Telegram Web Link
يكتب ستايرون ليوثّق تجربته، ولكي يقوّي الآخرين على مواجهة آلامهم. عندما نكتب نكتب لنتأكد من سلامة العقل، لنحافظ على ما تبقى لنا منه، حتى لا تتخطّفه مخالب الأيام القاسية. افتتح الروائي المصري وجيه غالي يومياته بعنوان “على طريق الجنون” وكتب تحته: “على طريق الجنون، بما أنّ هذا ما أبدو ماضيًا فيه، لعله سيكون من الأفضل أن أدوّن يوميّاتي… ولو كان ذلك فقط من أجل التشبُّث بمسحة من سلامة العقل”.

عبثية اللاعقلانية

أحدثت أطروحة الأخوين جويل وإيان غولد دويًّا في أوساط الطب النفسي، وهي التي تقول بأن الجنون تُبلوره ثقافة المجتمع، وأنه ليس صحيحًا ما يقال من أن المرضى النفسيين لا يمثلوننا وكأنهم (آخر)، بل يؤكدان على أن المرض العقلي مجرد نسخة هشّة من السواء العقلي، وأن الحد الفاصل بين السواء والجنون رفيعٌ جدًّا. قد نجد ضعفًا وراثيًّا هنا، وصدمة نفسية في الطفولة هناك، فتتبدل بهذا النسق الأدوار. ففي كل واحد منّا مواضع ذهانيّة وأخرى غیر ذهانيّة، لكن التحدي يتمثل في الحفاظ على الجنون في وضعه الحرج وصورته الهشة، ومراقبة الجوانب الأكثر عقلانية فينا. قد لا يتطلب الأمر الكثير لنقول إنّ فلانًا -بمن فيهم أنا وأنت- على شفا حفرة من الجنون.

كان كتابهما “عقول مرتابة: دور ثقافة المجتمع في فهم الجنون” رحلة صعبة في أوهام الجنون، مبتدئًا بجزء أول تحت عنوان “سبات العقلانية” تضمّن تأريخًا وجيزًا في الجنون، ثم مائة عام من الأوهام، وجاء الجزء الثاني ليبحث “الحياة الاجتماعية للجنون”، ويوضّح خطأ اعتماد الطب النفسي على التحليل البيولوجي للأمراض النفسية، خاتمين الكتاب بتطلعاتٍ لمستقبل أفضل في الطب النفسي. ويُلخّص مطالبة الكتاب قولهم في ختامه: “حاولنا في هذا الكتاب تقديم دليل جلي على أن الأوهام هي أعراض نظام الإدراك المعرفي الذي يهدف اكتشاف التهديدات الاجتماعية وتحفيز الفرد للوقوف إزائها، بمعنى أن المناطق الدماغية التي تقوم بوظيفة نظام الارتياب لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى الجانب الاجتماعي. إذا كنا على حق، فإن نظرية الأوهام المستقبلية قد تكون نظرية بيولوجية بحتة لو استطعنا ترجمة التوصيف الاجتماعي لنظام الارتياب في مصطلحات بيولوجية”.

اعتمدا في تأليف الكتاب على الكثير من الحالات التي عايشوها، وكذلك على العديد من السير الذاتية لمرضى الجنون، وإن كنت أختلف معهم في تحديد الأعرف بحال المرض النفسي، فبينما يرونَه الطبيب النفسي الذي جالَس الكثير من المرضى واستمع لهم وكوّن خلفية جيدة، إلا أنني أرى المريض الذي امتلك قدرًا من المعرفة والاستبصار سيكون أكثر فائدة في وصف -وليس تشخيص- حالته المرضية أكثر من الطبيب النفسي، وهذا هو حال السيرة التالية.

5
دخل مستشفى الأمراض العقلية وهو في الرابعة والعشرين من عمره وأمضى هناك سنواته الثلاث مصارعًا مرضه العقلي، وبعد خروجه نقل لنا الكاتب الأمريكي كليفورد وتنجام بيرز في سيرته الذاتية قصة “العقل الذي وجد نفسه”. نستمع فيها إلى صدى الحروب الكثيرة التي كانت رحاها تدور في عقله وانتهت بمحاولات كثيرة فاشلة في الانتحار وتجارب ناجحة في تذوق مرارة اليأس والألم والسير في حياة بلا هدف أو غاية.

أطلق هذا الكتاب صرخة فزع مع صدوره سنة 1904م وفتح النافذة لطرح أسئلة كثيرة تتعلق بالصحة العقلية للإنسان، ونقد الكثير من مؤسسات الصحة الحكومية والخاصة التي تنقّل بينها، انتهت بتأسيس حركة الصحة النفسية في أمريكا والتي لاقت ترحيبًا كبيرًا من أكبر علماء النفس في الولايات المتحدة الأمريكية تلك الفترة، مثل الفيلسوف وعالم النفس ويليام جيمس الذي قدّم للكتاب وأغدق عليه الثناء، ولكن رغم ذلك لم تنجح رؤى كليفورد في تخليص عقله من نيران حروبه التي كان يخوضها مع ذاته فانتهى به الأمر نزيلًا مرة أخرى في مستشفى الأمراض العقلية ليموت هناك تاركًا الكثير من الأسئلة معلقة حتى الآن.

لم يكن كليفورد سوى طفل عادي يُعاني من قلق زائد، زاد هذا القلق مع إصابة أخيه بالصرع دون مقدّمات؛ مما زاد من أسئلة القلق في عقله، فإذا أصيب أخوه دون سبب فما المانع من إصابته هو؟ عانى أخوه ست سنوات من الصرع، وعانى معه كليفورد بسبب الخوف عليه يُصرع بالشارع برفقته، خوفه من المرض أمرضه. بدأت معاناته بالكلية، تخرج واشتغل بمصلحة الضرائب، ثم كاتب في شركة، حتى قرر أن يستقيل ويريح عقله ويذهب لمزرعة بالجبال. بعد محاولته الانتحار أُدخل المستشفى وزادت الأوهام حتى بات يُفسّر كل سلوك ضده. وضعوا القضبان على شباك الغرفة، حلقوا شعر ساقه التي أُصيبت ليضعوا الجبس، ففسرها بعلامة خزي كمعاملة بعض القبائل في البلدان البربرية، يقول وهو يتحدث عن مخاوفه في تلك المرحلة: “كان الخوف بالتأكيد عبثيًّا، لكن في قاموس اللاعقلانية لا توجد كلمة عبثي”.

“كانت رغبتي الوحيدة هي الكتابة”، يقول كليفورد، “كانت أصابعي راغبة بشدة في الإمساك بقلم. كانت رغبتي قي الكتابة لا تقاوم، مثل رغبة ثمل في جرعة شراب. وكان فعل الكتابة يمنحني متعة السّكرِ المتألفة من امتزاج عواطف يصعب تفسيرها”. بقي الكتاب وفيًّا لصاحبه لأنه كُتب بجنون كاتبه لا بيقظته، فجعل من اليأس مدخلًا للكتابة ومن الأمل نافذة للقراءة ومن العقل محترفًا يعرف جيدًا كيف يقود ضحاياه، تمامًا مثلما قاد كليفورد إلى كتابة هذا الكتاب ليكون ضحيته الأولى.

6
تُعدُّ الأوهام على طول تأريخها أعراضًا للجنون، وقد كانت ولا زالت معضلة الأطباء، يبحثون في تصنيفها والبحث في بداياتها ومحاولة تقنينها وإرجاعها إلى أوهام محددة، ستدخل إلى تلك الأوهام بنفسك حالَ قراءة هذا الكتاب، كيف يفكّر صاحبها، وما هي التأويلات التي تطرأ عليه عند كل تصرّف ومع كل نظرة، والتي يغلب عليها السلبية والتآمرية. وإذا أردت تصوّر شيء من داخل هذا العقل، فقد وصف ستايرون حال اشتداد اضطرابه “بأن عقلي نفسه يشبه لوحة تحويل مکالمات هاتفية عتيقة في بلدة صغيرة، وقد راحت مياه الفيضان تغمرها شيئًا فشيئًا: ولذلك أخذت الدوائر الطبيعية تغرق واحدة تلو أخرى، مما كان يؤدي بوتيرة بطيئة إلى انقطاع الاتصال عن بعض وظائف الجسم، وكذلك بجميع وظائف الغريزة والعقل تقريبًا”، أما كليفورد فيشبّه حاله “كما لو أن أعصابي قد تمزقت إلى عدد من الحزم المطاطية الدقيقة التي تمددت إلى ما بعد حدودها المرنة”.

أغدق ستايرون الثناء والامتنان على زوجته لرفقتها وصبرها عليه في لحظات اكتئابه، ويؤكد كليفورد “أن كل ما يحتاجه المريض العقلي هو صديق!”.‏ لا يمكن إغفال أهمية الدعم الشخصي للأقارب والأحبة في مسيرة التعافي، ومع أن الشعور اللحظي عند تلقي الدعم قد يعتريه كره وسلبية من المريض، إلا أنه مهم في التأكيد له بعظيم الامتنان لوجوده ونفي بعض الأوهام المتكررة كالشعور بالفقد والتخلي من قبل الجميع، وخاصة الدعم الآتي من زملاء المرض، وهو ما يؤكده ستايرون بأن على الأصدقاء والمحبين “أن يغدقوا على المكتئبين حبًّا جمًّا حتى يقتنعوا بأهمية الحياة، والتي تتعارض غالبًا مع إحساسهم بانعدام القيمة، وقد أنقذ هذا الحب أعدادًا هائلة من ضحايا المرض من الانتحار”.

على الرغم من أن النظرة الشائعة للمرض النفسي تراه معيبًا، إلا أنه يُصوَّر في بعض الأحيان على أنه نعمة. وبطبيعة الحال لا نرغب بالإعلاء من شأن المرض النفسي والاحتفاء به حدّ التقديس وإضفاء الأولوية له على السواء، لكننا بكل تأكيد نرغب بإعطائه الحق الطبيعي باعتباره مرضًا كالمرض الجسدي، والقبول وعدم النبذ، وإزالة النظرة شديدة السلبية تجاهه، لكي يستطيع كل مصاب به أن يعيش حياته دون نظرات تُفاقم من أزمته أو سلوكيات تقلّص من رغبته في الحياة.

صخب الصمت

“خلال شهر واحد من توقيع أوراق اعتمادي أستاذةً للطب النفسي في جامعة كاليفورنيا كنت في طريقي -بحقٍّ- إلى الجنون”، بهذه الجملة بدأت الدكتورة كاي ردفيلد جاميسون حكاية سيرتها الذاتية عن الهوس والاكتئاب والجنون في كتابها “عقلٌ غير هادئ” الذي يُعد من أهم السير الذاتية في مجال الصحة النفسية.

