عن الأوراق الخارجية. ينطبق الأمر ذاته على عالم الروح، حيث يؤدي الانشغال المفرط إلى هذه النتيجة: إذ نادرًا جدًا ما يتمكن الفرد من تكوين قلبٍ له. وعلى الجهة الأخرى، لن يحظى المفكر، أو الشاعر، أو الشخص المتدين، الذي كوَّن بالفعل قلبه، بأي شعبية لا لأنه شخصٌ صعب، بل لأن الأمر يتطلب مجهودًا هادئًا وممتدًا مع النفس ومعرفةً حميمية بها، فضلًا عن الحاجة إلى البقاء في عزلةٍ معينة».
بعدها بعام، أي في عام 1847، يعاود كيركجور التساؤل بشأن الفرد والحشد:
«يميل تطور العالم إلى إظهار الأهمية القصوى لتميز تصنيف الفرد المقابل للحشد.. لكن هذا التصنيف لم يتحقق بشكلٍ ملموس حتى الآن، رغم أنه معترف به بصفته فكرةٍ مجردة. وهو ما يفسر لما يعتبر الناس الحديث عن الفرد ككيانٍ منفصل نوعًا من الغطرسة والزهو بالنفس، في حين أن هذا الفرد يعبر بصدق عن معنى الإنسان: كل امرئٍ هو فرد مستقل».
رغم هذا، يذهب كيركيجور إلى أن معظمنا يجد أن العيش كفردٍ مستقل مهمةَ شاقة، ويختار، بدلًا من هذا، الاستعانة بمواساة الحشد:
«يصبح معظم الأشخاص خائفين للغاية عندما يُتوَقع من كل شخصٍ أن يكون فردًا مستقلًا بذاته. ولهذا، ندور في دائرة مفرغة. في لحظةٍ، يصبح المرء متغطرسًا ويستعرض الرأي المؤيد للفرد المستقل بذاته، وفي اللحظة التالية، عندما يصبح الفرد على وشك أن يترجم هذا الرأي إلى ممارسات، تصبح الفكرة كبيرة للغاية وساحقة لدرجةٍ يصعب تحملها».
ويصبح الإذعان للآخر الوسيلة التي نحتمي بها من هذه الفكرة الساحقة:
«بالطبع، أن تحظى بوضعٍ مستتب في الحياة لهو أمرٌ أكثر أمانًا، كوظيفةٍ رسمية لا تتطلب من المرء الكثير من الجهد.. يعيش معظم الأشخاص حياة مُؤَّمنةً أكثر من اللازم، ولهذا لا يعرفون سوى القليل عن (الإِله). إنهم يحظون بوضعٍ ثابت في الحياة، ولا يبذلون أقصى ما في وسعهم…».
بعدها بعام، يعود إلى الموضوع ويذهب إلى أن الغطرسة الحقيقية ليست في العيش بطريقةٍ تحقق فرديتنا بل في إنكارها، وإنكار فردية الأخرين: «لكل إنسان واقعهُ اللانهائي، ومن الغطرسة والغرور ألا يكرم المرء زميله الإنسان.. إن اعتبار أن ألف شخص ذوي قيمة أكثر من شخصٍ واحد لهو مغالطة منطقية.. النقطة الأساسية التي يرتكز عليها مفهوم الإنسان أن الوحدة (1) هي الأقيم، بينما الـ (1000) أقل أهميةً».
بعدها بعامين، 1850، طرح كيركجور حجةً مؤثرة عن الدور الحيوي الذي تلعبه الأقلية بصفتها ترياقًا للتفكير الجماعي المزمن للأغلبية:
1
مقال لماريا بوبوفا
ترجمة: دعاء شاهين
سرن كيركجور، عن Mental floss
كتبت إليانور روزفلت في تأملاتها عن السعادة والإذعان: «عندما تتبنى معايير ومبادئ شخصٍ آخر، فإنك تتخلى عن نزاهتك وتصبح أقل من إنسان على حسب مدى استسلامك». ولا يمثل الإذعان للآخر مجرد إستراتيجية للبقاء بالنسبة لنا، بل هو شيءٌ زُرع في ثقافتنا بشكلٍ مؤسسي.
قبلها بقرنٍ، تأمل المفكر والكاتب الدنماركي العظيم سُرن كيركجور (5 مايو 1813- 11 نوفمبر 1855)، الذي يحتفي به العالم باعتباره أول فيلسوف وجودي حقيقي، وهو مؤيد نشط لفوائد الاحتفاظ بالمذكرات، هذا التوتر الأبدي بين الفرد والحشد. وفي كتابه الذي يحمل اسم «يوميات سرن كريكجور The Diary of Søren Kierkegaard»، يتأمل الفيلسوف الدنماركي الكيفية التي يتسبب بها عجزنا عن التأمل الهادئ في انفصالنا عن أنفسنا الحقيقية، وما يؤديه ذلك إلى تشربنا السلبي لمبادئ الآخرين.
وفي رثائه للميل لأخذ مبادئنا من «الخطاب شديد الصخب» للحشود بدلًا من «ذهاب كل فردٍ وحده إلى خلوته السرية كي يتصل بنفسه في هدوء» -وهو أمرٌ يعتبره ممثلاً لجذور تعاستنا- يكتب كيركجور:
«يمكن للمرء أن يأكل الخس قبل أن يكتمل قلبه، غير أن الرقة النضرة لقلب الخسة وأوراقها الملتفة حول نفسها تختلف تمامًا عن الأوراق الخارجية. ينطبق الأمر ذاته على عالم الروح، حيث يؤدي الانشغال المفرط إلى هذه النتيجة: إذ نادرًا جدًا ما يتمكن الفرد من تكوين قلبٍ له. وعلى الجهة الأخرى، لن يحظى المفكر، أو الشاعر، أو الشخص المتدين، الذي كوَّن بالفعل قلبه، بأي شعبية لا لأنه شخصٌ صعب، بل لأن الأمر يتطلب مجهودًا هادئًا وممتدًا مع النفس ومعرفةً حميمية بها، فضلًا عن الحاجة إلى البقاء في عزلةٍ معينة».
بعدها بعام، أي في عام 1847، يعاود كيركجور التساؤل بشأن الفرد والحشد:
«يميل تطور العالم إلى إظهار الأهمية القصوى لتميز تصنيف الفرد المقابل للحشد.. لكن هذا التصنيف لم يتحقق بشكلٍ ملموس حتى الآن، رغم أنه معترف به بصفته فكرةٍ مجردة. وهو ما يفسر لما يعتبر الناس الحديث عن الفرد ككيانٍ منفصل نوعًا من الغطرسة والزهو بالنفس، في حين أن هذا الفرد يعبر بصدق عن معنى الإنسان: كل امرئٍ هو فرد مستقل».
رغم هذا، يذهب كيركيجور إلى أن معظمنا يجد أن العيش كفردٍ مستقل مهمةَ شاقة، ويختار، بدلًا من هذا، الاستعانة بمواساة الحشد:
«يصبح معظم الأشخاص خائفين للغاية عندما يُتوَقع من كل شخصٍ أن يكون فردًا مستقلًا بذاته. ولهذا، ندور في دائرة مفرغة. في لحظةٍ، يصبح المرء متغطرسًا ويستعرض الرأي المؤيد للفرد المستقل بذاته، وفي اللحظة التالية، عندما يصبح الفرد على وشك أن يترجم هذا الرأي إلى ممارسات، تصبح الفكرة كبيرة للغاية وساحقة لدرجةٍ يصعب تحملها».
ويصبح الإذعان للآخر الوسيلة التي نحتمي بها من هذه الفكرة الساحقة:
«بالطبع، أن تحظى بوضعٍ مستتب في الحياة لهو أمرٌ أكثر أمانًا، كوظيفةٍ رسمية لا تتطلب من المرء الكثير من الجهد.. يعيش معظم الأشخاص حياة مُؤَّمنةً أكثر من اللازم، ولهذا لا يعرفون سوى القليل عن (الإِله). إنهم يحظون بوضعٍ ثابت في الحياة، ولا يبذلون أقصى ما في وسعهم…».
