معظم العلماء المختصصين في الكمبيوتر الكمي يفضلون ألا يفكروا في هذه المعاني المتضمنة، لكن يوجد مجموعة من العلماء اعتادوا على التفكير في أكثر من “ستة أشياء مستحيلة” قبل تناولهم وجبة الإفطار، وهم الفيزيائيون الكونيون. فبعضهم قد تبنى تفسير العوالم المتعددة على أنه أفضل طريقة لتفسير وجود كوننا نفسه.
إن النقطة التي انطلقوا منها، والتي لاحظها شرودنغر، هي أنه لا يوجد شيء في المعادلات يشير إلى انهيار الدالة الموجية، وهم يعنون الدالة الموجية الوحيدة التي تصف العالم كله كتراكب من الحالات، أي أكوان متعددة مكونة من تراكب من الأكوان.
كان عنوان أطروحة الدكتوراة لإيفيرت في نسختها الأولى “نظرية الدالة الموجية الكونية” (والتي قام بتعديلها وتقصيرها بناء على نصيحة ويلر)، وهو يعني بـ”الكونية” المعنى الحرفي لها، فيقول: “بما أن وصف دالة الحالة مُسلم بصحته، يمكن اعتبار دوال الحالة نفسها كيانات أساسية، وبالاستطاعة اعتبار أن هناك دالة حالة للكون كله، وبهذا المعنى فهذه النظرية يمكن تسميتها بنظرية “الدالة الموجية الكونية” حيث إن كل الفيزياء مسلم أنها تأتي تبعا من هذه الدالة وحدها” وفي هذا السياق “دالة الحالة” تعني “الدالة الموجية”. و”كل الفيزياء” تعني كل شيء بما في ذلك نحن، أو “المراقِب” بالمصطلح الفيزيائي. والفيزيائيون الكونيون يتحمسون لهذه الفكرة ليس بسبب أنهم مشمولون بالدالة الموجية، بل بسبب أن وجود دالة موجية واحدة غير منهارة هو الطريقة الوحيدة لوصف الكون كله بمصطلحات ميكانيكا الكم، وأن ذلك يتوافق أيضًا مع النظرية النسبية العامة. في النسخة المصغرة من أطروحة الدكتوراة لإيفيرت التي نشرت في عام ١٩٥٧م، ختم حديثه حول صياغته لميكانيكا الكم قائلا “لعل ذلك يثبت إطارا خصبا لتكميم النسبية العامة”. رغم أن هذا الحلم لم يتحقق بعد، إلا أنه شجع الكثير من علماء الكونيات على العمل فيه منذ منتصف الثمانينيات عندما تعلقوا بهذه الفكرة، لكنها جاءت معها بالكثير من الأحمال.
الدالة الموجية الكونية تصف موقع كل جسيم في الكون في كل لحظة زمنية، كما أنها تصف كل موقع محتمل لهذه الجسيمات في تلك اللحظة، وكذلك تصف كل موقع محتمل لكل جسيم في أي لحظة زمنية أخرى، لكن عدد الاحتمالات محكوم بالحبيبات الكمية للمكان والزمان. من هذه الأعداد الكبيرة من الأكوان الممكنة يوجد عدد من النسخ التي لا يوجد فيها نجوم مستقرة وكواكب وأناس يستطيعون العيش عليها، لكن يوجد على الأقل بعض الأكوان التي تماثل كوننا قليلا أو كثيرا، مثلما يُعرض في قصص الخيال العلمي، أو في الخيال العلمي الآخر بالتأكيد. أشار دويتش أنه تبعا لتفسير العوالم المتعددة MWI فإن أي عالَم يوصف في عمل فني، إذا كان يتبع قوانين الفيزياء، فإنه موجود في مكان ما في هذه الأكوان المتعددة. فيوجد على سبيل المثال عالم “مرتفعات وذرينغ Wuthering Heights”، لكن ليس عالم “هاري بوتر Harry Potter”.
5
إن النقطة التي انطلقوا منها، والتي لاحظها شرودنغر، هي أنه لا يوجد شيء في المعادلات يشير إلى انهيار الدالة الموجية، وهم يعنون الدالة الموجية الوحيدة التي تصف العالم كله كتراكب من الحالات، أي أكوان متعددة مكونة من تراكب من الأكوان.
كان عنوان أطروحة الدكتوراة لإيفيرت في نسختها الأولى “نظرية الدالة الموجية الكونية” (والتي قام بتعديلها وتقصيرها بناء على نصيحة ويلر)، وهو يعني بـ”الكونية” المعنى الحرفي لها، فيقول: “بما أن وصف دالة الحالة مُسلم بصحته، يمكن اعتبار دوال الحالة نفسها كيانات أساسية، وبالاستطاعة اعتبار أن هناك دالة حالة للكون كله، وبهذا المعنى فهذه النظرية يمكن تسميتها بنظرية “الدالة الموجية الكونية” حيث إن كل الفيزياء مسلم أنها تأتي تبعا من هذه الدالة وحدها” وفي هذا السياق “دالة الحالة” تعني “الدالة الموجية”. و”كل الفيزياء” تعني كل شيء بما في ذلك نحن، أو “المراقِب” بالمصطلح الفيزيائي. والفيزيائيون الكونيون يتحمسون لهذه الفكرة ليس بسبب أنهم مشمولون بالدالة الموجية، بل بسبب أن وجود دالة موجية واحدة غير منهارة هو الطريقة الوحيدة لوصف الكون كله بمصطلحات ميكانيكا الكم، وأن ذلك يتوافق أيضًا مع النظرية النسبية العامة. في النسخة المصغرة من أطروحة الدكتوراة لإيفيرت التي نشرت في عام ١٩٥٧م، ختم حديثه حول صياغته لميكانيكا الكم قائلا “لعل ذلك يثبت إطارا خصبا لتكميم النسبية العامة”. رغم أن هذا الحلم لم يتحقق بعد، إلا أنه شجع الكثير من علماء الكونيات على العمل فيه منذ منتصف الثمانينيات عندما تعلقوا بهذه الفكرة، لكنها جاءت معها بالكثير من الأحمال.
الدالة الموجية الكونية تصف موقع كل جسيم في الكون في كل لحظة زمنية، كما أنها تصف كل موقع محتمل لهذه الجسيمات في تلك اللحظة، وكذلك تصف كل موقع محتمل لكل جسيم في أي لحظة زمنية أخرى، لكن عدد الاحتمالات محكوم بالحبيبات الكمية للمكان والزمان. من هذه الأعداد الكبيرة من الأكوان الممكنة يوجد عدد من النسخ التي لا يوجد فيها نجوم مستقرة وكواكب وأناس يستطيعون العيش عليها، لكن يوجد على الأقل بعض الأكوان التي تماثل كوننا قليلا أو كثيرا، مثلما يُعرض في قصص الخيال العلمي، أو في الخيال العلمي الآخر بالتأكيد. أشار دويتش أنه تبعا لتفسير العوالم المتعددة MWI فإن أي عالَم يوصف في عمل فني، إذا كان يتبع قوانين الفيزياء، فإنه موجود في مكان ما في هذه الأكوان المتعددة. فيوجد على سبيل المثال عالم “مرتفعات وذرينغ Wuthering Heights”، لكن ليس عالم “هاري بوتر Harry Potter”.
5
وهذا ليس نهاية الموضوع، فالدالة الموجية الوحيدة تصف كل الأكوان الممكنة في كل الأزمنة الممكنة، لكنها لا تقول لنا شيئا عن الانتقال من حالة إلى أخرى، فالزمن لا يمضي. وبالبقاء قريبا من كوننا، فإن مؤشر إيفيرت الذي يسمى “متجه الحالة” موجود، وهو يحوي وصف عالَمٍ نعيش فيه بكل سجلاته التاريخية بداية من ذكرياتنا، إلى الأحافير والضوء الذي يصلنا من المجرات البعيدة. سوف يوجد أيضا كون آخر مثل كوننا تماما ما عدا أن خطواته الزمنية متقدمة، لنقل، بثانية واحدة (أو ساعة أو سنة)، لكن لا يوجد إشارة على أن كونًا ما انتقل من خطوة زمنية واحدة لأخرى. سوف يكون هناك “أنا” في كون ثانٍ موصوف بالدالة الموجية الكونية، ولديه كل الذكريات التي لدي في اللحظة الأولى، بالإضافة إلى ما يماثلها من الثانية التالية (أو الساعة أو السنة، أو غيرها). لكن من المستحيل القول إن هذه النسخ مني هي نفس الشخص، فالحالات الزمنية المختلفة يتم ترتيبها بالأحداث التي تصفها، وهذا الذي يميّز الفرق بين الماضي والمستقبل، وهذه الحالات لا تنتقل من حالة إلى أخرى/ فكلها موجودة. وعند إيفيرت في فكرته لتفسير العوالم MWI المتعددة فإن الزمن -بالطريقة التي اعتدنا التفكير بها- لا يتحرك.
تصف مجلةُ «ذا سبكتيتور» جون غريبين بأنه «أحد ألمع كتّاب كتب العلوم المبسطة وأغزرهم إنتاجًا». لقد ألّف جون عدّة كتب، منها: «In Search of Schrödinger’s Cat» و «The Universe: A biography»، و «Six Impossible Things»، والمقالة مقتطعة من هذا الكتاب الأخير. إنّ جون باحث زائر في علم الفلك في جامعة ساسكس في المملكة المتحدة.
6
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
تصف مجلةُ «ذا سبكتيتور» جون غريبين بأنه «أحد ألمع كتّاب كتب العلوم المبسطة وأغزرهم إنتاجًا». لقد ألّف جون عدّة كتب، منها: «In Search of Schrödinger’s Cat» و «The Universe: A biography»، و «Six Impossible Things»، والمقالة مقتطعة من هذا الكتاب الأخير. إنّ جون باحث زائر في علم الفلك في جامعة ساسكس في المملكة المتحدة.
6
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
نيتشه مجادلًا: السعادة ليست المراد الأول للإنسان!
العقل في فلسفة نيتشه
جميعنا نريد أن نكون سعداء، صحيح؟ من عساه لا يريد ذلك؟ بالتأكيد لن تضحي بكل شيء لأجل السعادة، لكنك على الأقل تريد الاستمتاع بحياتك. هناك عدد كبير من أدوية الاكتئاب في الأسواق، وغالبًا ما يتم بيع طرق تحقيق السعادة والإعلان عنها كشيء يمكنك الحصول عليه، فالسعادة هي ما تريده قبل كل شيء.
إن السعي وراء السعادة جزء لا يتجزأ من فكرتنا عن الحياة الجيدة، لدرجة أن (توماس جيفرسون) أعلن أنه حق ثابت غير قابل للتصرف. فهو يلخص الحلم الأميركي أكثر من أي فكرة أخرى. وهو بالنسبة لكثير من الناس، معنى للحياة بأكملها. من الصعب على البعض أن يدرك وجود طريقة تفكير تقترح أن الإنسان لا يريد –على الأقل- محاولة تحقيق السعادة قدر المستطاع.
حسنًا، هنالك فيلسوف لا يعتقد أن الإنسان يريد السعادة بذاتها. وهو فريدريك نيتشه.
رأى نيتشه أن مجرد السعي وراء السعادة –الذي عرفناه هنا بكونه يمنح البهجة- إهدار غبي للحياة البشرية. أعلن ذلك بقوله أن البشرية لا تناضل من أجل السعادة، وحده الرجل الإنجليزي يفعل ذلك. مشيرًا إلى الفلسفة النفعية الإنجليزية بما تركز فيه على السعادة الكاملة. رفض نيتشه هذه الفلسفة من خلال رمزية “الإنسان الأخير” عنده. وهو كائن مثير للشفقة يعيش في زمن اخترعت فيه البشرية ما يدعى بالسعادة.
بدلًا من السعي للسعادة، كرس نيتشه نفسه لفكرة إيجاد معنى للحياة. اقترح رمزية “الإنسان الأعلى” الذي يخلق المعنى في حياته، بديلًا للإنسان الأخير. كما قدم لنا فكرة عن الأشخاص الذين كانوا على استعداد لتحمل معاناة عظيمة باسم هدف وضعوه لأنفسهم وعلى سبيل المثال؛ هل بإمكاننا تخيل مايكل أنجلو وهو يرى رسم سقف كنيسة سيستين لطيفًا؟ أو نيكولا تيسلا الذي صرح بأن عزوبيته كانت ضرورية لعمله، لكنه بقي يشتكي من الوحدة حتى نهاية حياته.
هل هذه سعادة؟ لو أرادت هذه العقول العظيمة السعادة بذاتها فهل كانوا سيفعلون ما قد فعلوه؟ نيتشه يجيب على هذا السؤال بالنفي. فبدلًا من السعادة، اختاروا أن يسعوا وراء المعنى ووجدوه. هذا ما يريده البشر في الحقيقة.
يتفق علم النفس مع ذلك. فعالم النفس (فيكتور فرانكل) اعتبر أن إيجاد المعنى هو مفتاح الحياة الجيدة. وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك باقتراحه معانٍٍ إيجابية لمعاناة مرضاه حتى يساعدهم على الاستمرار. نشر فرانكل أفكاره في كتابه الأكثر مبيعاً “الإنسان يبحث عن المعنى”، واستوحاها في الوقت الذي قضاه في أحد معسكرات الاعتقال، مما لاحظه حول كيفية تمكن الأشخاص الذين يعانون أهوال لا يمكن تصورها، من الاستمرار عبر إيجاد المعنى بدلًا من تحقيق السعادة.
هناك أيضًا شك في الحسابات النفعية بالنسبة لينتشه. ففي رأيه يعاني أصحاب الأفعال العظيمة معاناة عظيمة، ويعاني أصحاب الأفعال التافهة معاناة تافهة. إذا ما حاولنا القيام بحسابات نفعية في هذه الحالة، سيكون من الصعب –إن لم يكن مستحيلاً- إيجاد سيناريو تكون فيه السعادة الصافية هائلة جدًا. هذا هو سبب غباء الإنسان الأخير. الأشياء الوحيدة التي تمنحه ربحًا صافيًا كبيرًا من السعادة هي تلك المتعلقة بشؤون مملة إلى حد ما. وليس الأنشطة التي تسبب المعاناة والتي نجدها مثيرة للاهتمام.
1
العقل في فلسفة نيتشه
جميعنا نريد أن نكون سعداء، صحيح؟ من عساه لا يريد ذلك؟ بالتأكيد لن تضحي بكل شيء لأجل السعادة، لكنك على الأقل تريد الاستمتاع بحياتك. هناك عدد كبير من أدوية الاكتئاب في الأسواق، وغالبًا ما يتم بيع طرق تحقيق السعادة والإعلان عنها كشيء يمكنك الحصول عليه، فالسعادة هي ما تريده قبل كل شيء.
إن السعي وراء السعادة جزء لا يتجزأ من فكرتنا عن الحياة الجيدة، لدرجة أن (توماس جيفرسون) أعلن أنه حق ثابت غير قابل للتصرف. فهو يلخص الحلم الأميركي أكثر من أي فكرة أخرى. وهو بالنسبة لكثير من الناس، معنى للحياة بأكملها. من الصعب على البعض أن يدرك وجود طريقة تفكير تقترح أن الإنسان لا يريد –على الأقل- محاولة تحقيق السعادة قدر المستطاع.
حسنًا، هنالك فيلسوف لا يعتقد أن الإنسان يريد السعادة بذاتها. وهو فريدريك نيتشه.
رأى نيتشه أن مجرد السعي وراء السعادة –الذي عرفناه هنا بكونه يمنح البهجة- إهدار غبي للحياة البشرية. أعلن ذلك بقوله أن البشرية لا تناضل من أجل السعادة، وحده الرجل الإنجليزي يفعل ذلك. مشيرًا إلى الفلسفة النفعية الإنجليزية بما تركز فيه على السعادة الكاملة. رفض نيتشه هذه الفلسفة من خلال رمزية “الإنسان الأخير” عنده. وهو كائن مثير للشفقة يعيش في زمن اخترعت فيه البشرية ما يدعى بالسعادة.
بدلًا من السعي للسعادة، كرس نيتشه نفسه لفكرة إيجاد معنى للحياة. اقترح رمزية “الإنسان الأعلى” الذي يخلق المعنى في حياته، بديلًا للإنسان الأخير. كما قدم لنا فكرة عن الأشخاص الذين كانوا على استعداد لتحمل معاناة عظيمة باسم هدف وضعوه لأنفسهم وعلى سبيل المثال؛ هل بإمكاننا تخيل مايكل أنجلو وهو يرى رسم سقف كنيسة سيستين لطيفًا؟ أو نيكولا تيسلا الذي صرح بأن عزوبيته كانت ضرورية لعمله، لكنه بقي يشتكي من الوحدة حتى نهاية حياته.
هل هذه سعادة؟ لو أرادت هذه العقول العظيمة السعادة بذاتها فهل كانوا سيفعلون ما قد فعلوه؟ نيتشه يجيب على هذا السؤال بالنفي. فبدلًا من السعادة، اختاروا أن يسعوا وراء المعنى ووجدوه. هذا ما يريده البشر في الحقيقة.