ليس من الضروري أن نُجمّل الوحش الذي نريد الانتصار عليه، يكفي أن نفهمه حق الفهم وندرك حقيقة قبحه ومكامن خطره. وهو ما لجأت إليه جاميسون بعد تيقّنها من الإصابة بذهان الهوس الاكتئابي، أو ما بات يُسمّى الآن بثنائي القطب، راحت تتعرّف على المرض أكثر، “كان يجب عليّ أن أعرفه بجميع أمزجته وجميع أقنعته، أن أفهم قواه الحقيقية والمتخيلة”، وهو المرض الذي ينتقل صاحبه بين طرفين، الأول الهوس الحاد الأشبه بنشوة غير منضبطة، والآخر الاكتئاب الحاد الأشبه بانقطاع الكهرباء في الصحراء، وقلّما يكون بينهما دون مساعدة الأدوية.

7
حكَت في الفصل الأول قصةَ طفولتها، وتاريخ أسرتها المليء بالأمراض النفسية، وبدايات دخولها إلى النفق المظلم منذ المراهقة، ومع كل ما مرّت به من صعاب في حياة والدها العسكرية وعلاقات أسرية متفككة واضطرابات عاطفية، كانت “السنوات الطويلة والمهمة للطفولة والمراهقة في معظمها سنوات سعيدة بالنسبة لي، وزودتني بقاعدة صلبة من الدفء والصداقة والثقة بالنفس. لقد كانت بمثابة تعويذةٍ جبارة، وقوةٍ فعّالة مضادّة للاكتئاب المستقبلي”.

نكبر أسرع من الآخرين بآلامنا وأحزاننا التي نُخفيها عنهم؛ فتُنضجنا. دخلت جاميسون كلية الطب لكنها لم تستطع إكمال سنواتها الطوال مع ما تمر به من حالة نفسية لا يعلم بها أحد، فقررت التحويل إلى دراسة علم النفس لتكتشف مصيرها وكيفية التعامل معه. كانت طريقتها الوحيدة لتخفيف اهتياجها أن تركض على امتداد الشاطئ، أو أن تذرع غرفتها ذهابًا وجيئة كدُبٍّ قطبي في حديقة الحيوان. لم تكن تعلم ما الذي يجري لها، لكن لم يدر في خلدها البتة أنها مريضة. وبعد سماع محاضرة عن مرض الاكتئاب، ذهبت إلى خدمات الطلاب الصحية وفي نيتها طلب مقابلة طبيب نفسي، وصلت إلى العيادة، ثم جلست هناك كالمشلولة، لم تقو على الدخول وطلب المساعدة، كانت تشعر بالخوف والعار، حتى انتهت الساعة انهمرت فيها الكثير من الدموع، ومضت.

أنهت الفصل الأول بمناقشة رسالتها للدكتوراة وتعيينها في الجامعة، وافتتحت الفصل الثاني قائلة: “لم أستيقظ في أحد الأيام لأجد نفسي مجنونة”، وبدأت تسرد رحلتها مع المرض بتفصيل وانسيابية مرعبة تخالف رعونة أيامها في الواقع، معاناتها الشخصية ثم دراستها الأكاديمية مكّناها من التعبير الأدق عن الحالة المرضية والدخول إلى عقل ثنائي القطب والتجول فيه ليس على ضوء قنديل زيت، بل بإضاءة حفلة زواج. آثار المرض تختلف من شخص لآخر في جزء منها، وتشترك في الكثير من آلامها، وندرك من سيرة جاميسون -وسيرة الرديني القادمة أيضًا- كيف كان “الانهماك في فورة شراء مفرطة” جزءًا كلاسيكيًّا من الهوس، حتى كاد أن يورطها بقضايا مع البنوك التي استنزفت أموال بطاقاتها الائتمانية على أشياء تندم عليها بعد استيقاظها.

زادت صعوبة زيارة الطبيب النفسي بعد تعيينها أستاذةً جامعية، فالنظرة المجتمعية والأكاديمية لا ترحم المصاب بمرض نفسي، فكيف ستسمح له بمعالجة مرضاهم. لكنها قررت الذهاب عندما بدأت تتعب من كل فرص بناء الشخصية على حساب الطمأنينة، والثبات، والحياة الطبيعية. “لم أكن مريضةً فقط عندما اتصلت لأول مرة لطلب موعد، لقد كنت أيضًا أشعر بالرعب والإحراج العميق. لم أذهب من قبل إلى طبيب نفسي أو أخصائي نفسي. لم يكن لدي خيار. لقد فقدتُ عقلي تمامًا وبكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإذا لم أحصل على مساعدة، طبية فمن المحتمل جدًا أن أفقد عملي، وزواجي المتقلقل، بالإضافة إلى فقدان حياتي”.

8
👍1
من أول زيارة للمعالج النفسي “ببطء تدفق إشعاع دقيق، دقيقٌ جدًا، من الضوء إلى عقلي الخائف والمظلم”، وخلال السنوات العديدة اللاحقة وبزيارات أسبوعية، “لقد أبقاني على قيد الحياة أكثر من ألف مرة… لقد شاهدني من بداية إلى نهاية كل وجهٍ تقريبًا من وجوه حياتي السيكولوجية والعاطفية”. أكثر ما أكّدت عليه جاميسون هو أهمية الالتزام بالدواء الموصوف للمريض النفسي، فلا تكفي جلسات العلاج النفسي مع هذا الاضطراب دون أدوية طالما أن السبب الأساسي هو اضطرابات بيولوجية تحتاج إلى أدوية تعيد توازنها. وتشرح دوافع رفضها للأدوية وآثار انقطاعاتها القاسية جدًا، والذي يعود جزء أساسي منه إلى إنكارها الاعتراف بأن ما لديها مرضٌ حقيقي. وسبب آخر يتكرر كثيرًا في الكتاب، وهو ما يساعدنا في فهم سلوكيات كثير من مرضى ثنائي القطب في رفضهم التعامل الجاد مع أمراضهم والتلكؤ في طلب العلاج، هو ما صرّحت به جاميسون من إدمانها الإثارةَ التي تأتي مع موجة الهوس وما ينتج عنها من سلوكيات ترى أنها أكثر حيوية وإنتاجًا وقوة وودًّا وابتهاجًا. وسبب مهم أيضًا في امتناعها عن تناول الدواء هو رعبها الشديد من فشل مفعوله معها، فقد كانت في داخلها تُرجئه كحلٍّ أخير حتى لا ترى أسوأ مخاوفها تتحقق.

بعدما قصّت رحلتها مع المرض النفسي في ثلثي سيرتها الذاتية، اختارت جاميسون “ترياق الحب” عنوانًا للفصل الثالث الذي تؤكد فيه على أن الحب وإن لم يكن كافيًا لعلاج أمراضنا، فهو مؤثر جدًا في تقبّلها، وفي إقناعنا أن في الحياة ما يستحق العيش. الحب عكّازاتنا التي لا تشفي كسورنا، لكننا لا نقوى السير بدونها.

تُهان قصة الإنسان عندما تُحكى للشخص الخطأ. دخل أكثر من شخص حياة جاميسون وهي تصارع المرض، قصّت أخبارهم وردود أفعالهم تجاه إبلاغهم بمرضها، بعضهم تفهّم مرضها وبعضهم أساء لها من حيث هو يريد الإحسان وبعضهم كان صلف الأخلاق قليل المروءة صرّح بنفوره منها مباشرة بعد الخبر، مما ولّد لديها شعورًا بالنفور من إخبار الآخرين بمرضها إلا عند الضرورة القصوى، وفي أخبارها وانطباعاتها دروس في كيفية التعامل مع المرضى النفسيين وضرورة عدم تحقير أوجاعهم، فألم تهميش الألم أكثر ألمًا من الألم نفسه.

الحب يقتل أسئلتك المتشككة في أحقيتك بالحياة، بالسعادة، بالعيش الهنيء، كما يقتل أرق أسئلتك تجاه ذاتك.

في الفصل الأخير من الكتاب تناقش مشكلة التسمية، هل الأفضل تغيير صفة الجنون لاسمٍ أكثر لباقة؟ هذا ما تدعو إليه المنظمات الطبية والحركات الاجتماعية المعززة للصحة النفسية، لكنها ترى أن تغيير المصطلح ليس كافيًا لحل أزمة وصمة العار الملاصقة للأمراض النفسية، وكذلك “ليس ثمة مصلحة للمريض أو أي فردٍ في العائلة في استعمال لغةٍ أنيقة ومعبرة إذا كانت أيضًا غير دقيقة وغير موضوعية”، مع إقرارها أن من حق المرضى أن يختارون المصطلح الذي يرتاحون إليه.

9
ثلاثون عامًا عاشتها جاميسون مع ثنائي القطب جعلتها تُدرك كل القيود والاحتمالات التي تأتي معه، ومع كل المزايا الناتجة عن هذا المرض إلا أنها ترفض التخلي عن علاجها أو الإخلال بالوصفة الدوائية الخاصة بها، وتؤكد في ختام سيرتها العظيمة أن الحب هو الجزء الاستثنائي في أسوارها التي تحتمي بها من موجات المرض، فهو يساعدها على صد الرعب والوحشة، ويسمح في نفس الوقت بدخول الحياة والجمال والقدرة على البقاء. “هذا كتاب عن الحب: الحب كعامل مؤازر، والحب كعنصر مجدد، والحب كأداة حماية. بعد كل ما بدا أنه موتٌ في عقلي أو قلبي، عاد الحب ليُعيد خلق الأمل ويسترد الحياة”.

غواية الكتابة

من أوائل السير الذاتية السعودية التي عالجت المرض النفسي كان كتاب عمر الرديني الذي يعاني من ثنائي القطب “غوى”، يفصح عن دوافع تدوين سيرته بأنها “محاولة خجولة لممارسة النور؛ لأني أؤمن بأنه من الواجب علينا في الحياة أن نسير وفي أيدينا مصابیح حرة نُنير بها دروب الآخرين المقيدة، هل أخبركم عن أحلامي؟ أحلم أن أصل لأبعد نقطة في الظلام؛ لأنيرها قبل وصولكم إليها”. كانت البداية مع المعالج الشعبي في حارات المدينة المنورة الذي يُعتقد أنه قادر على فك المس وإخراج الجن، لكنه زاد الطين بلة.