بعدها بعام، يعود إلى الموضوع ويذهب إلى أن الغطرسة الحقيقية ليست في العيش بطريقةٍ تحقق فرديتنا بل في إنكارها، وإنكار فردية الأخرين: «لكل إنسان واقعهُ اللانهائي، ومن الغطرسة والغرور ألا يكرم المرء زميله الإنسان.. إن اعتبار أن ألف شخص ذوي قيمة أكثر من شخصٍ واحد لهو مغالطة منطقية.. النقطة الأساسية التي يرتكز عليها مفهوم الإنسان أن الوحدة (1) هي الأقيم، بينما الـ (1000) أقل أهميةً».
بعدها بعامين، 1850، طرح كيركجور حجةً مؤثرة عن الدور الحيوي الذي تلعبه الأقلية بصفتها ترياقًا للتفكير الجماعي المزمن للأغلبية:
1
«تقع الحقيقة دائمًا في جانب الأقلية، وهم دائمًا أقوى من الأغلبية لأن الأقلية مكونة من هؤلاء الذين لديهم رأي حقيقي، بينما قوة الأغلبية وهمية، مكونة من جماعات لا رأي لها -لهذا السبب، يتبنون رأي الأقلية في اللحظة التالية (عندما يتضح أنها أقوى)، ليصبح رأيها رأي الأغلبية، ليصبح هذا الرأي لغوًا بمجرد تكتل (الحشد) كله إلى جانبه، بينما تعود الحقيقة إلى أقليةٍ جديدة. تقصد الأغلبية، أو العامة الحقيقة، هذا الوحش المزعج، بنفس الطريقة التي يسافر بها شخصٌ إلى مكان كي يستعيد صحته: هو دائماً متخلفٌ عن وجهته بمحطةٍ».
ويعي كيركجور ببصيرة نافذة الدور الذي يلعبه عنصر الطبقية في التفاعل بين الأقلية والأغلبية، أو بين الفرد والحشد:
«أريد أن ينهض الناس وينتبهوا، أن أثنيهم عن الخمول وإهدار حياتهم. يعتقد الأرستقراطيون، بشكلٍ قاطع، أن الكثير من الناس سيذهبون هباء. لكنهم يلزمون الصمت إزاء هذا الأمر. فهم يعيشون حياة مؤَّمَنة، ويتظاهرون بأن كل هؤلاء الأشخاص، ببساطة، غير موجودين. وهذا ما يكسب المنزلة العليا للأرستقراطيين طابعًا لاأخلاقيًا، كي ينعموا بالراحة، لا يرعون انتباههم إلى أي شيء آخر».
يقدم كيركجور حله لهذه المسألة متعهدًا بألا يكون هو نفسه مثل الأرستقراطيين:
«سألفت انتباه الحشد إلى مواطن خرابهم. وإذا لم يرغبوا في رؤيتها طواعيةً، سأجبرهم على هذا سواء بالوسائل العادلة أو الكريهة. أرجو أن تفهموني -أو على الأقل، لا تسيئوا فهمي. أنا لا أنوي ضربهم.. بل سأجبرهم على ضربي. لأنهم إذا بدأوا يضربونني، سينتبهون، على الأرجح، لما أقوله. وإذا قتلوني، سينتبهون إليّ بالتأكيد، وسأكون بهذا قد حققت نصراً مطلقًا».
ما يذكيه كيركجارد وراء هذه الإستراتيجية هو منطق إنساني، فهو يبحث عما يمكن فعله لإيقاظ روح الإنسان الفرد من غفوة الحشد:
«إن الأفراد ليسوا فاسدين للغاية لدرجةٍ تجعلهم يتمنون أن يفعلوا الشر. لكنهم عمي، ولا يعرفون حقًا ما يفعلونه. يتوقف الأمر على إغرائهم للقيام بفعلٍ حاسم… يفوز الحشد، إذا تخلى المرء عن الطريق، وتنحى جانبًا، وهو ما سيجعل الحشد غير مدرك أبداً لما يفعله. ليس لدى الحشد وجهة نظر أساسية، لذا، إذا قتل رجلًا، فسيتوقف، ويلتفت، ويعود إلى صوابه».
ويضيف لاحقاً: «لا يريد أحد أن يكون هذا الشيء الشاق (أي الفرد) لأن الأمر يتطلب مجهودًا. ففي كل مكان، تُقدم الخدمات جاهزة عبر البدائل الزائفة: قلة! دعونا نتجمع، وحينها يمكننا تدبير أمورنا على الأرجح. وهنا تكمن أعمق مواطن الفساد الأخلاقي لدى البشر».
لكن أكثر النقاط المؤثرة لكيركجور، أتت قبل وفاته بوقتٍ قصير، في عام 1854، عندما تحدث بدقة نافذة البصيرة عن قلقنا الحديث من الوحدة، مؤكدًا على الدور الحيوي الذي تلعبه كي نمتثل لإمكاناتنا الفردية:
«إن المعيار بالنسبة للإنسان هو: إلى متى وإلى أي حد هو قادر على تحمل البقاء وحيدًا، ومجردًا من فهم الآخرين له. يصبح المرء الذي يستطيع تحمل البقاء وحيدًا خلال حياته، وحيدًا في اتخاذ القرارات ذات الأهمية الأبدية، متخلصًا، إلى أقصى حد، من فكرة الشخص المجتمعي الرضيع، الذي يمثل التعريف الحيواني للإنسان».
2
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
ويعي كيركجور ببصيرة نافذة الدور الذي يلعبه عنصر الطبقية في التفاعل بين الأقلية والأغلبية، أو بين الفرد والحشد:
«أريد أن ينهض الناس وينتبهوا، أن أثنيهم عن الخمول وإهدار حياتهم. يعتقد الأرستقراطيون، بشكلٍ قاطع، أن الكثير من الناس سيذهبون هباء. لكنهم يلزمون الصمت إزاء هذا الأمر. فهم يعيشون حياة مؤَّمَنة، ويتظاهرون بأن كل هؤلاء الأشخاص، ببساطة، غير موجودين. وهذا ما يكسب المنزلة العليا للأرستقراطيين طابعًا لاأخلاقيًا، كي ينعموا بالراحة، لا يرعون انتباههم إلى أي شيء آخر».
يقدم كيركجور حله لهذه المسألة متعهدًا بألا يكون هو نفسه مثل الأرستقراطيين:
«سألفت انتباه الحشد إلى مواطن خرابهم. وإذا لم يرغبوا في رؤيتها طواعيةً، سأجبرهم على هذا سواء بالوسائل العادلة أو الكريهة. أرجو أن تفهموني -أو على الأقل، لا تسيئوا فهمي. أنا لا أنوي ضربهم.. بل سأجبرهم على ضربي. لأنهم إذا بدأوا يضربونني، سينتبهون، على الأرجح، لما أقوله. وإذا قتلوني، سينتبهون إليّ بالتأكيد، وسأكون بهذا قد حققت نصراً مطلقًا».
ما يذكيه كيركجارد وراء هذه الإستراتيجية هو منطق إنساني، فهو يبحث عما يمكن فعله لإيقاظ روح الإنسان الفرد من غفوة الحشد:
«إن الأفراد ليسوا فاسدين للغاية لدرجةٍ تجعلهم يتمنون أن يفعلوا الشر. لكنهم عمي، ولا يعرفون حقًا ما يفعلونه. يتوقف الأمر على إغرائهم للقيام بفعلٍ حاسم… يفوز الحشد، إذا تخلى المرء عن الطريق، وتنحى جانبًا، وهو ما سيجعل الحشد غير مدرك أبداً لما يفعله. ليس لدى الحشد وجهة نظر أساسية، لذا، إذا قتل رجلًا، فسيتوقف، ويلتفت، ويعود إلى صوابه».
ويضيف لاحقاً: «لا يريد أحد أن يكون هذا الشيء الشاق (أي الفرد) لأن الأمر يتطلب مجهودًا. ففي كل مكان، تُقدم الخدمات جاهزة عبر البدائل الزائفة: قلة! دعونا نتجمع، وحينها يمكننا تدبير أمورنا على الأرجح. وهنا تكمن أعمق مواطن الفساد الأخلاقي لدى البشر».