يتفق علم النفس مع ذلك. فعالم النفس (فيكتور فرانكل) اعتبر أن إيجاد المعنى هو مفتاح الحياة الجيدة. وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك باقتراحه معانٍٍ إيجابية لمعاناة مرضاه حتى يساعدهم على الاستمرار. نشر فرانكل أفكاره في كتابه الأكثر مبيعاً “الإنسان يبحث عن المعنى”، واستوحاها في الوقت الذي قضاه في أحد معسكرات الاعتقال، مما لاحظه حول كيفية تمكن الأشخاص الذين يعانون أهوال لا يمكن تصورها، من الاستمرار عبر إيجاد المعنى بدلًا من تحقيق السعادة.
هناك أيضًا شك في الحسابات النفعية بالنسبة لينتشه. ففي رأيه يعاني أصحاب الأفعال العظيمة معاناة عظيمة، ويعاني أصحاب الأفعال التافهة معاناة تافهة. إذا ما حاولنا القيام بحسابات نفعية في هذه الحالة، سيكون من الصعب –إن لم يكن مستحيلاً- إيجاد سيناريو تكون فيه السعادة الصافية هائلة جدًا. هذا هو سبب غباء الإنسان الأخير. الأشياء الوحيدة التي تمنحه ربحًا صافيًا كبيرًا من السعادة هي تلك المتعلقة بشؤون مملة إلى حد ما. وليس الأنشطة التي تسبب المعاناة والتي نجدها مثيرة للاهتمام.
1
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
هذه المشكلة تدعى بمفارقة السعادة. من غير المحتمل أن تملك الأنشطة التي تزيد البهجة بشكل مباشر مردودًا كبيرًا. لقد أدرك نيتشه هذه المشكلة وتكلم فيها عندما قال أن البهجة ترافق الإنسان لكنها ثابتة لا تتحرك معه. من يحب جمع الطوابع لا يفعل ذلك لأنه يجعله سعيدًا، ولكن لأنه يجد المتعة في ذلك. فالسعادة أثر جانبي هنا. وفي الحقيقة، لا يٌسر من عانى لسنوات طوال في صنع تحفةٍ ما بسبب هذه التحفة بذاتها، بل إنه يجد المتعة عندما يرى الجمال الذي خلقه بعد تلك المعاناة.
بالتأكيد هناك فكرة معاكسة لفكرة نيتشه. لقد أدان المفكر البريطاني الكبير برتراند راسل نيتشه في كتابه الرائع “تاريخ الفلسفة الغربية”. من بين انتقاداته الرئيسية لنيتشه ما رآه وحشيًا وانفتاحًا على المعاناة عنده. قارن راسل أفكار نيتشه بأفكار بوذا الحنون متخيلًا نيتشه وهو يصرخ قولًا:
“لماذا نمضي نحو التباكي لكون الناس التافهين يعانون؟ أو، في هذا الصدد لأن الرجال العظماء يعانون؟ يعاني الناس التافهون بشكل تافه ويعاني الرجال العظماء بشكل عظيم، فلا ينبغي لهم الأسف على الآلام العظيمة لأنهم نبلاء. مُثُلك العليا هي فكرة سلبية بحتة، وغياب المعاناة يمكن تحقيقه إذا لم تكن موجودًا. من جهة أخرى أنا أملك مثل عليا إيجابية. فأنا معجب بألكيبادس والإمبراطور فريدريك الثاني ونابليون. في سبيل هؤلاء الرجال, أي بؤس ممكن يستحق العناء؟”.
يقارن راسل أفكار بوذا مقابل هذا النص. ويدعي أن أي مراقب محايد سينحاز إليه دائمًا. رأى راسل، الذي كانت تفسيراته لفلسفة نيتشه أقل من أن تعتبر دقيقة -حيث عانى من ضعف الترجمات التي عمل عليها- رأى أن فلسفته تشكل نقطة انطلاق للفاشية وتصب تركيزها على الألم.
لذا إذا كنت تقدر شيئًا ما أكثر من الحصول على السعادة، ما مدى استعداك لتلقي المعاناة حتى تحصل عليه؟ يرى نيتشه أنك ستتخلى عن كل شيء مقابل حصولك على قيمة عليا. البعض الآخر لا يوافق هذا الطرح. فهل أنت قادر على السعي وراء السعادة ونيلها؟ أم أن نيتشه محق في أنه يجب عليك التركيز على شيء آخر، على المعنى حتى تأمل نيل الرضا لاحقًا؟
2
@Nietzsche1
بالتأكيد هناك فكرة معاكسة لفكرة نيتشه. لقد أدان المفكر البريطاني الكبير برتراند راسل نيتشه في كتابه الرائع “تاريخ الفلسفة الغربية”. من بين انتقاداته الرئيسية لنيتشه ما رآه وحشيًا وانفتاحًا على المعاناة عنده. قارن راسل أفكار نيتشه بأفكار بوذا الحنون متخيلًا نيتشه وهو يصرخ قولًا:
“لماذا نمضي نحو التباكي لكون الناس التافهين يعانون؟ أو، في هذا الصدد لأن الرجال العظماء يعانون؟ يعاني الناس التافهون بشكل تافه ويعاني الرجال العظماء بشكل عظيم، فلا ينبغي لهم الأسف على الآلام العظيمة لأنهم نبلاء. مُثُلك العليا هي فكرة سلبية بحتة، وغياب المعاناة يمكن تحقيقه إذا لم تكن موجودًا. من جهة أخرى أنا أملك مثل عليا إيجابية. فأنا معجب بألكيبادس والإمبراطور فريدريك الثاني ونابليون. في سبيل هؤلاء الرجال, أي بؤس ممكن يستحق العناء؟”.
يقارن راسل أفكار بوذا مقابل هذا النص. ويدعي أن أي مراقب محايد سينحاز إليه دائمًا. رأى راسل، الذي كانت تفسيراته لفلسفة نيتشه أقل من أن تعتبر دقيقة -حيث عانى من ضعف الترجمات التي عمل عليها- رأى أن فلسفته تشكل نقطة انطلاق للفاشية وتصب تركيزها على الألم.
لذا إذا كنت تقدر شيئًا ما أكثر من الحصول على السعادة، ما مدى استعداك لتلقي المعاناة حتى تحصل عليه؟ يرى نيتشه أنك ستتخلى عن كل شيء مقابل حصولك على قيمة عليا. البعض الآخر لا يوافق هذا الطرح. فهل أنت قادر على السعي وراء السعادة ونيلها؟ أم أن نيتشه محق في أنه يجب عليك التركيز على شيء آخر، على المعنى حتى تأمل نيل الرضا لاحقًا؟
2
@Nietzsche1
👍1
ما علاقة اللغة بالطعام؟
د. عبدالله الغذامي
تشترك اللغة والطعام بقانون الذوق، فاللغة كما أنها خطاب في التواصل، فإنها كذلك خطاب في الذوق وكلما ترقت اللغة ذوقياً ترقى معها صاحب النص ومتلقي النص، ومثلها الطعام الذي هو في أصله لغة للجسد تقوم عليه وتتطلبه وظائف الجسد، لكنه أيضاً كحال اللغة يدخل بنظام المجاز والتذوق ويشير للمستوى الثقافي ويحمل دلالات رمزية وتراثية وله روابط إنسانية عميقة «قهوة أمي وكعكة أمي وخبز أمي إلخ»، وهي عبارات تصنع أثرها بمجرد نطقها وبمجرد سماعها، حيث تفتح أبواب الذاكرة العميقة التي تلغي حال الواقع وتحيل القائل والسامع معاً إلى عوالم خارقة للواقع ومتجاوزةٍ له نحو الماضي ونحو الحنين، وكأننا نعود أطفالاً برغبة منا وبتأثرٍ من رائحة الطعام وصورته الذهنية التي ستجلب معها حتماً صوراً عينيةً تشخص أمامنا وإن كانت في حكم الغياب.
وهناك علاقات مصاحبة بين اللغة والطعام سنراها وقت ترحالنا من لغتنا الأم ووطننا الأم إلى وطن آخر بلغة أخرى، وهذا سيترتب عليه ترحال من طعام إلى طعام وبمقدار ما يكون المكان جديداً عليك ولغته ليست لغتك، فستشم فوراً طعاماً آخر بمثل ما تسمع أصواتاً لغوية أخرى وهنا سيشترك السماع والشم في تحميل ذهنك لغةً وأطعمةً تختلف عما تختزنه ذهنيتك، وهنا تنتقل من حال ذوقية وحال نفسية غير ما كنت تألفه، وهذا يفسر معنى أن السفر تغيير جذري ينقلك من كون إلى كون، وهنا يحدث ما نسميه بالاستجمام حيث تستجم النفس وتغتسل من إرهاقها وتعبها ولهذا مفعول كبير على النفس البشرية ليس في كسب خبرة جديدة فحسب، بل للتخلص من خبرة قديمة أو ستكون قديمة كلما تعمقت الخبرة الجديدة، وسيتلو ذلك تغيرات عميقة في الذوق نفسه مع الأطعمة ومع اللغة حتى الأطعمة المعتادة لك واللغة التي هي لغتك الأصلية.
ستتحولان لأحوال أخرى تبعاً لقوة التجارب الجديدة وستحب أطعمةً لم تكن تتصور أنك ستحبها كمثل تذوقنا للهمبورجر وهو مثال واضح جداً، حيث يعجبنا طعام لم يكن ليعجبنا قط لو حكمنا عليه وفق ذائقتنا الأم. ومثله التغيرات التي تدخل على خطابنا بصيغ ومجازات لم تكن ضمن ذهنيتنا قبل تعرضنا لخبرة عميقة مع لغة لم تكن لغتنا، ومثل هذا سيحدث للمعقولات التي تترسخ عندنا حسب خبراتنا الذاتية مع الحياة والظروف وشروط الواقع على أن تغير المعقولات تبعاً لتغير الخبرات سيكون مثل تغير خبرة الطعام المختلف واللغة المختلفة ومعها كلها يتغير الذوق والوجدان فنتذوق الأغاني والأشعار والمجازات الجديدة، وبالتالي ستتذوق معقولات غير معقولاتك السابقة، مما يعني أن العقل البشري مثله مثل الذوق البشري يتغير باستمرار رغم ظنوننا بترسخ معقولاتنا وأنها هي المتحكم بالمتغيرات، غير أن الواقع يظل يؤكد أن المتغيرات تغير المعقولات بمقدار قوة وإغرائية المتغير، ولذا فعقولنا متغيرة وأحكامها متغيرة تماماً كتغير المذاقات والتفضيلات الشعورية والحسية. على أن الذوق سلطان لا نستطيع عصيانه أو قمعه لذا تطرب النفوس لأشياء دون أشياء وكل ذلك خارج توجيهنا أو تحكمنا. كما أن المعقولات تتغير أيضاً بشروطها الخاصة.
د. عبدالله الغذامي
تشترك اللغة والطعام بقانون الذوق، فاللغة كما أنها خطاب في التواصل، فإنها كذلك خطاب في الذوق وكلما ترقت اللغة ذوقياً ترقى معها صاحب النص ومتلقي النص، ومثلها الطعام الذي هو في أصله لغة للجسد تقوم عليه وتتطلبه وظائف الجسد، لكنه أيضاً كحال اللغة يدخل بنظام المجاز والتذوق ويشير للمستوى الثقافي ويحمل دلالات رمزية وتراثية وله روابط إنسانية عميقة «قهوة أمي وكعكة أمي وخبز أمي إلخ»، وهي عبارات تصنع أثرها بمجرد نطقها وبمجرد سماعها، حيث تفتح أبواب الذاكرة العميقة التي تلغي حال الواقع وتحيل القائل والسامع معاً إلى عوالم خارقة للواقع ومتجاوزةٍ له نحو الماضي ونحو الحنين، وكأننا نعود أطفالاً برغبة منا وبتأثرٍ من رائحة الطعام وصورته الذهنية التي ستجلب معها حتماً صوراً عينيةً تشخص أمامنا وإن كانت في حكم الغياب.
وهناك علاقات مصاحبة بين اللغة والطعام سنراها وقت ترحالنا من لغتنا الأم ووطننا الأم إلى وطن آخر بلغة أخرى، وهذا سيترتب عليه ترحال من طعام إلى طعام وبمقدار ما يكون المكان جديداً عليك ولغته ليست لغتك، فستشم فوراً طعاماً آخر بمثل ما تسمع أصواتاً لغوية أخرى وهنا سيشترك السماع والشم في تحميل ذهنك لغةً وأطعمةً تختلف عما تختزنه ذهنيتك، وهنا تنتقل من حال ذوقية وحال نفسية غير ما كنت تألفه، وهذا يفسر معنى أن السفر تغيير جذري ينقلك من كون إلى كون، وهنا يحدث ما نسميه بالاستجمام حيث تستجم النفس وتغتسل من إرهاقها وتعبها ولهذا مفعول كبير على النفس البشرية ليس في كسب خبرة جديدة فحسب، بل للتخلص من خبرة قديمة أو ستكون قديمة كلما تعمقت الخبرة الجديدة، وسيتلو ذلك تغيرات عميقة في الذوق نفسه مع الأطعمة ومع اللغة حتى الأطعمة المعتادة لك واللغة التي هي لغتك الأصلية.
ستتحولان لأحوال أخرى تبعاً لقوة التجارب الجديدة وستحب أطعمةً لم تكن تتصور أنك ستحبها كمثل تذوقنا للهمبورجر وهو مثال واضح جداً، حيث يعجبنا طعام لم يكن ليعجبنا قط لو حكمنا عليه وفق ذائقتنا الأم. ومثله التغيرات التي تدخل على خطابنا بصيغ ومجازات لم تكن ضمن ذهنيتنا قبل تعرضنا لخبرة عميقة مع لغة لم تكن لغتنا، ومثل هذا سيحدث للمعقولات التي تترسخ عندنا حسب خبراتنا الذاتية مع الحياة والظروف وشروط الواقع على أن تغير المعقولات تبعاً لتغير الخبرات سيكون مثل تغير خبرة الطعام المختلف واللغة المختلفة ومعها كلها يتغير الذوق والوجدان فنتذوق الأغاني والأشعار والمجازات الجديدة، وبالتالي ستتذوق معقولات غير معقولاتك السابقة، مما يعني أن العقل البشري مثله مثل الذوق البشري يتغير باستمرار رغم ظنوننا بترسخ معقولاتنا وأنها هي المتحكم بالمتغيرات، غير أن الواقع يظل يؤكد أن المتغيرات تغير المعقولات بمقدار قوة وإغرائية المتغير، ولذا فعقولنا متغيرة وأحكامها متغيرة تماماً كتغير المذاقات والتفضيلات الشعورية والحسية. على أن الذوق سلطان لا نستطيع عصيانه أو قمعه لذا تطرب النفوس لأشياء دون أشياء وكل ذلك خارج توجيهنا أو تحكمنا. كما أن المعقولات تتغير أيضاً بشروطها الخاصة.
ماهيَّةُ الفلسفةِ عند أنطونيو غرامشي
عندما يتحدث غرامشي عن المعرفة، فهو يفرِّق بين ثلاث مستويات هي : الفلسفة ، الدّين ، الحسّ المشترك أو الفلكلور. و يرى بأن الفلسفة نظام فكري، أما الدّين و الحس المشترك ؛ فلا يمكن أن يكونا كذلك.
جعل غرامشي الحس المشترك عنواناً للفكر العامّي المكوَّن من خليط كثيف من الأفكار والشوائب التاريخية غير المرتبة.
في مقابل الفلسفة التي تُعتبَر "حسّ سليم" أعلى قيمة و أكثر تعقيداً.
لقد لعِب الدّين لفترة طويلة دور الإيديولوجيا الموحِّدة للحياة الاجتماعية، فالكنيسة الكاثوليكية مثلاً، لا تزال توحِّد الكتلة الاجتماعية للمؤمنين، بل حتى أنها منعت ظهور دين للنخبة وآخر للعامة، وأبقت على رؤية للعالم موحدة، يتشارك فيها أعلى الهرم مع أسفله وظل هناك دين رسمي واحد. ووجب على الفلسفة أن تنحى هذا المنحى الذي لا تنفصل فيه القاعدة عن القمة، وأن تجعل من نفسها خادمة للحياة الاجتماعية، بتخلصها من طابعها الفردي الخالص.
ولا يعني ذلك أن تتحول الفلسفة إلى "حسّ مشترك" بل أن تتخذ من النقد سبيلاً للوصول إلى "حسّ سليم" ذلك أن تاريخ الفلسفة حمل على الدوام مهمة النقد، والنقد ينبع من القدرة على التفكير بطرق مختلفة، ومن النظر للأمور بطريقة مغايرة، كما أن وعي الإنسان الذاتي وصراعه من أجل إثبات الذات، يعتبر جزء من العملية. فعبر النقد الذاتي تطمح الفلسفة لإخراج الجماهير من سلبية الحس المشترك، وترشدهم إلى رؤية أرقى للحياة.