يسهب عمر في وصف التطور المرضي وزيارات المستشفيات والمصحات النفسية ومشاعره تجاهها ومعاناته معها، ومع الكلمات التي تُرمى من بعيد عليه مثل (الله لا يبتلينا)، “من جرب الهوس سيعلم أن كل كلمةٍ محفزةٌ كزيتٍ يزيدُ النار اشتعالًا”، ويتحدث بلسان المرضى النفسيين بأكملهم، يشرح معاناتهم ويصف متطلباتهم، “نبحث عمن يساعدنا دون توبيخنا”، “نطالب أن نحترم كبشر”، “لا أطلب الشفقة من أحد، نريد العيش بسلام كالآخرين”.

مما ساعده في تجاوز اللحظات الحرجة وتخطي الكثير من الصعاب كانت كتب الفلسفة والأدب، فقد كانت “الكلمات التي أقرأها بمثابة ضماد جروح عقلي”، وقد استطاع عمر أن يجعل من إتمامه لقراءة كتابٍ مهم جزءًا من رحلته العلاجية وجرعة دسمة لاستعادة الثقة في النفس.

“الحياة قرار. وأنا اتخذته”، بهذه الكلمة ينهي هذه السيرة. ولأن “الكتابة هي العقار السري الذي أدمنه، الكلمات كانت دموعي الحقيقية”، يستكمل عمر الرديني الحديث عن صراعه مع المرض النفسي في «جنون لذيذ»، يغلبه تارة ويكسره المرض تارات، لكنه مؤمنٌ بالعلاج بالكتابةِ التي يُجيدها، بل يبرع فيها. عمر رجل شجاع لا يختبئ خلف تجارب الآخرين ولا خلف تشبيهات المثقفين، وكما يقول وليم فوكنر: “العمل العظيم لا يكتبه إنسان خائف”.

نلحظ بين السيرتين مجموعة من الفوارق، من أبرزها أن الأولى هي سيرة وصفية، مباشرة، مندفعة، مطالِبة، أما السيرة الثانية فهي سيرة استعاديّة، تأمليّة، أكثر أدبًا وإبداعًا بالأسلوب والأوصاف. كلا السيرتين متقاربة الحجم، تطول الثانية بطول المدة التي تتناولها، فقد صدرت بعد قرابة الخمس سنوات من الأولى، ولم تكن مقصورة عليها، بل تعود إلى البدايات بعين الآن، وتؤكد على بعض المواقف وتعدّل بعض الانطباعات. سيرة عمر نموذج للاعترافات التي يعيبُ كثيرٌ من النقاد غيابَها عن السير الذاتية العربية، فهي اعترافات خاصة يتحرج المرء أن يخرجها، لكن لأن أولئك النقاد لا يبحثون إلا عن الاعترافات الجنسية لا يلتفتون لمثل هذه المكاشفات الجريئة.

10
جاء بعد ذلك طبيب الأسنان السعودي معن السلطان وكتَب عن “وجد لا ينام”، واصفًا معاناته مع الاكتئاب أثناء ابتعاثه إلى نيويورك لاستكمال الدراسات العليا، ولكن بأسلوب يمزج الخيال بالواقع، ويحاكي التجارب النفسية الأخرى بأسلوبه الذي حرص فيه على الرسالية واستهداف التوعية بالمرض النفسي وكيفية التعامل معه. “كنت غارقًا في اللاوعي لسنوات عديدة، وحدها النوبة أيقظتني”، كثيرًا ما تعيدنا الأمراض إلى ذواتنا فنعيد تقييم تاريخنا بالكامل.

سيرة معن خيار جيد لبداية القراءة في هذه السير، وخيار جيد للإهداء للمرضى النفسيين وذويهم، فالتحفيز الإيجابي المباشر والتشجيع على الحياة أكثر وضوحًا من بقية السير، ومن ذلك قوله: “أيها الإنسان؛ لا أحد يعرف المعارك التي خضتها للوصول إلى مبتغاك، كما أن أحدًا لا يعرف كم مرة سقطت ثم نهضت، ولا أحد يعرف مقدرتك وشجاعتك لخوض تجربة جديدة، إلا أنّك تعرف. وليس المهم أن يعرف أحد، المهم فقط أن تستمر أنت في معرفة قدرتك الكامنة وتتبعها للوصول”.

هامش الهامش

جمع الكاتب المصري مينا ناجي كتابات متفاوتة وأصدرها في كتاب بعنوان “33 عن الفقد والرُهاب”. الرقم هو عمره عند نشر الكتاب، والكلمتين هي التجربتين الأكثر حظًّا فيه، والتي يعنينا منها رحلة معاناته مع الرهاب، يمكن توصيفه بالقلق الحاد من الوجود في بيئة غير آمنة أو في مواقف لا يمكن أو من الصعب الهروب منها. هذه “المواقف” ربما تتضمن الأماكن المفتوحة، الأنفاق، الجسور، وسائل النقل العامة، المسارح، السينمات، مراكز التسوق والأماكن المزدحمة، إلخ.. وفي الحالات المتطرفة، مجرد التواجد خارج البيت. فقد كان “الخروج من البيت هو المهمة الأكثر صعوبة ورعبًا في العالم”. يحكي مينا عن بدايات ملاحظته لحالته، والردّ الذي جاءه من أول شخص أخبره بها، وهو المرشد الروحي في الكنيسة القبطية التي ينتمي لها في مصر، كان صادمًا ومعززًا للمرض بدل أن يساهم في علاجه، فقد أخبره بأن المرض حالة صحيّة تساهم في تخفيف غرور الإنسان بنفسه وتؤكد احتياجه لربّه. لم يكن مينا بحاجة لهذه الكلمات في هذه المرحلة، كان يبحث عن الفهم، عن التوصيف الأدق لحالته، عن القوة لمواجهة الحياة في الخارج، والتي لا يمكن لشاب من أسرة متواضعة الحال الاستغناء عنها والانكفاء على الذات في المنزل. وهذا يؤكد ما ذكرته سابقًا من أن الحالة المرضية لا ينبغي مشاركتها مع كل أحد، ما لم نملك النفسية القوية القادرة على مواجهة ردات الفعل السلبية.

11
أثناء أزمة كورونا تزايد أعداد الخائفين بتضاعف أعداد المصابين من هذا الوباء، حظر التجوال الذي كان عقابًا للآخرين كان الوضع المثالي الذي ينتظره مينا؛ فتجسّد الخوف ماديًّا في الخارج يجعله يخفف حدته في الداخل، ومشاركة المخاوف تخفف من وطأتها وتشعر بالونس والتضامن.

سبعة عشر عامًا بصحبة القلق الحاد أكسبت مينا العديد من الاستراتيجيات العلاجية، وغيّرت الكثير من القناعات الداخلية، واستطاع اكتساب معرفة ذاتية، وقدرة على السيطرة على الذات وتهدئة القلق، وتخلص من نوبات الفزع وبعض النوبات الجانبية. ما كان يُصبّر مينا على ما هو فيه ترقّب النهاية التي يوقن أنها قادمة، مؤمنًا أن “حالة النجاح ستغيّر معنى كل تاريخ الماضي، تاريخ كل تلك المحاولات الفاشلة”.

حتى لا تصبح الأيام أصعب

عند المرضى النفسيين ليس “الآخرون هم الجحيم” كما هم عند سارتر، بل كل شخص صار جحيم نفسه، وناره مستعرةً بداخله. وحتى لا تصبح الأيام أصعب كتبت وفاء خالد تجربتها مع الاكتئاب على شكل نصائح مباشرة بدون استعطاف القارئ، مستذكرة “حين تصبح الأيام أصعب” كما هو عنوان كتابها، واضعةً “دليلًا مبسطًا لحيل التعامل مع الاكتئاب بشكل يومي” كما في العنوان الفرعي. أهمية الكتاب تكمن في تجربته المماثلة لنا، لكثير من تجاربنا، تجربة صريحة تتكلم عن تقدم الأخبار الجيدة والأخبار السيئة لكل مريض نفسي، ويؤكد أهمية الكتاب تصديره بكلمة من الأخصائي النفسي أسامة الجامع وتصريحه بأنه “كتاب يستحق وبفخر أن يوضع في المكتبة العربية، كصوت مفعم بالقوة، ليقول لليائسين هناك أمل وأنا أمامكم، وهذه قصتي”.

أفضل وقت لطلب المساعدة من الطبيب أو الصديق برأي وفاء هو عندما تشعر أنك على وشك الدخول إلى نوبة اكتئاب أو في بدايتها. فتوقُّعُ المطر يجعلك تحمل معك مظلة. وتنبَّه من إغراقِ مَن حولك بمشاكلك النفسية، وهذا لا يعني الإخفاء عنهم، فقط “تذكر أن صديقك ليس معالجك النفسي. فلا تثقل صديقك أكثر مما يحتمل واحتفظ بأثقل أفكارك ومشاعرك للمعالج. وإلا أصبحتما شخصين مكتئبين بدلًا من واحد”.

تصحيح التصوّرات وإزالة الوصمة تجاه الأمراض النفسية لا يعني إسباغ المدائح عليها وإبراز مزاياها وفضائل بعض المصابين بها؛ فهذا ينقل التطرف من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين، المطلوب هو الاتزان وإنزال الأمور منازلها، وبيان طبيعية أمراض النفس كما هي أمراض الجسد. لا شيء أخلاقي في تجميل الاكتئاب، ولا شيء جيّد يتأتّى من مديحه أو تبجيله أو اعتباره ظرفًا امتيازيًّا.
12
👍1
شاطئ هادئ

الصحة النفسية خط متصل يمتد من امتلاك صحة نفسية جيدة في طرف إلى المعاناة من اضطراب نفسي في الطرف الآخر، ويختلف موقع الأشخاص على هذا الخط المتصل خلال مسيرة حياتهم. طرف الصحة النفسية يُمثّل بتعريف منظمة الصحة العالمية بأنه “حالة من الصحة يدرك من خلالها الشخص قدراته ويستطيع التعامل مع ضغوط الحياة العادية ويستطيع العمل بشكل منتج ومكتمل ويكون قادرًا على المساهمة في مجتمعه”. فالشخص الذي لديه صحة نفسية جيدة سليم في مشاعره وتفكيره وإدراكه وسلوكه، ويقوم بأداء جيد في العمل والدراسة ولديه علاقات إيجابية مع الناس من حوله.