لكن أكثر النقاط المؤثرة لكيركجور، أتت قبل وفاته بوقتٍ قصير، في عام 1854، عندما تحدث بدقة نافذة البصيرة عن قلقنا الحديث من الوحدة، مؤكدًا على الدور الحيوي الذي تلعبه كي نمتثل لإمكاناتنا الفردية:
«إن المعيار بالنسبة للإنسان هو: إلى متى وإلى أي حد هو قادر على تحمل البقاء وحيدًا، ومجردًا من فهم الآخرين له. يصبح المرء الذي يستطيع تحمل البقاء وحيدًا خلال حياته، وحيدًا في اتخاذ القرارات ذات الأهمية الأبدية، متخلصًا، إلى أقصى حد، من فكرة الشخص المجتمعي الرضيع، الذي يمثل التعريف الحيواني للإنسان».
2
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
قوة العدم أو عندما تصبح العدمية مع سيوران ضربًا من ضروب فهم العالم ذاته.
شادي كسحو... حوار..
يخيم على العالم المعاصر جو من الكآبة والسوداوية التي تجعلنا نشعر لوهلة أن عالمنا بات جحيمًا لا يطاق فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بويلاتها وأهوالها والفكر العالمي مأخوذ بفكرة العدم ولا يتوقف عن إنجاب أطروحات عدمية تضع يدها على كل أشكال الخراب والعبث التي صار إليها وجود الإنسان المعاصر ولأن الفلسفة والأدب هي أكثر الحقول حساسية لروح العصر كان من الطبيعي أن يولد رامبو وجان جينيه وإميل سيوران. في هذه المساحة الحوارية المركّزة تستضيف بوابة دار الهلال الفيلسوف السوري الشاب شادي كسحو للحديث عن فيلسوف العدم الروماني/ الفرنسي (1911-1995) إميل سيوران الذي مثل بكتاباته العدمية والتشاؤمية ذروة ما وصلت إليه النزعة العدمية في الفكر الغربي.
في هذا الحوار سيكون صاحب أعمال: الموجز في التعفن، ومثالب الولادة، واعترافات ولعنات، بكل حمولاتها العدمية والخوائية تحت مبضع السؤال والحوار. حوار فلسفي من العيار الثقيل بحثًا عن تدفقات لم يعتدها الذهن العربي من قبل.
س: يمكن للمرء أن يندهش من المكانة التي يحظى بها سيوران عند القرّاء راهنًا. ما الذي يجعل سيوران جذابًا يا ترى؟ وبشكل أكثر وضوحًا: ما الذي تفكر فيه حول سيوران وكيف تفسر كل هذا الذيوع والانتشار الذي يحظى بهما هذا الفيلسوف شديد الخصوصية؟
ج: قراءة سيوران عملية معقدة، إنه مزاجي، قلق، متقلب، وذو لغة جارحة. إنه ينشد الخلاص الذاتي، ولا يهتم إلا بالخلاص والنجاة بالمعنى العرفاني للكلمة، وهذا الذهن الجحيمي الخالي من الأحكام المسبقة لا يتكلم ليقنع أو ليبرهن، وإنما يصبو نحو تجويف وتجريف كل المطلقات والحقائق والمتعاليات التي تعارف عليها البشر. أعتقد أنه لا ينبغي نسيان هذا أبدًا. ليس ثمة ما يُعرف أو يُبحث أو يُوجد عند سيوران. هذا كلام ميديائي بلا قيمة. ثمة بالأحرى ما يُكتشف عند سيوران، لكن هذا الكشف والاكتشاف ليس سهل المنال لأن الطريق نحوه لا يبنى على معطيات استدلالية، وإنما على خبرات وتجارب وجودية صعبة ومعقدة. إن العقل المنهجي والتحليلي بأدواته البلاستيكية وسرعته الإثباتية ووثوقيته الزائفة لن يرى في سيوران أكثر من عجوز عدمي بلا طائل. السخرية الكلبية ضد الرزانة السقراطية. الكتابة الشذرية المفككة ضد الكتابة الخطية التقنية. الضجر والأرق والقلق ضد الدهشة والتأمل والتمعن. الكاوس والعدم والكسل ضد الكينونة والصيرورة والأنا. ثمة ما يشي بانقلابات جذرية صاخبة جدًا تراود سيوران وتدفعه للكتابة.. هذا العالم لا يستحق أن نعرفه هكذا هتف سيوران في باريس عندما كان محاطا بصموئيل بيكيت وألبير كامو وهنري ميشو. كل كاتب يفرز مجموعة من النصوص والشذرات التي تسكنك ولا تغادرك أبدًا، لكنها عند سيوران لا تعد ولا تحصى.
س: قلت بخصوص سيوران أنك تركز دائمًا على الطمائر والخبايا الفلسفية والمساحات الملعونة في نصوص الفلاسفة، وهنا يراودني سؤال شخصي: كيف يمكن أن نفهم عدمية سيوران وتشاؤميته بعيدًا عن التسطيح الذي تُتهم به مثل هذه النزعات العدمية والعبثية عادةً.
1
شادي كسحو... حوار..
يخيم على العالم المعاصر جو من الكآبة والسوداوية التي تجعلنا نشعر لوهلة أن عالمنا بات جحيمًا لا يطاق فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بويلاتها وأهوالها والفكر العالمي مأخوذ بفكرة العدم ولا يتوقف عن إنجاب أطروحات عدمية تضع يدها على كل أشكال الخراب والعبث التي صار إليها وجود الإنسان المعاصر ولأن الفلسفة والأدب هي أكثر الحقول حساسية لروح العصر كان من الطبيعي أن يولد رامبو وجان جينيه وإميل سيوران. في هذه المساحة الحوارية المركّزة تستضيف بوابة دار الهلال الفيلسوف السوري الشاب شادي كسحو للحديث عن فيلسوف العدم الروماني/ الفرنسي (1911-1995) إميل سيوران الذي مثل بكتاباته العدمية والتشاؤمية ذروة ما وصلت إليه النزعة العدمية في الفكر الغربي.
في هذا الحوار سيكون صاحب أعمال: الموجز في التعفن، ومثالب الولادة، واعترافات ولعنات، بكل حمولاتها العدمية والخوائية تحت مبضع السؤال والحوار. حوار فلسفي من العيار الثقيل بحثًا عن تدفقات لم يعتدها الذهن العربي من قبل.
س: يمكن للمرء أن يندهش من المكانة التي يحظى بها سيوران عند القرّاء راهنًا. ما الذي يجعل سيوران جذابًا يا ترى؟ وبشكل أكثر وضوحًا: ما الذي تفكر فيه حول سيوران وكيف تفسر كل هذا الذيوع والانتشار الذي يحظى بهما هذا الفيلسوف شديد الخصوصية؟
ج: قراءة سيوران عملية معقدة، إنه مزاجي، قلق، متقلب، وذو لغة جارحة. إنه ينشد الخلاص الذاتي، ولا يهتم إلا بالخلاص والنجاة بالمعنى العرفاني للكلمة، وهذا الذهن الجحيمي الخالي من الأحكام المسبقة لا يتكلم ليقنع أو ليبرهن، وإنما يصبو نحو تجويف وتجريف كل المطلقات والحقائق والمتعاليات التي تعارف عليها البشر. أعتقد أنه لا ينبغي نسيان هذا أبدًا. ليس ثمة ما يُعرف أو يُبحث أو يُوجد عند سيوران. هذا كلام ميديائي بلا قيمة. ثمة بالأحرى ما يُكتشف عند سيوران، لكن هذا الكشف والاكتشاف ليس سهل المنال لأن الطريق نحوه لا يبنى على معطيات استدلالية، وإنما على خبرات وتجارب وجودية صعبة ومعقدة. إن العقل المنهجي والتحليلي بأدواته البلاستيكية وسرعته الإثباتية ووثوقيته الزائفة لن يرى في سيوران أكثر من عجوز عدمي بلا طائل. السخرية الكلبية ضد الرزانة السقراطية. الكتابة الشذرية المفككة ضد الكتابة الخطية التقنية. الضجر والأرق والقلق ضد الدهشة والتأمل والتمعن. الكاوس والعدم والكسل ضد الكينونة والصيرورة والأنا. ثمة ما يشي بانقلابات جذرية صاخبة جدًا تراود سيوران وتدفعه للكتابة.. هذا العالم لا يستحق أن نعرفه هكذا هتف سيوران في باريس عندما كان محاطا بصموئيل بيكيت وألبير كامو وهنري ميشو. كل كاتب يفرز مجموعة من النصوص والشذرات التي تسكنك ولا تغادرك أبدًا، لكنها عند سيوران لا تعد ولا تحصى.
س: قلت بخصوص سيوران أنك تركز دائمًا على الطمائر والخبايا الفلسفية والمساحات الملعونة في نصوص الفلاسفة، وهنا يراودني سؤال شخصي: كيف يمكن أن نفهم عدمية سيوران وتشاؤميته بعيدًا عن التسطيح الذي تُتهم به مثل هذه النزعات العدمية والعبثية عادةً.
1
👍1
ج: عندما كان سيوران يكتب "من على ذرى اليأس" قيل إنه أعلن وقتها أنه لو لم يكتب هذا الكتاب لانتحر. كم هو عميق هذا الصدق وهذا التصريح الذي لم يكن حتى سيوران ليعرف صداه. دعني أقول: إننا عندما بدأنا ندرك قدرنا العدمي والمأساوي، بدأنا ندرك ما عناه. هذه سمة قلما تجدها عند أي فيلسوف آخر. لقد استطاع سيوران أن يطابق بين مصيره الشخصي وبين مصير البشرية برمتها. لك أن تتخيل معي ماذا يعني أن يحول فيلسوف قلقه وأرقه وعدمه الشخصي إلى عدم كوني وأرق إنساني. لقد وضعنا سيوران أمام خيارين: إما أن نفعل مثله ونصطف إلى جانبه وننتحب على بشرية فقدت كل معنى، أو أن نمارس تدمير الحضارة الزائفة بأيدينا نحن. يقول سيوران في إحدى توهجاته: تأتي لحظة فإذا بالسلب يفقد توهجه وبريقه ويملك نفس مصير الإيجاب. الكل في النهاية إلى الانطفاء. ويقول أيضًا: كل شيء انتقالي. بين التكوين والقيامة تسود الخديعة. أعود هنا إلى سؤالك. ليست العدمية في عمومها ولا عدمية سيوران بشكل خاص، شيئًا يبعث على الاستسلام والموت واللامبالاة. لا أستطيع التفكير في شيء أكثر وضاعة واستهتار من هذا التأويل المبتذل للعدمية. على النقيض من تأويلات منحطة كهذه فإن عدمية سيوران تشحذ نوعًا من رؤية الحياة أو حسًا بالغ الرهافة بمعنى العالم. وحين أقول: معنى العالم، فأنا أقصد العالم بكل طبقاته المرئية وغير المرئية. العالم بما هو مكان جميل وفسيح، والعالم بما هو مكان منحط وضيق. العالم بما هو حركة وصيرورة، والعالم بما هو تفكك وتفسخ واندثار. سأقول لك بكلمة واحدة: مع سيوران تصبح العدمية ضربًا من ضروب فهم العالم ذاته. يكذب ولا يعرف شيئًا من يعتقد أن عدمية سيوران مظلمة وفاغنرية. لا أبدًا. بل على العكس، يشكل العدم في كل نصوص سيوران طريقًا مضمونًا نحو الوجود، طريق نحو شيء يجب أن نرنو إليه دون أي حاجة للإيمان به. هنا تكمن عظمة سيوران برأيي، فالعدم يحررنا من أوهام الكينونة ويكشف زيفها وقصورها وكأنه يقول: إن العدم وليس الوجود هو من يحملنا على العيش.
س: على مقربة شديدة من العدم كنت قد أفردت نصًا جميلًا عن الكاوس ( الفوضى أو الخواء) السيوراني تحت عنوان (الهجرة إلى الخواء). هذا مفهوم صعب ومعقد وذو أرومة علمية وفيزيائية، وسؤالي هو كيف استطاع سيوران، أو بالأحرى: كيف استطاع تأويلك الفلسفي لسيوران أن ينّشط هذا المفهوم الصعب في فلسفة قائمة على الغضب والتمرد والتدمير النهلستي الصاخب؟
2
س: على مقربة شديدة من العدم كنت قد أفردت نصًا جميلًا عن الكاوس ( الفوضى أو الخواء) السيوراني تحت عنوان (الهجرة إلى الخواء). هذا مفهوم صعب ومعقد وذو أرومة علمية وفيزيائية، وسؤالي هو كيف استطاع سيوران، أو بالأحرى: كيف استطاع تأويلك الفلسفي لسيوران أن ينّشط هذا المفهوم الصعب في فلسفة قائمة على الغضب والتمرد والتدمير النهلستي الصاخب؟
2
ج: هذا سؤال مذهل بالفعل..
أعتقد أن قوة سيوران تكمن في أنه مرر خطًا فاصلًا ليس بين الفكر والعالم، ولا بين الذات والعالم، بل هناك في منطقة حساسة جدًا تكاد لا تُرى بين الوجود والعدم. إن سيوران سيقوم بـ تعميد مفهوم الكاوس chaos في الفلسفة المعاصرة من جديد. من أجل ذلك علينا أن نفهم إلحاح سيوران الدائم على هذه النقطة كـ دعوة إلى تغيير قبلة الفلسفة برمتها. أن نكف عن اعتبار الوجود هو قبلتنا الوحيدة. على الفلسفة أن تغير موضوعها باستدعاء مكبوتاتها واسترجاع موضوعاتها الحارة والنشيطة. ما زالت الفلسفة تلتزم الصمت أمام تلك الغزارة الانطولوجية القابعة فيما وراء الزمن. أمام ذاك الفضاء المهجور. لن تتحرر الفلسفة من هذا الحقد الانطولوجي الذي بنت عليه تاريخها بدون التخلص من مخلفات الذات الواعية. وحدها فلسفة غاضبة ومضادة كهذه يمكن أن تستعيد بهجة الفلسفة وحيويتها. هكذا فـ الكاوس عند سيوران ليس مجرد موقف عدمي، بل موقف انطولوجي في غاية الخطورة. إنه إمكانية انطولوجية عميقة قائمة على امتحان قدرة الفلسفة على التضحية بمكتسباتها الرسمية وتفكيك نفسها من الداخل. إن الكاوس الذي يقيم سيوران كل تشقيقاته فوقه، هو ضرب من الشجاعة النهلستية. شجاعة الانتماء إلى ظلمات أو أنوار عالم لم يوجد، أو لم ينتبه إليه أحد. عالم منزوع الوعي ومسلوب الإرادة وغير ملوث بالصيرورة. كيان غير خاضع لحماية الأنا وسلطانها. بل كل ما فيه ينم عن رغبة بتدمير انطولوجي للأنا بوصفها قبلة خبيثة للوجود.
ما يراهن عليه سيوران - على الرغم من كل القراءات الخفيفة التي تسربت إلى نصوصه - هو تحرير مفهوم الكاوس من النسيان أو بالأحرى، من الجحود الجذري الذي لحق به. إن النسيان الفعلي الذي قامت به الفلسفة ليس نسيان الكينونة، بل نسيان ما قبل الكينونة. في كل مكان يلهج الفلاسفة بذكر الوجود والتذكير به. لكم يبدو مخيباً للآمال أن كل تاريخ الفلسفة منذ طاليس إلى هيدغر لم يبحث إلا عن الوجود والحقيقة. في حين أنك لن تجد في كل تاريخ الفلسفة نصاً عن الكاوس سوى بضع صفحات بالكاد. الكاوس.. يالها من خسارة أن تكون هذه الكلمة قد اختفت تحت أقلام الفلاسفة الكبار. قضى البروفسورهيدغر كل حياته بحثًا عن كلمات جديدة لكي يذكرنا بالوجود. المؤسف أن هذا الكرم الفلسفي الطريف جاء ليذكرنا بما صار من الضروري نسيانه.
س: قبل أن نبدأ بالحوار كنت تردد على مسامعي أن الغضب أصبح مع سيوران إحدى إكسيرات الفلسفة والتفكير في العالم. أود الرجوع إلى هذا الحدس الفريد لأتساءل: هل يمكن كتابة نص فلسفي غاضب؟ وهل يمكن للغضب أن يغدو إكسيرًا فلسفيًا؟
3
أعتقد أن قوة سيوران تكمن في أنه مرر خطًا فاصلًا ليس بين الفكر والعالم، ولا بين الذات والعالم، بل هناك في منطقة حساسة جدًا تكاد لا تُرى بين الوجود والعدم. إن سيوران سيقوم بـ تعميد مفهوم الكاوس chaos في الفلسفة المعاصرة من جديد. من أجل ذلك علينا أن نفهم إلحاح سيوران الدائم على هذه النقطة كـ دعوة إلى تغيير قبلة الفلسفة برمتها. أن نكف عن اعتبار الوجود هو قبلتنا الوحيدة. على الفلسفة أن تغير موضوعها باستدعاء مكبوتاتها واسترجاع موضوعاتها الحارة والنشيطة. ما زالت الفلسفة تلتزم الصمت أمام تلك الغزارة الانطولوجية القابعة فيما وراء الزمن. أمام ذاك الفضاء المهجور. لن تتحرر الفلسفة من هذا الحقد الانطولوجي الذي بنت عليه تاريخها بدون التخلص من مخلفات الذات الواعية. وحدها فلسفة غاضبة ومضادة كهذه يمكن أن تستعيد بهجة الفلسفة وحيويتها. هكذا فـ الكاوس عند سيوران ليس مجرد موقف عدمي، بل موقف انطولوجي في غاية الخطورة. إنه إمكانية انطولوجية عميقة قائمة على امتحان قدرة الفلسفة على التضحية بمكتسباتها الرسمية وتفكيك نفسها من الداخل. إن الكاوس الذي يقيم سيوران كل تشقيقاته فوقه، هو ضرب من الشجاعة النهلستية. شجاعة الانتماء إلى ظلمات أو أنوار عالم لم يوجد، أو لم ينتبه إليه أحد. عالم منزوع الوعي ومسلوب الإرادة وغير ملوث بالصيرورة. كيان غير خاضع لحماية الأنا وسلطانها. بل كل ما فيه ينم عن رغبة بتدمير انطولوجي للأنا بوصفها قبلة خبيثة للوجود.
ما يراهن عليه سيوران - على الرغم من كل القراءات الخفيفة التي تسربت إلى نصوصه - هو تحرير مفهوم الكاوس من النسيان أو بالأحرى، من الجحود الجذري الذي لحق به. إن النسيان الفعلي الذي قامت به الفلسفة ليس نسيان الكينونة، بل نسيان ما قبل الكينونة. في كل مكان يلهج الفلاسفة بذكر الوجود والتذكير به. لكم يبدو مخيباً للآمال أن كل تاريخ الفلسفة منذ طاليس إلى هيدغر لم يبحث إلا عن الوجود والحقيقة. في حين أنك لن تجد في كل تاريخ الفلسفة نصاً عن الكاوس سوى بضع صفحات بالكاد. الكاوس.. يالها من خسارة أن تكون هذه الكلمة قد اختفت تحت أقلام الفلاسفة الكبار. قضى البروفسورهيدغر كل حياته بحثًا عن كلمات جديدة لكي يذكرنا بالوجود. المؤسف أن هذا الكرم الفلسفي الطريف جاء ليذكرنا بما صار من الضروري نسيانه.
س: قبل أن نبدأ بالحوار كنت تردد على مسامعي أن الغضب أصبح مع سيوران إحدى إكسيرات الفلسفة والتفكير في العالم. أود الرجوع إلى هذا الحدس الفريد لأتساءل: هل يمكن كتابة نص فلسفي غاضب؟ وهل يمكن للغضب أن يغدو إكسيرًا فلسفيًا؟
3
ج: دعني قبل أن أجيب عن هذا السؤال أن أؤكد لك أن الفلاسفة الكبار لا يكتشفون المفاهيم، بل يخلقونها. وبالنسبة لسيوران فإن الغضب سيصبح فنًا فلسفيًا لا أحد سبقه إليه. يقول في إحدى شذراته: أنا غاضب إزاء كل شيء وحتى لو نصبوني ربًا سأقدم استقالتي. الغضب السيوراني ياله من باعث فلسفي غريب ومستفز ومتعرج. سيستبدل سيوران برودة الدهشة بحرارة الغضب، وسيستعيض بمرارة الأرق عن أرستقراطية القلق. لكن التفكير على أساس الغضب ليس سهلًا على الإطلاق. الغضب هو فن نزع المسافة بين الذات والعالم. إنه فن الأحداث الخالصة والحدوس الخالصة. إنه تدريبات مضنية وشاقة في جعل الكينونة تنبثق وتلمع فوق سطح الذات قبل أي اعتقال تقني لها. على النقيض الكامل من حب الحكمة - ياله من تعريف مبتذل للفلسفة - وعلى النقيض من الدهشة، وعلى النقيض من القلق يعمل الغضب على فَردَنة الوجود. إنه يفكك كل ألعاب الفلسفة التقليدية. فهو يفكك التأمل لجهة التأثير المباشر، ويفكك المقدمات لصالح الارتسامات، ويفكك التعالي لصالح الانقذاف المباشر في خبرة العالم. ليس سوى سيوران ونيتشه وحفنة نادرة جدًا من الفلاسفة فكروا بهذه الطريقة. أن يغدو المعنى انتشارًا لحظيًا للعالم فوق صفيح الذات. إن الغضب السيوراني بكلمة واحدة هو مفهوم فلسفي هائل. إنه مسألة سرعة.
س: لا أعرف في الحقيقة كيف يمكن اختتام حوار بهذا الألق بأسئلة مباشرة، ولكن يبقى من الضروري أن نتساءل عن الأثر السيوراني في العالم العربي وكيف تنظر إلى طرق التفاعل الفلسفي معه. هل يمكن لكاتب مثل سيوران أن ينقذنا وهو المتهم الأول بالعبث واللاعقلانية؟
ج: قد تبدو إجابتي قاسية نوعًا ما، لكنني أعتقد أننا في العالم العربي قمنا ومنذ زمن طويل بتدريب الفكر على اللا فلسفة. استميحك عذرًا على قسوة كلامي لكن استقبال الفكر العربي لغالبية الفلاسفة هو شيء فظيع بالفعل. دعني أذكر لك بعض التسميات التي أطلقها الفكر العربي على سيوران. الملحد التوحيدي. شاعر اليأس. كاتب العبث. حارس العزلة. لن أدخل هنا في أي تعليق فلسفي على سخافات كهذه، لكنني مضطر للقول: إن هناك دائمًا انتربول مؤسساتي أو أب، أو big brother يعمل دومًا على إخماد وإغماد كل محاولة فلسفية مهما كان نوعها. بارقة الأمل الوحيدة التي تبعث على التفاؤل هي أن بعض الفلاسفة - سيوران من ضمنهم - يمارسون تأثيرهم، لا على الصعيد الرسمي والمؤسساتي، بل في سوق الفكر السوداء على وسائل التواصل الاجتماعي بين قبائل افتراضية شجاعة وما بعد حداثية.
حتى على مستوى الفكر الغربي فإن سيوران لم ينجُ من الاستهتار والتسيب. خذ على سبيل المثال ماكتبته السيدة الكندية نانسي هيوستن وما كتبه الأستاذ الألماني بيتر سلوتردايك. بل إن الكاتب التشيكي ميلان كونديرا يروي في كتابه "لقاء" أنه سأل مرة أحد ألمع المثقفين في فرنسا عن سيوران فأجابه بتهكم: سيوران؟ إنه مجرد متأنق وغندور عديم القيمة. حتى كونديرا المحسوب على اليسار لم يتحمل مطرقة سيوران ولم يبذل أي جهد لتفنيد هذه المقولة المنحطة. هي ذي بعض من أشكال استقبال سيوران شرقًا وغربًا. لكنني لست مستغربًا على الإطلاق، فأنا أفهم أن من لم يعتد على مثل هذا التفكير الجحيمي والوسواسي ستنفلق رأسه إلى شطرين. إن سيوران يلوي أفكارنا أو يتركنا نموت من الحقد والغيظ مثل الإله لوكي.
4
حوار مع مؤسسة دار الهلال
أجرى الحوار الأستاذ محمد الحمامصي
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
س: لا أعرف في الحقيقة كيف يمكن اختتام حوار بهذا الألق بأسئلة مباشرة، ولكن يبقى من الضروري أن نتساءل عن الأثر السيوراني في العالم العربي وكيف تنظر إلى طرق التفاعل الفلسفي معه. هل يمكن لكاتب مثل سيوران أن ينقذنا وهو المتهم الأول بالعبث واللاعقلانية؟
ج: قد تبدو إجابتي قاسية نوعًا ما، لكنني أعتقد أننا في العالم العربي قمنا ومنذ زمن طويل بتدريب الفكر على اللا فلسفة. استميحك عذرًا على قسوة كلامي لكن استقبال الفكر العربي لغالبية الفلاسفة هو شيء فظيع بالفعل. دعني أذكر لك بعض التسميات التي أطلقها الفكر العربي على سيوران. الملحد التوحيدي. شاعر اليأس. كاتب العبث. حارس العزلة. لن أدخل هنا في أي تعليق فلسفي على سخافات كهذه، لكنني مضطر للقول: إن هناك دائمًا انتربول مؤسساتي أو أب، أو big brother يعمل دومًا على إخماد وإغماد كل محاولة فلسفية مهما كان نوعها. بارقة الأمل الوحيدة التي تبعث على التفاؤل هي أن بعض الفلاسفة - سيوران من ضمنهم - يمارسون تأثيرهم، لا على الصعيد الرسمي والمؤسساتي، بل في سوق الفكر السوداء على وسائل التواصل الاجتماعي بين قبائل افتراضية شجاعة وما بعد حداثية.
حتى على مستوى الفكر الغربي فإن سيوران لم ينجُ من الاستهتار والتسيب. خذ على سبيل المثال ماكتبته السيدة الكندية نانسي هيوستن وما كتبه الأستاذ الألماني بيتر سلوتردايك. بل إن الكاتب التشيكي ميلان كونديرا يروي في كتابه "لقاء" أنه سأل مرة أحد ألمع المثقفين في فرنسا عن سيوران فأجابه بتهكم: سيوران؟ إنه مجرد متأنق وغندور عديم القيمة. حتى كونديرا المحسوب على اليسار لم يتحمل مطرقة سيوران ولم يبذل أي جهد لتفنيد هذه المقولة المنحطة. هي ذي بعض من أشكال استقبال سيوران شرقًا وغربًا. لكنني لست مستغربًا على الإطلاق، فأنا أفهم أن من لم يعتد على مثل هذا التفكير الجحيمي والوسواسي ستنفلق رأسه إلى شطرين. إن سيوران يلوي أفكارنا أو يتركنا نموت من الحقد والغيظ مثل الإله لوكي.
4
حوار مع مؤسسة دار الهلال
أجرى الحوار الأستاذ محمد الحمامصي
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
"لم أبالي ابدا بالعوام، لأن ما أعرفه لا يوافقونني عليه، وما يتفقون عليه لا أعرفه. "
- أبيقور
- أبيقور
لعنة الألقاب وفخ الفخامات:
أشار الصديق فتحي المسكيني في إحدى نصوصه إلى أن الفيلسوف العربي يكاد يُقدّم الأعذار ويشعر بالخجل واقتراف الجريمة أن يُدعى "فيلسوفاً". أظن أن المسألة هي "ثقافية" وتنتمي إلى "تاريخ العقليات" (الذهنية العربية). في سنوات التكوين عندما كنتُ طالباً في الجامعة الفرنسية، اشتغلتُ بعض الوقت كمصنِّف للكتب العربية في المكتبة الجامعية ثم في مكتبة مركز بحث متخصص في العالم العربي الإسلامي. كنتُ أعمل تحت إشراف متخصصين في علم المكتبات الذين كان لهم تكوين صارم ومعايير دقيقة في تصنيف الكتب ثم وضعها على المنصات الالكترونية في متناول القراء من طلبة وباحثين. وعندما نُصنِّف الكُتُب، نضع كل المعلومات الخاصة بالكتاب وبسيرة المؤلف. مرة صنفتُ كتاباً في الفلسفة، وبحثتُ عن صاحبه في محركات البحث ولم يكن معروفاً، واستشرتُ المسؤول عن ذلك، فقال لي: "مهنته فيلسوف، اكتب فيلسوف". قلتُ له: "ولكن هو غير معروف". فقال لي: "وأين المشكلة؟ نحن نتَّبع معايير، ولدينا وظائف، اكتب إذاً فيلسوف، هذه هي مهنته وهويته".
فتحت هذه القصة عينيَّ على مسألة مهمة، وهي مدى احترام الغرب لتقسيم العمل وتوزيع الوظائف. ليس الغرب مهووساً بالفخامات والقداسات والأبَّهات التي نحن فريستها اليوم. فهو يؤمن في وظائف الطبيب والشاعر والروائي والمهندس والسوسيولوجي وعالم النفس وإذاً الفيلسوف. لم يضع تقسيم العمل من أجل التشريف أو الأبَّهة أو وضع التيجان على الرؤوس، لكن لأداء مهام دقيقة، بحكم أن كل مجال معرفي له لغته ومعجمه، ومن ثمة مجموع الأحكام والآراء والرؤى التي يُقدمها حول مسائل مهمة تخص المجتمع. هذا واضح في قنوات الإعلام التي تستضيف متخصصاً في الفلسفة لمناقشة قضيةٍ ما، فهي تكتب في الشريط الأسفل "الاسم واللقب: فيلسوف". يمكن دائماً الاعتراض بأن الفيلسوف شيء آخر، غير الأستاذ والأكاديمي والصحافي والباحث. لكن هذه مشكلة الفلاسفة فيما بينهم ومشكلة الذهنية العربية فريسة الأبَّهة والإعجاز وخوارق الأمور، لا مشكلة المجتمع الذي يدفع لهم ثمن التكوين والتدريس بالضرائب التي يُقدمها للدولة، فهو يطالبهم بأن يحددوا هويتهم.
يمر تحديد الهوية بتحديد الوظيفة والانتماء إلى حقلٍ معرفي بعينه. مثلما كان ينادي فتغنشتاين "بنزع السحر عن اللغة" (désensorceler le langage)، نحن مدعوون لأن ننزع السحر عن الألقاب. أن يتورَّع البعض عن الألقاب، فهي مشكلة مخيِّلة أو تعاظُم في ذواتهم، وهي مشكلة ذهنية ننتمي إليها، ولا علاقة لها بالمهام التي يؤدُّونها. الباحث الذي قال بأن هوسرل هو الفيلسوف الوحيد وأن هايدغر هو أستاذ عظيم لكنه غير فيلسوف، لا شك أنه سيكون "أضحوكة" ما هو مقنَّن في الغرب. لأن الغرب لا يعترف بالتعاظم والحظوة والفخامة. له وظائف براغماتية يؤديها بشر، فهم مقيَّدون بهوتهم العملية؛ فهو ليس في مقام التنافس على الألقاب أو التنابز بالألقاب مثلنا نحن، ولكن في إنجاز الألقاب مهامَّ دقيقة وواقعية. في الحوار مع إذاعة فرنسا الثقافية الذي أجري مع جون لوك ماريون (أبرز ممثلي الفينومينولوجيا في فرنسا) ونشرته قبل أسابيع على صفحتي، سألته الصحافية: "هل أنت فيلسوف؟ فأجاب: نعم، بالطبع، لكن ليس على طريقة الفيلسوف الإعلامي (يقصد ميشال أونفري)، بل فيلسوف قضاء الساعات الطويلة والماراطونية في المكتبة من أجل القراءة والتأليف". لماذا إذاً ماريون لا يخجل من لقبه، ويكاد الفيلسوف العربي يشعر بالجرم والجناية؟ إنها دائماً مسألة عقليات، بين من تخلَّص من الأبهات لأداء وظيفة، ومن هو دائماً فريستها تكبر في عينه الوظائف ويُعطيها بُعداً رمزياً لا ينطبق عليها، أو بُعداً سلطوياً، لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالسلطة.
يخضع تقسيم العمل والوظائف في أوطاننا لاعتبارات ذاتوية وبخلفية الفخامة والقداسة والأبَّهة التي تحدثتُ عنها من قبل. مقام الطبيب هو الأعلى في العقلية الجماعية ثم تأتي المقامات الأخرى مثل المهندس والتاجر والقاضي والمحامي، ربما لاعتبارات مادية، لكنها في الغالب "رمزية"، لأنها مسألة سلطة. للطبيب سلطة قوية في مخيلتنا. فهي إذاً اعتبار سلطوي لا معرفي، اعتبار الصورة المتعاظمة التي يُشكِّلها الآخرون حول مهمَّةٍ ما، وهذه المهمَّة في أبسط أداءاتها. نزع السحر عن المهام هو إذاً الخيار الأيقونكلستي (iconoclaste)، إذا قصدتُ بهذا الأخير أن الفيلسوف هو فيلسوف بموجب أداءٍ عملي في التفكير، وليس بموجب هالة يضعها على الرأس أو سلطة يُؤثِّر بها على الغير من باب الزعامة أو الريادة. شيئان مختلفان تماماً، وظيفياً وأخلاقياً.
- محمد شوقي الزين - Mohammed Chaouki Zine
أشار الصديق فتحي المسكيني في إحدى نصوصه إلى أن الفيلسوف العربي يكاد يُقدّم الأعذار ويشعر بالخجل واقتراف الجريمة أن يُدعى "فيلسوفاً". أظن أن المسألة هي "ثقافية" وتنتمي إلى "تاريخ العقليات" (الذهنية العربية). في سنوات التكوين عندما كنتُ طالباً في الجامعة الفرنسية، اشتغلتُ بعض الوقت كمصنِّف للكتب العربية في المكتبة الجامعية ثم في مكتبة مركز بحث متخصص في العالم العربي الإسلامي. كنتُ أعمل تحت إشراف متخصصين في علم المكتبات الذين كان لهم تكوين صارم ومعايير دقيقة في تصنيف الكتب ثم وضعها على المنصات الالكترونية في متناول القراء من طلبة وباحثين. وعندما نُصنِّف الكُتُب، نضع كل المعلومات الخاصة بالكتاب وبسيرة المؤلف. مرة صنفتُ كتاباً في الفلسفة، وبحثتُ عن صاحبه في محركات البحث ولم يكن معروفاً، واستشرتُ المسؤول عن ذلك، فقال لي: "مهنته فيلسوف، اكتب فيلسوف". قلتُ له: "ولكن هو غير معروف". فقال لي: "وأين المشكلة؟ نحن نتَّبع معايير، ولدينا وظائف، اكتب إذاً فيلسوف، هذه هي مهنته وهويته".
فتحت هذه القصة عينيَّ على مسألة مهمة، وهي مدى احترام الغرب لتقسيم العمل وتوزيع الوظائف. ليس الغرب مهووساً بالفخامات والقداسات والأبَّهات التي نحن فريستها اليوم. فهو يؤمن في وظائف الطبيب والشاعر والروائي والمهندس والسوسيولوجي وعالم النفس وإذاً الفيلسوف. لم يضع تقسيم العمل من أجل التشريف أو الأبَّهة أو وضع التيجان على الرؤوس، لكن لأداء مهام دقيقة، بحكم أن كل مجال معرفي له لغته ومعجمه، ومن ثمة مجموع الأحكام والآراء والرؤى التي يُقدمها حول مسائل مهمة تخص المجتمع. هذا واضح في قنوات الإعلام التي تستضيف متخصصاً في الفلسفة لمناقشة قضيةٍ ما، فهي تكتب في الشريط الأسفل "الاسم واللقب: فيلسوف". يمكن دائماً الاعتراض بأن الفيلسوف شيء آخر، غير الأستاذ والأكاديمي والصحافي والباحث. لكن هذه مشكلة الفلاسفة فيما بينهم ومشكلة الذهنية العربية فريسة الأبَّهة والإعجاز وخوارق الأمور، لا مشكلة المجتمع الذي يدفع لهم ثمن التكوين والتدريس بالضرائب التي يُقدمها للدولة، فهو يطالبهم بأن يحددوا هويتهم.
يمر تحديد الهوية بتحديد الوظيفة والانتماء إلى حقلٍ معرفي بعينه. مثلما كان ينادي فتغنشتاين "بنزع السحر عن اللغة" (désensorceler le langage)، نحن مدعوون لأن ننزع السحر عن الألقاب. أن يتورَّع البعض عن الألقاب، فهي مشكلة مخيِّلة أو تعاظُم في ذواتهم، وهي مشكلة ذهنية ننتمي إليها، ولا علاقة لها بالمهام التي يؤدُّونها. الباحث الذي قال بأن هوسرل هو الفيلسوف الوحيد وأن هايدغر هو أستاذ عظيم لكنه غير فيلسوف، لا شك أنه سيكون "أضحوكة" ما هو مقنَّن في الغرب. لأن الغرب لا يعترف بالتعاظم والحظوة والفخامة. له وظائف براغماتية يؤديها بشر، فهم مقيَّدون بهوتهم العملية؛ فهو ليس في مقام التنافس على الألقاب أو التنابز بالألقاب مثلنا نحن، ولكن في إنجاز الألقاب مهامَّ دقيقة وواقعية. في الحوار مع إذاعة فرنسا الثقافية الذي أجري مع جون لوك ماريون (أبرز ممثلي الفينومينولوجيا في فرنسا) ونشرته قبل أسابيع على صفحتي، سألته الصحافية: "هل أنت فيلسوف؟ فأجاب: نعم، بالطبع، لكن ليس على طريقة الفيلسوف الإعلامي (يقصد ميشال أونفري)، بل فيلسوف قضاء الساعات الطويلة والماراطونية في المكتبة من أجل القراءة والتأليف". لماذا إذاً ماريون لا يخجل من لقبه، ويكاد الفيلسوف العربي يشعر بالجرم والجناية؟ إنها دائماً مسألة عقليات، بين من تخلَّص من الأبهات لأداء وظيفة، ومن هو دائماً فريستها تكبر في عينه الوظائف ويُعطيها بُعداً رمزياً لا ينطبق عليها، أو بُعداً سلطوياً، لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالسلطة.
يخضع تقسيم العمل والوظائف في أوطاننا لاعتبارات ذاتوية وبخلفية الفخامة والقداسة والأبَّهة التي تحدثتُ عنها من قبل. مقام الطبيب هو الأعلى في العقلية الجماعية ثم تأتي المقامات الأخرى مثل المهندس والتاجر والقاضي والمحامي، ربما لاعتبارات مادية، لكنها في الغالب "رمزية"، لأنها مسألة سلطة. للطبيب سلطة قوية في مخيلتنا. فهي إذاً اعتبار سلطوي لا معرفي، اعتبار الصورة المتعاظمة التي يُشكِّلها الآخرون حول مهمَّةٍ ما، وهذه المهمَّة في أبسط أداءاتها. نزع السحر عن المهام هو إذاً الخيار الأيقونكلستي (iconoclaste)، إذا قصدتُ بهذا الأخير أن الفيلسوف هو فيلسوف بموجب أداءٍ عملي في التفكير، وليس بموجب هالة يضعها على الرأس أو سلطة يُؤثِّر بها على الغير من باب الزعامة أو الريادة. شيئان مختلفان تماماً، وظيفياً وأخلاقياً.