لقد تصوَّر غرامشي الفلسفة كإمكانية مُتاحة لكل الناس وليست تأملاً ميتافيزيقياً، فطالبها بالانخراط في اليومي وتعقيداته ، وهو بذلك ينحو منحى الطرح الماركسي، الذي رأى النشاط الفلسفي تفكيراً نقدياً مرتبطاً بالواقع، له الصلة الوثيقة بالممارسة السياسية فيحرِّك الوعي العمالي نحو الثورة.
و هكذا فالفلسفة عند غرامشي مُعطى ممكن لكل إنسان وليست كما يظن الكثيرين أنها حِكراً على فئة معينة من النخب، فالفلسفة عنده تفكير عفوي موجود لدى كل الناس، مادام أن لكل إنسان رؤية للكون والحياة. وفي الوقت ذاته يعتبر غرامشي وجود الأرضية الفلسفية عند العامة، فاتحة إلى خطوة تحضيرية ثانية هي " الوعي النقدي".
الفلسفة الغربية المعاصرة ( صناعة العقل الغربي ) ، مجموعة من الأكاديميين العرب ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ، ٢٠١٣.
عندما يتحدث غرامشي عن المعرفة، فهو يفرِّق بين ثلاث مستويات هي : الفلسفة ، الدّين ، الحسّ المشترك أو الفلكلور. و يرى بأن الفلسفة نظام فكري، أما الدّين و الحس المشترك ؛ فلا يمكن أن يكونا كذلك.
جعل غرامشي الحس المشترك عنواناً للفكر العامّي المكوَّن من خليط كثيف من الأفكار والشوائب التاريخية غير المرتبة.
في مقابل الفلسفة التي تُعتبَر "حسّ سليم" أعلى قيمة و أكثر تعقيداً.
لقد لعِب الدّين لفترة طويلة دور الإيديولوجيا الموحِّدة للحياة الاجتماعية، فالكنيسة الكاثوليكية مثلاً، لا تزال توحِّد الكتلة الاجتماعية للمؤمنين، بل حتى أنها منعت ظهور دين للنخبة وآخر للعامة، وأبقت على رؤية للعالم موحدة، يتشارك فيها أعلى الهرم مع أسفله وظل هناك دين رسمي واحد. ووجب على الفلسفة أن تنحى هذا المنحى الذي لا تنفصل فيه القاعدة عن القمة، وأن تجعل من نفسها خادمة للحياة الاجتماعية، بتخلصها من طابعها الفردي الخالص.
ولا يعني ذلك أن تتحول الفلسفة إلى "حسّ مشترك" بل أن تتخذ من النقد سبيلاً للوصول إلى "حسّ سليم" ذلك أن تاريخ الفلسفة حمل على الدوام مهمة النقد، والنقد ينبع من القدرة على التفكير بطرق مختلفة، ومن النظر للأمور بطريقة مغايرة، كما أن وعي الإنسان الذاتي وصراعه من أجل إثبات الذات، يعتبر جزء من العملية. فعبر النقد الذاتي تطمح الفلسفة لإخراج الجماهير من سلبية الحس المشترك، وترشدهم إلى رؤية أرقى للحياة.
لقد تصوَّر غرامشي الفلسفة كإمكانية مُتاحة لكل الناس وليست تأملاً ميتافيزيقياً، فطالبها بالانخراط في اليومي وتعقيداته ، وهو بذلك ينحو منحى الطرح الماركسي، الذي رأى النشاط الفلسفي تفكيراً نقدياً مرتبطاً بالواقع، له الصلة الوثيقة بالممارسة السياسية فيحرِّك الوعي العمالي نحو الثورة.
و هكذا فالفلسفة عند غرامشي مُعطى ممكن لكل إنسان وليست كما يظن الكثيرين أنها حِكراً على فئة معينة من النخب، فالفلسفة عنده تفكير عفوي موجود لدى كل الناس، مادام أن لكل إنسان رؤية للكون والحياة. وفي الوقت ذاته يعتبر غرامشي وجود الأرضية الفلسفية عند العامة، فاتحة إلى خطوة تحضيرية ثانية هي " الوعي النقدي".
الفلسفة الغربية المعاصرة ( صناعة العقل الغربي ) ، مجموعة من الأكاديميين العرب ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ، ٢٠١٣.
حسن حنفي ينعى نفسه
من كتاب: "ذكريات: ١٩٣٥–٢٠١٨م"
توفي الفيلسوف والمفكر حسن حنفي بالأمس ولكن ذكرياته وكتبه وأفكاره ما زالت وستبقى حية..
(...) والآن وقد اكتمل المشروع، وقاربت حياتي على الانتهاء؛ ولم يَبقَ لي إلا هيجل واليسار الهيجلي أو الهيجليين الشبان؛ لبيان أهمية هذه الفترة من الفلسفة الغربية؛ فقد استطاع هيجل أن يُحوِّل الدين إلى فكر، والعقائد إلى حياة؛ فالتثليث هو الجدل الهيجلي، والتجسُّد هو الروح في التاريخ، والمُطلَق في الدولة. والدين والمثالية قرينان منذ كانط، وهيجل في النهاية هو أحد تلاميذه جمع بين كتبه النقدية الثلاثة، نقد العقل النظري، ونقد العقل العملي، ونقد ملَكَة الحكم في عقلٍ واحد، لا يُفرِّق بين الظاهر والشيء في ذاته؛ فالعقل والغائية في التاريخ؛ فالماركسية هي التطوُّر الطبيعي للدين، من العقائدية إلى المثالية إلى الإنسانية إلى الواقعية الاجتماعية. ولا فرق بين الإيمان بالمسيحية والإيمان بهيجل؛ فهيجل هو المسيحية العاقلة، والمسيحية المثالية هي هيجل التاريخي. ثم جاء تلاميذه ونقَدوا مِثاليَّته، مثالية الأستاذ والتي لا فرق بينها وبين الدين المسيحي؛ فالحقيقة تحت المثالية في الواقع، في المجتمع وحياة الناس، الفرد عند شترنر، والوعي الذاتي عند باور، والإنسان عند فيورباخ. ثم جاء تلميذ آخر، كارل ماركس، فنقد التلاميذ، العائلة المُقدَّسة؛ فهم ما زالوا مثاليِّين مثل الأستاذ. أمَّا الحقيقة لدَيه فهي الحياة المادية، الصراع بين الفقراء والأغنياء، بين من لا يملكون ومن يملكون، بين الحرية والاستعباد.
وكان بِودِّي أن أُنجِز تفصيلاتٍ لما تركتُه عامًّا مثل «مقدمة في علم الاستغراب»؛ فالإعلان عن كونه مقدمة يُوحي بأن أجزاءً أخرى ستأتي؛ فقد أُعلن في مشروع «التراث والتجديد» أن موقفنا من التراث الغربي وهو علم الاستغراب يشمل ثلاثة أجزاء: الأول، مصادر الوعي الأوروبي خاصة المصادر الأفريقية والآسيوية كما فعل مارتن برنال في الجزء الأول من «أثينا السوداء» لتحليل المصدر الأفريقي للحضارة الأوروبية. والثاني، تكوين الوعي الأوروبي؛ أي مراحله القديمة اليونانية والرومانية، الوسطى المسيحية، الحديثة في عصر الحداثة، وبالتوثيق اللازم كما فعلتُ في «موقفنا من التراث القديم». وكان هذا يحتاج عمرًا جديدًا لا أملكه، وعوضًا عن ذلك ساندتُه ببعض الترجمات مثل «نماذج من المسيحية في العصر الوسيط» والجزء الثاني من «قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر»، و«دراسات فلسفية»، كما ساندتُه ببعض الترجمات مثل «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإسبينوزا، و«تربية الجنس البشري» للسنج، و«تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر؛ حيث يضع التقابل بين «الأنا أفكر» Cogito في بداية عصر الحداثة و«الأنا موجود» Ego في نهايته أو ما أسماه هوسرل الكوجيتاتوم Cogitatum؛ فالأنا ذاتٌ وموضوع، وبينهما إحالةٌ متبادلة.
1
من كتاب: "ذكريات: ١٩٣٥–٢٠١٨م"
(...) والآن وقد اكتمل المشروع، وقاربت حياتي على الانتهاء؛ ولم يَبقَ لي إلا هيجل واليسار الهيجلي أو الهيجليين الشبان؛ لبيان أهمية هذه الفترة من الفلسفة الغربية؛ فقد استطاع هيجل أن يُحوِّل الدين إلى فكر، والعقائد إلى حياة؛ فالتثليث هو الجدل الهيجلي، والتجسُّد هو الروح في التاريخ، والمُطلَق في الدولة. والدين والمثالية قرينان منذ كانط، وهيجل في النهاية هو أحد تلاميذه جمع بين كتبه النقدية الثلاثة، نقد العقل النظري، ونقد العقل العملي، ونقد ملَكَة الحكم في عقلٍ واحد، لا يُفرِّق بين الظاهر والشيء في ذاته؛ فالعقل والغائية في التاريخ؛ فالماركسية هي التطوُّر الطبيعي للدين، من العقائدية إلى المثالية إلى الإنسانية إلى الواقعية الاجتماعية. ولا فرق بين الإيمان بالمسيحية والإيمان بهيجل؛ فهيجل هو المسيحية العاقلة، والمسيحية المثالية هي هيجل التاريخي. ثم جاء تلاميذه ونقَدوا مِثاليَّته، مثالية الأستاذ والتي لا فرق بينها وبين الدين المسيحي؛ فالحقيقة تحت المثالية في الواقع، في المجتمع وحياة الناس، الفرد عند شترنر، والوعي الذاتي عند باور، والإنسان عند فيورباخ. ثم جاء تلميذ آخر، كارل ماركس، فنقد التلاميذ، العائلة المُقدَّسة؛ فهم ما زالوا مثاليِّين مثل الأستاذ. أمَّا الحقيقة لدَيه فهي الحياة المادية، الصراع بين الفقراء والأغنياء، بين من لا يملكون ومن يملكون، بين الحرية والاستعباد.
وكان بِودِّي أن أُنجِز تفصيلاتٍ لما تركتُه عامًّا مثل «مقدمة في علم الاستغراب»؛ فالإعلان عن كونه مقدمة يُوحي بأن أجزاءً أخرى ستأتي؛ فقد أُعلن في مشروع «التراث والتجديد» أن موقفنا من التراث الغربي وهو علم الاستغراب يشمل ثلاثة أجزاء: الأول، مصادر الوعي الأوروبي خاصة المصادر الأفريقية والآسيوية كما فعل مارتن برنال في الجزء الأول من «أثينا السوداء» لتحليل المصدر الأفريقي للحضارة الأوروبية. والثاني، تكوين الوعي الأوروبي؛ أي مراحله القديمة اليونانية والرومانية، الوسطى المسيحية، الحديثة في عصر الحداثة، وبالتوثيق اللازم كما فعلتُ في «موقفنا من التراث القديم». وكان هذا يحتاج عمرًا جديدًا لا أملكه، وعوضًا عن ذلك ساندتُه ببعض الترجمات مثل «نماذج من المسيحية في العصر الوسيط» والجزء الثاني من «قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر»، و«دراسات فلسفية»، كما ساندتُه ببعض الترجمات مثل «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإسبينوزا، و«تربية الجنس البشري» للسنج، و«تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر؛ حيث يضع التقابل بين «الأنا أفكر» Cogito في بداية عصر الحداثة و«الأنا موجود» Ego في نهايته أو ما أسماه هوسرل الكوجيتاتوم Cogitatum؛ فالأنا ذاتٌ وموضوع، وبينهما إحالةٌ متبادلة.
1
ولو امتدَّ بي العمر لَنقلتُ إلى العربية «جوهر المسيحية» لِفيورباخ حيث يُحوِّل فيه الثيولوجيا إلى أنثربولوجيا، وذلك لِمساندةِ مُحاولاتِ المُعاصرِين بمشروعٍ مُشابهٍ داخل الحضارة الإسلامية، وكتابيَّ الأخيرَين عن «برجسون، فيلسوف الحياة»، «فشته، فيلسوف المقاومة». وكان بِودِّي الكتابة عن فلاسفة الحياة، ليس بالضرورة كُتبًا، ولكن يكفي المقالات العلمية كما كُنتُ أفعل في بداية حياتي العلمية الفلسفية في «الفكر المعاصر» و«تراث الإنسانية» و«الكاتب» و«المجلة». وقد جُمِعَت فيما بعدُ في «قضايا معاصرة» (جزءان)؛ الأول «في الفكر العربي المعاصر»، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، وأيضًا في «هموم الفكر والوطن» (جزءان). كُنتُ أَوَدُّ أن أكتُب عن فلاسفة الحياة الذين أتَوا لِيملَئوا الفراغ بين العقليِّين والحسيِّين مثل دريش Driesch، دلتاي Dilthey، جويو Guyau، فوييه Fouillée، ثم فلاسفة الشخصانية مثل مونييه بعد أن قدمها محمد عزيز لحبابي في المغرب باسم الشخصانية، وهو مؤسس مجلة «روح» Espirit مع بول ريكير، ويُمثِّل اليسار المسيحي. كما كُنتُ أود الكتابة عن فلاسفة الوجود مثل هيدجر، وياسبرز، ومارسيل، وميرلوبونتي. وكُنتُ أوَدُّ الكتابة عن أورتيجا إي جاسيه بعد أن كتبتُ عن «ثورة الجماهير»، ونيتشه فيلسوف القوة والعدَم بعد أن قدَّمه فؤاد زكريا.
كُنتُ أَوَدُّ أن أُنشِّط اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية، كما فعلتُ مع الجمعية الفلسفية المصرية، وبعد الاجتماع الأَوَّل، بَدأَت الصعوبات؛ أَوَّلها عدم وجود جمعياتٍ فلسفية إلا في تونس والمغرب والأردن ولبنان، وعدم وجود التمويل اللازم لِنفقات سفَر الأعضاء أو الإقامة، وعدم وجود النية الصادقة والحماس اللازم للعمل الجماعي. وكنتُ أَودُّ أن أُحوِّل قسم الفلسفة عندنا إلى مركزٍ للتفلسف، وخَلْق مدارسَ فلسفيةٍ يُحاوِر بعضها بعضًا، بدلًا من الخصام والتوتُّر والمقاطعة بين الأساتذة. كما كُنتُ أَوَدُّ أن أجمع أقسام الفلسفة في مصر في مؤتمرٍ سنويٍّ من خلال الجمعية الفلسفية المصرية أو بدونها بدلًا من هذا التشتُّت الذي جعل بعضنا لا يعرف البعض الآخر. كُنتُ أود أن أضع لكل قسمٍ خطَّة بحثٍ علميٍّ للماجستير والدكتوراه بدلًا من الاختيار العشوائي والمُكرَّر. وكنتُ أَوَدُّ أن يظهر أثَر هذه الرسائل في الواقع المُعاش حتى لا يكون مكانها مُجرَّد وضعها على الرفوف؛ فالفلسفة ليست بأقلَّ أثَرًا من الأدب، بل إن استمرار غالبية المؤتمرات السنوية في جامعة القاهرة بدأ يشُقُّ على النفس، وتظُن باقي أقسام الفلسفة أنها استكبارٌ بالقاهرة على باقي المدن. ولم تتَردَّد الجمعية الفلسفية المصرية ولا كلية الآداب في أن تستضيفها إحدى الجامعات المؤتمر السنوي تدعيمًا لنشاطها كما فعلَت جامعة الإسكندرية، وجامعة بني سويف، وجامعة المنيا، وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وما زال الباب مفتوحًا للجميع، وإلا فإن قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة يُشرِّفه أن يكون بؤرة النشاط الفلسفي في مصر والوطن العربي والجامعات العربية.
2
كُنتُ أَوَدُّ أن أُنشِّط اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية، كما فعلتُ مع الجمعية الفلسفية المصرية، وبعد الاجتماع الأَوَّل، بَدأَت الصعوبات؛ أَوَّلها عدم وجود جمعياتٍ فلسفية إلا في تونس والمغرب والأردن ولبنان، وعدم وجود التمويل اللازم لِنفقات سفَر الأعضاء أو الإقامة، وعدم وجود النية الصادقة والحماس اللازم للعمل الجماعي. وكنتُ أَودُّ أن أُحوِّل قسم الفلسفة عندنا إلى مركزٍ للتفلسف، وخَلْق مدارسَ فلسفيةٍ يُحاوِر بعضها بعضًا، بدلًا من الخصام والتوتُّر والمقاطعة بين الأساتذة. كما كُنتُ أَوَدُّ أن أجمع أقسام الفلسفة في مصر في مؤتمرٍ سنويٍّ من خلال الجمعية الفلسفية المصرية أو بدونها بدلًا من هذا التشتُّت الذي جعل بعضنا لا يعرف البعض الآخر. كُنتُ أود أن أضع لكل قسمٍ خطَّة بحثٍ علميٍّ للماجستير والدكتوراه بدلًا من الاختيار العشوائي والمُكرَّر. وكنتُ أَوَدُّ أن يظهر أثَر هذه الرسائل في الواقع المُعاش حتى لا يكون مكانها مُجرَّد وضعها على الرفوف؛ فالفلسفة ليست بأقلَّ أثَرًا من الأدب، بل إن استمرار غالبية المؤتمرات السنوية في جامعة القاهرة بدأ يشُقُّ على النفس، وتظُن باقي أقسام الفلسفة أنها استكبارٌ بالقاهرة على باقي المدن. ولم تتَردَّد الجمعية الفلسفية المصرية ولا كلية الآداب في أن تستضيفها إحدى الجامعات المؤتمر السنوي تدعيمًا لنشاطها كما فعلَت جامعة الإسكندرية، وجامعة بني سويف، وجامعة المنيا، وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وما زال الباب مفتوحًا للجميع، وإلا فإن قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة يُشرِّفه أن يكون بؤرة النشاط الفلسفي في مصر والوطن العربي والجامعات العربية.