وأما طرف الاضطراب النفسي بتعريف الدكتور نبيل القط في “حكايات التعب والشفاء” فهو “نوع من الاضطراب في الوجدان أو في التفكير أو في السلوك يؤدي إلى ضغط نفسي، يتعرض له الإنسان، أو إلى إعاقته عن القيام بأنشطته اليومية، أو زيادة في تعرضه للمشكلات، أو معاناة في حياته العادية”.

السلام النفسي ليس معناه أن تتحول حياتك إلى نعيم دائم، بل يعني فقط القدرة على الوصول إلى حالة من السكينة الذهنية وسط فوضى الحياة العارمة، أن تمتلك شاطئًا نفسيًّا هادئًا تتردد إليه متى شئت.

سرد السير الذاتية لذيذ لكاتبها ولقارئها، لأن استحضار الأفراح استذكار للحظات الجميلة واستئناس بها، وكذلك استحضار الآلام والأحزان بعد نهايتها تذكيرٌ بنعمة مجاوزتها.

سيُفتح الباب ما دمت تطرق، سيُشع الضوء ما دمت تعمل، اليأس هو الموت. وتذكّر أن “لكل ليل قمر”، كما يقول التبريزي، “حتى ذلك الليل الذي بداخلك”. وأن لكل نهار شمس، حتى وإن اختبأت خلف الغيوم. الميزة الوحيدة للاكتئاب هي أنه مرضٌ يمكن قهره. وأن الغالبية العظمى من المرضى النفسيين يتعافون حتى حينما يكون المرض في أبشع أشكاله، ويعيشون بعد ذلك حياة لا تقل سعادة عن حياة نظرائهم ممن لم يتعرضوا للمرض

13
👍1
الرياضيات ما بين وجود الله عند ديكارت وحرّية الإرادة عند سبينوزا

مارك شوفاني





لطالما كانت الرياضيات الأداة الأكثر دقّةٍ التي يستعملها الفلاسفة لبناء حججٍ واضحة تخدم فرضياتهم وأطروحاتهم الفلسفية. إنّ خاصّيّة زوايا المثلث (the property of angles of the triangle) القائلة بأنّ مجموع الزوايا الداخلية للمثلث يساوي ١٨٠ درجة، استعملها العديد من الفلاسفة لدعم مواقفهم المختلفة. رينيه ديكارت (١٥٩٦ – ١٦٥٠) وباروخ سبينوزا (١٦٣٢ – ١٦٧٧) يعتبران أنّ هذه الخاصّيّة كامنةٌ في مفهوم المثلث ولا تضيف أيّ شيءٍ على هذا المفهوم، أي أنّ تعريف المثلث يحتوي على هذه الخاصّيّة. يقوم ديكارت ببناء المشابهة بين جوهر الكائن الكامل، أي الله، وبين مفهوم المثلث، ويعتبر أنّ وجود الله هو خاصّيّةٌ تكمن في جوهره كما أنّ خاصّيّة المثلث تكمن في تعريفه. أما بالنسبة لسبينوزا، الإرادة الإنسانية والفطنة (intellect) هما بالنهاية الشيء ذاته، وذلك بمعنى أنّ الأحكام أو الخيارات التي نقوم بها هي مجرد أفكارٍ. فنحن نعتقد بأننا نقوم بالحكم على المثلث بأنّ لديه خاصّيّة الزوايا وكأننا نضيف شيئًا جديدًا لا تحتويه فكرة المثلث، لكننا بالحقيقة نقوم باستنتاجٍ يحتويه مفهوم المثلث. وذلك يعني أننا لم نخرج من فكرة المثلث وأنّ الحكم بشأن الخاصّيّة ليس من عمل الإرادة الإنسانية وإنما الفطنة التي تشكّل عملًا فكريًا لا أكثر. إنّ هدف سبينوزا في هذا السياق هو دعم موقفه بأنّ الإرادة الحرّة هي مجرد وهمٍ لأنّ أحكامنا هي مجرد أفكارٍ.

في هذا المقال، بعد توضيح موقفيّ ديكارت وسبينوزا، سوف أقدّم نقدًا مبرَّرًا لفكرة احتواء مفهوم المثلث لخاصّيّة الزوايا مستفيدًا ممّا قدّمه إيمانويل كانط (١٧٢٤ – ١٨٠٤) عن هذه الخاصّيّة. إنّ التمييز الذي قام به كانط بين ما هو “تحليلي” (analytic) وبين ما هو “اصطناعي” (synthetic) ينطبق على مفهوم المثلث وخاصّيّة زواياه؛ فيكون الحكم تحليليًّا إذا اعتبرنا أنّ تعريف المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا، ويكون اصطناعيًّا إذا اعتبرنا أنّ التعريف لا يحتوي على الخاصّيّة، بل أنّ الخاصّيّة تضيف شيئًا لا يحتويه تعريف المثلث. إنّ أهمية هذا الخَيار ما بين النظرة التحليلية والاصطناعية لا تقف فقط عند أهداف ديكارت وسبينوزا بما يخص وجود الله والإرادة الحرّة، بل تؤثر أيضًا على نظرتنا للرياضيات. فإذا كانت الرياضيات تحليلية، هذا يعني أنها طوطولوجية (tautology)، أي أنها سلسلةٌ من الأفكار ذاتها التي تقال بطرقٍ مختلفة. مثلًا، عندما نعتبر أنّ خاصّيّة الزوايا لا تضيف شيئًا على تعريف المثلث، هذا يعني أنّ هذه الخاصّيّة مجرد تعريفٍ آخر للمثلث. وفي حال كانت نظرتنا للرياضيات بأنها اصطناعية، هذا يعني بأنها سلسلةٌ من الأفكار المختلفة عن بعضها بعضًا. إذًا، سوف أجادل بأنّ التأكيد الذي نقوم به بشأن خاصّيّة زوايا المثلث هو اصطناعي وليس تحليلي، وإننا نضيف بهذا التأكيد شيئًا لا يحتويه تعريف المثلث. لكن هذا لا يعني أنّ ديكارت لا يمكنه تقديم تشبيهٍ آخر لدعم مسألته، كما أنه لا يعني، بالنسبة لمسألة سبينوزا، أكثر من أنّ الإرادة تختلف عن الفطنة، وهذا لا يُعتبَر كافيًا لإثبات حرية الارادة، ولكنه يشكّل خطوةً أساسية بهذا الاتجاه.

1
مسألة وجود الله عند ديكارت

قدّم ديكارت في عمله “تأملات في الفلسفة الأولى” (Meditations on First Philosophy) عام ١٦٤١، الحقيقة الأولى التي لا يمكن أن يشكّ بأمرها، وهي أنه يفكّر. ثم استنتج من هذه الحقيقة وجوده، معبّرًا عنها في جملته الشهيرة “أنا أفكر إذًا أنا موجود”. يؤكد ديكارت أنّ هناك حقائق مثل الأعداد في الحسابيات (arithmetic) والأشكال الهندسية لا يمكن الشكّ بأمرها، وذلك لأنه يعرفها بطريقةٍ واضحة وبارزة (clear and distinct). يضيف ديكارت على هذه الأفكار، فكرة الكمال. لكنّ ديكارت ليس كائنًا كاملًا، ولا يمكنه أن يأتي بفكرة الكمال بنفسه. لذلك، يعتقد ديكارت أنّ الكمال هو كائنٌ أعطاه فكرة الكمال. هذا الكائن هو الله، لكن هل هو موجود؟ الكينونة تدلّ على أنّ هناك جوهر (essence) الكمال، لكنّ ديكارت يعتبر أنّ وجود الكائن هو خاصّيّةٌ لجوهره. إنّ هذه الخاصّيّة لا يمكن ألّا تكون صحيحةً، أي لا يمكن لله ألّا يكون موجودًا، وهذا لأنّ الكمال لا يمكن له ألّا يملك خاصّيّة الوجود، وإلّا أصبح ناقصًا. لكن هل يمكن للوجود أن يكون خاصّيّةً للجوهر؟ أليس وجود الشيء يسبق خصائصه؟ جواب ديكارت على هذا الاعتراض هو أنّ جوهر الله لديه بعض الخصائص كأن يكون كُلّيّ القدرة مثلًا، فإذا قبلْنا بأن تكون القدرة الكلّيّة من خصائص الجوهر، فلم لا نقبل بالوجود كخاصّيّةٍ أخرى (Descartes 136)؟ لذلك، يمكننا مشابهة جوهر الله مع تعريف المثلث بما أنّ تعريف المثلث هو جوهره، ثم استنتاج أنّ خاصّيّة وجود الله تكمن في جوهر الله كما أنّ خاصّيّة الزوايا تكمن في تعريف أو فكرة المثلث.

مسألة الإرادة عند سبينوزا

يقدّم سبينوزا في كتابه “الأخلاق” (١٦٧٧) نظرته للطبيعة بأنها “الإله” أو “الله” الذي يحتوي كل ما هو موجود. لكن مفهوم الطبيعة لا يقف عند المادة أو الامتداد (extension)، بل يشمل الفكر أيضًا. إنّ عنوان الكتاب يعبّر عن هدف مضمونه، إذ إنّ الجزء الأخير منه فقط عن الأخلاق، حيث يوظّف سبينوزا كلّ أفكاره عن الطبيعة والإنسان التي طرحها في الأجزاء السابقة في سبيل سعادة الإنسان. المادة والفكر ينبعان من كيانٍ واحد، فكما أنّ الإنسان كيانٌ واحد فيه الجسد والفكر، كذلك الطبيعة، أو الله، فيها الامتداد والفكر. لكن هناك نوعٌ من التوازي بين ما هو مادي وما هو فكري، وليس هناك من علاقة سببية بينهما. هذا التوازي يأتي في إطار الحتمية (determinism) التي لا تنطبق فقط على الجزء المادي من الطبيعة، بل على الفكر أيضًا. وكما يوضح في مقدمة الكتاب، الفكر الانساني محكومٌ بالحتمية أيضًا.