- محمد شوقي الزين - Mohammed Chaouki Zine
👍3
إن صفة الشمول هي مصدر قوة الفكر الهيجلي ومظهر ضعفه في الآن نفسه؛ فلقد كان يتملَّك هيجل شعورٌ طاغٍ بأن عصره يمثل — في جميع الميادين — قمَّة الأحداث التاريخية التي سبقته، ويمثِّل أكملَ صور تحققها في الوقت ذاته، ومن هنا أحس بالرغبة في تقديم «كشف حساب» للحضارة على حدِّ تعبير «لوفيفر»، وإيجاد مركِّب يؤلِّف بين كل عناصرها، وكان الهدف الرئيسي لفلسفته هو تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع وبين الشكل والمضمون، على نحوٍ يضمن الجمع بين هذه الأطراف وتجاوزها في مركَّب أعلى؛ ففلسفة هيجل كانت — في نظره — مركَّبًا يضم كلَّ ما سبقها، لا في ميدان الفلسفة فحسب، بل في كل ميادين نشاط الروح الإنسانية، ولم يكن هيجل يسعى إلى تحقيق هذا الضم بطريقة تلفيقية، أو عن طريق الجمع بين عناصرَ متنافرة فيما بينها، بل كان هدفه هو أن يؤلِّف منها مركَّبًا عضويًّا متماسكًا، وكان يرى في ذلك لبَّ النزوع الفلسفي الحقيقي وجوهره، ولقد كان يتملكه شعور واضح بأن فلسفته وصلت إلى العمق الباطن للأشياء، وقدمت تفسيرًا للواقع في كليته وبجميع جوانبه، وهو شعور يستبعد تمامًا روح الشك واللاأدرية كما سادت في القرن الثامن عشر، وكما ظلت آثارها واضحةً في أول مذهب فلسفي ألماني كبير، وأعني به مذهب «كانْت».
لقد كان للمذهب الفلسفي عند هيجل بناءٌ مذهل من حيث شموله وإحكام الانتقال من كل خطوة إلى الخطوة التالية فيه؛ فمن الروح كما هي في ذاتها وفي تجرُّدها — أي من المنطق — ينتقل البحث إلى الروح كما تصبح موضوعية في فلسفة الطبيعة، ثم إلى الروح كما تعود إلى ذاتها في فلسفة الروح، وفي داخل كل مظهر من هذه المظاهر يتحرك الفكر على نفس النحو المحكم، ولو أخذنا فلسفة الروح وحدَها كمثال لوجدناها تبدأ بالأنثروبولوجيا (بالمعنى القديم لهذا اللفظ قبل أن يصبح دالًّا على علم اجتماعي متخصص)، وهي دراسة الإنسان على نحوٍ لا يخلو من التأثُّر بالطبيعة كما هي الحال في علم النفس، ثم تنتقل إلى دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها درجةً أعلى من درجات تجلي الروح، بالقياس إلى الظواهر النفسية الفردية، فتبدأ بالقانون الذي هو في أساسه علاقةٌ خارجية للإنسان بمجتمعه، طابعها سلبي في الأساس، وتنتقل إلى الأخلاق التي هي الإرادة الباطنة حين تحفظنا على إطاعة قوانين المجتمع، والتي تتجلَّى أولًا في حياة الأسرة ثم المجتمع المدني ثم الدولة، وهي أعلى مظاهر الروح الموضوعية، وينتقل الفكر بعد ذلك إلى الروح المطلقة، وتتمثل أولًا في الفن ثم الدِّين وأخيرًا الفلسفة.
في كل مرحلة من هذه المراحل يكتب هيجل كتابةً تفصيلية متعمقة تستحق أن تُعامَلَ على أن لها قيمتها الذاتية الكامنة، بغض النظر عن قيمتها داخل المذهب المتكامل، وفي كلِّ ما يكتبه هيجل يتخذ تفكيره طابعًا موسوعيًّا ينم عن قدرةٍ مذهلة على الاطلاع والاستيعاب والإحاطة الشاملة، ولكن هذه الإحاطة الشاملة هي بعينها — في نظر الكثيرين — موطنُ الضَّعف عند هيجل، فهل يستطيع عقل واحد — مهما بلغ تعمُّقه — أن يحيط بكلِّ ما أنتجته الروح البشرية، أو حتى أن يدرك اتجاه هذه النواتج وحركتها وعلاقاتها وروابطها؟ ألا يؤدي شمول المذهب نفسه إلى الحكم عليه بالجمود والموت؟ إن «المذهب» حين يحاول أن يدرج في داخله كل مظاهر فاعلية الروح — من منطق وعلم طبيعي وأخلاق وتاريخ وسياسة وفن ودين وفلسفة — يحكم على هذه المظاهر ذاتها بالجمود؛ لأنه يفسِّرها جميعًا من خلال وضعها الحاضر، كما لو كان ذلك الحاضر وضعًا نهائيًّا لا يتسع لأي جديد، ولكن إذا كان الحاضر ذاته مجرد مرحلة في حركة لا نهائية، ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة أركان المذهب، لا لأنه يجمِّد الحاضر فحسب، بل أيضًا لأنه يفسِّر الماضي من منظور الحاضر بوصفه غايتَه وهدفَ تطوُّره، مع أن هذا المنظور بدوره متحرك، وسرعان ما يتجاوزه ويطغى عليه تيار التطوُّرات اللاحقة؟
__________
- فؤاد زكريا،
من كتاب: "آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة" (1975).
@Newphilosopher
لقد كان للمذهب الفلسفي عند هيجل بناءٌ مذهل من حيث شموله وإحكام الانتقال من كل خطوة إلى الخطوة التالية فيه؛ فمن الروح كما هي في ذاتها وفي تجرُّدها — أي من المنطق — ينتقل البحث إلى الروح كما تصبح موضوعية في فلسفة الطبيعة، ثم إلى الروح كما تعود إلى ذاتها في فلسفة الروح، وفي داخل كل مظهر من هذه المظاهر يتحرك الفكر على نفس النحو المحكم، ولو أخذنا فلسفة الروح وحدَها كمثال لوجدناها تبدأ بالأنثروبولوجيا (بالمعنى القديم لهذا اللفظ قبل أن يصبح دالًّا على علم اجتماعي متخصص)، وهي دراسة الإنسان على نحوٍ لا يخلو من التأثُّر بالطبيعة كما هي الحال في علم النفس، ثم تنتقل إلى دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها درجةً أعلى من درجات تجلي الروح، بالقياس إلى الظواهر النفسية الفردية، فتبدأ بالقانون الذي هو في أساسه علاقةٌ خارجية للإنسان بمجتمعه، طابعها سلبي في الأساس، وتنتقل إلى الأخلاق التي هي الإرادة الباطنة حين تحفظنا على إطاعة قوانين المجتمع، والتي تتجلَّى أولًا في حياة الأسرة ثم المجتمع المدني ثم الدولة، وهي أعلى مظاهر الروح الموضوعية، وينتقل الفكر بعد ذلك إلى الروح المطلقة، وتتمثل أولًا في الفن ثم الدِّين وأخيرًا الفلسفة.
في كل مرحلة من هذه المراحل يكتب هيجل كتابةً تفصيلية متعمقة تستحق أن تُعامَلَ على أن لها قيمتها الذاتية الكامنة، بغض النظر عن قيمتها داخل المذهب المتكامل، وفي كلِّ ما يكتبه هيجل يتخذ تفكيره طابعًا موسوعيًّا ينم عن قدرةٍ مذهلة على الاطلاع والاستيعاب والإحاطة الشاملة، ولكن هذه الإحاطة الشاملة هي بعينها — في نظر الكثيرين — موطنُ الضَّعف عند هيجل، فهل يستطيع عقل واحد — مهما بلغ تعمُّقه — أن يحيط بكلِّ ما أنتجته الروح البشرية، أو حتى أن يدرك اتجاه هذه النواتج وحركتها وعلاقاتها وروابطها؟ ألا يؤدي شمول المذهب نفسه إلى الحكم عليه بالجمود والموت؟ إن «المذهب» حين يحاول أن يدرج في داخله كل مظاهر فاعلية الروح — من منطق وعلم طبيعي وأخلاق وتاريخ وسياسة وفن ودين وفلسفة — يحكم على هذه المظاهر ذاتها بالجمود؛ لأنه يفسِّرها جميعًا من خلال وضعها الحاضر، كما لو كان ذلك الحاضر وضعًا نهائيًّا لا يتسع لأي جديد، ولكن إذا كان الحاضر ذاته مجرد مرحلة في حركة لا نهائية، ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة أركان المذهب، لا لأنه يجمِّد الحاضر فحسب، بل أيضًا لأنه يفسِّر الماضي من منظور الحاضر بوصفه غايتَه وهدفَ تطوُّره، مع أن هذا المنظور بدوره متحرك، وسرعان ما يتجاوزه ويطغى عليه تيار التطوُّرات اللاحقة؟
__________
- فؤاد زكريا،
من كتاب: "آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة" (1975).
@Newphilosopher
👍1