2
كنتُ أَوَدُّ أن أقرأ أكثر وأكتُب أَقلَّ خاصة من مكتبتي الزاخرة بكل فروع الفلسفة، تاريخها اليوناني والروماني والوسيط والحديث والمعاصر، والفكر الشرقي القديم وفلسفة الدين، والفلسفة العامة وفلسفة الفن، وباقي العلوم الإنسانية، المنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع. كنتُ أَوَدُّ إكمال ثقافتي في الفلسفة السياسية وأن أقرأ العلوم السياسية والاقتصادية. وكنتُ أَوَدُّ أن أُكمِل ثقافتي في تاريخ مصر وتاريخ العرب الثقافي. وكنتُ أَوَدُّ إكمال ثقافتي للعالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكُنتُ أود الكتابة عن «أمريكا، الأسطورة والحقيقة» بعد أن أعددتُ مراجعها ولم ينقُصْني إلا الوقت والناشر الجيد. كنتُ أَوَدُّ أن تُجمع مُؤلَّفاتي في دارِ نشرٍ واحدة، أعمالًا كاملةً أم مُجزَّأةً حتى يَسهُل الحصول عليها كما هو الحال مع أعمال الجابري الموجودة في مركز دراسات الوحدة العربية؛ فقد تناثَرَت دراساتي بين دار الفكر العربي، دار الكتب الجامعية، الهيئة العامة للكتاب، دار عين، مركز الكتاب للنشر، مدبولي، الأنجلو المصرية، مركز الكتاب المصري الحديث، وغريب، وقد طبَعتُ على نفقَتي الخاصة منعًا لهذا التشتُّت ظانًّا أن ذلك يجمع المُؤلَّفات في مكانٍ واحد مثل: «الحكومة الإسلامية»، «جهاد النفس»، «اليسار الإسلامي»، «من النقل إلى العقل»، الجُزءان الرابع: «علوم التفسير»، والخامس: «علوم الفقه»، و«محمد إقبال»، «من النص إلى الواقع»، «وطن بلا صاحب». وما زلتُ أنوي طباعة «هيجل واليسار الهيجلي»، «ذكريات» على نفقَتي الخاصة؛ فأنا لم أعُد قادرًا نفسيًّا على التسوُّل أمام أبواب الناشرِين، بل هم الذين يأتون إليَّ سائلِين. وكيف لي أن أستمر في التعامل مع رجالٍ أو نساءٍ لا هَمَّ لهم سوى الربح، ولا شأن لهم بالثقافة الجادة ونَشرِها؟ لقد انتهى العصر الذي تم فيه تكوين اللجنة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر التي أَسَّسها زكي نجيب محمود وأحمد أمين وثالثٌ لا أذكره، ولم تستطع الهيئة العامة للكتاب أن ترثها؛ فقد تغيَّر عصر الثقافة إلى عصر التجارة.
كنتُ أتمنَّى ألا يُعادِيَني أَحدٌ في القسم غَيرةً أو حسَدًا يتحولان إلى كراهيةٍ مستمرة وعداوةٍ ظاهرة. لم أفعل شيئًا يضُر أو يؤذي أحدًا، بل كنت طيِّبًا وكريمًا مع الكل، إلا أن الأهواء البشرية كثيرًا ما تطغى على طيبة القلب وصفائه، والأخطر من ذلك تكوين محورٍ ضِدِّي في مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب، فتبطُل قراراته. وكانتِ العداوة تَظهَر في اللجان المشتركة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدِين من أجل تكوين محورٍ معادٍ للمُتقدِّم أو في صفِّه بِغضِّ النظر عن الأعمال العلمية وتقييمها. وفي إحدى جلسات المجلس الأعلى للثقافة عندما قرَّرتُ مناقشة كتابي عن «فشته فيلسوف المقاومة» ووُزِّع الكتاب على أعضاء اللجنة، أخذ أحد الأعضاء الحاسِدِين النسخة ورماها أمامه، وكان يبيع كتبه المُقرَّرة على معظم الجامعات التي يُنتدب إليها، ويُوزِّع الدرجات العلمية، الماجستير والدكتوراه، على الأصدقاء بتسجيلها في الجامعات الإقليمية التي يدور عليها، ولمَّا نِلتُ جائزة الدولة التقديرية عام ٢٠٠٧م سعى بالواسطة إلى أن ينالها هو الآخر. ونجح في ذلك، وقضى نحبه وهو خارج من أحد معاهد التدريس.
3
كنتُ أتمنَّى ألا يُعادِيَني أَحدٌ في القسم غَيرةً أو حسَدًا يتحولان إلى كراهيةٍ مستمرة وعداوةٍ ظاهرة. لم أفعل شيئًا يضُر أو يؤذي أحدًا، بل كنت طيِّبًا وكريمًا مع الكل، إلا أن الأهواء البشرية كثيرًا ما تطغى على طيبة القلب وصفائه، والأخطر من ذلك تكوين محورٍ ضِدِّي في مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب، فتبطُل قراراته. وكانتِ العداوة تَظهَر في اللجان المشتركة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدِين من أجل تكوين محورٍ معادٍ للمُتقدِّم أو في صفِّه بِغضِّ النظر عن الأعمال العلمية وتقييمها. وفي إحدى جلسات المجلس الأعلى للثقافة عندما قرَّرتُ مناقشة كتابي عن «فشته فيلسوف المقاومة» ووُزِّع الكتاب على أعضاء اللجنة، أخذ أحد الأعضاء الحاسِدِين النسخة ورماها أمامه، وكان يبيع كتبه المُقرَّرة على معظم الجامعات التي يُنتدب إليها، ويُوزِّع الدرجات العلمية، الماجستير والدكتوراه، على الأصدقاء بتسجيلها في الجامعات الإقليمية التي يدور عليها، ولمَّا نِلتُ جائزة الدولة التقديرية عام ٢٠٠٧م سعى بالواسطة إلى أن ينالها هو الآخر. ونجح في ذلك، وقضى نحبه وهو خارج من أحد معاهد التدريس.
3
أتمنى أن أعيش لكي أرى الجامعة وقد عادت إلى مركز البحث العلمي، بعد أن تحوَّلَت إلى معهدٍ لإعطاء الدرجات بالمصروفات بعد أن طبَّقَت النظام الأمريكي، الساعات المعتمدة وإعطاء A B C D E، فأصبح هَمُّ الطالب الحصول على الدرجات، وكتابة رسالةٍ صغيرةٍ مادتها من الإنترنت، ووضع مئات المراجع في آخرها وهو لم يقرأها. وأصبح هم الأستاذ يبيع الكُتب المُقرَّرة ليس فقط في مرحلة الليسانس بل أيضًا في مرحلة الدراسات العليا. وشاركَتِ الجامعة كوسيطٍ تجاري بين الأستاذ والطالب، تشتري المُقرَّر من الأستاذ، وتطبعه وتبيعه للطالب فيما يُسمَّى بنظام «التعليم المفتوح» الذي لا يتعلَّم فيه شيئًا منه، لا منهجًا ولا موضوعًا، بل يحفظ الكتب التي اشتراها بآلاف الجنيهات، ويدفع فيه الطالب العربي عشرات الآلاف؛ كل ذلك من أجل الحصول على الدرجة العلمية التي لا تُؤهِّل لأية وظيفةٍ أو مهنةٍ بل تزيد أعداد العاطلِين. كُنتُ أُريدها جامعة أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرازق وأمين الخولي، أساتذة لِمدارسَ علمية، يجمعون بين العلم والفكر، بين هموم الفكر وهموم الوطن.
كنتُ أتمنى أن أكون أكثر نشاطًا في العمل العام، وأكثر فاعليةً في تضحياته، ولا أكتفي بالعمل العلمي في «التراث والتجديد» أو العمل الثقافي: في «قضايا معاصرة»، «هموم الفكر والوطن»، «حصار الزمن»، «حوار الأجيال»، «دراسات فلسفية»، «دراسات إسلامية»، ولا بالثقافة السياسية الشعبية مثل «الدين والثورة»، «من منهاتن إلى بغداد»، «جذور التسلُّط آفاق الحرية»، «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى»، «الواقع العربي المعاصر»، «نظرية الدوائر الثلاث»، ولا أكتفي بانضمامي إلى الإخوان المُسلمِين في الخمسينيات أو بحزبٍ يساريٍّ «التجمُّع» في السبعينيات، ولا اكتفائي بالتنظير السياسي في «اليسار الإسلامي» في الثمانينيات. وتأتيني الآن خطاباتٌ عديدة من تياراتٍ مجهولة كي أكون عضوًا مؤسِّسًا فيها مثل الحزب الشيوعي المصري، وحركة شباب الإخوان، فأَرُدُّ بالاعتذار لِكِبَر السن، واكتفائي بالعمل النظري. و«اليسار الإسلامي» ما زال ضعيفًا على مستوى الممارسة العملية، وإن كان موجودًا في حزب النهضة في تونس وحزب الاستقلال والتنمية في المغرب وفي تركيا، وهو موجودٌ أيضًا في رؤية ماليزيا وإندونيسيا.
4
كنتُ أتمنى أن أكون أكثر نشاطًا في العمل العام، وأكثر فاعليةً في تضحياته، ولا أكتفي بالعمل العلمي في «التراث والتجديد» أو العمل الثقافي: في «قضايا معاصرة»، «هموم الفكر والوطن»، «حصار الزمن»، «حوار الأجيال»، «دراسات فلسفية»، «دراسات إسلامية»، ولا بالثقافة السياسية الشعبية مثل «الدين والثورة»، «من منهاتن إلى بغداد»، «جذور التسلُّط آفاق الحرية»، «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى»، «الواقع العربي المعاصر»، «نظرية الدوائر الثلاث»، ولا أكتفي بانضمامي إلى الإخوان المُسلمِين في الخمسينيات أو بحزبٍ يساريٍّ «التجمُّع» في السبعينيات، ولا اكتفائي بالتنظير السياسي في «اليسار الإسلامي» في الثمانينيات. وتأتيني الآن خطاباتٌ عديدة من تياراتٍ مجهولة كي أكون عضوًا مؤسِّسًا فيها مثل الحزب الشيوعي المصري، وحركة شباب الإخوان، فأَرُدُّ بالاعتذار لِكِبَر السن، واكتفائي بالعمل النظري. و«اليسار الإسلامي» ما زال ضعيفًا على مستوى الممارسة العملية، وإن كان موجودًا في حزب النهضة في تونس وحزب الاستقلال والتنمية في المغرب وفي تركيا، وهو موجودٌ أيضًا في رؤية ماليزيا وإندونيسيا.
4
👍1
والأهَمُّ من ذلك أنه موجودٌ في قلوب الناس وتمنياتهم بدلًا من صراع التيَّارَين الإسلامي واليساري على السلطة التي يستولي عليها العسكريون.
كنتُ أتمنَّى أن تُحكم مصر حكمًا ائتلافيًّا بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد؛ الإسلامية (الإخوان)، والقومية (الناصريون)، والليبرالية (الوفد)، واليسارية (الماركسيون) من أجل خلق برنامجٍ سياسيٍّ وطنيٍّ مُوحَّد للقضاء على المشاكل الاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان مثل: التحرُّر الوطني، والحرية الفردية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، والهُوية، وحشد الجماهير؛ فما زالت مصر تُحكَم في عصرها الحديث بِطرفٍ واحد قبل الثورات العسكرية أو بعدها، إمَّا الوفديون أو العسكريون، إمَّا العسكريون أو الإسلاميون، إمَّا قريش وإمَّا الجيش. أحدهما وطني، والآخر خائن. أحدهما ناجٍ، والآخر هالك. فهل الحقيقة واحدةٌ يمتلكها فردٌ واحد أم هي وجهاتُ نظر لأفرادٍ مُتعدِّدِين، والحقيقة افتراضٌ نظري يعمل عليه الجميع؟
كنت أتمنى أن تكون مصر كما كانت في الستينيات زعيمةً للأمة العربية وقائدةً لنهضتها القومية والاشتراكية، قادرةً على تجميعها، وتُكوِّن العالم حولها، كما فعلت في تكوين دول عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ودول العالم الثالث، والشعوب الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، تكون لها الأغلبية في الأمم المتحدة، ولا يجرؤ أحد على المساسِ بها أو غَزوِها أو تكوينِ قواعدَ عسكريةٍ فيها أو إدخالها في أحلافٍ مثل حلف بغداد أو حلف القاهرة والرياض وتل أبيب أو صفقة أو صفعة القرن التي يتم تنفيذها الآن بعد تغيير اسم الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير تكون إسرائيل مركزه بديلًا عن مصر. وكما كنا في الستينيات بؤرةً للعالم الثالث مركزه مصر والهند ويوغسلافيا، ناصر ونهرو وتيتو، نكون الآن بؤرةً لتحالُفٍ جديدٍ بين مصر وتركيا وإيران، نملأ الفراغ في الشرق الأوسط بدلًا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي تملؤه أمريكا وإسرائيل، فلا نَخسَر دولتَين لنا معهما إرثٌ ثقافي وسياسي مشترك بسبب وجود الإخوان في تركيا والثورة الإسلامية في إيران، فيعود الخيال السياسي ليتحرك في مصر بدلًا من أن تظل يدُها ممدودةً غربًا وشرقًا كي تعيش. تركتِ العراق مُجزَّأة، وسوريا مُدمَّرة، وليبيا متقاتلة، واليمن مُشتَّتة الصف. وقد تُوفِّي عبد الناصر وهو يُصالِح الأردن مع المقاومة الفلسطينية من كثرة الإجهاد للذهاب للمطار لاستقبال الرؤساء وتوديعهم، بدلًا من أن يذهب رئيس أكبر دولةٍ عربية لاستقبال ولي عهد دولةٍ عربية أخرى مُخالِفًا قواعد البروتوكول السياسي.
5
كنتُ أتمنَّى أن تُحكم مصر حكمًا ائتلافيًّا بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد؛ الإسلامية (الإخوان)، والقومية (الناصريون)، والليبرالية (الوفد)، واليسارية (الماركسيون) من أجل خلق برنامجٍ سياسيٍّ وطنيٍّ مُوحَّد للقضاء على المشاكل الاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان مثل: التحرُّر الوطني، والحرية الفردية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، والهُوية، وحشد الجماهير؛ فما زالت مصر تُحكَم في عصرها الحديث بِطرفٍ واحد قبل الثورات العسكرية أو بعدها، إمَّا الوفديون أو العسكريون، إمَّا العسكريون أو الإسلاميون، إمَّا قريش وإمَّا الجيش. أحدهما وطني، والآخر خائن. أحدهما ناجٍ، والآخر هالك. فهل الحقيقة واحدةٌ يمتلكها فردٌ واحد أم هي وجهاتُ نظر لأفرادٍ مُتعدِّدِين، والحقيقة افتراضٌ نظري يعمل عليه الجميع؟
كنت أتمنى أن تكون مصر كما كانت في الستينيات زعيمةً للأمة العربية وقائدةً لنهضتها القومية والاشتراكية، قادرةً على تجميعها، وتُكوِّن العالم حولها، كما فعلت في تكوين دول عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ودول العالم الثالث، والشعوب الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، تكون لها الأغلبية في الأمم المتحدة، ولا يجرؤ أحد على المساسِ بها أو غَزوِها أو تكوينِ قواعدَ عسكريةٍ فيها أو إدخالها في أحلافٍ مثل حلف بغداد أو حلف القاهرة والرياض وتل أبيب أو صفقة أو صفعة القرن التي يتم تنفيذها الآن بعد تغيير اسم الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير تكون إسرائيل مركزه بديلًا عن مصر. وكما كنا في الستينيات بؤرةً للعالم الثالث مركزه مصر والهند ويوغسلافيا، ناصر ونهرو وتيتو، نكون الآن بؤرةً لتحالُفٍ جديدٍ بين مصر وتركيا وإيران، نملأ الفراغ في الشرق الأوسط بدلًا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي تملؤه أمريكا وإسرائيل، فلا نَخسَر دولتَين لنا معهما إرثٌ ثقافي وسياسي مشترك بسبب وجود الإخوان في تركيا والثورة الإسلامية في إيران، فيعود الخيال السياسي ليتحرك في مصر بدلًا من أن تظل يدُها ممدودةً غربًا وشرقًا كي تعيش. تركتِ العراق مُجزَّأة، وسوريا مُدمَّرة، وليبيا متقاتلة، واليمن مُشتَّتة الصف. وقد تُوفِّي عبد الناصر وهو يُصالِح الأردن مع المقاومة الفلسطينية من كثرة الإجهاد للذهاب للمطار لاستقبال الرؤساء وتوديعهم، بدلًا من أن يذهب رئيس أكبر دولةٍ عربية لاستقبال ولي عهد دولةٍ عربية أخرى مُخالِفًا قواعد البروتوكول السياسي.
5
تخلَّت مصر عن دورها المركزي في قلب الوطن العربي، فانهالت عليها الضربات من الشرق، روسيا، ومن الغرب، أمريكا، ومن الشرق، إيران، ومن الجنوب، الحبشة.
أَتمنَّى أن أعيش عامًا أو عامَين لِأُكمل «هيجل والهيجليون الشبان» (اليسار الهيجلي)؛ وبالتالي أكون قد أدَّيتُ مهمتي للفكر وللوطن، للجامعة والمجتمع. لا أغضب من أحد، وأسامح الجميع، وأشعر بالسيد المسيح في قلبي يدفعني إلى التسامُح والمحبة، عفا الله عما سلف، وأُحاوِل أن تنتشر هذه الروح في القسم؛ المصالحة. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. وضَعتُ وديعةً باسمي في الكلية للصرف من ريعها السنوي على النشاط العلمي للكلية والأقسام في إقامة ندواتٍ ومؤتمراتٍ حتى لا يعيش كل قسمٍ في عزلةٍ عن الآخر، وكلها تُدرِّس نفس الموضوع «اللغة»: اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية واليابانية والصينية، أو العلوم الإنسانية، علوم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، كما جَعَلتُ للأقسام ودائعَ أخرى، قسم اللغة العربية ذكرى لأخي سيد، وقسم الدراسات اليونانية واللاتينية الذي رشَّحني لجائزة الدولة التقديرية، وربما قسم الفلسفة الذي عِشتُ فيه أستاذًا خمسين عامًا منذ ١٩٦٦–٢٠١٨م، وقبلها أربع سنواتٍ أخرى طالبًا (١٩٥٢–١٩٥٦م)؛ لأنه لم يُرشِّحْني لأي شيء، ومن رشَّحَه القسم لم يَنَلْ إلا صوتًا واحدًا أو صوتَين في مجلس الكلية. ووَزَّعتُ الربع الأخير على عمَّال الكلية بالتساوي. واكتشفتُ بعد أن قرَّرَتِ الدولة التعامُل بالفيزا أن الفرق بين المُرتَّب والمعاش لم يصلني منذ هذا النظام؛ أي منذ أكثر من سنتَين. وحوَّلَتني الشئون المالية بالكلية إلى إدارة المعاشات في أول شارع الهرم لأن ذلك ليس من اختصاصهم. وذهبتُ مع سائق تاكسي حدثني عن صدقه وأَمانتِه ونسيان أحد أثرياء العرب لفَّةً بها الملايين من الجنيهات أو الدولارات لا أذكر، ووَجَد فيها بطاقته، وذهب إليه لِيُعطيه إياها، وعَرضَ عليه المكافأة الكبرى التي رفَضَها وطلَب فقط نسبته الشرعية وهي ١٠٪، وهو سائقُ لواءٍ بالجيش، ولا يعمل سائقًا، وقادرٌ على تصليح كل شيء؛ نجارة وحدادة وسباكة وكهرباء. ومكثتُ في إدارة المعاشات دقائقَ معدودةً لأن إدارتي في كوبري القبة، ورأيتُ سائق التاكسي في انتظاري مع أني لم أطلب منه ذلك، وأوصلني إلى مدينة نصر، وأعطيتُه ضعف الأجر لأنه بلا عدَّاد، وطلَب المزيد فأعطيتُه ما أراد. وطلَب بيتَه، وكان يتكلم في المحمول ولم يشعر أن العربة التي أمامه قد توقَّف صاحبها فجأةً لوجود مطبٍّ على الكوبري، فاصطَدمَت عربتُه بالعربة الخلفية.
6
أَتمنَّى أن أعيش عامًا أو عامَين لِأُكمل «هيجل والهيجليون الشبان» (اليسار الهيجلي)؛ وبالتالي أكون قد أدَّيتُ مهمتي للفكر وللوطن، للجامعة والمجتمع. لا أغضب من أحد، وأسامح الجميع، وأشعر بالسيد المسيح في قلبي يدفعني إلى التسامُح والمحبة، عفا الله عما سلف، وأُحاوِل أن تنتشر هذه الروح في القسم؛ المصالحة. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. وضَعتُ وديعةً باسمي في الكلية للصرف من ريعها السنوي على النشاط العلمي للكلية والأقسام في إقامة ندواتٍ ومؤتمراتٍ حتى لا يعيش كل قسمٍ في عزلةٍ عن الآخر، وكلها تُدرِّس نفس الموضوع «اللغة»: اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية واليابانية والصينية، أو العلوم الإنسانية، علوم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، كما جَعَلتُ للأقسام ودائعَ أخرى، قسم اللغة العربية ذكرى لأخي سيد، وقسم الدراسات اليونانية واللاتينية الذي رشَّحني لجائزة الدولة التقديرية، وربما قسم الفلسفة الذي عِشتُ فيه أستاذًا خمسين عامًا منذ ١٩٦٦–٢٠١٨م، وقبلها أربع سنواتٍ أخرى طالبًا (١٩٥٢–١٩٥٦م)؛ لأنه لم يُرشِّحْني لأي شيء، ومن رشَّحَه القسم لم يَنَلْ إلا صوتًا واحدًا أو صوتَين في مجلس الكلية. ووَزَّعتُ الربع الأخير على عمَّال الكلية بالتساوي. واكتشفتُ بعد أن قرَّرَتِ الدولة التعامُل بالفيزا أن الفرق بين المُرتَّب والمعاش لم يصلني منذ هذا النظام؛ أي منذ أكثر من سنتَين. وحوَّلَتني الشئون المالية بالكلية إلى إدارة المعاشات في أول شارع الهرم لأن ذلك ليس من اختصاصهم. وذهبتُ مع سائق تاكسي حدثني عن صدقه وأَمانتِه ونسيان أحد أثرياء العرب لفَّةً بها الملايين من الجنيهات أو الدولارات لا أذكر، ووَجَد فيها بطاقته، وذهب إليه لِيُعطيه إياها، وعَرضَ عليه المكافأة الكبرى التي رفَضَها وطلَب فقط نسبته الشرعية وهي ١٠٪، وهو سائقُ لواءٍ بالجيش، ولا يعمل سائقًا، وقادرٌ على تصليح كل شيء؛ نجارة وحدادة وسباكة وكهرباء. ومكثتُ في إدارة المعاشات دقائقَ معدودةً لأن إدارتي في كوبري القبة، ورأيتُ سائق التاكسي في انتظاري مع أني لم أطلب منه ذلك، وأوصلني إلى مدينة نصر، وأعطيتُه ضعف الأجر لأنه بلا عدَّاد، وطلَب المزيد فأعطيتُه ما أراد. وطلَب بيتَه، وكان يتكلم في المحمول ولم يشعر أن العربة التي أمامه قد توقَّف صاحبها فجأةً لوجود مطبٍّ على الكوبري، فاصطَدمَت عربتُه بالعربة الخلفية.
6
وإلى الآن ما زالت الإدارة المالية تُحيل من يذهب إليها بخصوصي إلى المعاشات مع أن المعاش يُحوَّل إليَّ عن طريق البنك بانتظام. وأخشى أن يكون في الأمر فسادٌ بعد أن أصبح هو المصدر الأول للرزق للفقراء والأغنياء على حدٍّ سواء، فسادٌ بالمئات أو فساد بالآلاف أو فسادٌ بالملايين أو فسادٌ وتهريبٌ إلى الخارج بالمليارات كما حدث من المخلوع وأنجاله وصحبه، وأقاربه. ثم عَرفتُ أنهم كانوا يُحوِّلون الفرقَ بين المرتب والمعاش إلى البنك عندما تكاثَرَت عليه الأسئلة من الزملاء.
كنتُ أتمنَّى أن أعيش أَطولَ ولو أني راضٍ من أني تجاوزتُ الثمانين، كي أُعطيَ أكثر مما أعطيتُ، وأن أقوم بواجبي تجاه حقوق الشعب وواجبات الدولة وأمانة الوطن. وكنتُ أُسَرُّ في رحلاتي إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي عندما أرى أجيالًا جديدةً قَرأَتني وهي في الثانوية حتى قبل الجامعة وأَسعدَتها رؤيتي، تُريد أن تتصوَّر معي وكأني أحد النجوم، وكأنني أحد المشايخ، ورئيس طريقةٍ صوفية. وأنا وزوجتي كذلك؛ فزوجة مولانا مثل مولانا في الاحترام والتقديس، وتُقارِن بين فكري الثوري وشخصيتي الهادئة، كيف يُعاديني المحافظون وأنا أَرُدُّ عليهم في هدوءٍ شديد وبمحبةٍ لهم وعُذرِهم، وتمنياتي أن يفتح الله عليهم، وأن يُنير عقولهم، يُحيون أوطانهم، ويُعبِّرون عن عصرهم؛ فكل إنسانٍ هو ابن وقته كما يقول الصوفية. ومع ذلك إني راضٍ تمام الرضى في هذه الثمانين عامًا. والحمد لله أنني أعطيتُ وأخذتُ، ولي أسرةٌ وأحفادٌ وأصدقاءُ ومُحبُّون. والأهم، أَثَري على الناس وفي التاريخ والذكرى الطيبة.
7
كنتُ أتمنَّى أن أعيش أَطولَ ولو أني راضٍ من أني تجاوزتُ الثمانين، كي أُعطيَ أكثر مما أعطيتُ، وأن أقوم بواجبي تجاه حقوق الشعب وواجبات الدولة وأمانة الوطن. وكنتُ أُسَرُّ في رحلاتي إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي عندما أرى أجيالًا جديدةً قَرأَتني وهي في الثانوية حتى قبل الجامعة وأَسعدَتها رؤيتي، تُريد أن تتصوَّر معي وكأني أحد النجوم، وكأنني أحد المشايخ، ورئيس طريقةٍ صوفية. وأنا وزوجتي كذلك؛ فزوجة مولانا مثل مولانا في الاحترام والتقديس، وتُقارِن بين فكري الثوري وشخصيتي الهادئة، كيف يُعاديني المحافظون وأنا أَرُدُّ عليهم في هدوءٍ شديد وبمحبةٍ لهم وعُذرِهم، وتمنياتي أن يفتح الله عليهم، وأن يُنير عقولهم، يُحيون أوطانهم، ويُعبِّرون عن عصرهم؛ فكل إنسانٍ هو ابن وقته كما يقول الصوفية. ومع ذلك إني راضٍ تمام الرضى في هذه الثمانين عامًا. والحمد لله أنني أعطيتُ وأخذتُ، ولي أسرةٌ وأحفادٌ وأصدقاءُ ومُحبُّون. والأهم، أَثَري على الناس وفي التاريخ والذكرى الطيبة.
7
الفلسفة و العلم من منظور براتراند راسل
لو أننا تصوَّرنا الفلسفة - فيما يقول راسل - على أنها محاولة يُراد من ورائها تصور العالم ككل، عن طريق الفكر، لكان في وسعنا أن نقول بأنها وليدة اتحاد وصراع، بين دافعين إنسانيين مختلفين، أحدهما (وجداني) يدفع بالناس إلى التصوف، والآخر (إدراكي) يحدو الناس إلى العلم. و التصوف كما يفهمه راسل : ضرب من الشدة أو العمق في الوعي أو الشعور، بإزاء ما نعتقده عن الكون. وعلى الرغم من أن هذا الموقف الصوفي بإزاء العالم لا يخلو من الحكمة، إلا أن راسل يرفض أن يقيم المعتقدات الفلسفية عموماً، والميتافيزيقية خصوصاً، على أسس وجدانية، ومن ثم فإنه يدعونا إلى تجاوز مرحلة التصورات الميتافيزيقية العاطفية - التي يقتصر فيها الفيلسوف على تصور الكون كما يحلو له - لكي نصل إلى فلسفة ( علمية ) يكون قوامها "الحياد الخلقي"، ورائدها النظر إلى الظواهر دون تأثر بمعتقداتنا البشرية، ورغباتنا الوجدانية. وإذا كان ثمة فكرة تعذَّر على راسل هضمها في فلسفة كل من "وليام جيمس" و "جون ديوي"، فتلك هي الفكرة التي تقول بأن للوجدان الشخصي علاقة بصدق أو بطلان أية حقيقة فلسفية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يقرِّب راسل الفلسفة من العلم : فقد فطن منذ البداية إلى أنه إذا أريد للفلسفة أن تحقق أي تقدّم ملموس، فلابد لها من أن تتخلى عن تلك الآمال العريضة في بناء نسق ميتافيزيقي متكامل، لكي تنصرف إلى دراسة بعض المسائل الجزئية ( منطقية كانت أم طبيعية ) وفقاً لمنهج علمي صارم. ولا شك أن راسل حين يتحدث عن العلم، فهو يعني العلوم الضرورية، كالرياضيات والمنطق. وهذا هو السبب في أن راسل يقارن القضايا الفلسفية التي هي قضايا عامة و أولية، بالقضايا الرياضية أو المنطقية. ومن هنا فإن راسل حين يتحدث عن للفلسفة بوصفها علماً، فهو يعني بذلك أنها لا تكاد تتميز عن المنطق، شرط أن نفهم المنطق بمعناه الرمزي أو الرياضي.
بيد أن الفلسفة العلمية التي يريدها راسل ليست مجرد نظرة عقلية تصطنع المنهج الرياضي فحسب، بل هي أيضاً جهد عقلي يرفض كل محاولة لبناء نسق فلسفي موحد. فنحن هنا بإزاء فلسفة ( تحليلية ) تأبى التورط في إقامة أي مذهب ميتافيزيقي، لأنها تؤمن بضرورة معالجة المشكلات الفلسفية، عن طريق اصطناع مناهج التحليل المنطقي. وهكذا نرى أن ربط راسل للفلسفة بالعلم، هو تعبير عن جزعه من كل خرافة ميتافيزيقية، وثقته بقدرة العقل التحليلية، وإيمانه الشديد بضرورة إحلال النزعة العقلية المنطقية، محل سائر النزعات الروحية، الصوفية، والوجدانية.
وهكذا فإننا نجد راسل يتخلى عن الأخلاق بوصفها لَبنة لأي بناء فلسفي، انطلاقاً من أن الأخلاق ليست إلا تعبيراً عن انفعالات وحالات وجدانية. وربما كان السر في فشل الفلسفة، بحسب راسل، أنها كانت وليدة تسرع وطموح، لعلهما أن يكونا من أخص خصائص الروح الميتافيزيقية، في حين أن الصبر والتواضع، كفيلان بأن يُحققا في نطاق الفلسفة تقدماً مطرداً مستمراً، قد لا يقل شأناً عن عما حققته العلوم الأخرى في شتى الميادين.
زكريا ابراهيم ، دراسات في الفلسفة المعاصرة ، دار مصر للطباعة ، القاهرة.
لو أننا تصوَّرنا الفلسفة - فيما يقول راسل - على أنها محاولة يُراد من ورائها تصور العالم ككل، عن طريق الفكر، لكان في وسعنا أن نقول بأنها وليدة اتحاد وصراع، بين دافعين إنسانيين مختلفين، أحدهما (وجداني) يدفع بالناس إلى التصوف، والآخر (إدراكي) يحدو الناس إلى العلم. و التصوف كما يفهمه راسل : ضرب من الشدة أو العمق في الوعي أو الشعور، بإزاء ما نعتقده عن الكون. وعلى الرغم من أن هذا الموقف الصوفي بإزاء العالم لا يخلو من الحكمة، إلا أن راسل يرفض أن يقيم المعتقدات الفلسفية عموماً، والميتافيزيقية خصوصاً، على أسس وجدانية، ومن ثم فإنه يدعونا إلى تجاوز مرحلة التصورات الميتافيزيقية العاطفية - التي يقتصر فيها الفيلسوف على تصور الكون كما يحلو له - لكي نصل إلى فلسفة ( علمية ) يكون قوامها "الحياد الخلقي"، ورائدها النظر إلى الظواهر دون تأثر بمعتقداتنا البشرية، ورغباتنا الوجدانية. وإذا كان ثمة فكرة تعذَّر على راسل هضمها في فلسفة كل من "وليام جيمس" و "جون ديوي"، فتلك هي الفكرة التي تقول بأن للوجدان الشخصي علاقة بصدق أو بطلان أية حقيقة فلسفية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يقرِّب راسل الفلسفة من العلم : فقد فطن منذ البداية إلى أنه إذا أريد للفلسفة أن تحقق أي تقدّم ملموس، فلابد لها من أن تتخلى عن تلك الآمال العريضة في بناء نسق ميتافيزيقي متكامل، لكي تنصرف إلى دراسة بعض المسائل الجزئية ( منطقية كانت أم طبيعية ) وفقاً لمنهج علمي صارم. ولا شك أن راسل حين يتحدث عن العلم، فهو يعني العلوم الضرورية، كالرياضيات والمنطق. وهذا هو السبب في أن راسل يقارن القضايا الفلسفية التي هي قضايا عامة و أولية، بالقضايا الرياضية أو المنطقية. ومن هنا فإن راسل حين يتحدث عن للفلسفة بوصفها علماً، فهو يعني بذلك أنها لا تكاد تتميز عن المنطق، شرط أن نفهم المنطق بمعناه الرمزي أو الرياضي.
بيد أن الفلسفة العلمية التي يريدها راسل ليست مجرد نظرة عقلية تصطنع المنهج الرياضي فحسب، بل هي أيضاً جهد عقلي يرفض كل محاولة لبناء نسق فلسفي موحد. فنحن هنا بإزاء فلسفة ( تحليلية ) تأبى التورط في إقامة أي مذهب ميتافيزيقي، لأنها تؤمن بضرورة معالجة المشكلات الفلسفية، عن طريق اصطناع مناهج التحليل المنطقي. وهكذا نرى أن ربط راسل للفلسفة بالعلم، هو تعبير عن جزعه من كل خرافة ميتافيزيقية، وثقته بقدرة العقل التحليلية، وإيمانه الشديد بضرورة إحلال النزعة العقلية المنطقية، محل سائر النزعات الروحية، الصوفية، والوجدانية.
وهكذا فإننا نجد راسل يتخلى عن الأخلاق بوصفها لَبنة لأي بناء فلسفي، انطلاقاً من أن الأخلاق ليست إلا تعبيراً عن انفعالات وحالات وجدانية. وربما كان السر في فشل الفلسفة، بحسب راسل، أنها كانت وليدة تسرع وطموح، لعلهما أن يكونا من أخص خصائص الروح الميتافيزيقية، في حين أن الصبر والتواضع، كفيلان بأن يُحققا في نطاق الفلسفة تقدماً مطرداً مستمراً، قد لا يقل شأناً عن عما حققته العلوم الأخرى في شتى الميادين.
زكريا ابراهيم ، دراسات في الفلسفة المعاصرة ، دار مصر للطباعة ، القاهرة.
من أجل تاريخ تقويضي.
د.عبدالسلام بنعبد العالي
“عندما ندرس التاريخ فإننا، على عكس الميتافيزيقيين، نسعد، لا لما نكشفه من نفس خالدة ترقد فينا، وإنما لما نحمله من أنفس فانية بين جنبينا “
ف .نيتشه
“هناك استعمال آخر للتاريخ: إنه التقويض الدّائم لتطابقنا، ذلك لأنّ هذا التّطابق، الوهِن بالرغم من كل شيء، والذي نحاول أن نؤمّن عليه ونحفظه خلف قناع، ليس إلا افتعالا: فالتعدد يقطنه، ونفوس عدة تتنازع داخله، والأنظمة تتعارض، ويقهر بعضها بعضا”
م. فوكو
“الذّاكرة قدرة على استبعاد الماضي، لا على استعادته”
ج. دولوز
في “الاعتبارات في غير أوانها-2” التي تحمل عنوان: “في منفعة التّاريخ للحياة ومضرّته لها” يحاول نيتشه أن يجيب عن الأسئلة التالية: ما مكانة الماضي من الحاضر؟ إلى أيّ حدّ تكون الحياة في حاجة إلى التّاريخ من غير أن ترزح تحت ثقله؟ هل الدراسات التأريخية كافية للحفاظ على التراث؟ أليست تلك الدراسات، على العكس من ذلك، هي التي تقضي على التّراث فتحوّله إلى مجرّد معرفة، وتحُول بينه وبين أن يحيا؟ ألم تؤدّ “حمّى التّاريخ”، التي عرفها القرن التاسع عشر، إلى القضاء على التراث؟ ما العمل لكي نجعل التّاريخ في خدمة الذّاكرة؟
تمهيداً للإجابة عن هذه الأسئلة، يميّز نيتشه بين ثلاثة أنواع من التّاريخ: التّاريخ الأثري، وتاريخ العهود القديمة، ثم التّاريخ النّقدي. فالتاريخ الأثري وتاريخ العهود القديمة يؤكّدان على الاستعمال الإيجابي والمنتج للتاريخ بالنسبة إلى الحياة، حيث يمنحان النّاس الشّجاعة والقدرة على المقاومة، وعلى النقيض منهما، لا ينظر التّاريخ النقدي إلى الماضي باعتباره أمراً إيجابياً. ففي الوقت الذي يستخلص التاريخ الأثري من الماضي أبطاله الكبار المنتصرين والمغامرين، معتبراً إيّاهم مصدر إلهام بالنّسبة إلى الحياة، وفي الوقت الذي يُحوّل تاريخ العهود القديمة الماضي إلى سند للهوية وتقوية لُحمة الجماعة، فإن التاريخ النقدي لا يرى للماضي أيّة خدمة يُمكن أن يُسديها إلى الحياة، ولهذا يعمد إلى تقويضه من أجل إرساء قيم جديدة.
يقدّم نيتشه طريقة إيجابية لـ”صناعة التاريخ” عبر أشكاله الثلاثة: الأثري، والقديم والنقدي. فهو تاريخ موجَّه إلى الأقوياء من أجل مدِّهم بأمثلة نموذجية من الماضي، وهو أيضاً تاريخ يعتمد تحليلاً للأصول، من شأنه أن يساعد على المحافظة على قيم الجماعة، ثم هو تاريخ نقدي، سيحكم على الماضي ويحاكمه، مقترحاً قيماً جديدة.
إن الاقتداء بالماضي من شأنه أن يوجّه الوجود الحالي، إلا أن تاريخ العهود القديمة، عندما لا يعود يستجيب للحاجيات الحيوية للحاضر، يظل مهدّدا بأن ينحلّ إلى تكديس وقائع تاريخية. حينئذ تسود المحافظة من أجل المحافظة، فتفقد الحياة دفقها الحيويّ. التّاريخ النّقدي يكون هو كذلك في خدمة الحياة التي يتطلب استمرارُها وتفتّحها مساءلة الماضي، إذ إن أيّ محاكمة للماضي ينبغي أن تكون باسم الحياة.
لن يعمل هايدغر في “”الكينونة والزمان” إلا على تأكيد موقف نيتشه هذا، فهو يرى مثله أن التأريخ “يستأصل الإنسان من تجذّره التاريخي إلى حدّ أن اهتمامه لا يعود منصبّا إلا على تعدّد النماذج والاتجاهات والآراء الفلسفية الممكنة عند أكثر الثقافات بعداً وغرابة… ونتيجة لذلك فإن الإنسان، بما يوليه من اهتمام بالتأويل الفيلولوجي الموضوعي للتراث، لا يعود في استطاعته أن يدرك حتى أبسط شروط إمكان الرّجوع الحقيقي إلى الماضي كتملّك خلاق.” وهذا هو الموقف ذاته الذي سيؤكد عليه كتاب “المدخل إلى الميتافيزيقا: “لا يحدّد علم التاريخ إطلاقا، من حيث هو علم، العلاقةَ الأصيلة بالتاريخ والمنابع الأصلية، وإنما هو يفترض دوما هذه العلاقة. من ثمة فلا يتبقى لعلم التاريخ إلا أحد أمرين: إما أن يعمل على تشويه العلاقة بتلك المنابع، وهي علاقة تاريخية أصيلة، فيسيء تأويلها ويختزلها في مجرّد معرفة بالعهود القديمة، أو على العكس من ذلك، يفتح هذه العلاقة بالمنابع الأصلية، بعد أن تكون قد ثُبِّتت أسسها، يفتحها على آفاق جوهرية، فيسمح لنا بأن نعيش تجربة المنابع الأصلية بما لدينا من جهتنا من انغماس فيها”.
ما يعيبه صاحب “الاعتبارات” على معاصريه بالضبط هو العلاقة غير المتوازنة التي يقيمونها بين التاريخ والحياة. فهم يرزحون تحت ثقل معارف موسوعية من غير أن يكون لتلك المعارف وقع على الحياة الفعلية. هذا فضلا على أن النموّ اللامحدود للحسّ التاريخي يُضعف من شأن القدرة على بناء المستقبل، ويجعل أجيالا بكاملها تحسّ أن الرّكب قد فاتها. نشتم هنا سعيا وراء مناهضة كل نزعة هيجلية مبسَّطة ترى في كل شيء صيرورة متواصلة وبدايةً ونموا وغاية.
1
د.عبدالسلام بنعبد العالي
“عندما ندرس التاريخ فإننا، على عكس الميتافيزيقيين، نسعد، لا لما نكشفه من نفس خالدة ترقد فينا، وإنما لما نحمله من أنفس فانية بين جنبينا “
ف .نيتشه
“هناك استعمال آخر للتاريخ: إنه التقويض الدّائم لتطابقنا، ذلك لأنّ هذا التّطابق، الوهِن بالرغم من كل شيء، والذي نحاول أن نؤمّن عليه ونحفظه خلف قناع، ليس إلا افتعالا: فالتعدد يقطنه، ونفوس عدة تتنازع داخله، والأنظمة تتعارض، ويقهر بعضها بعضا”
م. فوكو
“الذّاكرة قدرة على استبعاد الماضي، لا على استعادته”
ج. دولوز
في “الاعتبارات في غير أوانها-2” التي تحمل عنوان: “في منفعة التّاريخ للحياة ومضرّته لها” يحاول نيتشه أن يجيب عن الأسئلة التالية: ما مكانة الماضي من الحاضر؟ إلى أيّ حدّ تكون الحياة في حاجة إلى التّاريخ من غير أن ترزح تحت ثقله؟ هل الدراسات التأريخية كافية للحفاظ على التراث؟ أليست تلك الدراسات، على العكس من ذلك، هي التي تقضي على التّراث فتحوّله إلى مجرّد معرفة، وتحُول بينه وبين أن يحيا؟ ألم تؤدّ “حمّى التّاريخ”، التي عرفها القرن التاسع عشر، إلى القضاء على التراث؟ ما العمل لكي نجعل التّاريخ في خدمة الذّاكرة؟
تمهيداً للإجابة عن هذه الأسئلة، يميّز نيتشه بين ثلاثة أنواع من التّاريخ: التّاريخ الأثري، وتاريخ العهود القديمة، ثم التّاريخ النّقدي. فالتاريخ الأثري وتاريخ العهود القديمة يؤكّدان على الاستعمال الإيجابي والمنتج للتاريخ بالنسبة إلى الحياة، حيث يمنحان النّاس الشّجاعة والقدرة على المقاومة، وعلى النقيض منهما، لا ينظر التّاريخ النقدي إلى الماضي باعتباره أمراً إيجابياً. ففي الوقت الذي يستخلص التاريخ الأثري من الماضي أبطاله الكبار المنتصرين والمغامرين، معتبراً إيّاهم مصدر إلهام بالنّسبة إلى الحياة، وفي الوقت الذي يُحوّل تاريخ العهود القديمة الماضي إلى سند للهوية وتقوية لُحمة الجماعة، فإن التاريخ النقدي لا يرى للماضي أيّة خدمة يُمكن أن يُسديها إلى الحياة، ولهذا يعمد إلى تقويضه من أجل إرساء قيم جديدة.
يقدّم نيتشه طريقة إيجابية لـ”صناعة التاريخ” عبر أشكاله الثلاثة: الأثري، والقديم والنقدي. فهو تاريخ موجَّه إلى الأقوياء من أجل مدِّهم بأمثلة نموذجية من الماضي، وهو أيضاً تاريخ يعتمد تحليلاً للأصول، من شأنه أن يساعد على المحافظة على قيم الجماعة، ثم هو تاريخ نقدي، سيحكم على الماضي ويحاكمه، مقترحاً قيماً جديدة.
إن الاقتداء بالماضي من شأنه أن يوجّه الوجود الحالي، إلا أن تاريخ العهود القديمة، عندما لا يعود يستجيب للحاجيات الحيوية للحاضر، يظل مهدّدا بأن ينحلّ إلى تكديس وقائع تاريخية. حينئذ تسود المحافظة من أجل المحافظة، فتفقد الحياة دفقها الحيويّ. التّاريخ النّقدي يكون هو كذلك في خدمة الحياة التي يتطلب استمرارُها وتفتّحها مساءلة الماضي، إذ إن أيّ محاكمة للماضي ينبغي أن تكون باسم الحياة.
لن يعمل هايدغر في “”الكينونة والزمان” إلا على تأكيد موقف نيتشه هذا، فهو يرى مثله أن التأريخ “يستأصل الإنسان من تجذّره التاريخي إلى حدّ أن اهتمامه لا يعود منصبّا إلا على تعدّد النماذج والاتجاهات والآراء الفلسفية الممكنة عند أكثر الثقافات بعداً وغرابة… ونتيجة لذلك فإن الإنسان، بما يوليه من اهتمام بالتأويل الفيلولوجي الموضوعي للتراث، لا يعود في استطاعته أن يدرك حتى أبسط شروط إمكان الرّجوع الحقيقي إلى الماضي كتملّك خلاق.” وهذا هو الموقف ذاته الذي سيؤكد عليه كتاب “المدخل إلى الميتافيزيقا: “لا يحدّد علم التاريخ إطلاقا، من حيث هو علم، العلاقةَ الأصيلة بالتاريخ والمنابع الأصلية، وإنما هو يفترض دوما هذه العلاقة. من ثمة فلا يتبقى لعلم التاريخ إلا أحد أمرين: إما أن يعمل على تشويه العلاقة بتلك المنابع، وهي علاقة تاريخية أصيلة، فيسيء تأويلها ويختزلها في مجرّد معرفة بالعهود القديمة، أو على العكس من ذلك، يفتح هذه العلاقة بالمنابع الأصلية، بعد أن تكون قد ثُبِّتت أسسها، يفتحها على آفاق جوهرية، فيسمح لنا بأن نعيش تجربة المنابع الأصلية بما لدينا من جهتنا من انغماس فيها”.
ما يعيبه صاحب “الاعتبارات” على معاصريه بالضبط هو العلاقة غير المتوازنة التي يقيمونها بين التاريخ والحياة. فهم يرزحون تحت ثقل معارف موسوعية من غير أن يكون لتلك المعارف وقع على الحياة الفعلية. هذا فضلا على أن النموّ اللامحدود للحسّ التاريخي يُضعف من شأن القدرة على بناء المستقبل، ويجعل أجيالا بكاملها تحسّ أن الرّكب قد فاتها. نشتم هنا سعيا وراء مناهضة كل نزعة هيجلية مبسَّطة ترى في كل شيء صيرورة متواصلة وبدايةً ونموا وغاية.
1
سيقوم نيتشه أساسا ضد هذه النزعة، وسيعتبر أن “حمّى التاريخ” التي يعرفها القرن، علامة على تراث جامد غير حيّ، ورغبة في ابتداع تراث لا يعمل إلا على ملء الحاضر. لذا فهو يستنتج أن الهوَس التأريخي مُضرّ بالحياة بقدر ما يضرّها فقدان الذّاكرة. نقرأ في “الاعتبارات“: ” إن الحياة في أمسّ الحاجة إلى خدمات التاريخ، لكن من الضّروري أيضا أن نقتنع بهذه القضية التي ينبغي إثباتها فيما بعد: وأعني أن المبالغة في الدراسات التاريخية مضرّة بالكائنات الحية”، إذ لا مبرر للتاريخ في نظر نيتشه إلا إذا كان في خدمة العمل والحياة.
ما هو اللقاح المضادّ لـ”حمّى التاريخ” هذه؟ يجيب صاحب “الاعتبارات“: ” اللقاح المضاد هو اللاتاريخي والفوق تاريخي (التاريخ الأعلى): أعني باللاتاريخي فنّ القدرة على النسيان والانغلاق داخل أفق محدود. كما أدعو “تاريخا أعلى” القدرات التي تحيد بالأنظار عن الصّيرورة نحو ما يعطي للوجود طابع الخلود، أي نحو الفنّ والدين”.
على عكس الحيوان الذي يعيش حاضرا من غير تاريخ، فإن الإنسان لا يمكنه أن ينسى، وهو يظلّ مرتبطا بماضيه. إلا أنّه في حاجة كذلك إلى النسيان كي يمْكنه أن يعمل. إذ إنّه إذا ما اختزل في التاريخ، فإنه سيصبح مثقلا بمعرفة تاريخية يعوزها الأساس الحيوي لوجودها.
هذه الفعالية الإيجابية للنسيان ستتجلى بشكل أكثر وضوحا في كتاب “جنيالوجيا الأخلاق” حيث سيقول نيتشه إن النسيان “ليس فحسب ملكة مُعطِّلة سلبية vis inertiae، وإنما هو قوة فعّالة، وقدرة ايجابية بالمعنى الدقيق للكلمة، قدرة ينبغي أن ننسب إليها أنّ كل ما يحصل لنا في الحياة، وكلّ ما نتشربه ونتلقّاه لا يمثل أمام وعينا في عملية الهضم النفسي( يمكننا أن نسمّيها التشرّب النّفسي) إلا بمقدار ما تَمثل أمامه العملية المتعدّدة التي تتمّ في جسمنا عندما نتمثل الطعام ونهضمه”.
لا يعني ذلك أن صاحب الجنيالوجيا يقول بأنّ الحياة تقتضي محْو الماضي، وإنما هو يطلب فهما آخر للماضي، فيضع مقابل ما يدعوه الغريزة التراثية، ما يسميه الغريزة الكلاسيكية: “الرغبة في الحياة تقتضي الغريزة الكلاسيكية، أما الرغبة في الحقيقة فتقتضي الغريزة التراثية. الأولى تُخضع الماضي إلى معالجة فنية، إنها تُحوّل شكله بفعل قوّة الفنّ”، كي تقيم تاريخا يؤسّس لذاكرة مضادّة للذاكرة باعتبارها تطابقا وتكلّساً للفكر. وبعبارة أخرى، إنها تقيم تاريخا يأخذ بعين الاعتبار ملَكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد والثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي، وعلى إنقاذ الحياة من سيطرة الذاكرة.
2
الفيلسوف الجديد
ما هو اللقاح المضادّ لـ”حمّى التاريخ” هذه؟ يجيب صاحب “الاعتبارات“: ” اللقاح المضاد هو اللاتاريخي والفوق تاريخي (التاريخ الأعلى): أعني باللاتاريخي فنّ القدرة على النسيان والانغلاق داخل أفق محدود. كما أدعو “تاريخا أعلى” القدرات التي تحيد بالأنظار عن الصّيرورة نحو ما يعطي للوجود طابع الخلود، أي نحو الفنّ والدين”.
على عكس الحيوان الذي يعيش حاضرا من غير تاريخ، فإن الإنسان لا يمكنه أن ينسى، وهو يظلّ مرتبطا بماضيه. إلا أنّه في حاجة كذلك إلى النسيان كي يمْكنه أن يعمل. إذ إنّه إذا ما اختزل في التاريخ، فإنه سيصبح مثقلا بمعرفة تاريخية يعوزها الأساس الحيوي لوجودها.
هذه الفعالية الإيجابية للنسيان ستتجلى بشكل أكثر وضوحا في كتاب “جنيالوجيا الأخلاق” حيث سيقول نيتشه إن النسيان “ليس فحسب ملكة مُعطِّلة سلبية vis inertiae، وإنما هو قوة فعّالة، وقدرة ايجابية بالمعنى الدقيق للكلمة، قدرة ينبغي أن ننسب إليها أنّ كل ما يحصل لنا في الحياة، وكلّ ما نتشربه ونتلقّاه لا يمثل أمام وعينا في عملية الهضم النفسي( يمكننا أن نسمّيها التشرّب النّفسي) إلا بمقدار ما تَمثل أمامه العملية المتعدّدة التي تتمّ في جسمنا عندما نتمثل الطعام ونهضمه”.
لا يعني ذلك أن صاحب الجنيالوجيا يقول بأنّ الحياة تقتضي محْو الماضي، وإنما هو يطلب فهما آخر للماضي، فيضع مقابل ما يدعوه الغريزة التراثية، ما يسميه الغريزة الكلاسيكية: “الرغبة في الحياة تقتضي الغريزة الكلاسيكية، أما الرغبة في الحقيقة فتقتضي الغريزة التراثية. الأولى تُخضع الماضي إلى معالجة فنية، إنها تُحوّل شكله بفعل قوّة الفنّ”، كي تقيم تاريخا يؤسّس لذاكرة مضادّة للذاكرة باعتبارها تطابقا وتكلّساً للفكر. وبعبارة أخرى، إنها تقيم تاريخا يأخذ بعين الاعتبار ملَكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد والثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي، وعلى إنقاذ الحياة من سيطرة الذاكرة.
2
الفيلسوف الجديد
شوبنهاور وكيركيجارد ونيتشه -
شك وضع نظم لاكان الثلاثة في صورة سرد تاريخي، سرد يتتبع في مجاز ماركسي سوقي صُعودَ وأُفُولَ نَجْم الحضارة البرجوازية. وسيُمثِّل هتشسون وهيوم والنظام الخيالي لحظة تفاؤل وثقة بالنفس بارزة؛ حيث لا يزال على الطبقة الوسطى، التي لا تزال متفائلة وتغمرها روح البهجة، أن تسجل كاملًا النتائج الموحشة لأنشطتها، وتستمتع بمشاعرها الإنسانية، وتظلَّ قادرة على تصور المجتمع باعتباره مجتمعًا قائمًا على الروابط الشخصية. أما ما تلا ذلك مع كانط وهيجل فهو النظام الرمزي الأكثر تجريدًا وتنظيمًا وموضوعية، وهو نظام — للمفارقة — اجتماعي وغير اجتماعي في نفس الوقت. وهذا هو ما يمثل أوج ثقافة الطبقة الوسطى، بأسسها الليبرالية والنفعية العظيمة، وحماسها للمساواة والخير الإنساني، ودعمها الباسل لحقوق الإنسان والحريات الفردية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وظهور أفكار شوبنهاور وكيركجارد وماركس ونيتشه التراجيدية أو المتشكِّكة أو الثورية، أخذت تبرز تدريجيًّا أفكارُ الجُمود والتأزُّم والتناقض، لتصل لأَوْجها، في نهاية عهد الأزمة الرأسمالية والصراع الإمبريالي البربري، في تأملات سيجموند فرويد الشديدة التشاؤم. إن هذه الحقبة بالكامل هي ما تمثل — إن جاز التعبير — فترة سطوة النظام الواقعي؛ حيث إن الرغبة، التي كانت مبهجة وإيجابية، قد كشفت الآن عن شيء مريض في جوهرها لا يمكن علاجه، وأخذت المفاهيم الحميدة عن السلطة تتراجع أمام مفاهيم القوة المفترسة أو السادية. ومع مجزرة الحرب العالمية الأولى وما خلفته من تبعات سياسية، يدخل النظام الرمزي الأوروبي في أزمة مطولة، في حالةٍ تأمُلُ الفاشيةُ أن تنقذه منها بإجبار موارد النظام الخيالي (الدم والأرض والشعب والأمومة) على خدمة النظام الرمزي. وفي خلط قاتل بين النظم اللاكانية، يُستغل ما هو بدائي ومهجور في سبيل السيادة والتأويل العقلاني. وتُطوَّع الأساطير لخدمة عقلانية ذرائعية على نحو وحشي. وفي قلب هذه التجربة البربرية، في معسكرات الموت في وسط أوروبا والافتتان الفاشي بالموت يَكمُن الجانب المُرعِب في النظام الواقعي الذي يَستَعصِي على التصوير.
يعجُّ هذا السرد — شأنه شأن معظم الأساطير الكبرى — بما هو شاذٌّ، فماذا عن كبار الفلاسفة العقلانيين في القرن السابع عشر؟ ماذا عن ديكارت ولايبنتس وسبينوزا؟ هل كانت فلسفة القرن الثامن عشر بكاملها أكثر وعيًا؟ هل كان كل ما جاء بعد هيجل قصة بالغة الرعب؟ مع ذلك ما من شك بالتأكيد في أن المشروع الكبير للتنوير بَدْءًا من شوبنهاور إلى فرويد قد رَسَا على شاطئ عالم واقعي عَصِيٍّ أو على جوهر صلب لإرادة أو رغبة أو دين أو تاريخ مادي، وهو ما يُخلُّ بتوازنه على نحوٍ مُقلِق. فما يظهر عند هيجل في صورة العقل الخيِّر يتحوَّل على يد شوبنهاور إلى الإرادة المتلهِّفة التي لا تشبع، وهو ما أثر في أفكار فرويد نفسه عن اللاوعي. في حقيقة الأمر، يُمكننا قراءة كتاب شوبنهاور المبالغ في الكآبة «العالم إرادة وتمثلًا» باعتباره سخرية مريعة من فكر زميله الأكاديمي هيجل، سخرية أُبْقِيَ فيها على الصُّور العامة لعدد من مفاهيم هيجل (الحرية، والعدل، والعقل، والتقدم)، لكنها فُرِّغت من مضمونها الجليل، ومُلئت في المقابل بمحتويات الحياة اليومية المنحطَّة للطبقة الوسطى؛ الطمع والشهوة والصراع وما شابه. إذ لم تزل الفلسفة مع شوبنهاور تتمتَّع بثقة كافية في صورها بحيث تقوم بالتوحيد والتعميم، لكن مضمونها لا عِظَة فيه. الأمر يبدو وكأن الضراوة الفظة للبرجوازي العادي قد ترقت لتكتسب مكانة كونية، لتُعتبر المحرك الغيبي الأساسي للكون بكامله.1
1
دراسة في فلسفة الأخلاق - تيري إيجلتون
شك وضع نظم لاكان الثلاثة في صورة سرد تاريخي، سرد يتتبع في مجاز ماركسي سوقي صُعودَ وأُفُولَ نَجْم الحضارة البرجوازية. وسيُمثِّل هتشسون وهيوم والنظام الخيالي لحظة تفاؤل وثقة بالنفس بارزة؛ حيث لا يزال على الطبقة الوسطى، التي لا تزال متفائلة وتغمرها روح البهجة، أن تسجل كاملًا النتائج الموحشة لأنشطتها، وتستمتع بمشاعرها الإنسانية، وتظلَّ قادرة على تصور المجتمع باعتباره مجتمعًا قائمًا على الروابط الشخصية. أما ما تلا ذلك مع كانط وهيجل فهو النظام الرمزي الأكثر تجريدًا وتنظيمًا وموضوعية، وهو نظام — للمفارقة — اجتماعي وغير اجتماعي في نفس الوقت. وهذا هو ما يمثل أوج ثقافة الطبقة الوسطى، بأسسها الليبرالية والنفعية العظيمة، وحماسها للمساواة والخير الإنساني، ودعمها الباسل لحقوق الإنسان والحريات الفردية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وظهور أفكار شوبنهاور وكيركجارد وماركس ونيتشه التراجيدية أو المتشكِّكة أو الثورية، أخذت تبرز تدريجيًّا أفكارُ الجُمود والتأزُّم والتناقض، لتصل لأَوْجها، في نهاية عهد الأزمة الرأسمالية والصراع الإمبريالي البربري، في تأملات سيجموند فرويد الشديدة التشاؤم. إن هذه الحقبة بالكامل هي ما تمثل — إن جاز التعبير — فترة سطوة النظام الواقعي؛ حيث إن الرغبة، التي كانت مبهجة وإيجابية، قد كشفت الآن عن شيء مريض في جوهرها لا يمكن علاجه، وأخذت المفاهيم الحميدة عن السلطة تتراجع أمام مفاهيم القوة المفترسة أو السادية. ومع مجزرة الحرب العالمية الأولى وما خلفته من تبعات سياسية، يدخل النظام الرمزي الأوروبي في أزمة مطولة، في حالةٍ تأمُلُ الفاشيةُ أن تنقذه منها بإجبار موارد النظام الخيالي (الدم والأرض والشعب والأمومة) على خدمة النظام الرمزي. وفي خلط قاتل بين النظم اللاكانية، يُستغل ما هو بدائي ومهجور في سبيل السيادة والتأويل العقلاني. وتُطوَّع الأساطير لخدمة عقلانية ذرائعية على نحو وحشي. وفي قلب هذه التجربة البربرية، في معسكرات الموت في وسط أوروبا والافتتان الفاشي بالموت يَكمُن الجانب المُرعِب في النظام الواقعي الذي يَستَعصِي على التصوير.
يعجُّ هذا السرد — شأنه شأن معظم الأساطير الكبرى — بما هو شاذٌّ، فماذا عن كبار الفلاسفة العقلانيين في القرن السابع عشر؟ ماذا عن ديكارت ولايبنتس وسبينوزا؟ هل كانت فلسفة القرن الثامن عشر بكاملها أكثر وعيًا؟ هل كان كل ما جاء بعد هيجل قصة بالغة الرعب؟ مع ذلك ما من شك بالتأكيد في أن المشروع الكبير للتنوير بَدْءًا من شوبنهاور إلى فرويد قد رَسَا على شاطئ عالم واقعي عَصِيٍّ أو على جوهر صلب لإرادة أو رغبة أو دين أو تاريخ مادي، وهو ما يُخلُّ بتوازنه على نحوٍ مُقلِق. فما يظهر عند هيجل في صورة العقل الخيِّر يتحوَّل على يد شوبنهاور إلى الإرادة المتلهِّفة التي لا تشبع، وهو ما أثر في أفكار فرويد نفسه عن اللاوعي. في حقيقة الأمر، يُمكننا قراءة كتاب شوبنهاور المبالغ في الكآبة «العالم إرادة وتمثلًا» باعتباره سخرية مريعة من فكر زميله الأكاديمي هيجل، سخرية أُبْقِيَ فيها على الصُّور العامة لعدد من مفاهيم هيجل (الحرية، والعدل، والعقل، والتقدم)، لكنها فُرِّغت من مضمونها الجليل، ومُلئت في المقابل بمحتويات الحياة اليومية المنحطَّة للطبقة الوسطى؛ الطمع والشهوة والصراع وما شابه. إذ لم تزل الفلسفة مع شوبنهاور تتمتَّع بثقة كافية في صورها بحيث تقوم بالتوحيد والتعميم، لكن مضمونها لا عِظَة فيه. الأمر يبدو وكأن الضراوة الفظة للبرجوازي العادي قد ترقت لتكتسب مكانة كونية، لتُعتبر المحرك الغيبي الأساسي للكون بكامله.1
1
إن الإرادة عند شوبنهاور — شأنها شأن الرغبة عند لاكان — يُحرِّكها النقص: «كل «الإرادة» تنبع من النقص، من العَوَز؛ ومِن ثَمَّ من المعاناة.»2 فهي تلك الرغبة الراسخة العمياء التي هي أصل كل الظواهر، القوة التي تَبني مجرى دمنا وأحشاءنا، والتي يُمكن ملاحظتها في تلاطم الأمواج أو تمايل أوراق الأشجار بقدر ما يمكن ملاحظتها في أي حركة أسمى للروح الإنسانية. أما شمول الإرادة لأفكار شوبنهاور عنها من عدمه فهو مسألة مُثيرة للاهتمام. لكن بعكس العقل الهيجلي، فالإرادة هنا هي قوة خبيثة معاندة، قوة تَكمن في لُبِّ الذات الإنسانية نفسها لكنها غير مبالية مع ذلك في قسوة بازدهارها. إن هذه الإرادة التي تكمن في منبع الذاتية — التي يُمكنني أن أشعر بها داخل جسدي في قرب أكبر لا يُضاهيه أي شيء أعرفه — عديمة الرحمة والهُوِيَّة كما الإعصار أو البرق، فهي — كما هو حال الرغبة بمعناها في مجال التحليل النفسي — بلا معنًى إطلاقًا وتتَّسم بلامبالاة باردة تجاه كل الأشياء التي تتعلق بها، والتي لا تستخدمها إلا في تكاثُرها الذاتي غير النافع.
إن فكر شوبنهاور — بعكس هيجل — معارض صلب للغائية؛ إذ يتمتَّع بتماسُك وحيوية أي سرد عظيم لكن دون أن يكون له أي نفع، فالإرادة نموذج ساخر خبيث لمفهوم «الفكرة» عند هيجل. والإنسان ما هو إلا حاملها المؤقت، الذي يُنحَّى جانبًا بمجرد تحقيقه لأهدافها؛ إلا أن أهدافها تَكمن بالكامل في الاستمرار الأبدي لذاتها الذي لا نهاية له. فما نحن إلا مجسمات سائرة لغرائز آبائنا التزاوجية، التي هي بدورها تجسيد للإرادة، فنحن إذًا في عالم من الرغبة غير المتناهية المماثلة لرغبة فاوست، حيث تُعاد صياغة العالم بالكامل من جديد في إطار السوق. ويتحدَّث شوبنهاور، الكاره بشدة للبشر، ببُغض نادرًا ما يَكبِته تجاه «هذا العالم المكوَّن من مخلوقات دائمة الاحتياج، والتي لا تستمر لبعض الوقت إلا بالْتهام بعضها بعضًا، وتُورِّث وجودها في قلق وعَوَز، وغالبًا ما تمرُّ بمِحَن مريعة حتى تسقط في النهاية في براثن الموت.»3 إنها رؤية تَختلِف تمامًا عن «الود» عند هتشسون أو مملكة كانط المسالمة. فالعاطفية قصيرة النظر، عند شوبنهاور، هي وَحْدَها القادرة على تصور أن الملذَّات الزهيدة للوجود الإنساني — تلك المحاكاة الهزلية التي ينقصها حتى «وقار» التراجيديا — يمكنها أن تعوِّض بؤسه غير المنتهي.
يقول شوبنهاور: «تبقى الرغبة لمدة طويلة، وتَستمر مطالبها إلى الأبد؛ والإشباع مؤقت ولا يُمنح إلا بمقادير صغيرة.»4 أو كما يصوغها شكسبير باستفاضة في عمله «ترويلوس وكريسيدا»: «هذه هي بشاعة الحب، سيدتي، أن الرغبة لا متناهية والتنفيذ محدود؛ أن الرغبة لا نهائية والفعل عبدٌ للحدود.» وبمجرَّد دخولك مجال الرغبة، يَفقد العالم المادي قيمته في لحظة، فهو لا يَفعل سوى أن يُذكِّرك بما لا تريد. يقول لاكان: «بالمقارنة بأي شيء تسعى إليه الذات، فإن هذا الذي يحدث في نطاق التفريغ الحركي دائمًا ضئيل القدر.»5 فالذي يتحدَّث عن الرغبة يقول هزلًا. لقد كان فرويد هو من ذَكَّرَنا بأنه بينما ركز القدماء في حكمتهم على الغريزة، فنحن المتأخرين قد ركزنا في حماقة على الإنسان.
2
إن فكر شوبنهاور — بعكس هيجل — معارض صلب للغائية؛ إذ يتمتَّع بتماسُك وحيوية أي سرد عظيم لكن دون أن يكون له أي نفع، فالإرادة نموذج ساخر خبيث لمفهوم «الفكرة» عند هيجل. والإنسان ما هو إلا حاملها المؤقت، الذي يُنحَّى جانبًا بمجرد تحقيقه لأهدافها؛ إلا أن أهدافها تَكمن بالكامل في الاستمرار الأبدي لذاتها الذي لا نهاية له. فما نحن إلا مجسمات سائرة لغرائز آبائنا التزاوجية، التي هي بدورها تجسيد للإرادة، فنحن إذًا في عالم من الرغبة غير المتناهية المماثلة لرغبة فاوست، حيث تُعاد صياغة العالم بالكامل من جديد في إطار السوق. ويتحدَّث شوبنهاور، الكاره بشدة للبشر، ببُغض نادرًا ما يَكبِته تجاه «هذا العالم المكوَّن من مخلوقات دائمة الاحتياج، والتي لا تستمر لبعض الوقت إلا بالْتهام بعضها بعضًا، وتُورِّث وجودها في قلق وعَوَز، وغالبًا ما تمرُّ بمِحَن مريعة حتى تسقط في النهاية في براثن الموت.»3 إنها رؤية تَختلِف تمامًا عن «الود» عند هتشسون أو مملكة كانط المسالمة. فالعاطفية قصيرة النظر، عند شوبنهاور، هي وَحْدَها القادرة على تصور أن الملذَّات الزهيدة للوجود الإنساني — تلك المحاكاة الهزلية التي ينقصها حتى «وقار» التراجيديا — يمكنها أن تعوِّض بؤسه غير المنتهي.
يقول شوبنهاور: «تبقى الرغبة لمدة طويلة، وتَستمر مطالبها إلى الأبد؛ والإشباع مؤقت ولا يُمنح إلا بمقادير صغيرة.»4 أو كما يصوغها شكسبير باستفاضة في عمله «ترويلوس وكريسيدا»: «هذه هي بشاعة الحب، سيدتي، أن الرغبة لا متناهية والتنفيذ محدود؛ أن الرغبة لا نهائية والفعل عبدٌ للحدود.» وبمجرَّد دخولك مجال الرغبة، يَفقد العالم المادي قيمته في لحظة، فهو لا يَفعل سوى أن يُذكِّرك بما لا تريد. يقول لاكان: «بالمقارنة بأي شيء تسعى إليه الذات، فإن هذا الذي يحدث في نطاق التفريغ الحركي دائمًا ضئيل القدر.»5 فالذي يتحدَّث عن الرغبة يقول هزلًا. لقد كان فرويد هو من ذَكَّرَنا بأنه بينما ركز القدماء في حكمتهم على الغريزة، فنحن المتأخرين قد ركزنا في حماقة على الإنسان.
2
❤1
لكن شوبنهاور سيقلب هذه الأولويات، فيصير نموذجًا متقدمًا لفرويد نفسه. وكما أن الهدف الوحيد من تراكم رأس المال هو الاكتناز من جديد، فكذلك تبدو الإرادة — في نقض كارثي للغائية — مستقلة عن كل الأشياء المحددة التي تركز عليها؛ لذا تبدو الرغبة غارقة تمامًا في ذاتها، ساكنة في كيانها كرُوح نرجسية شريرة. وفي ظل نظام اجتماعي تُعتبر فيه الفردية التملُّكية قانون العصر، ربما يكون شوبنهاور أول مفكر معاصر كبير مَكَّنَهُ الظرف التاريخي من أن يضع مفهوم «الرغبة ذاتها» المجرَّد في محور عمله، مقارنة بغيره من أشكال التَّوق. وهذا التجريد الشديد هو ما سيرثه لاحقًا فرويد، الذي اعتبر شوبنهاور — في زَلَّة فكرية غريبة — أحد أعظم ستة رجال على وجه الأرض. لكن سنرى بعد قليل كيف أصبح من الممكن أن نفهم فكر كانط الأخلاقي بصورة مشابهة.
الإرادة إذًا قوة غامضة، شيء هادف بلا هدف (مستعيرين هنا تعليق كانط الشهير على الفن). إن الشيء المعيب الذي يتعذَّر إصلاحه هو مفهوم الذاتية بالكامل، وليس مجرد كَبْتها أو اغترابها؛ فالذاتية الإنسانية هي نفسها صورة من الاغتراب؛ إذ نحمل في أنفسنا حِملًا لا يُطاق من اللامعنى، ونعيش مَحصورين في أجسادنا كالأحياء في زنزانة سجن؛ فالذاتية شيء يُمكن أن نَعتبره بالكاد ملكنا. فإن لم نفهمها بطريقة شوبنهاور باعتبارها هدية مسمومة من الإرادة، فثمَّة مُتبرِّعون كثيرون آخرون: «الفكرة» عند هيجل، و«الرب» عند كيركجارد، و«التاريخ» عند ماركس، و«إرادة القوة» عند نيتشه، و«الآخر الكبير» عند لاكان.
إن ما يُميِّز عمل شوبنهاور عن رواد النظام الواقعي هؤلاء هو أنه لا يضع في مواجهة فظائع النظام الواقعي شيئًا أقل من النظام الخيالي. ففي ارتداد غريب لعقيدة التعاطف، لا يُمكننا أن نخدع الإرادة من خلال الفعل، الذي ما هو إلا تجسيد آخر لقُوَّتها البغيضة، أو الانتحار، الذي يَسمح لها بأن تتباهى بِخُلودها أمام فنائنا، بل بإطفاء جذوة الأنا التي تعذبها الرغبة في لحظة من الإيثار التامِّ. إن مبعث الرَّتابة الذي لا يُطاق في وجودنا هو أننا لا يُمكن أن نتحرَّر من أنفسنا؛ إذ نَجُرُّ وراءنا ذواتنا البائسة كالأغلال؛ فالرغبة تدلُّ على عجزنا عن رؤية الأشياء على حالها، فهي النظرة الذاتية التي نُحيل بها جبرًا كل شيء إلى اهتماماتنا الشديدة التفاهة؛ فالذات تعني الرغبة، والرغبة تعني الوهم. لكن على المستوى الجمالي تنفكُّ الرغبة عنا، وتُعلَّق الإرادة مؤقتًا، ونتمكَّن للحظة سعيدة من رؤية العالم على حقيقته. إن كلفة هذا التجلِّي الثمين ليست أقل من التفكك التامِّ للذات، ذلك الشيء الأثمن من بين كل المفاهيم البرجوازية، الذي صارَ يتماهى في تضحية بنفسِه مع الشيء؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتحرَّر من ويلات الرغبة إلا بتحوله إلى مشهد جمالي، تَنسحِب الذات خلال هذا التحول إلى نقطة فَناء من اللامبالاة التامة. يبدو الأمر كما لو أننا نُشفق على الأشياء المختلفة من حولنا التي أصابتها عدوى التَّوْق، ونُخلِّصها من تلك العدوى القاتلة بمحو أنفسنا من المشهد، ناظرين إلى الصورة العامَّة للأشلاء الإنسانية برباطة جَأْش مراقب عديم الشغف لدرجة أنه لم يَعُدْ موجودًا.
3
الإرادة إذًا قوة غامضة، شيء هادف بلا هدف (مستعيرين هنا تعليق كانط الشهير على الفن). إن الشيء المعيب الذي يتعذَّر إصلاحه هو مفهوم الذاتية بالكامل، وليس مجرد كَبْتها أو اغترابها؛ فالذاتية الإنسانية هي نفسها صورة من الاغتراب؛ إذ نحمل في أنفسنا حِملًا لا يُطاق من اللامعنى، ونعيش مَحصورين في أجسادنا كالأحياء في زنزانة سجن؛ فالذاتية شيء يُمكن أن نَعتبره بالكاد ملكنا. فإن لم نفهمها بطريقة شوبنهاور باعتبارها هدية مسمومة من الإرادة، فثمَّة مُتبرِّعون كثيرون آخرون: «الفكرة» عند هيجل، و«الرب» عند كيركجارد، و«التاريخ» عند ماركس، و«إرادة القوة» عند نيتشه، و«الآخر الكبير» عند لاكان.
إن ما يُميِّز عمل شوبنهاور عن رواد النظام الواقعي هؤلاء هو أنه لا يضع في مواجهة فظائع النظام الواقعي شيئًا أقل من النظام الخيالي. ففي ارتداد غريب لعقيدة التعاطف، لا يُمكننا أن نخدع الإرادة من خلال الفعل، الذي ما هو إلا تجسيد آخر لقُوَّتها البغيضة، أو الانتحار، الذي يَسمح لها بأن تتباهى بِخُلودها أمام فنائنا، بل بإطفاء جذوة الأنا التي تعذبها الرغبة في لحظة من الإيثار التامِّ. إن مبعث الرَّتابة الذي لا يُطاق في وجودنا هو أننا لا يُمكن أن نتحرَّر من أنفسنا؛ إذ نَجُرُّ وراءنا ذواتنا البائسة كالأغلال؛ فالرغبة تدلُّ على عجزنا عن رؤية الأشياء على حالها، فهي النظرة الذاتية التي نُحيل بها جبرًا كل شيء إلى اهتماماتنا الشديدة التفاهة؛ فالذات تعني الرغبة، والرغبة تعني الوهم. لكن على المستوى الجمالي تنفكُّ الرغبة عنا، وتُعلَّق الإرادة مؤقتًا، ونتمكَّن للحظة سعيدة من رؤية العالم على حقيقته. إن كلفة هذا التجلِّي الثمين ليست أقل من التفكك التامِّ للذات، ذلك الشيء الأثمن من بين كل المفاهيم البرجوازية، الذي صارَ يتماهى في تضحية بنفسِه مع الشيء؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتحرَّر من ويلات الرغبة إلا بتحوله إلى مشهد جمالي، تَنسحِب الذات خلال هذا التحول إلى نقطة فَناء من اللامبالاة التامة. يبدو الأمر كما لو أننا نُشفق على الأشياء المختلفة من حولنا التي أصابتها عدوى التَّوْق، ونُخلِّصها من تلك العدوى القاتلة بمحو أنفسنا من المشهد، ناظرين إلى الصورة العامَّة للأشلاء الإنسانية برباطة جَأْش مراقب عديم الشغف لدرجة أنه لم يَعُدْ موجودًا.
3
ليس ثمَّة ما هو أشق في نظر شوبنهاور من تلك الموضوعية العسيرة المنال التي هي ثمرة الانضباط الأخلاقي أكثر من مجرد نزعة موضوعية ساذجة أو ملاحظة سريعة قليلة الخبرة. فالموضوعية كما يقول شيء عبقري، فهي شأنها شأن الفكر البوذي، الذي مَيَّزَهُ بصورة كبيرة، عبارة عن «عدم التدخل» وهو ما لا يُمكن المحاربة من أجله؛ حيث إن مثل هذا العمل لا يكون إلا في الأنا، وبذلك فهو جزء من المشكلة التي تَسعى لحلِّها. فلا بد من اختراق حاجز الوهم أو الخداع التقليدي وإدراك وهم الأنا بطريقةٍ ما؛ لكي نتصرَّف تجاه الآخرين دون لا مبالة حقيقية، وهو ما يعني انعدام التمييز الحقيقي بينهم وبين النفس. وعلى هذا الوجه يظهر النظام الخيالي من جديد في كتابات شوبنهاور. وبمجرَّد انكشاف «مبدأ الفردية» المخادع على حقيقته يُمكن للأنفس أن تتبادَل العواطف في رحمة وحب. فالمصدر الرئيسي لكل الأخلاق — كما يقول شوبنهاور — هو مشاركة معاناة الآخر بعيدًا عن الدوافع الأنانية، فالتصرُّف السليم أخلاقيًّا لا يعني التصرف من وجهة نظر معينة، بل يعني التصرف دون وجهة نظر إطلاقًا، فالذات الخيِّرة حقًّا هي ذاتٌ ميتة، أو على الأقل تعيش في حالة معلَّقة دائمًا. وحيث إن الذات هي وجهة نظر معيَّنة للواقع، فكل ما يبقى بعد التغلُّب عليها نوع من السلبية الخالصة أو النيرفانا بالمعنى البوذي. إن فلسفة الذات عند شوبنهاور تُدمِّر ذاتها، غير تاركة وراءها سوى تأمُّل إيثاري لا يتعلَّق بأي شخص على وجه التحديد.
إلا أنه ليس من الدقيق تمامًا أن نزعم أن النظام الخيالي عند شوبنهاور علاج للنظام الواقعي بل إنَّ النظام الواقعي ينقلب ببراعة على نفسه، ويقع أسير قوته فينهار. يرجع هذا إلى أن القوة التي تُحلِّل الذات إلى رمز كُودي غير أناني — ومِن ثَمَّ تُتيح لها الاندماج الرحيم مع الآخرين — هي نفسها ما سيُسميه فرويد لاحقًا «دافع الموت». فمن خلال اعتبار عالم الصراخ البشري عرضًا خاملًا، نحقِّق الانفصال عنه ونتخلَّص من ذاتيته، وهو ما يشبه الموت كثيرًا؛ لكننا في الوقت نفسه نتمكَّن من الانغماس في تصور للخلود، وتملؤنا السكينة؛ إذ نعلم أن مسرح الشر هذا لم يَعُدْ يؤذينا. ولأننا موتى بالفعل من ناحية ما، نصير مُحصَّنين مثل شخصية شكسبير بارناردين، وباكتساب هذه الميزة السامية ننتقم انتقامًا لذيذًا من كل القوى التي تقودنا إلى الفناء. إنَّ هذه الحالة من الانغماس في الاستمتاع غير المباشر بالدمار — مع الاستمتاع بمناعتنا ضد القتل كشخصيات الكارتون — هي ما يميز مفهوم السمو في القرن الثامن عشر.6
4
إلا أنه ليس من الدقيق تمامًا أن نزعم أن النظام الخيالي عند شوبنهاور علاج للنظام الواقعي بل إنَّ النظام الواقعي ينقلب ببراعة على نفسه، ويقع أسير قوته فينهار. يرجع هذا إلى أن القوة التي تُحلِّل الذات إلى رمز كُودي غير أناني — ومِن ثَمَّ تُتيح لها الاندماج الرحيم مع الآخرين — هي نفسها ما سيُسميه فرويد لاحقًا «دافع الموت». فمن خلال اعتبار عالم الصراخ البشري عرضًا خاملًا، نحقِّق الانفصال عنه ونتخلَّص من ذاتيته، وهو ما يشبه الموت كثيرًا؛ لكننا في الوقت نفسه نتمكَّن من الانغماس في تصور للخلود، وتملؤنا السكينة؛ إذ نعلم أن مسرح الشر هذا لم يَعُدْ يؤذينا. ولأننا موتى بالفعل من ناحية ما، نصير مُحصَّنين مثل شخصية شكسبير بارناردين، وباكتساب هذه الميزة السامية ننتقم انتقامًا لذيذًا من كل القوى التي تقودنا إلى الفناء. إنَّ هذه الحالة من الانغماس في الاستمتاع غير المباشر بالدمار — مع الاستمتاع بمناعتنا ضد القتل كشخصيات الكارتون — هي ما يميز مفهوم السمو في القرن الثامن عشر.6
4