بالنسبة لسبينوزا، ليست الإرادة والفطنة ملكاتٌ مطلقة، أي أنها قدراتٌ تعمل في أوقاتٍ محدّدة على أشياءٍ معينة. بعبارةٍ أخرى، تقتصر الإرادة على إرادةٍ معينة، إرادة هذا أو ذاك، والفطنة تقتصر على أفكارٍ معينة، هذه الفكرة أو تلك. هذا ما يصرّح به سبينوزا بهذا الخصوص:

“[…] في العقل، لا توجد ملكةٌ مطلقة للفهم، والرغبة، والمحبة، وما إلى ذلك. إذًا، يترتّب على ذلك أنّ هذه الملكات وما شابهها هي إما خيالية تمامًا أو ليست أكثر من كياناتٍ ميتافيزيقية أو كليّاتٍ عامة (universals) تتشكَّل من الأشياء الخاصّة المحدّدة. لذا فإن الفطنة ستحمل ذات العلاقة مع هذه الفكرة أو تلك، هذا التأكيد أو ذاك.” (Spinoza 272)

يوضّح سبينوزا هنا أنه يمكننا فهم الفطنة والإرادة وغيرها من ملكات العقل من خلال تشبيه عملها بالعلاقة بين الكليات العامة والأشياء الخاصة، كالعلاقة بين مفهوم الجمال العام والأشياء الجميلة الخاصّة. بمعنى أنه لا يمكننا فهم الفطنة أو الإرادة إلّا من خلال عملٍ خاص لها. ثم يتابع بتعريف الإرادة كملكة أو كقدرة التأكيد والإنكار، وليس الرغبة. ويعني بذلك القوة التي بموجبها يؤكّد العقل أو ينكر ما هو صحيح أو ما هو خطأ، وليس الرغبة التي يسعى العقل بواسطتها إلى البحث عن الأشياء أو تجنّبها (Spinoza 272). يقدّم هذا التعريف الإرادة باعتبارها القدرة على التأكيد، أو الملكة المسؤولة عن تقديم التأكيدات، لأن التأكيد هو فعل القبول أو الإنكار في الحكم. من جهة أخرى يقدّم سبينوزا الفطنة على أنها نمطٌ من التفكير، ممّا يعني أنها ملكة الفهم والأفكار.

2
👍1
إنّ عدم تمييز سبينوزا ما بين الإرادة والفطنة بالقول إنهما الشيء ذاته (Spinoza 273)، هو خطوةٌ أساسية لتأكيد أننا نخدع أنفسنا حين نقول بأنّ لدينا حرية الإرادة (Schmid 267). فإذا كانت الخيارات التي نقوم بها هي مجرّد أفكار، ليس هناك من فعلٍ إراديّ يقوم به الإنسان. لهذا الهدف، يقوم سبينوزا في البداية بإثبات أننا حين نقول بأنّ المثلث لديه خاصّيّة الزوايا الداخلية، نظنّ بأنّ هذا التأكيد ينبع من مشيئةٍ أو إرادةٍ، لكنها مجرد فكرة، تحديدًا فكرة المثلث. ثم يقوم بتعميم هذه النتيجة على كلّ التأكيدات التي يمكن القيام بها حيث نخدع أنفسنا بالقول إنها من عمل الإرادة (Spinoza 272, 273). باختصار، إنّ الفكرة تحتوي على التأكيد (affirmation)، وبالتالي التأكيدات جميعها مجرد أفكارٍ من عمل الفطنة.

يفسّر سبينوزا احتواء فكرة المثلث على خاصّيّة الزوايا الداخلية بخطوتين: الأولى أنه لا يمكننا تصوُّر المثلث من دون خاصّيّة الزوايا، والثانية أنه لا يمكننا تصوُّر خاصّيّة الزوايا من دون المثلث. بالنسبة للخطوة الأولى، إنّ فكرة المثلث تقوم على ثلاث نقاطٍ متّصلة ببعضها من خلال ثلاثة خطوطٍ مستقيمة. لا يمكننا أن نتصوَّر في أذهاننا المثلث من دون أن يمتلك خاصّيّة الزوايا الداخلية لأنه يمتلك الزوايا الثلاث التي حُكمًا سوف يكون مجموعها ١٨٠ درجة. طبعًا، سبينوزا يطرح الموضوع وكأننا نتصوَّر المثلث في ذهننا كما يُرسَم على ورقةٍ في الفضاء الإقليدي (Euclidean space). بتعبيرٍ آخر، لا يمكننا رسم مثلثٍ، أي ثلاث نقاطٍ متّصلة بثلاثة خطوطٍ مستقيمة، مع مجموعٍ للزوايا الثلاث لا يساوي ١٨٠ درجة. أما بالنسبة للخطوة الثانية، فإذا أردنا تصوُّر ثلاث زوايا متّصلة ببعضها ومجموعها ١٨٠ درجة، لا يمكن إلّا أن تُشكّل مثلثًا. طبعًا، يمكننا تصوُّر ثلاث زوايا منفصلة يساوي مجموعها ١٨٠ درجة من دون تشكيل مثلث، لكن يبدو أنّ سبينوزا يأخذ الخاصّيّة بأنها تضمَن رسمًا مُغلقًا؛ مع العلم أنه لم يوضّح هذه النقطة تحديدًا.

نقد مفهوم الاحتواء

إنّ ديكارت، بعكس سبينوزا، لم يوضّح ماذا يقصد بقوله أنّ تعريف المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا. لذلك، سوف أقدّم نقدًا عامًّا لهذا المفهوم ومن ثم سأنتقل لنقد سبينوزا بشكلٍ مباشر.

أولاً، أن يحتوي تعريف المثلث على خاصّيّة الزوايا، يعني أنه يمكننا إثبات الخاصّيّة انطلاقًا من التعريف فقط. أي أنه إذا أردنا أن نبني حجّةً لكي نثبت الخاصّيّة، يجب أن تكون مقدّمة الحجّة تعريف المثلث، وعلى الاستنتاج أن يكون أنّ مجموع الزوايا يساوي ١٨٠ درجة. إلّا أنّ هذا ليس وصفًا دقيقًا لأننا بحاجة لتعريفاتٍ أخرى، أي مختلفة عن تعريف المثلث، لكي نصل إلى النتيجة المرجوّة. فإذا رسمنا مثلثًا، ولكي نثبت خاصّيّة الزوايا، علينا رسم خطٍ مستقيمٍ موازٍ (parallel) لضلعٍ من أضلاعه. وذلك ببساطة لكي نرى أنّ مجموع الزوايا التي تتشكَّل أسفل الخط المستقيم ١٨٠ درجة، كما مجموع الزوايا التي تتشكَّل من الجهة الأخرى من الخط، أي أعلاه. إذًا، لا بد لنا أن نستعمل تعريف التوازي، وهو تعريفٌ لا علاقة له بتعريف المثلث، أي أنّ تعريف المثلث لا يحتوي على تعريف التوازي. ذلك لأنّ ليس في المثلث أيّ خطوطٍ موازية، ولا نحتاج لتعريف المثلث سوى لمفهومي النقطة والخط المستقيم في الفضاء الإقليدي. لذلك السبب، وبما أنه لا يمكننا أن نصل إلى استنتاج الخاصّيّة إلّا عبر استعمال مفهوم التوازي المستقل عن مفهوم المثلث، لا يمكننا تأكيد أنّ تعريف المثلث يحتوي على الخاصّيّة.

3
ثانيًا، سبينوزا يقوم بتعميم احتواء فكرة المثلث على التأكيد بأنّ مجموع زواياه يساوي ١٨٠ درجة على التأكيدات جميعها، أي أنّ كلّ تأكيدٍ تحتويه فكرة معينة. لذلك، النقد الأول الذي سأقدمه لسبينوزا هو أنّ التعميم هذا لا يجوز، وذلك بتقديم مثل معاكس له. سوف أقدّم فكرةً أخرى في علم الهندسة، أي مختلفة عن فكرة المثلث، حيث يمكننا تصوُّر خاصّيّة معينة تابعة لها من دون تصوُّر الفكرة بحد ذاتها. لنأخذ على سبيل المثال فكرة المربع، وهو شكلٌ مغلقٌ رباعيّ الأضلاع (quadrilateral) متساوي الزوايا والأضلاع. إنّ المربع لديه خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية، أي أنه إذا اخترنا ضلعًا معينًا، فالضلع الذي في الجهة المقابلة يكون حتمًا موازٍ له. يتم استنتاج هذه الخاصّيّة من تعريف المربع، فلا يمكننا تصوُّر المربع من دون أن يكون لديه خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية، لكن يمكننا تصوُّر هذه الخاصّيّة من دون المربع إذ أنّ جميع الأشكال الرباعية الأضلاع لديها خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية. مثلًا، يمكننا تصوُّر الخاصّيّة مع الشكل المستطيل وليس المربع. لذلك، وفي هذه الحالة، نحن نتصوَّر الخاصّيّة من دون المربع. فإذًا، حتى وإن وافقنا على أنّ تعريف المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا، مع اعتماد مفهوم سبينوزا للاحتواء، فلا يمكننا تعميم هذه النتيجة على جميع التأكيدات.



التمييز بين التحليلي والاصطناعي

من أجل متابعة نقد سبينوزا والتأكيد أنه يمكننا تصوُّر فكرة المثلث من دون خاصّيّة الزوايا، علينا أن ندقّق فيما قدّمه ايمانويل كانط عن التمييز التحليلي الاصطناعي.

في كتابه “نقد العقل الخالص” (١٧٨١)، بحث كانط في إمكانية الأحكام البديهية الاصطناعية (a priori synthetic judgments). الافتراض أو الحكم البديهي (a priori) هو الذي لا يعتمد على الخبرة أو التجربة لتبريره، مثلًا “الأعزب غير متزوج”. بالمقابل، هناك أحكامٌ أو افتراضاتٌ استدلالية (a posteriori) تحتاج للخبرة أو التجربة للتحقق منها، مثلاً “جميع العزّاب سعداء”. يدقّق كانط في العلاقة بين المبتدأ والخبر (subject and predicate) ويحدّد على هذا الأساس التمييز بين الافتراض التحليلي والاصطناعي (Kant A 6 – 7 / B10 – 11). الافتراض التحليلي هو الذي يَرِد مفهوم خبره في مفهوم مبتدئه، أمّا الافتراض الاصطناعي فهو الذي، على العكس، لا يَرِد مفهوم خبره في مفهوم مبتدئه. إذا أخذنا الافتراض البديهي “الأعزب غير متزوج”، إنّ مفهوم العزوبية يحتوي على مفهوم “غير المتزوج”، فالخبر لا يضيف شيئًا على مفهوم المبتدأ. إذًا، الافتراض البديهي “الأعزب غير متزوج” هو تحليلي وليس اصطناعي. أمّا الافتراض الاستدلالي “جميع العزّاب سعداء”، فهو اصطناعي وليس تحليلي لأنّ مفهوم العزوبية لا يحتوي على مفهوم السعادة. فلنأخذ على سبيل المثال “المثلث له ثلاثة أضلاع”، إنه افتراضٌ بديهي تحليلي لأننا لا نحتاج إلى التجربة لتبريره ولأنّ مفهوم خبره لا يضيف شيئًا على مفهوم مبتدئه. أمّا إذا قلنا “المثلث لديه خاصّيّة الزوايا” أو “المثلث له مجموع زواياه ١٨٠ درجة”، هذا الحكم بالنسبة لكانط بديهي اصطناعي. فمفهوم جمع الزوايا لا يَرِد في مفهوم المثلث، أي أنّ فكرة المثلث منفصلة عن فكرة قيمة جمع الزوايا.

4
👍1
يعالج كانط المسألة عبر التمييز بين الفيلسوف وعالِم الرياضيات في قوله التالي:

“لنفترض أنّ الفيلسوف قد أُعطي مفهوم المثلث وتُرِكَ ليكتشف من تلقاء نفسه، وبطريقته الخاصة، ما العلاقة بين مجموع زواياه والزاوية القائمة[1]. ليس لديه سوى مفهوم الشكل المحاط بثلاثة خطوط مستقيمة وله ثلاث زوايا. مهما طال تأمّله في هذا المفهوم، فلن ينتج أبدًا أيّ شيءٍ جديد.” (Kant A 716 / B 744)

الفيلسوف، كما يفترضه كانط، لا يعرف شيئًا عن خاصّيّة الزوايا الداخلية للمثلث، لكنه متخصّص في تحليل المفاهيم والكشف عن المستور فيها. يفكّر ويتأمّل الفيلسوف في مفهوم المثلث الذي يحتوي على ثلاث نقاطٍ تمثّل رؤوس المثلث، الخطوط المستقيمة التي تمثل جوانب المثلث، زوايا المثلث، كما أنه يمكنه التأمّل في العدد “ثلاثة” لأنّ مفهوم المثلث يحتويه، نظرًا إلى أنّ هناك ثلاث زوايا وثلاثة أضلاع. يتابع كانط الجدل بالقول: “يمكن للفيلسوف أن يحلّل ويوضّح مفهوم الخط المستقيم أو الزاوية أو مفهوم العدد ثلاثة، لكنه لا يستطيع أبدًا الوصول إلى أيّ خصائصٍ ليست موجودة بالفعل ضمن هذه المفاهيم” (Kant A 716 / B 744). ولكي يستطيع كانط أن يجاوب بدقّةٍ ووضوحٍ عمّا إذا كان لدى الفيلسوف القدرة على الوصول إلى استنتاج خاصّيّة الزوايا الداخلية للمثلث، يقارن ما بين تأمُّل الفيلسوف في مفهوم المثلث وبين عالِم الرياضيات، كالتالي:

“الآن دع عالِم الهندسة (geometrician) يجيب على هذه الأسئلة. يبدأ في الحال ببناء مثلثٍ. نظرًا لأنه يعلَم أنّ مجموع زاويتين قائمتين يساوي تمامًا مجموع كلّ الزوايا المتجاورة التي يمكن بناؤها من نقطةٍ واحدةٍ على خطٍ مستقيمٍ، فإنه يطيل جانبًا واحدًا من مثلثه ويحصل على زاويتين متجاورتين، والتي تساوي معًا زاويتين قائمتين. ثم يقسم الزاوية الخارجية برسم خطٍ موازٍ للجانب المقابل للمثلث، ويلاحظ أنه بذلك قد اكتسب زاوية خارجية مجاورة تساوي زاوية داخلية، وما إلى ذلك من خطواتٍ أخرى. بهذه الطريقة، من خلال سلسلةٍ من الاستدلالات التي يسترشد بها الحدس، يصل إلى حلٍّ واضحٍ تمامًا وصالحٍ كليًا للمسألة.” (Kant A 716 – 717 / B 744 – 745)

الشيء المهم الذي يجب فهمه هنا هو أن لدينا العديد من الخطوات التي يجب التفكير بها من أجل الوصول إلى خاصّيّة الزوايا، والتي لم يفعلها الفيلسوف. وأريد أن أشير إلى أنه ليس من المهم رسم المثلث على ورقةٍ لأنه يمكن للمرء أن يتصوّر الخطوات في ذهنه دون رسمها. إذًا، بمقارنة عمل عالِم الرياضيات بعمل الفيلسوف، يمكننا أن نرى أنّ المعرفة المسبقة للخاصّيّة هي شيءٌ ضروري لاستنتاجها. إذ إنّ كانط يقترح أنّ الفرق بين الفيلسوف وعالم الرياضيات هو أنّ هذا الأخير يعلم مسبقًا أن المثلث لديه هذه الخاصّيّة، وثم يقوم بإثبات النتيجة المتوقَّعة من خلال خطواتٍ معينة. وبالتالي، فإنّ خاصّيّة المثلث لا تَرِد في مفهوم المثلث وفقًا لكانط، فلو كان مفهوم المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا، لكان الفيلسوف قد استطاع استنتاجها من خلال تأمّله في مفهوم المثلث. وللتأكد من أنّ هذا هو مقصد كانط، سأستشهد بهذا المقطع:

“نحن لسنا مهتمين هنا بالافتراضات التحليلية التي يمكن إنتاجها بمجرّد تحليل المفاهيم (في هذا سيكون للفيلسوف بالتأكيد الأفضلية على منافسه عالِم الرياضيات)، ولكن بالافتراضات الاصطناعية، وبالطبع فقط تلك الافتراضات الاصطناعية التي يمكن معرفتها بطريقةٍ بديهية (a priori). لأنني يجب ألّا أحصر انتباهي على ما أفكّر فيه في مفهومي عن المثلث (هذا ليس أكثر من مجرد تعريفٍ)؛ بل يجب أن أنتقل إلى خصائصٍ غير واردةٍ في هذا المفهوم، لكنها مع ذلك متعلقةٌ به.” (Kant A 718 / B 746)

5
إذاً، بالنسبة لكانط، خاصّيّة الزوايا متعلقةٌ بمفهوم المثلث كما أنّ مفهوم السعادة متعلقٌ بمفهوم العزوبية في الافتراض “جميع العزّاب سعداء”. إنّ مفهوم السعادة له ما يربطه بمفهوم العزوبية، لكن هذه العلاقة ليست علاقة احتواء. لذلك، إنّ مفهوم المثلث لا يحتوي على خاصّيّة الزوايا، حتى وإن كان هناك ما يربط بينهما.

الحكم الاصطناعي والإرادة الحرة

إنّ ما يفيدنا به كانط من خلال تمييزه بين الفيلسوف وعالم الرياضيات هو النظرة الاصطناعية للرياضيات. إنّ الفيلسوف لا يعرف مسبقًا أنّ المثلث يتميّز بخاصّيّة الزوايا، ولذلك لم يستطع الوصول إليها من خلال تأمله بالمثلث. إذًا، عندما يكون الشخص على علمٍ مسبقٍ بخاصّيّة الزوايا، يخدع نفسه بالقول إنّ مفهوم المثلث يحتوي على هذه الخاصّيّة. أمّا الشخص الذي يفكّر للمرة الأولى بهذه الخاصّيّة، فهو يقوم بحكمٍ على المثلث ويضيف على مفهومه شيئًا لا يحتويه. هذا يجعلنا نرى بوضوح أنّ هناك أحكامًا اصطناعية في الرياضيات، لكننا عبر تعلُّمها من الآخرين يصبح لدينا المعرفة المسبقة بها، ما يجعلها تبدو كالافتراضات التحليلية وليس الاصطناعية.

إنّ اعتبار أنّ هناك افتراضاتٌ اصطناعية في الرياضيات يجعلنا نرى أنّ التأكيدات ليست مجرد أفكار كما يقترح سبينوزا. إذا كان التأكيد بأنّ المثلث لديه خاصّيّة الزوايا هو مجرد فكرة، تحديدًا فكرة المثلث، هذا يعني أنّ التأكيد ليس فعلًا إراديًا. بالنسبة لسبينوزا، الإرادة هي الفطنة، أي أنّ عمل الإرادة، وهو التأكيد، هو عمل الفطنة لا أكثر ولا أقل. لذلك، بعد التوضيح الذي قام به كانط بالتمييز بين الأحكام التحليلية والاصطناعية، وبما أنّ التأكيدات بالنسبة لسبينوزا من عمل الإرادة وليس الفطنة، استنادًا على تعريفه للإرادة والفطنة قبل دمجهما وكأنهم القدرة ذاتها، يمكننا القول إنّ التأكيد بأنّ المثلث يتميّز بخاصّيّة الزوايا هو شيءٌ تستطيع الإرادة فعله وليس من عمل الفطنة. وعلى عكس ما يزعم سبينوزا، الإرادة والفطنة لا يُشكّلان الملكة أو القدرة ذاتها، بل إنهما قدرتان مختلفتان عن بعضهما. إذًا، الموقف الكانطي يفسح المجال أمام الإرادة بأن تكون مختلفة عن الفطنة، وبذلك، يعطي منفذًا لحرية الإرادة بأن تضيف ما لا تحتويه مفاهيم الفطنة. والأهم، أن نرى كانط يجاوب سبينوزا أنه يمكننا أن نتصوَّر مفهوم المثلث من دون خاصّيّة الزوايا، وذلك ما فعله الفيلسوف في تأمُّله للمثلث من دون أن يتصوَّر خاصّيّة الزوايا. وهذا بفضل أنّ الحكم الذي نطلقه على المثلث بأنه يتميّز بخاصّيّة الزوايا اصطناعي، فلو كان الحكم تحليليًا لكان استطاع الفيلسوف أن يصل إليه. فعمل الفيلسوف يقتصر هنا على تحليل المفاهيم وفهمها بدقّة، لذلك يعتبر كانط أنه لو كان مفهوم المثلث يحتوي فعلاً على خاصّيّة الزوايا، لكان الفيلسوف اكتشفها من تأمله بالمفهوم. إذًا، هناك نوعٌ من الانفصال بين مفهوم المثلث وخاصّيّة الزوايا، وهذا ما سمح للفيلسوف أن يتصوَّر المثلث من دون الخاصّيّة.

6
الخاتمة

إنّ نظرة سبينوزا لافتراضات الرياضيات بأنها تحليلية، سمحت له بأن يرى جميع التأكيدات التي نقوم بها عبر الإرادة بأنها مجرد عملٍ فكري للفطنة، لا تضيف شيئًا على المفاهيم. وعبَّر عن ذلك بقوله إنّ مفهوم المثلث يحتوي على ما نؤكّده عن خاصّيّة الزوايا؛ فلا يمكننا أن نتصور المثلث من دون الخاصّيّة ولا الخاصّيّة من دون المثلث. لقد قدّمت مثلًا عن المربع حيث يمكننا أن نتصوَّر خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية من دون تصوُّر مفهوم المربع، ممّا يعني أنه لا يمكننا تعميم الجزء الأول من مفهوم سبينوزا للاحتواء، تحديدًا أنه لا يمكننا تصوُّر خاصّيّة الزوايا من دون تصوُّر المثلث. وعبر كانط، يمكننا أن نرى أن الجزء الثاني من مفهوم سبينوزا للاحتواء خاطئٌ، الجزء الذي أكّد فيه أنه لا يمكننا تصوُّر المثلث من دون خاصّيّة الزوايا. وبذلك، نكون قد نقدنا الفكرة الأساسية التي يعتمد عليها تشبيه ديكارت وحجّة سبينوزا.

[1] الزاوية القائمة هي الزاوية التي تساوي ٩٠ درجة. إنّ خاصّيّة زوايا المثلث يمكن التعبير عنها بالقول إنّ مجموع الزوايا الداخلية الثلاث للمثلث يساوي ضعف الزاوية القائمة، أي ١٨٠ درجة.

مراجع:

Descartes, René, John Cottingham, Robert Stoothoff, Dugald Murdoch, and Anthony Kenny. Descartes: Selected Philosophical Writings. Cambridge: Cambridge University Press, 1998.

Kant, Immanuel, Paul Guyer, and Allen W. Wood. Critique of Pure Reason, edited by Guyer, Paul, Allen W. Wood. Cambridge: Cambridge University Press, 1998;1999;2013;. doi:10.1017/CBO9780511804649

Schmid, Stephan, Spinoza on the Unity of Will and Intellect in Partitioning the Soul, Klaus Corcilius, Dominik Perler. Berlin/Boston: Walter de Gruyter, 2014.

(Spinoza) Samuel Shirley, Spinoza’s Complete Works. Edited with Introduction and Notes by Michael L. Morgan. Hackett Publishing Company, Indianapolis, 2002.

7

الفيلسوف الجديد

@Newphilosopher
👍1
شرح نظرية العوالم المتعددة
جون غريبين - ترجمة: عبدالحكيم النقيدان



إن فيزياء الكم غريبة، أو على الأقل غريبة بالنسبة لنا، وذلك لأن قوانين الكم التي تحكم العالم على المستوى الذري وما تحت الذري (سلوك الضوء والمادة كما عبر عنها الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان) هي ليست القوانين المألوفة لنا والتي نطلق عليها “الحس السليم common sense”.

قوانين ميكانيكا الكم التي تم تأسيسها في نهاية العشرينيات الميلادية تبدو وكأنها تخبرنا أن القطة يمكن أن تكون حية وميتة في نفس الوقت، وأن الجسيم يمكن أن يكون في مكانين في لحظة واحدة. لكن لسوء حظ كثير من الفيزيائيين، فضلا عن الناس العاديين، لم يستطع أحد أن يأتي بشرح لما يحدث بالضبط، شرحا موافقا للحس السليم. وعدد من الفيزيائيين يجدون عزاءهم في سُبل أخرى بلا شك، فهم بشكل أو بآخر يأتون بطرق متنوعة لشرح ماذا يجري في العالم الكمي.

هذه الطرق أو العزاءت الكمية تسمى “تفسيرات”. وعلى مستوى المعادلات فلا يوجد تفسير من هذه التفسيرات أفضل من الآخر، على الرغم من أن أصحاب التفسير وأتباعهم سيخبرونك أن تفسيرهم المفضل هو المذهب الصحيح، وكل التفسيرات الأخرى هرطقة. ومن ناحية أخرى ليس هناك أيٌّ من هذه التفسيرات أسوأ من الآخر من الناحية الرياضية. لذلك على الأحرى أن هناك شيء ما مفقود، وربما يوما ما سيُكتشف وصف جديد وجميل للعالم بحيث يعطينا نفس التنبؤات الحالية لنظرية الكم، وأيضا يكون قابلا للفهم. نأمل ذلك على الأقل.

في هذه الأثناء، أردتُّ أن أقدم نظرة لا أدرية عن واحدة من ألمع الفرضيات، إنها نظرية العوالم المتعددة، أو الأكوان المتعددة. أما بخصوص التفسيرات الخمسة الأخرى فقد أشرت إليها في كتابي “ستة أشياء مستحيلة Six Impossible Things “. أعتقد أنك ستراها ضربا من الجنون بالنسبة لحسنا السليم، وبعضها أكثر جنونا من الآخر، لكن في ذلك العالم، الجنون لا يعني الخطأ، وكونك أكثر جنونا لا يعني أنك أكثر خطئا.

لو كنتَ قد سمعت من قَبل عن تفسير العوالم المتعددة Many World Interpretation (MWI) فمن المحتمل أنك ستعتقد أن الذي اخترعها هو الأمريكي هيو إيفيرت Hugh Everett في منتصف الخمسينيات الميلادية. وهذا صحيح من جانب، فهو قد أتى بهذه الفكرة بنفسه، لكنه لم يكن يعلم أن نفس الفكرة قد خطرت في بال إيرفين شرودنغر Erwin Schrödinger قبل ذلك بنصف قرن. إلا أن نسخة إيفيرت رياضية، بينما نسخة شرودنغر فلسفية، لكن النقطة الجوهرية هي أن كلاهما كان يدفعه رغبة التخلص من فكرة “انهيار الدالة الموجية”، وكلاهما نجح في ذلك.

على الرغم من أن شرودنغر اعتاد أن يؤكد لكل من ينصت له بأنه لا يوجد شيء في المعادلات (بما فيها معادلته الموجية الشهيرة) يشير إلى أي انهيار، بل إن هذا شيء قد وضعه بور Bohr في النظرية لكي يشرح لماذا تظهر نتيجة واحدة للتجربة -قطة ميتة أو قطة حية- وليس خليط منها، أو تراكب من الحالات. لكن بما أننا لا نرصد إلا نتيجة واحدة -حل واحد لمعادلة الموجة – فهذا لا يعني أن الحلول الأخرى غير موجودة. وقد أشار شرودنغر في ورقته العلمية التي نشرها في عام ١٩٥٢م إلى سخافة الاعتقاد بأن التراكب الكمي سوف ينهار عندما ننظر إليه، وقال بأن ذلك “مناف للعقل بشكل سافر” حيث أن الدالة الموجية “تُحكَم بأحد أمرين: أحيانا تُحكَم بالمعادلة الموجية، وأحيانا تُحكَم بالتدخل المباشر من المراقب وليس من المعادلة الموجية”.

1
1
وبالرغم من أن شرودنغر لم يطبق فكرته على قطته الشهيرة، إلا أن الفكرة تحل تلك المشكلة بإتقان، فهو يقول -بمصطلحات حديثة- بوجود كونين أو عالمين متوازيين، القطة في واحد منهما ستحيا وفي الآخر ستموت، فعندما يُفتح الصندوق في كون ما ستظهر القطة ميتة، وفي كون آخر ستظهر القطة حية. لذلك سيكون هناك دائما عالَمان متطابقان تماما حتى اللحظة التي تُقرر فيها الآلة المتوحشة مصير القطة، ولا يوجد انهيار للدالة الموجية. ولقد توقع شرودنغر ردة فعل زملائه في كلمة ألقاها في دبلن عام ١٩٥٢م، والتي فيها محل إقامته، فبعدما أكد أن المعادلة المسماة باسمه تبدو وكأنها تصف احتمالات مختلفة (ليست بديلة عن بعضها، لكن كلها تحدث متزامنة) قال: ” تقريبا كل نتيجة يقولها (فيزيائي الكم النظري) يقصد بها احتمالية لهذا أو ذاك أن يحدث، وعادةً معها عدد كبير من البدائل الأخرى. وتبدو له الفكرة التي تقول إنه ربما لا توجد بدائل، بل إن كل الاحتمالات تحدث بشكل متزامن، جنونية، أو مستحيلة وكفى. وهو يعتقد أنه لو اتخذتْ قوانين الطبيعة هذا الشكل، مثلًا، لمدة ربع ساعة، فسوف نرى محيطنا يتحول إلى مستنقع، أو نوع من الهلام الساكن أو البلازما، وكل الحدود تصبح ضبابية، وربما نصبح نحن أيضا قناديل هلامية، وإنه من الغرابة أن يَعتقد هذا الشيء. وفيما أفهمه أنه يُسلّم بأن الطبيعة غير المرصودة تتصرف بهذا الشكل بناء على المعادلة الموجية تحديدا. وإن البدائل المذكورة آنفا تأتي فقط عندما نجري المراقبة، وطبعًا، لا يجب أن تكون المراقبة علمية بالضرورة. ولا تزال تبدو الفكرة التي تقول إن إدراكنا ومراقبتنا للطبيعة هو الذي يحميها من التهلّم المفاجئ، كما يقول فيزيائي الكم النظري، اختيارا غريبا”.

لا أحد في الحقيقة رد على فكرة شرودنغر، بل تم تجاهُلها ونسيانها واعتبارها مستحيلة. لذلك إيفريت طور نسخته من العوالم المتعددة بشكل مستقل تماما، لتصبح هي بدورها مهملة بشكل كامل تقريبا. ولكن إيفيرت هو الذي قدم فكرة «انفصال» الكون لعدة نسخ منه عندما يواجه خيارات كمية، وبذلك زاد الطين بلة لعدة عقود لاحقة.

أتى إيفيرت بهذه الفكرة في عام ١٩٥٥م عندما كان طالب دكتوراة في جامعة برنستون. حيث إنه في النموذج الأصلي للفكرة والتي طورها في مسودة أطروحته للدكتوراة، ولم تنشر في ذلك الوقت، قارن الحالة بالأميبا التي تنقسم لخليتين، فلو كانت الأميبا لديها دماغ فإن كل خلية منقسمة سوف تتذكر نسخة مطابقة من الماضي إلى حين نقطة الانقسام، وبعد ذلك سيكون لها ذاكرتها الخاصة بها. وفي حالة القطة المماثلة والمألوفة، لدينا كون واحد وقطة واحدة قبل تشغيل الآلة المتوحشة، ثم يكون لدينا كونان لكل منهما قطته الخاصة، وهكذا. وقد شجَّعه جون ويلر John Wheeler، مشرفه للدكتوراة، لتطوير وصف رياضي لفكرته في أطروحته وكذلك في ورقة علمية نشرت في مجلة Review of Modern Physics في عام ١٩٥٧م، لكن خلال ذلك، أُسقِطت فكرة التمثيل بالأميبا ولم تظهر في النسخة المطبوعة إلا في وقت لاحق. لكن إيفيرت أشار إلى أنه بما أنه لا يوجد مراقِب يستطيع إدراك وجود عوالم أخرى؛ فإن الادعاء الذي مفاده أنها غير موجودة لأننا لا نستطيع رؤيتها، ليس أفضل من الادعاء بأن الأرض لا تدور حول الشمس لأننا لا نستطيع الإحساس بحركتها.

2
لم يطور إيفيرت فكرته عن تفسير العوالم المتعددة MWI، بل إنه حتى قبل حصوله على الدكتوراة، قَبِل عرض الوظيفة التي قُدّمت له للعمل في البنتاغون في مجموعة تقييم نظام التسليح والتي تُطبق التقنيات الرياضية (المسماة ببراءة: نظرية الألعاب) لمشاكل الحرب الباردة السرية (بعض أعماله سرية جدا إلى الدرجة التي لا تزال مخفية حتى الآن) والتي اختفت كليا من المحيط الأكاديمي. لم تحظ الفكرة بالزخم إلا في نهاية الستينيات الميلادية عندما أخذها بريس ديويت Bryce DeWitt من جامعة شمال كالوراينا وطورها بحماس، حيث كتب:” كل انتقال كمي يحدث في كل نجم، في كل مجرة، في كل زاوية من زوايا الكون فإنه يفصل عالمنا المحلي في الأرض لعدد لا يحصى من النسخ من نفسه.” وقد صار هذا صعبا على ويلر الذي تراجع عن مباركته السابقة لتفسير العوالم المتعددة MWI، وقال في السبعينيات:” كان يجب علي التخلي -مكرهاً- عن دعمي هذا الرأي في النهاية لأني أخشى أنه يحمل الكثير من الحمولة الميتافيزيقية”. ويالسخرية القدر، ففي ذلك الوقت تم إعادة إحياء الفكرة وتحويلها للتطبيق في علم الكونيات والحوسبة الكمية.

بدأت هذه القوة التفسيرية تحظى بالتقدير حتى من قِبل الناس الذي كانوا مترددين في قبولها تماما. فقد أشار جون بيل إلى أن:” الأشخاص سوف يتعددون مع العالَم بالطبع، والذين هم في عالم فرعي محدد لن يدركون إلا ما سيحدث في عالمهم الفرعي هذا” وقد اعترف على مضض بأنها قد توحي بشيء ما، فقال:” إن تفسير العوالم المتعددة يبدو لي متطرفا، وفوق ذلك هو غامض جدا، ومن الممكن اعتباره شيئا سخيفا، وبالرغم من ذلك ربما يعطينا التفسير شيئا مميزا حول معضلة آينشتاين-بودولسكي-روزين، وأعتقد أنه سيكون جديرا بالاهتمام أن نَصوغ منه نسخة رصينة لنرى إن كانت كذلك بالفعل. إن وجود كل العوالم المحتمَلة ربما يجعلنا مرتاحين أكثر حول وجود عالمنا، والذي يبدو -بطريقة ما- ضعيف الاحتمال جدا.”

جاءت النسخة الرصينة من تفسير العوالم المتعددة MWI من ديفيد دويتش David Deutsch في جامعة أوكسفورد، الذي وضع نسخة شرودنغر من الفكرة على قاعدة راسخة، على الرغم من أنه عندما صاغ تفسيره لم يكن يعرف نسخة شرودنغر. عَمِل دويتش مع ديويت في السبعينيات، وفي عام ١٩٧٧م التقى بإيفيرت في مؤتمر نظمه ديويت، وقد كانت المرة الوحيدة التي عرض فيها إيفيرت فكرته على جمهور واسع. وقد أصبح دويتش رائدا في مجال الحوسبة الكمية بسبب قناعته أن تفسير العوالم المتعددة MWI هو الوسيلة الصحيحة لفهم العالم الكمي، وليس بسبب اهتمامه بالكمبيوتر بشكل أساسي، بل لإيمانه أن ظهور كمبيوتر كمي سوف يثبت واقعية تفسير العوالم المتعددة.

من هنا نعود إلى نسخة من فكرة شرودنغر. ففي نسخة إيفيرت من معضلة القطة يوجد قطة واحدة حتى لحظة تشغيل الآلة، ثم بعد ذلك ينفصل الكون إلى اثنين. وبالمثل كما قال ديويت إن إلكترونا في مجرة بعيدة يواجه خيارين (أو أكثر) من المسارات الكمية سيجعل الكون كله ينفصل، بما في ذلك نحن. وفي نسخة دويتش-شرودنغر يوجد عدد لا نهائي من الأكوان المتنوعة يماثل كل الحلول الممكنة لمعادلة الموجة. وفيما يتعلق بتجربة القطة، فإنه يوجد عدد من الأكوان المتطابقة التي يُنشئ فيها التجريبيون المتطابقون آلات متوحشة متطابقة، وهذه الأكوان تكون متطابقة حتى لحظة تشغيل الآلة، ثم في بعض الأكوان القطة تموت، وفي أخرى القطة تكون حية، والزمان التالي سوف يختلف تبعا لذلك. لكن العوالم المتوازية لن تستطيع التواصل فيما بينها … أم أنها تستطيع ذلك؟

3
👍1
يجادل دويتش بأنه عندما يتعرض كونان أو أكثر من الأكوان المتطابقة السابقة إلى التمايز بسبب العمليات الكمية، كالتجربة ذات الثقبين، فإنه سيحدث تداخل مؤقت بين تلك الأكوان، والذي يحدث له انحسار كلما تطوروا زمنيا. هذا هو التفاعل الذي يعطينا النتيجة المرصودة لتلك التجارب. يحلم دويتش أن يرى إنشاء آلة كمية ذكية (كمبيوتر) بحيث تستطيع بعقلها أن تراقب بعض الظواهر الكمية التي يحصل فيها تداخل. وبحجة أكثر حذقا، يَدّعي دويتش أن الكمبيوتر الكمي الذكي سوف يكون قادرا على تذكر تجربة الوجود الزمني في العوالم الواقعية المتوازية، وهذا بعيد عن أن يكون تجربة عملية، لكن دويتش لديه إثبات أسهل بكثير لوجود الأكوان المتعددة.

إن الذي يجعل الكمبيوتر الكمي يختلف نوعيا عن الكمبيوتر العادي هو أن “المفاتيح الكهربائية” بداخله توجد في حالات متراكبة. الكمبيوتر العادي يتركب من مجموعة من المفاتيح الكهربائية (وحدات في الدائرة الكهربائية) والتي تكون في حالةon تشغيل أو off إيقاف، أو رقميا 1 أو 0، وهذا يجعل من الممكن إجراء حسابات عبر معالجة سلاسل من الأرقام بالترميز الثنائي. كل مفتاح نسميه بت bit، وكلما زاد عددها كلما أصبح الكمبيوتر أقوى. كل ثمانية بت تعطي بايت byte، وذاكرة الكمبيوتر الآن تقاس بعدد بلايين من البايت، أي قيقا بايت. وبشكل دقيق فإنه بما أننا نتعامل بالترميز الثنائي، فالقيقا بايت يساوي 230 بايت، لكن هذا عادة يؤخذ كما هو. أما في الكمبيوتر الكمي فكل مفتاح عبارة عن “شيء” يمكن أن يوجد في حالات متراكبة، وهي عادة ذرات، لكن يمكن تخيلهم كإلكترونات تكون في حالة تسارع حاسوبي (spin up) أو تنازل حاسوبي ((spin down. فالاختلاف هو في التراكب، فيمكن لها أن تكون في حالة تسارع حاسوبي أو تنازل حاسوبي في نفس الوقت، أي 0 و 1 معا. ويسمى كل مفتاح: كيوبت qbit.

بسبب هذه الخاصية الكمية فكل كيوبت يعادل اثنين من البت. ربما لا يبدو هذا الشيء مثيرا للإعجاب للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة كذلك، فإذا كان لديك ثلاثة كيوبت على سبيل المثال، فيمكن أن تترتب بثمانية طرق: 000, 001, 010, 011, 100, 101, 110, 111. فالتراكب يشتمل على هذه الاحتمالات، لذلك ثلاثة كيوبت ليس مكافئا لستة من البت (2 x 3) بل ثمانية بت (2 مرفوعة للقوة 3). العدد المكافئ من البت دائما يساوي 2 مرفوعة للقوة التي تساوي عدد الكيوبت، فعشرة كيوبت سوف تكافئ 210 من البت، أو 1024 بت، ويسمى كيلوبت. الأسيّات التي بهذا الشكل تسير بنفسها بشكل سريع جدا، فالكمبيوتر ذو الثلاث مئة كيوبت يعادل كمبيوتر عادي بعدد من البت أكثر من عدد الذرات في الكون المنظور. كيف يمكن لكمبيوتر مثل هذا أن يجري حسابات؟ إن هذا السؤال مُلحٌّ جدا، حيث أن الكمبيوترات الكمية البسيطة التي تحوي بضعا من الكيوبت قد تم بناءها وظهر أنها تعمل كما نتوقع، وهي فعلا أقوى بكثير من الكمبيوترات العادية التي بنفس العدد من البت.

إجابة دويتش تقول إن الحسابات تُجرى بشكل متزامن على كمبيوترات متطابقة في كل كون موازي متقابل بالتراكب، فالكمبيوتر بثلاثة كيوبت يعني أن ثمان حالات تراكب من علماء الكمبيوتر يعملون على نفس المسألة باستخدام كمبيوترات متطابقة للحصول على الإجابة. ليس مفاجئا أن «يتعاونوا» بهذه الطريقة، فالذين يجرون التجربة متطابقون ولهم أسباب متطابقة لحل نفس المسألة. لا يصعب تصور ذلك، لكن -إذا كان دويتش محقا- فإنه عندما نبني آلة بثلاث مئة كيوبت -والذي سوف يحدث بشكل مؤكد- فسوف يحدث «تعاون» بين أكوان أكثر من عدد الذرات في كوننا المنظور. والمسألة مسألة اختيار في اعتقادك أن هذه الفكرة فيها الكثير من الحمولة الميتافيزيقية، لكن إذا اخترت ذلك فسوف تحتاج لطريقة أخرى لشرح لماذا يعمل الكمبيوتر الكمي.

4
2025/07/12 21:29:46
Back to Top
HTML Embed Code: