Forwarded from شوبنهاور - سيوران
رأي (آرثر #شوبنهاور) في فلسفة (هيغل)
’’إنّ الأفكَارَ الأسَاسِيَةَ لِفَلسَفَةِ هِيغَل هيَ الوَهمُ الأسخَف، عَالَمٌ مَقلُوبٌ رأساً على عَقِب، تَهرِيجٌ فَلسَفِي، أمَا مَضَامِينُهَا فَهِيَ التَمَظهُر الأجوَف والأشَدُ خَوَاءً لِلكَلِمَات حِينَ يَنْطِقُ بِهَا المُغَفَلُون. ‘‘
’’إنّ الأفكَارَ الأسَاسِيَةَ لِفَلسَفَةِ هِيغَل هيَ الوَهمُ الأسخَف، عَالَمٌ مَقلُوبٌ رأساً على عَقِب، تَهرِيجٌ فَلسَفِي، أمَا مَضَامِينُهَا فَهِيَ التَمَظهُر الأجوَف والأشَدُ خَوَاءً لِلكَلِمَات حِينَ يَنْطِقُ بِهَا المُغَفَلُون. ‘‘
الحسد
يعرف المرء جيدًا ماذا قالت العصور القديمة عن تلك العاطفة المخزية، وما كرَّره المُحدَثون. هسيود أول مؤلف كلاسيكي يتحدَّث عنها.
صانع الخزف حاسد لصانع الخزف الآخر، والحِرفي للحِرفي الآخر، وحتى الفقير حاسد للفقير الآخر، والموسيقي للموسيقي الآخر (أو إن كان للمرء أن يمنح معنًى آخر لكلمة «مطرب»)، والشاعر للشاعر الآخر.
قال أيوب قبل هسيود بوقتٍ طويل: «الغيرة تُميت الأحمق» (سفر أيوب: ٥: ٢).
أعتقد أن ماندفيل، مؤلف «أسطورة النحل»، كان أول من حاول أن يُثبت أن الحسد أمر جيد للغاية، وعاطفة مُفيدة جدًّا. سببه الأول لذلك أن الحسد طبيعي للإنسان كالجوع والعطش، ويُمكن أن تجده في الأطفال، كما يوجد أيضًا لدى الجياد والكلاب. تريد أن يكره أطفالك بعضُهم بعضًا؟ قبِّل أحدهم أكثر من الآخر. السر واضح.
يُذكر أن أول شيء تفعله شابَّتان تلتقيان هو أن تُفتش كلٌّ منهما عما هو سخيف في الأخرى، والشيء الثاني أن تُداهن كلٌّ منهما الأخرى.
يُعتقد أنه لولا الحسد لرُعيت الفنون بلا تمييز، وأن رافائيل لم يكن ليُصبح رسامًا عظيمًا لو لم يكن غيورًا من مايكل أنجلو.
اعتبر ماندفيل أن المُحاكاة ربما تكون نوعًا من الحسد؛ وربما تكون المحاكاة أيضًا مجرد حسد لم يخرج عن إطار اللطف.
ربما قال مايكل أنجلو لرفائيل: «قادك حسدك إلى أن تتفوَّق عليَّ في العمل وحسب؛ لم تهجُني، لم تتآمَر ضدي مع البابا، ولم تُحاول أن تعمل على حرماني كنسيًّا لأني وضعت المشلولين والعُور في الفردوس، ووضعت الكرادلة المُفعمين بالحيوية مع نساء جميلات عرايا مثل يدك في الجحيم، في لوحتي عن الدينونة الأخيرة. إن حسدك جدير بالإطراء، فأنت أخ حسود لطيف؛ فلنكن صديقين صالحَين.»
لكن إذا كان الحسود إنسانًا بائسًا بلا مواهب، غيورًا من مزايا الآخرين غيرة المُتسوِّلين من الأغنياء، إن كان مضغوطًا بفعل العوز كما هو بفعل وضاعة شخصيته، فسيُكتب لك بعض «أخبار من برناسوس»، و«خطابات السيدة الكونتيسة»، وبعض «الحوليات الأدبية». يُظهر هذا الحيوان حسدًا لا يستحق الذِّكر، ولم يكن ماندفيل ليستطيع أن يجد له عذرًا أبدًا.
يسأل المرء عن سبب تفكير القدماء في أن عين الحسود تسحر مَن ينظرون لها. إن الحاسد بالأحرى هو المسحور.
يقول ديكارت: «يُحفِّز ذاك الحسد العصارة الصفراوية التي تأتي من الجزء الأدنى من الكبد والعُصارة السوداء التي تأتي من الطُّحال المنتشرة من القلب عبر الشرايين … إلخ.» لكن ما دام أي نوع من العُصارة لا يتكون داخل الطحال، فإن ديكارت بقوله هذا، يبدو أنه غير جدير بالمبالغة في حسد فلسفته الطبيعية.
كان أحد اللاهوتيين الأوغاد — ويُدعى فويت أو فويتوس، الذي اتهم ديكارت بالإلحاد — مريضًا بالعصارة السوداء، لكنه كان مع ذلك أقل معرفة من ديكارت بكيفية انتشار عُصارته الكريهة في دمه.
مدام بيرنل على حق: «الحسود سيموت، ولكن الحسد لن يموت.»
لكنه مثلٌ جيدٌ الذي يقول: «أن تكون حسودًا أفضل من أن تكون لديك شفَقة.» فلنكن حسودِين إذًا قدر ما نستطيع.
قاموس فولتير الفلسفي
#فولتير
يعرف المرء جيدًا ماذا قالت العصور القديمة عن تلك العاطفة المخزية، وما كرَّره المُحدَثون. هسيود أول مؤلف كلاسيكي يتحدَّث عنها.
صانع الخزف حاسد لصانع الخزف الآخر، والحِرفي للحِرفي الآخر، وحتى الفقير حاسد للفقير الآخر، والموسيقي للموسيقي الآخر (أو إن كان للمرء أن يمنح معنًى آخر لكلمة «مطرب»)، والشاعر للشاعر الآخر.
قال أيوب قبل هسيود بوقتٍ طويل: «الغيرة تُميت الأحمق» (سفر أيوب: ٥: ٢).
أعتقد أن ماندفيل، مؤلف «أسطورة النحل»، كان أول من حاول أن يُثبت أن الحسد أمر جيد للغاية، وعاطفة مُفيدة جدًّا. سببه الأول لذلك أن الحسد طبيعي للإنسان كالجوع والعطش، ويُمكن أن تجده في الأطفال، كما يوجد أيضًا لدى الجياد والكلاب. تريد أن يكره أطفالك بعضُهم بعضًا؟ قبِّل أحدهم أكثر من الآخر. السر واضح.
يُذكر أن أول شيء تفعله شابَّتان تلتقيان هو أن تُفتش كلٌّ منهما عما هو سخيف في الأخرى، والشيء الثاني أن تُداهن كلٌّ منهما الأخرى.
يُعتقد أنه لولا الحسد لرُعيت الفنون بلا تمييز، وأن رافائيل لم يكن ليُصبح رسامًا عظيمًا لو لم يكن غيورًا من مايكل أنجلو.
اعتبر ماندفيل أن المُحاكاة ربما تكون نوعًا من الحسد؛ وربما تكون المحاكاة أيضًا مجرد حسد لم يخرج عن إطار اللطف.
ربما قال مايكل أنجلو لرفائيل: «قادك حسدك إلى أن تتفوَّق عليَّ في العمل وحسب؛ لم تهجُني، لم تتآمَر ضدي مع البابا، ولم تُحاول أن تعمل على حرماني كنسيًّا لأني وضعت المشلولين والعُور في الفردوس، ووضعت الكرادلة المُفعمين بالحيوية مع نساء جميلات عرايا مثل يدك في الجحيم، في لوحتي عن الدينونة الأخيرة. إن حسدك جدير بالإطراء، فأنت أخ حسود لطيف؛ فلنكن صديقين صالحَين.»
لكن إذا كان الحسود إنسانًا بائسًا بلا مواهب، غيورًا من مزايا الآخرين غيرة المُتسوِّلين من الأغنياء، إن كان مضغوطًا بفعل العوز كما هو بفعل وضاعة شخصيته، فسيُكتب لك بعض «أخبار من برناسوس»، و«خطابات السيدة الكونتيسة»، وبعض «الحوليات الأدبية». يُظهر هذا الحيوان حسدًا لا يستحق الذِّكر، ولم يكن ماندفيل ليستطيع أن يجد له عذرًا أبدًا.
يسأل المرء عن سبب تفكير القدماء في أن عين الحسود تسحر مَن ينظرون لها. إن الحاسد بالأحرى هو المسحور.
يقول ديكارت: «يُحفِّز ذاك الحسد العصارة الصفراوية التي تأتي من الجزء الأدنى من الكبد والعُصارة السوداء التي تأتي من الطُّحال المنتشرة من القلب عبر الشرايين … إلخ.» لكن ما دام أي نوع من العُصارة لا يتكون داخل الطحال، فإن ديكارت بقوله هذا، يبدو أنه غير جدير بالمبالغة في حسد فلسفته الطبيعية.
كان أحد اللاهوتيين الأوغاد — ويُدعى فويت أو فويتوس، الذي اتهم ديكارت بالإلحاد — مريضًا بالعصارة السوداء، لكنه كان مع ذلك أقل معرفة من ديكارت بكيفية انتشار عُصارته الكريهة في دمه.
مدام بيرنل على حق: «الحسود سيموت، ولكن الحسد لن يموت.»
لكنه مثلٌ جيدٌ الذي يقول: «أن تكون حسودًا أفضل من أن تكون لديك شفَقة.» فلنكن حسودِين إذًا قدر ما نستطيع.
قاموس فولتير الفلسفي
#فولتير
"لا يوجد كائن يندهش من وجوده الخاص باستثناء الإنسان، فالوجود شيء طبيعي لدى جميع الكائنات إلى درجة أنه لا يثير انتباهها (...)
إن الإنسان حيوان ميتافيزيقي. ومما لا شك فيه أنه، عند بداية يقظة وعيه، يتصور فهم ذاته أمرا لا يحتاج إلى عناء، غير أن ذلك لا يدوم طويلا: فمع أول تفكير يقوم به، تتولد لديه تلك الدهشة التي كانت على نحو ما، أصل الميتافيزيقا، وبهذا المعنى قال أرسطو: "ذلك أن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف". و كذلك، فإن امتلاك الروح الفلسفية يعني القدرة على الدهشة أمام الوقائع الإعتيادية وأشياء الحياة اليومية، ويعني طرح أكثر الأشياء عمومية واعتيادية للدراسة. هذا بينما لا تحدث دهشة العالم إلا أمام ظواهر نادرة ومختارة، وبينما تنحصر كل المشكلة لديه في إرجاع كل الظواهر إلى ظواهر أخرى معروفة أكثر.
وكلما انحدرت مرتبة الإنسان من حيث العقل، كلما قلت غرابة الوجود بالنسبة إليه. فكل شيء يبدو له حينئذ حاملا في ذاته كيفية حدوثه وسببه (...) أما الدهشة الفلسفية، فهي على العكس من ذلك (...) تفترض في الفرد درجة أعلى من العقل، رغم أن ذلك ليس هو شرط الدهشة الفلسفية الوحيد: ذلك أن معرفة الأمور المتعلقة بالموت، والتفكير في الألم وفي بؤس الحياة، هو، دون شك، الدافع الأقوى للتفكير الفلسفي والتفسير الميتافيزيقي للعالم. فلو كانت حياتنا أبدية وخالية من الألم، فلن يقع لأحد أن يتساءل عن سبب وجود العالم وعن سبب حمله لهذه الطبيعة الخاصة، بل ستكون كل الأشياء مفهومة من تلقاء نفسها (...)
إن الفلسفة تنشأ، في تصوري، من اندهاشنا من العالم ومن وجودنا الخاص، اللذين يفرضان نفسيهما على عقلنا بوصفهما لغزا لا ينفك حله يشغل بال الإنسان".
أرثر شوبنهاور، العالم كتمثل وإرادة.
#شوبنهاور
إن الإنسان حيوان ميتافيزيقي. ومما لا شك فيه أنه، عند بداية يقظة وعيه، يتصور فهم ذاته أمرا لا يحتاج إلى عناء، غير أن ذلك لا يدوم طويلا: فمع أول تفكير يقوم به، تتولد لديه تلك الدهشة التي كانت على نحو ما، أصل الميتافيزيقا، وبهذا المعنى قال أرسطو: "ذلك أن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف". و كذلك، فإن امتلاك الروح الفلسفية يعني القدرة على الدهشة أمام الوقائع الإعتيادية وأشياء الحياة اليومية، ويعني طرح أكثر الأشياء عمومية واعتيادية للدراسة. هذا بينما لا تحدث دهشة العالم إلا أمام ظواهر نادرة ومختارة، وبينما تنحصر كل المشكلة لديه في إرجاع كل الظواهر إلى ظواهر أخرى معروفة أكثر.
وكلما انحدرت مرتبة الإنسان من حيث العقل، كلما قلت غرابة الوجود بالنسبة إليه. فكل شيء يبدو له حينئذ حاملا في ذاته كيفية حدوثه وسببه (...) أما الدهشة الفلسفية، فهي على العكس من ذلك (...) تفترض في الفرد درجة أعلى من العقل، رغم أن ذلك ليس هو شرط الدهشة الفلسفية الوحيد: ذلك أن معرفة الأمور المتعلقة بالموت، والتفكير في الألم وفي بؤس الحياة، هو، دون شك، الدافع الأقوى للتفكير الفلسفي والتفسير الميتافيزيقي للعالم. فلو كانت حياتنا أبدية وخالية من الألم، فلن يقع لأحد أن يتساءل عن سبب وجود العالم وعن سبب حمله لهذه الطبيعة الخاصة، بل ستكون كل الأشياء مفهومة من تلقاء نفسها (...)
إن الفلسفة تنشأ، في تصوري، من اندهاشنا من العالم ومن وجودنا الخاص، اللذين يفرضان نفسيهما على عقلنا بوصفهما لغزا لا ينفك حله يشغل بال الإنسان".
أرثر شوبنهاور، العالم كتمثل وإرادة.
#شوبنهاور
حين يستيقظ المرء في الصباح ، متعكر القلب وأمامه خمس عشرة ساعة يقتلها قبل أن يتمكن من العودة إلى النوم ، فماذا يجديه أن يكون حراً ؟
- جان بول سارتر
#سارتر
- جان بول سارتر
#سارتر
الحياة ثلاث مراحل: إعتقادك أنك سوف تغير الدنيا،ثم إيمانك بأنك لن تغير الدنيا،ثم تأكدك من أن الدنيا قد غيرتك.
- جان بول سارتر
#سارتر
- جان بول سارتر
#سارتر
فيتجنشتاين... الفيلسوف الذي أطاح الفلسفة - ندى حطيط.
#فيتغنشتاين
100 عام على نشر رسالة دوّنها في خنادق الحرب بين كل هجوم وآخر
غيّرت الحرب العالميّة الأولى (1914 - 1918) أشياء كثيرة في عالمنا، فسقطت إمبراطوريّات عتيقة، وخُلقت دول من اللاشيء، وأُعيد تكوين النّظام السياسي العالمي على نسق جديد. لكّن ذات التجربة المؤلمة أنتجت أيضاً عدداً من الإبداعات الإنسانيّة: من الدبابة إلى كيس الشاي، ومن الرّمز البريدي إلى ساعات اليد. ويمكننا على صعيد الفكر الإنساني أن نضيف أيضاً إلى تلك القائمة كتاب «رسالة منطقيّة فلسفيّة» للودفيغ فيتجنشتاين، النصّ الذي عند البعض غيّر الفلسفة إلى الأبد، وعند آخرين قضى عليها نهائيّاً.
عندما بدأت الحرب كانت هذه الأطروحة القصيرة خليطاً من الأفكار في رأس جندي نمساوي شاب وطالب فلسفة سابق يدعى فيتجنشتاين. وبحلول الوقت الذي أُطلق سراحه فيه من معسكر لأسرى الحرب إثر «مؤتمر فرساي للسلام»، كان النصّ قد أخذ شكله الأساسي على مدى بضع عشرات من الصفحات المتسخة بالطين في حقيبته العسكريّة، دوّنها في الخنادق بين كل هجوم وآخر. وفي عام 1921 وجد ناشراً، فكان الكتاب الذي لا يزال يحيّر ويُلهم ويثير الجَدَلَ إلى اليوم.
ما شغل عقل فيتجنشتاين خلال فترة الحرب كانت تلك العلاقة الملتبسة بين اللغة والفلسفة، وكيف أن البحث الفلسفي الدائم عن إجابات بشأن طبيعة المعرفة والحقيقة والعقل والمعنى والقيم الجماليّة والأخلاقيّة وغيرها من الأسئلة الكبرى إنما هو بحث «عبثي» في مشكلات مفهوميّة ومنطقيّة دون إدراكٍ للطريقة التي تعمل بها اللغة وتشكّل مجمل وعينا للعالم من حولنا. وجهة نظره التي دوّنها في الرسالة هي أن المسائل الأخلاقيّة والجماليّة والصوفيّة جميعها تقع خارج العالم وبالتالي خارج اللغة –التي هي عنده صورة العالم- ولذلك لا يمكن تحديدها ولن يتسنى للعلم يوماً البحث في ماهيتها، رغم أهميتها الفائقة للحياة الإنسانيّة، مقترحاً علينا الصمت في مواجهتها بدل ممارسة «الهراء» الفلسفي، «لأن ما لا يستطيع المرء أن يتحدث عنه وتقصر عنه اللّغة لا بدّ أن يُصمت عنه»، فـ«حدود لغتي تعني بالضرورة حدود عالمي».
كان فيتجنشتاين قبل كتابته (الرّسالة) على اطلاع بأعمال غوتلوب فريجه، وهو عالم منطق ألماني شغله الشّاغل اشتقاق الرياضيّات من مبادئ منطقيّة محددة. ويبدو أن هذا التصوّر بقي معه وهو يفكّر في علاقة اللّغة بالعالم في أثناء الحرب ليصوغ أفكاره الثوريّة بمباشَرة صادمة مسائلاً بُنية اللّغة، وكيف تستحضر السّجالات اللغوية بين الأشخاص كل ما هو واقع في العالم.
كانت تلك القدرة لديه على طرح الأسئلة عمّا يقبله الآخرون كمسلّمات أشبه ما تكون –كما يقول الفيلسوف البريطاني أنتوني كوينتون– ببصيرة إسحاق نيوتن الذي أقلقه سقوط الأشياء نحو الأرض بينما كان الآخرون راضين بما فيه الكفاية ليقولوا: «إنها تفعل ذلك فحسب». وبالفعل، فإن سيرة حياة فيتجنشتاين الفكريّة تشير إلى عقل استثنائي يتمتّع بنبوغ وأصالة وحِدّة في التفكير قلما تجتمع لإنسان واحد.
لم يكمل الفيلسوف الشاب تعليمه الثانوي فأرسله والده إلى كليّة صناعيّة في برلين قضى فيها ثلاثة فصول قبل أن ينتقل إلى بريطانيا عام 1908 لتعلّم هندسة الطيران وتصميم المحركات النفاثة بجامعة مانشستر. وقد فتنته وقتها رياضيّات التصميم فأخذته إلى الرياضيّات البحتة ومنها انتهى إلى الأسئلة الفلسفيّة المرتبطة بالمنطق والحساب. وقد قابل في 1911 غوتلوب فريجه الذي نصحه بالذّهاب إلى جامعة كمبريدج والتتلمذ فيها على مؤلّف أصول الرياضيّات الفيلسوف برتراند رسل، وهو ما فعله في 1912 رغم أنّه لم يكن متيقناً من صحة خياره في ترك هندسة الطيران والتفرّغ للفلسفة التي كان إلمامه بها محدوداً للغاية.
لاحظ رسل سريعاً بوادر نبوغ تلميذه النمساوي، فنصحه بمواصلة دراسة الفلسفة وتوسل إليه مع كثيرين بأن يدوّن أفكاره، وكان يسجّل ملاحظات عن أحاديثهما المشتركة خشية ضياع عبقريّته في خضمّ المجادلات اليوميّة، لكن فيتجنشتاين لم يكن يرغب في «أن يضيف إلى المكتبة عملاً فلسفياً ناقصاً يكون عديم القيمة»، وكان مشغولاً بتساؤلات وجوديّة كبرى كانت تدفعه أحياناً للتفكير بالانتحار.
ورث لاحقاً ثروة ضخمة من والده، لكنّه تنازل عنها لإخوته وانعزل وحيداً داخل كوخ هادئ في مكان قصيّ من النرويج مكرساً وقته للتعمّق في المنطق والفلسفة إلى أن نشبت الحرب العالميّة الأولى فتطوّع –وكان حينها في الخامسة والعشرين من عمره- للخدمة ميكانيكياً في وحدة المدفعيّة بالجيش النمساويّ-المجريّ، ثم وقع أسيراً في يد الإيطاليين وهو يحمل على ظهره الحقيبة التي ضمّت مخطوطة رسالة منطقيّة فلسفيّة (في محاكاة لتسميّة كتاب سبينوزا «رسالة لاهوتيّة سياسيّة»).
1
#فيتغنشتاين
100 عام على نشر رسالة دوّنها في خنادق الحرب بين كل هجوم وآخر
غيّرت الحرب العالميّة الأولى (1914 - 1918) أشياء كثيرة في عالمنا، فسقطت إمبراطوريّات عتيقة، وخُلقت دول من اللاشيء، وأُعيد تكوين النّظام السياسي العالمي على نسق جديد. لكّن ذات التجربة المؤلمة أنتجت أيضاً عدداً من الإبداعات الإنسانيّة: من الدبابة إلى كيس الشاي، ومن الرّمز البريدي إلى ساعات اليد. ويمكننا على صعيد الفكر الإنساني أن نضيف أيضاً إلى تلك القائمة كتاب «رسالة منطقيّة فلسفيّة» للودفيغ فيتجنشتاين، النصّ الذي عند البعض غيّر الفلسفة إلى الأبد، وعند آخرين قضى عليها نهائيّاً.
عندما بدأت الحرب كانت هذه الأطروحة القصيرة خليطاً من الأفكار في رأس جندي نمساوي شاب وطالب فلسفة سابق يدعى فيتجنشتاين. وبحلول الوقت الذي أُطلق سراحه فيه من معسكر لأسرى الحرب إثر «مؤتمر فرساي للسلام»، كان النصّ قد أخذ شكله الأساسي على مدى بضع عشرات من الصفحات المتسخة بالطين في حقيبته العسكريّة، دوّنها في الخنادق بين كل هجوم وآخر. وفي عام 1921 وجد ناشراً، فكان الكتاب الذي لا يزال يحيّر ويُلهم ويثير الجَدَلَ إلى اليوم.
ما شغل عقل فيتجنشتاين خلال فترة الحرب كانت تلك العلاقة الملتبسة بين اللغة والفلسفة، وكيف أن البحث الفلسفي الدائم عن إجابات بشأن طبيعة المعرفة والحقيقة والعقل والمعنى والقيم الجماليّة والأخلاقيّة وغيرها من الأسئلة الكبرى إنما هو بحث «عبثي» في مشكلات مفهوميّة ومنطقيّة دون إدراكٍ للطريقة التي تعمل بها اللغة وتشكّل مجمل وعينا للعالم من حولنا. وجهة نظره التي دوّنها في الرسالة هي أن المسائل الأخلاقيّة والجماليّة والصوفيّة جميعها تقع خارج العالم وبالتالي خارج اللغة –التي هي عنده صورة العالم- ولذلك لا يمكن تحديدها ولن يتسنى للعلم يوماً البحث في ماهيتها، رغم أهميتها الفائقة للحياة الإنسانيّة، مقترحاً علينا الصمت في مواجهتها بدل ممارسة «الهراء» الفلسفي، «لأن ما لا يستطيع المرء أن يتحدث عنه وتقصر عنه اللّغة لا بدّ أن يُصمت عنه»، فـ«حدود لغتي تعني بالضرورة حدود عالمي».
كان فيتجنشتاين قبل كتابته (الرّسالة) على اطلاع بأعمال غوتلوب فريجه، وهو عالم منطق ألماني شغله الشّاغل اشتقاق الرياضيّات من مبادئ منطقيّة محددة. ويبدو أن هذا التصوّر بقي معه وهو يفكّر في علاقة اللّغة بالعالم في أثناء الحرب ليصوغ أفكاره الثوريّة بمباشَرة صادمة مسائلاً بُنية اللّغة، وكيف تستحضر السّجالات اللغوية بين الأشخاص كل ما هو واقع في العالم.
كانت تلك القدرة لديه على طرح الأسئلة عمّا يقبله الآخرون كمسلّمات أشبه ما تكون –كما يقول الفيلسوف البريطاني أنتوني كوينتون– ببصيرة إسحاق نيوتن الذي أقلقه سقوط الأشياء نحو الأرض بينما كان الآخرون راضين بما فيه الكفاية ليقولوا: «إنها تفعل ذلك فحسب». وبالفعل، فإن سيرة حياة فيتجنشتاين الفكريّة تشير إلى عقل استثنائي يتمتّع بنبوغ وأصالة وحِدّة في التفكير قلما تجتمع لإنسان واحد.
لم يكمل الفيلسوف الشاب تعليمه الثانوي فأرسله والده إلى كليّة صناعيّة في برلين قضى فيها ثلاثة فصول قبل أن ينتقل إلى بريطانيا عام 1908 لتعلّم هندسة الطيران وتصميم المحركات النفاثة بجامعة مانشستر. وقد فتنته وقتها رياضيّات التصميم فأخذته إلى الرياضيّات البحتة ومنها انتهى إلى الأسئلة الفلسفيّة المرتبطة بالمنطق والحساب. وقد قابل في 1911 غوتلوب فريجه الذي نصحه بالذّهاب إلى جامعة كمبريدج والتتلمذ فيها على مؤلّف أصول الرياضيّات الفيلسوف برتراند رسل، وهو ما فعله في 1912 رغم أنّه لم يكن متيقناً من صحة خياره في ترك هندسة الطيران والتفرّغ للفلسفة التي كان إلمامه بها محدوداً للغاية.
لاحظ رسل سريعاً بوادر نبوغ تلميذه النمساوي، فنصحه بمواصلة دراسة الفلسفة وتوسل إليه مع كثيرين بأن يدوّن أفكاره، وكان يسجّل ملاحظات عن أحاديثهما المشتركة خشية ضياع عبقريّته في خضمّ المجادلات اليوميّة، لكن فيتجنشتاين لم يكن يرغب في «أن يضيف إلى المكتبة عملاً فلسفياً ناقصاً يكون عديم القيمة»، وكان مشغولاً بتساؤلات وجوديّة كبرى كانت تدفعه أحياناً للتفكير بالانتحار.
ورث لاحقاً ثروة ضخمة من والده، لكنّه تنازل عنها لإخوته وانعزل وحيداً داخل كوخ هادئ في مكان قصيّ من النرويج مكرساً وقته للتعمّق في المنطق والفلسفة إلى أن نشبت الحرب العالميّة الأولى فتطوّع –وكان حينها في الخامسة والعشرين من عمره- للخدمة ميكانيكياً في وحدة المدفعيّة بالجيش النمساويّ-المجريّ، ثم وقع أسيراً في يد الإيطاليين وهو يحمل على ظهره الحقيبة التي ضمّت مخطوطة رسالة منطقيّة فلسفيّة (في محاكاة لتسميّة كتاب سبينوزا «رسالة لاهوتيّة سياسيّة»).
1
وبعد إطلاق سراحه عام 1919 أتمّ فيتجنشتاين عمله في الرسالة، وتصوّر بذلك بأنّه قد انتهى من حلّ كل المشكلات الفلسفيّة وسيكون في حاجة إلى وظيفة من نوع آخر، فالتحق بسلك التدريس في المدارس الابتدائيّة لست سنوات (1920 – 1926) انتهت بالاستقالة بعدما اشتكى أولياء الأمور من صرامته في تأديب التلاميذ الأغبياء، فعاد إلى فيينا حزيناً وعمل بستانياً في دير قصيّ وقضى وقتاً يساعد أختاً له بتصميم منزلاً كانت تشيده.
وفي تلك الأثناء، التقت مجموعة مع العلماء والفلاسفة في جامعة فيينا للنظر في مشكلات الفلسفة ووضع رؤية علميّة جديدة للعالم. وعندما ناقشت المجموعة التي صارت تُعرف بـ«دائرة فيينا» رسالة فيتجنشتاين قررت دعوته لعضويتها لكنّه رغب عن ذلك واكتفى بالموافقة على عقد لقاءات مع ممثلين عنها. وقد تكررت هذه اللقاءات، واستمرت لاحقاً خلال العطلات الصيفيّة بعدما عاد فيتجنشتاين إلى كمبريدج عام 1929، ويبدو أنّ المناقشات مع ممثلي دائرة فيينا قد جعلته يدرك أن رسالته لم تحل مشكلات الفلسفة نهائياً كما اعتقد، وأنّ ثمّة نقائص فيها وجوانب يلفّها الغموض، فكان أن عاد إلى كمبريدج وتقدّم للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة والتحق بالعمل الأكاديمي بعدها لفترة قطعتها زيارة للاتحاد السوفياتي بعد فترة من الاهتمام بكتابات تولستوي ودوستويفسكي، ثم الحرب العالميّة الثانية –وتطوّع خلالها للعمل بواباً لمستشفى في لندن– قبل أن يكتشف إصابته بالسرطان ويقضي أيّامه الأخيرة في منزل طبيبه المعالج في كمبريدج ليفارق الحياة مع نهاية أبريل (نيسان) 1951.
بعد وفاته، تم تجميع بعض أفكاره ونُشرت تحت عنوان «تحقيقات فلسفية»، كما تدافع تلاميذه وزملاؤه لنشر أوراقه وملاحظاته ومذكراته ومحادثاته ومحاضراته وخطاباته، لكنه لم ينشر في حياته كتاباً آخر سوى «رسالة منطقيّة فلسفيّة»، فكأنّها احتوت مجمل نظرته الفلسفية التي شغلت تفكيره طوال حياته.
وترافقاً مع الذكرى المئوية لنشر الرّسالة، ستستضيف جمعية فيتجنشتاين (بريطانيا) ندوة دولية للفلاسفة حولها، وتنظم «وقفيّة فيتجنشتاين» في فيينا معرضاً افتراضياً عن حياته وعمله، وأنجز لوتشيانو بازوتشي، وهو باحث متخصص في فلسفة فيتجنشتاين، طبعات جديدة محرَّرة من الرّسالة باللغتين الألمانية والإنجليزية. أمّا في أكاديميّات الفلسفة نفسها، فإن إرث الرسالة كان مختلطاً. ففي وقت من الأوقات كان لا بدّ من وجود فرقة من الفيتجنشتاينيين المخلصين الذين ما فتئوا يحملون الشعلة في كل قسم فلسفة في جامعات العالم الأنغلوفوني، ولكن على مر العقود، بدت تصريحاته حول هراء الفلسفة ونهايتها أقل إقناعاً، وتجاوزها النقاش. لربما كانت تلك طريقة فلاسفة الأكاديميات في ردّ الصاع لفيتجنشتاين، الذي كان يكنّ احتقاراً كاملاً لهم ولطريقة حياتهم المصطنعة والمدّعية.
2
وفي تلك الأثناء، التقت مجموعة مع العلماء والفلاسفة في جامعة فيينا للنظر في مشكلات الفلسفة ووضع رؤية علميّة جديدة للعالم. وعندما ناقشت المجموعة التي صارت تُعرف بـ«دائرة فيينا» رسالة فيتجنشتاين قررت دعوته لعضويتها لكنّه رغب عن ذلك واكتفى بالموافقة على عقد لقاءات مع ممثلين عنها. وقد تكررت هذه اللقاءات، واستمرت لاحقاً خلال العطلات الصيفيّة بعدما عاد فيتجنشتاين إلى كمبريدج عام 1929، ويبدو أنّ المناقشات مع ممثلي دائرة فيينا قد جعلته يدرك أن رسالته لم تحل مشكلات الفلسفة نهائياً كما اعتقد، وأنّ ثمّة نقائص فيها وجوانب يلفّها الغموض، فكان أن عاد إلى كمبريدج وتقدّم للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة والتحق بالعمل الأكاديمي بعدها لفترة قطعتها زيارة للاتحاد السوفياتي بعد فترة من الاهتمام بكتابات تولستوي ودوستويفسكي، ثم الحرب العالميّة الثانية –وتطوّع خلالها للعمل بواباً لمستشفى في لندن– قبل أن يكتشف إصابته بالسرطان ويقضي أيّامه الأخيرة في منزل طبيبه المعالج في كمبريدج ليفارق الحياة مع نهاية أبريل (نيسان) 1951.
بعد وفاته، تم تجميع بعض أفكاره ونُشرت تحت عنوان «تحقيقات فلسفية»، كما تدافع تلاميذه وزملاؤه لنشر أوراقه وملاحظاته ومذكراته ومحادثاته ومحاضراته وخطاباته، لكنه لم ينشر في حياته كتاباً آخر سوى «رسالة منطقيّة فلسفيّة»، فكأنّها احتوت مجمل نظرته الفلسفية التي شغلت تفكيره طوال حياته.
وترافقاً مع الذكرى المئوية لنشر الرّسالة، ستستضيف جمعية فيتجنشتاين (بريطانيا) ندوة دولية للفلاسفة حولها، وتنظم «وقفيّة فيتجنشتاين» في فيينا معرضاً افتراضياً عن حياته وعمله، وأنجز لوتشيانو بازوتشي، وهو باحث متخصص في فلسفة فيتجنشتاين، طبعات جديدة محرَّرة من الرّسالة باللغتين الألمانية والإنجليزية. أمّا في أكاديميّات الفلسفة نفسها، فإن إرث الرسالة كان مختلطاً. ففي وقت من الأوقات كان لا بدّ من وجود فرقة من الفيتجنشتاينيين المخلصين الذين ما فتئوا يحملون الشعلة في كل قسم فلسفة في جامعات العالم الأنغلوفوني، ولكن على مر العقود، بدت تصريحاته حول هراء الفلسفة ونهايتها أقل إقناعاً، وتجاوزها النقاش. لربما كانت تلك طريقة فلاسفة الأكاديميات في ردّ الصاع لفيتجنشتاين، الذي كان يكنّ احتقاراً كاملاً لهم ولطريقة حياتهم المصطنعة والمدّعية.
2
ما اللغة عند فتجنشتاين؟
بحسب النظرة المتأخرة لدي فتجنشتاين عن طبيعة اللّغة، وأنه لا معنى لها خارج السياق الذي تعمل بداخله، تحيلنا هذه النظرة إلى إشكالات عديدة، منها على سبيل المثال أنّ هذه الرؤية قائمة افتراضًا على انفصال جذريّ بين اللغة والموضوع الخارجيّ، وأيضًا إشكاليّة درجة عمق التواصل الحقيقيّ صعودًا وهبوطًا على سلم المعنى بين أفراد المجموعة داخل نسق عمل الدلالات، التي اعتمدتها المجموعة بينها، ولو أخذنا مثال التجربة الذهنيّة التي استرشد بها في كتابه الأخير تحقيقات فلسفيّة "الخنفساء في الصندوق"، وما لهذه التجربة الذهنيّة من تداعيات على مستوى أساس التواصل بين البشر، وتقوم التجربة على افتراض وجود صندوق لكلّ فرد لمجموعة من عدّة أفراد، وكّل صندوق به شيء يختلف عن محتوى أي صندوق آخر، ولا يعلم أحد ماهية ما داخل صندوقه ولا حتى ماهية ما داخل أي صندوق من صناديق أفراد المجموعة، ويأتى شخص من خارج المجموعة، يقول: إنّ الذي داخل صندوق كل واحد منكم هو خنفساء، دون أن تكون لهم فكرة مسبقة عن ماهية الخنفساء، عندها سيطابق كلّ فرد مفهوم الخنفساء على ما داخل صندوقه، رغم اختلاف ما بداخل كلّ صندوق عن الآخر، ورغم عدم معرفة أي أحد منهم ما بداخل صندوق الآخر، إذًا سيبني كلّ منهم مفهومًا مختلفًا جذريًا عن دلالة كلمة خنفساء . يبدأ فتجنشتيان في تعميم التجربة على مستوى الوعي، وأن كلّ شخص يملك معنىً معينًا لا يملكه غيره عن ما يمر به من شعور أو تجربة الإحساس برؤية اللون الأحمر مثلاً، ولا يستطيع نقل تجربته أو مشاركتها مع الآخر بالمعنى الذي حدث داخل صندوقه أو رأسه، قس على ذلك تجربة الألم، يخَلص من هذا إلى أنّ كلّ شخص يعيش العالم، من خلال تجربته فقط، ولا تتمّ مشاركة تجربة المعايشة مع الآخر، إلا فى حدود تكون بعيدة عن ما عايشتها النفس بصفتها في انفصال شبه جذريّ مع ما تعيشه؛ انفصال يمتد أو يقصر عن الآخر.
يمكن أن يحيلنا التأمّل في هكذا إشكالات إلى أنثروبولوجيا التواصل البشريّ -إن صح التعبير-، كيف بدأ؟ ومن أين بدأ؟ وهل تبدُّل الأنساق وتغيّراتها التي تكون محايثة للطبيعة الاجتماعية للمجتمعات البدائية وميلها نحو التعقّد التدريجيّ الذي كان يستلزم بالضرورة وجود أو تخلّق أنساق تتناسب مع هذا التعقّد، وهو ما ساعد في تعقّد اللعبة اللغويّة، كما سمّاها فتجنشتاين؟ تكمن فلسفة فتجنشتاين كإجابة على هكذا تساؤل، لكنّها يمكن أن تحيل أيضًا إلى إشكالات أكثر تعقيدًا كما أوضحتُ في البداية، مثلاً يحيلنا إلى سؤال هل للمعنى الذي يولده نسق بعينه أي قيمة يمكن أن تحيلنا للعالم الخارجيّ، أو لنسق آخر مختلف، أم يكون المعنى فقط داخل نسق بعينه، لا يعمل إلا من خلال بنية محددة مسبقاً؟ وهنا قول آخر أنّ تحليليّة فتجنشتاين كانت بنيويّة في منطلقاتها بسبب مرتكزاتها على فكرة النسق،
ونوه فتجنشتاين على أنّ وظيفة الفلسفة، هي بالأساس، العمل على فهم، وتصفية الفهم من الشوائب الميتافيزيقيّة، التي تَعلق باللّغة، وهذا بيّنه في كتابته المتأخرة، كما ذكر في تحقيقات فلسفيّة، في قولته المعروفة بأنّ وظيفة الفلسفة هي بالنصّ: "أن ترشد الذبابة كيف تخرج من عنق الزجاجة "، وهو يقصد بعنق الزجاجة هنا، المأزق الميتافيزيقيّ للفلسفة، وأن تخرج الفلسفة والفيلسوف لعالم اللغة والأنساق، واللعبة اللغويّة التي لا تنتهي، وبالتالي لا ينتهي عمل الفلسفة ما دامت اللّغة.
ويبزع تساؤل بشكل ملحّ هنا، هل يقتصر تعريف اللغة وعمل اللعبة والأنساق، داخل حدود لغة الحديث، بمعنى اللغة التداوليّة فقط ، أم يدخل اللعبة كلّ ما يتشكّل داخل نسق، ويتبع قواعد خاصة بلعبة تميّز لغته، كمثال لغة الفيزياء، أقصد لغة الأرقام أو اللغة الرمزيّة، أو نسق الأسطورة التي تتجاوز لعبتها الفهم الآني أو المباشر ، قياس على هذا أي لغة تواصل حتى بين الكائنات المختلفة، حتى لو افترضنا أنّها تتمّ بشكل غير واعٍ من منظور معرفتنا بها، ولغة الآلات كمثال، ولغة السلم الموسيقيّ، رغم أنّ كلّ هذا يرتدّ بالضرورة لوعينا البشريّ الذي يترجّمه مرغمًا بحدود نسقنا التواصليّ؟
أسامه الجارحي - مصر
#فيتغنشتاين
بحسب النظرة المتأخرة لدي فتجنشتاين عن طبيعة اللّغة، وأنه لا معنى لها خارج السياق الذي تعمل بداخله، تحيلنا هذه النظرة إلى إشكالات عديدة، منها على سبيل المثال أنّ هذه الرؤية قائمة افتراضًا على انفصال جذريّ بين اللغة والموضوع الخارجيّ، وأيضًا إشكاليّة درجة عمق التواصل الحقيقيّ صعودًا وهبوطًا على سلم المعنى بين أفراد المجموعة داخل نسق عمل الدلالات، التي اعتمدتها المجموعة بينها، ولو أخذنا مثال التجربة الذهنيّة التي استرشد بها في كتابه الأخير تحقيقات فلسفيّة "الخنفساء في الصندوق"، وما لهذه التجربة الذهنيّة من تداعيات على مستوى أساس التواصل بين البشر، وتقوم التجربة على افتراض وجود صندوق لكلّ فرد لمجموعة من عدّة أفراد، وكّل صندوق به شيء يختلف عن محتوى أي صندوق آخر، ولا يعلم أحد ماهية ما داخل صندوقه ولا حتى ماهية ما داخل أي صندوق من صناديق أفراد المجموعة، ويأتى شخص من خارج المجموعة، يقول: إنّ الذي داخل صندوق كل واحد منكم هو خنفساء، دون أن تكون لهم فكرة مسبقة عن ماهية الخنفساء، عندها سيطابق كلّ فرد مفهوم الخنفساء على ما داخل صندوقه، رغم اختلاف ما بداخل كلّ صندوق عن الآخر، ورغم عدم معرفة أي أحد منهم ما بداخل صندوق الآخر، إذًا سيبني كلّ منهم مفهومًا مختلفًا جذريًا عن دلالة كلمة خنفساء . يبدأ فتجنشتيان في تعميم التجربة على مستوى الوعي، وأن كلّ شخص يملك معنىً معينًا لا يملكه غيره عن ما يمر به من شعور أو تجربة الإحساس برؤية اللون الأحمر مثلاً، ولا يستطيع نقل تجربته أو مشاركتها مع الآخر بالمعنى الذي حدث داخل صندوقه أو رأسه، قس على ذلك تجربة الألم، يخَلص من هذا إلى أنّ كلّ شخص يعيش العالم، من خلال تجربته فقط، ولا تتمّ مشاركة تجربة المعايشة مع الآخر، إلا فى حدود تكون بعيدة عن ما عايشتها النفس بصفتها في انفصال شبه جذريّ مع ما تعيشه؛ انفصال يمتد أو يقصر عن الآخر.
يمكن أن يحيلنا التأمّل في هكذا إشكالات إلى أنثروبولوجيا التواصل البشريّ -إن صح التعبير-، كيف بدأ؟ ومن أين بدأ؟ وهل تبدُّل الأنساق وتغيّراتها التي تكون محايثة للطبيعة الاجتماعية للمجتمعات البدائية وميلها نحو التعقّد التدريجيّ الذي كان يستلزم بالضرورة وجود أو تخلّق أنساق تتناسب مع هذا التعقّد، وهو ما ساعد في تعقّد اللعبة اللغويّة، كما سمّاها فتجنشتاين؟ تكمن فلسفة فتجنشتاين كإجابة على هكذا تساؤل، لكنّها يمكن أن تحيل أيضًا إلى إشكالات أكثر تعقيدًا كما أوضحتُ في البداية، مثلاً يحيلنا إلى سؤال هل للمعنى الذي يولده نسق بعينه أي قيمة يمكن أن تحيلنا للعالم الخارجيّ، أو لنسق آخر مختلف، أم يكون المعنى فقط داخل نسق بعينه، لا يعمل إلا من خلال بنية محددة مسبقاً؟ وهنا قول آخر أنّ تحليليّة فتجنشتاين كانت بنيويّة في منطلقاتها بسبب مرتكزاتها على فكرة النسق،
ونوه فتجنشتاين على أنّ وظيفة الفلسفة، هي بالأساس، العمل على فهم، وتصفية الفهم من الشوائب الميتافيزيقيّة، التي تَعلق باللّغة، وهذا بيّنه في كتابته المتأخرة، كما ذكر في تحقيقات فلسفيّة، في قولته المعروفة بأنّ وظيفة الفلسفة هي بالنصّ: "أن ترشد الذبابة كيف تخرج من عنق الزجاجة "، وهو يقصد بعنق الزجاجة هنا، المأزق الميتافيزيقيّ للفلسفة، وأن تخرج الفلسفة والفيلسوف لعالم اللغة والأنساق، واللعبة اللغويّة التي لا تنتهي، وبالتالي لا ينتهي عمل الفلسفة ما دامت اللّغة.
ويبزع تساؤل بشكل ملحّ هنا، هل يقتصر تعريف اللغة وعمل اللعبة والأنساق، داخل حدود لغة الحديث، بمعنى اللغة التداوليّة فقط ، أم يدخل اللعبة كلّ ما يتشكّل داخل نسق، ويتبع قواعد خاصة بلعبة تميّز لغته، كمثال لغة الفيزياء، أقصد لغة الأرقام أو اللغة الرمزيّة، أو نسق الأسطورة التي تتجاوز لعبتها الفهم الآني أو المباشر ، قياس على هذا أي لغة تواصل حتى بين الكائنات المختلفة، حتى لو افترضنا أنّها تتمّ بشكل غير واعٍ من منظور معرفتنا بها، ولغة الآلات كمثال، ولغة السلم الموسيقيّ، رغم أنّ كلّ هذا يرتدّ بالضرورة لوعينا البشريّ الذي يترجّمه مرغمًا بحدود نسقنا التواصليّ؟
أسامه الجارحي - مصر
#فيتغنشتاين
Forwarded from كتب صوتية - كتب مسموعة
أصل الأناركية - سامح سعيد عبود - فلسفة، فكر، معلومات.
في السنوات العشرين الماضية صعدت الأناركية في العالم بأسره، وثبتت أقدامها في المنطقة العربية التي لم تعرف هذا الاتجاه من قبل على نحو واسع، وخصوصًا في ظل الموجة الثورية التي اندلعت فيها.
يحاول الكتاب أن يقدم الأناركية للقارىء العربي من عدة جوانب، مفهومها وتاريخها ومدارسها الفكرية والعملية بالإضافة إلى المدارس القريبة منها والمتشابهة معها ثم بعض ملامح الاقتصاد الأناركي، وأخيرًا بعض القضايا الفكرية والعملية التي يدور حولها النقاش في أوساط الأناركيين
@audiobooking1
في السنوات العشرين الماضية صعدت الأناركية في العالم بأسره، وثبتت أقدامها في المنطقة العربية التي لم تعرف هذا الاتجاه من قبل على نحو واسع، وخصوصًا في ظل الموجة الثورية التي اندلعت فيها.
يحاول الكتاب أن يقدم الأناركية للقارىء العربي من عدة جوانب، مفهومها وتاريخها ومدارسها الفكرية والعملية بالإضافة إلى المدارس القريبة منها والمتشابهة معها ثم بعض ملامح الاقتصاد الأناركي، وأخيرًا بعض القضايا الفكرية والعملية التي يدور حولها النقاش في أوساط الأناركيين
@audiobooking1
جماليات التفكير الناقد عند فريدريك نيتشه.
حسن يوسف
ربما كانت اللحظة الأهم في الفلسفة هي لحظة الدهشة التي تعترى الذات أمام موضوع ما أو فكرة أو إشكالية. وعندما تثار الدهشة تتنقل الذات من أفق العادي والمألوف إلى أفق التفكير والتحليل والتأمل والسؤال. وهذا ما يلمسه القارئ لكتابات نيتشه؛ دهشة الفيلسوف أمام العالم ووقائعه وتاريخه.
ونيتشه عبر كتاباته نجده يبجل التفكير ويصفه بالنشوة العارمة التي من خلالها يستيقظ الذهن الإنساني ليتمكن من السؤال والدهشة ومن ثم الإبداع. يقول عبد الغفار مكاوي «لاشك عندي من أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه، وبهجته وألمه، بل ان التفكير المجرد ليبلغ عنده تلك القمة التي يصبح فيها فكرًا غنيًا بالصور الحية التي تليق بفيلسوف الحياة».
ويكفى أن نطلع على فقرة واحدة مما كتب . وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابه الأكبر «إرادة القوة» الذي لم يقدر له أن يتمه وجمع ونشر بعد موته : «إن الفكر هو أقوى شئ نجده في كل مستويات الحياة»، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة : «إن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو في الأيام المواتية عيد ونشوة» وأخيرًا هذه العبارة التي دونها في أوراقه التي عثر عليها بعد موته وكأنه كان يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه : « «إرادة القوة» .. كتاب هدفه التفكير، ولا شئ غير التفكير».(1)
ويمكن القول إن هناك سمة تميز بها نيتشه .. إنها القدرة على السؤال، ولأنه قادر على السؤال فمعنى ذلك لديه قدرة عالية على الدهشة؛ فالدهشة تعنى زلزلة لكل ما هو قائم وما هو معتاد وما هو راسخ، والدهشة بداية المعرفة وبداية الهدم وبداية البناء أيضًا .
يقول «لم يحدث إطلاقًا أن توقفت عند الأسئلة التي ليست أسئلة حقا، ولم يحدث إطلاقًا أنني استنفدت قواي . فعلى سبيل المثال ليست لدى خبرة بالمشكلات الدينية الحقيقية، وأنا لست على ألفة بالشعور «بالخطيئة» وبالمثل ينقصني معيار صادق لتحديد وخز الضمير. ومما يسمعه الإنسان فإن وخز الضمير لا يلوح لي شيئًا جديرًا بالتبجيل. أنا أكره أن أترك فعلا من أفعالي يتسكّع، إنني أحب أن أقتلع كلية النتيجة السيئة، النتائج، من أية مشكلة تتضمن القيم. في وجه النتائج الشريرة من السهل للغاية أن أفقد الوجهة الحقة التي أنظر منها إلى الحدث. إن وخز الضمير يبدو لي نوعًا من «العين الشريرة»(4).
1
حسن يوسف
ربما كانت اللحظة الأهم في الفلسفة هي لحظة الدهشة التي تعترى الذات أمام موضوع ما أو فكرة أو إشكالية. وعندما تثار الدهشة تتنقل الذات من أفق العادي والمألوف إلى أفق التفكير والتحليل والتأمل والسؤال. وهذا ما يلمسه القارئ لكتابات نيتشه؛ دهشة الفيلسوف أمام العالم ووقائعه وتاريخه.
ونيتشه عبر كتاباته نجده يبجل التفكير ويصفه بالنشوة العارمة التي من خلالها يستيقظ الذهن الإنساني ليتمكن من السؤال والدهشة ومن ثم الإبداع. يقول عبد الغفار مكاوي «لاشك عندي من أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه، وبهجته وألمه، بل ان التفكير المجرد ليبلغ عنده تلك القمة التي يصبح فيها فكرًا غنيًا بالصور الحية التي تليق بفيلسوف الحياة».
ويكفى أن نطلع على فقرة واحدة مما كتب . وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابه الأكبر «إرادة القوة» الذي لم يقدر له أن يتمه وجمع ونشر بعد موته : «إن الفكر هو أقوى شئ نجده في كل مستويات الحياة»، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة : «إن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو في الأيام المواتية عيد ونشوة» وأخيرًا هذه العبارة التي دونها في أوراقه التي عثر عليها بعد موته وكأنه كان يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه : « «إرادة القوة» .. كتاب هدفه التفكير، ولا شئ غير التفكير».(1)
ويمكن القول إن هناك سمة تميز بها نيتشه .. إنها القدرة على السؤال، ولأنه قادر على السؤال فمعنى ذلك لديه قدرة عالية على الدهشة؛ فالدهشة تعنى زلزلة لكل ما هو قائم وما هو معتاد وما هو راسخ، والدهشة بداية المعرفة وبداية الهدم وبداية البناء أيضًا .
يقول «لم يحدث إطلاقًا أن توقفت عند الأسئلة التي ليست أسئلة حقا، ولم يحدث إطلاقًا أنني استنفدت قواي . فعلى سبيل المثال ليست لدى خبرة بالمشكلات الدينية الحقيقية، وأنا لست على ألفة بالشعور «بالخطيئة» وبالمثل ينقصني معيار صادق لتحديد وخز الضمير. ومما يسمعه الإنسان فإن وخز الضمير لا يلوح لي شيئًا جديرًا بالتبجيل. أنا أكره أن أترك فعلا من أفعالي يتسكّع، إنني أحب أن أقتلع كلية النتيجة السيئة، النتائج، من أية مشكلة تتضمن القيم. في وجه النتائج الشريرة من السهل للغاية أن أفقد الوجهة الحقة التي أنظر منها إلى الحدث. إن وخز الضمير يبدو لي نوعًا من «العين الشريرة»(4).
1
اتسمت أعمال نيتشه المبكرة بخاصية رفض ما هو عقلي -المنظور التعليمي لما بعد الفلسفة السقراطية – لصالح الانفعال الحدسي اللبيدى للفن الديونسيوسي، وهي نظرة جمالية عن الوضع البشرى تؤكد الحياة، غير أنه مع نشر كتابه «إنساني مفرد في إنسانيته» عام 1878 فإننا نرى جانبًا نقديًا منفصلًا أكثر من فكر نيتشه.
وها هنا يظهر السؤال : ما التاريخ ؟ فقد طرح في تحليل زمني، منعكسًا على نجاح العسكرية البروسية في أوربا عام 1870.
في عام 1870 خدم نيتشه فترة قصيرة في الحرب الفرنسية – البروسية بوصفه متطوعًا كمساعد ممرض، لكنه أصيب بمرض الدسنطاريا والدفتريا مما تطلب فترة نقاهة طويلة. ولقد رفض رفضًا تامًا الحماس البطولي «للرايخ الثاني» البروسي، واعتباره انتصارًا للمثل العليا للثقافة الألمانية في هذه الحرب .
«ليس لنا نحن المحدثين ثقافة نقول عنها إنها ثقافتنا؛ فنحن نملأ أنفسنا بعادات وفلسفات أجنبية، وكذلك بديانات وعلوم بحيث نصبح موسوعات جوالة» (استخدام التاريخ وإساءة استخدامه) والمهم هو تمثل الماضي، واستخدامه في صنع حياتنا وثقافتنا. إن التاريخ عبء ميت ثقيل على الحاضر.
ما التربية؟ تقدم لنا التربية قدرًا كبيرًا من المعلومات عن الثقافة، وتكون نتيجتها ما يسمى بالشخص المتعلم الذي يمتلك قدرًا وفيرًا من التاريخ، لكنه لا يستطيع أن يعيش حياة أصيلة من صنعه هو. وتصر التربية على تفصيلات دقيقة، وعلى موضوعية مستقلة، لا تصلح إلا لإضفاء الشلل على المشروع الفردي للتحقق الذاتي والفعل في العالم. يستطيع الإنسان أن يربى تربية جيدة بلا تاريخ على الإطلاق.
ما الثقافة؟ إذا كانت الثقافة هي هدفنا الأقصى، فربما تساءلنا : وماذا عن النظريات الميتافيزيقية التي تتأمل في طبيعة الحقيقة الواقعية مستخدمة العقل وحده؟! «صحيح أنه يمكن أن يكون هناك عالم ميتافيزيقي: فالإمكان المطلق لوجوده يصعب المجادلة فيه. إننا نرى كل شئ في الرأس البشرى وليس في استطاعتنا قطع تلك الرأس، بينما يظل السؤال رغم ذلك قائمًا، ماهو العالم الذي يمكن أن يظل هناك لو أننا قطعنا الرأس؟».
النظريات التي تحاول الإجابة عن هذا السؤال تقع ببساطة خارج مجال البحث البشري، ولقد كان لهذا السؤال دائما من الناحية التاريخية جاذبية خاصة لدى الفلاسفة، لكن ما الذي يمكن أن نربحه إذا قبلنا وجودًا بعد ميتافيزيقي؟(5).
«لِمَ» كان نيتشه فيلسوفًا لا عقليًا، فرديًا ؟ والحق أن الحملة على العقل كانت في وقت ما مظهرًا من مظاهر التحرر الفكري؛ بل من مظاهر تكريس الفكر من أجل التقدم بالإنسانية. ذلك لأن العقل كان في ذلك الحين مبدأ مضادًا للحياة، يحمل على الطبيعة الإنسانية، ويحارب الواقع ويدعو إلى الهروب منه. كان ذلك في الوقت الذي ظُن فيه أن للعقل مبادئه الثابتة التي ينبغي أن يخضع لها الواقع؛ بحيث إنه لو ظهر بينهما تعارض كانت مبادئ العقل هي الصحيحة دائمًا، وكان علينا أن نفسر الواقع تبعا لما تقتضى به هذه المبادئ.
2
وها هنا يظهر السؤال : ما التاريخ ؟ فقد طرح في تحليل زمني، منعكسًا على نجاح العسكرية البروسية في أوربا عام 1870.
في عام 1870 خدم نيتشه فترة قصيرة في الحرب الفرنسية – البروسية بوصفه متطوعًا كمساعد ممرض، لكنه أصيب بمرض الدسنطاريا والدفتريا مما تطلب فترة نقاهة طويلة. ولقد رفض رفضًا تامًا الحماس البطولي «للرايخ الثاني» البروسي، واعتباره انتصارًا للمثل العليا للثقافة الألمانية في هذه الحرب .
«ليس لنا نحن المحدثين ثقافة نقول عنها إنها ثقافتنا؛ فنحن نملأ أنفسنا بعادات وفلسفات أجنبية، وكذلك بديانات وعلوم بحيث نصبح موسوعات جوالة» (استخدام التاريخ وإساءة استخدامه) والمهم هو تمثل الماضي، واستخدامه في صنع حياتنا وثقافتنا. إن التاريخ عبء ميت ثقيل على الحاضر.
ما التربية؟ تقدم لنا التربية قدرًا كبيرًا من المعلومات عن الثقافة، وتكون نتيجتها ما يسمى بالشخص المتعلم الذي يمتلك قدرًا وفيرًا من التاريخ، لكنه لا يستطيع أن يعيش حياة أصيلة من صنعه هو. وتصر التربية على تفصيلات دقيقة، وعلى موضوعية مستقلة، لا تصلح إلا لإضفاء الشلل على المشروع الفردي للتحقق الذاتي والفعل في العالم. يستطيع الإنسان أن يربى تربية جيدة بلا تاريخ على الإطلاق.
ما الثقافة؟ إذا كانت الثقافة هي هدفنا الأقصى، فربما تساءلنا : وماذا عن النظريات الميتافيزيقية التي تتأمل في طبيعة الحقيقة الواقعية مستخدمة العقل وحده؟! «صحيح أنه يمكن أن يكون هناك عالم ميتافيزيقي: فالإمكان المطلق لوجوده يصعب المجادلة فيه. إننا نرى كل شئ في الرأس البشرى وليس في استطاعتنا قطع تلك الرأس، بينما يظل السؤال رغم ذلك قائمًا، ماهو العالم الذي يمكن أن يظل هناك لو أننا قطعنا الرأس؟».
النظريات التي تحاول الإجابة عن هذا السؤال تقع ببساطة خارج مجال البحث البشري، ولقد كان لهذا السؤال دائما من الناحية التاريخية جاذبية خاصة لدى الفلاسفة، لكن ما الذي يمكن أن نربحه إذا قبلنا وجودًا بعد ميتافيزيقي؟(5).
«لِمَ» كان نيتشه فيلسوفًا لا عقليًا، فرديًا ؟ والحق أن الحملة على العقل كانت في وقت ما مظهرًا من مظاهر التحرر الفكري؛ بل من مظاهر تكريس الفكر من أجل التقدم بالإنسانية. ذلك لأن العقل كان في ذلك الحين مبدأ مضادًا للحياة، يحمل على الطبيعة الإنسانية، ويحارب الواقع ويدعو إلى الهروب منه. كان ذلك في الوقت الذي ظُن فيه أن للعقل مبادئه الثابتة التي ينبغي أن يخضع لها الواقع؛ بحيث إنه لو ظهر بينهما تعارض كانت مبادئ العقل هي الصحيحة دائمًا، وكان علينا أن نفسر الواقع تبعا لما تقتضى به هذه المبادئ.
2
تلك الفترة الكلاسيكية، كان يُنظر إلى العقل إذن على أنه ملكة رفيعة ذات محتوى فطرى، مصدره إلهي مباشر؛ فهو ليس قوة تيسر للمرء سبيل السلوك في هذه الحياة، بل هو قوة تعلو على هذه الحياة وتترفع عنها وترسم لها خطتها مقدمًا. وهكذا أدرك المفكرون الأحرار، في وقت من الأوقات، إنّ العقل قوة مضادة للطبيعة، تعوق الإنسان عن ممارسة ملكاته وإطلاق قواه في هذا العالم، وتربطه بعالم آخر فيه من الجمود، والأزلية، والثبات، مالا تطيقه طبيعة البشر، ولا يعرفه الواقع الإنساني، ومن هنا كانت حملتهم على العقل، ودعوتهم إلى اللامعقول(6).
من هذا المنطلق بدأ نيتشه توجيه النقد للواقع الحضاري في أوروبا لأنه مشوه ويعمل ضد الإنسان الحقيقي أو الإنسان الطبيعي، وإنما هي تعمل على صنع إنسان مسستم مؤدلج مسيطر عليه.
لابد من التمييز بين «عمال الفلسفة» و«العلماء»من جهة، و«الفلاسفة» من جهة أخرى: عمال الفلسفة حسب نيتشه لم تكن لديهم من مهام سوى الوعظ الأخلاقي، وهم من النوع «النبيل» الذي يمثله كانط وهيجل، مهمتهم تمثلت في صياغة كتلة كبيرة من أحكام القيمة؛ أي تثبيتات قديمة للقيم التي باتت سائدة واعتبرت حقائق في المنطق، أو في الأخلاق، أو في السياسة، أو في علم الجمال، لقد مدّنا عمال الفلسفة بملخص للزمن والتاريخ وانتصروا بذلك على الماضي فحققوا الرضا والكبرياء، لكن في الواقع وضمن هذا المنظور النيتشوي لم يفعل عمال الفلاسفة سوى إنتاج أوهام على أنها حقائق ثابتة. إن العودة الفيلولوجية لحضارة هي الأقدم من نوعها جسدت أصالة الفيلسوف والوحدة بين الفكر والحياة مكّنت من تشخيص أمراض الحضارة الآثمة، والتي جعلت من المفكرين عمالًا للفلسفة لا مشرعين لقيم جديدة. إن المرض الكبير الذي يعاني منه تاريخ الفلسفة هو مخلفات الأخلاق والديالكتيك الذي يعبّر عن حياة منقوصة وعن فكر مشوّه، فإن فيلسوف المستقبل – الطبيب – سيشخص باستمرار مرض واحد في علامات مرضية مختلفة؛ فيمكن للقيم أن تتغير؛ فيحل التقدم والسعادة والمنفعة محل الحقيقة أو الخير أو الإلهي.
هل حضارتنا قادرة على أن تنجب فلاسفة يشرعون تكون المعرفة بالنسبة إليهم خلق وعملهم تشريع وإرادة الحقيقة لديهم إرادة قوة ؟ (7).
ونسأل اخيرًا : ما هى هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين او بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الغنية بالإيحاءات والاشعاعات، ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى أن نيتشه يمثل «صدعًا فى تاريخ البشرية» (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس)، ولقد أكد تأكيدًا لا مزيد عليه أنه «آخر العدميين»، وأن رسالته هى الكشف عن تصدع عصره «البرجوازي» وانهياره على رؤوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التي فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقي الذي كان يستند عليه. ولكن من الذي سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذى سيحول القيم من اللوجس (المنطق والجدل العقلي) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ واخيرًا من الذى سيبدع هذا العالم الجديد؟ إنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى (8).
3
من هذا المنطلق بدأ نيتشه توجيه النقد للواقع الحضاري في أوروبا لأنه مشوه ويعمل ضد الإنسان الحقيقي أو الإنسان الطبيعي، وإنما هي تعمل على صنع إنسان مسستم مؤدلج مسيطر عليه.
لابد من التمييز بين «عمال الفلسفة» و«العلماء»من جهة، و«الفلاسفة» من جهة أخرى: عمال الفلسفة حسب نيتشه لم تكن لديهم من مهام سوى الوعظ الأخلاقي، وهم من النوع «النبيل» الذي يمثله كانط وهيجل، مهمتهم تمثلت في صياغة كتلة كبيرة من أحكام القيمة؛ أي تثبيتات قديمة للقيم التي باتت سائدة واعتبرت حقائق في المنطق، أو في الأخلاق، أو في السياسة، أو في علم الجمال، لقد مدّنا عمال الفلسفة بملخص للزمن والتاريخ وانتصروا بذلك على الماضي فحققوا الرضا والكبرياء، لكن في الواقع وضمن هذا المنظور النيتشوي لم يفعل عمال الفلاسفة سوى إنتاج أوهام على أنها حقائق ثابتة. إن العودة الفيلولوجية لحضارة هي الأقدم من نوعها جسدت أصالة الفيلسوف والوحدة بين الفكر والحياة مكّنت من تشخيص أمراض الحضارة الآثمة، والتي جعلت من المفكرين عمالًا للفلسفة لا مشرعين لقيم جديدة. إن المرض الكبير الذي يعاني منه تاريخ الفلسفة هو مخلفات الأخلاق والديالكتيك الذي يعبّر عن حياة منقوصة وعن فكر مشوّه، فإن فيلسوف المستقبل – الطبيب – سيشخص باستمرار مرض واحد في علامات مرضية مختلفة؛ فيمكن للقيم أن تتغير؛ فيحل التقدم والسعادة والمنفعة محل الحقيقة أو الخير أو الإلهي.
هل حضارتنا قادرة على أن تنجب فلاسفة يشرعون تكون المعرفة بالنسبة إليهم خلق وعملهم تشريع وإرادة الحقيقة لديهم إرادة قوة ؟ (7).
ونسأل اخيرًا : ما هى هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين او بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الغنية بالإيحاءات والاشعاعات، ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى أن نيتشه يمثل «صدعًا فى تاريخ البشرية» (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس)، ولقد أكد تأكيدًا لا مزيد عليه أنه «آخر العدميين»، وأن رسالته هى الكشف عن تصدع عصره «البرجوازي» وانهياره على رؤوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التي فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقي الذي كان يستند عليه. ولكن من الذي سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذى سيحول القيم من اللوجس (المنطق والجدل العقلي) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ واخيرًا من الذى سيبدع هذا العالم الجديد؟ إنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى (8).
3
ما يمكن قوله إن نيتشه يضعنا أمام دهشة مرعبة وسؤال محير مربك، ولذلك فإما أن تهرب منه لأنك غير قادر على مسايرته، ولأن الواقع برمته غير مستعد لتلك الأفكار المدهشة والمحيرة، أو أنك تقبل عليه وتقتنع أن ما يقوله يحتاج لوقفة متأنية، لتكتشف أنه تمكن من أن ينظر إلى الواقع بشكل مختلف تمامًا عن كل ما قد بجلّناهم وقدسناهم بوصفهم فلاسفة حقيقيين، لنكتشف مع نيتشه أنهم لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الحقيقي للفلسفة وإنما هم عمال فلاسفة: لقد تفننوا جميعا في قتل كل ما هو إنساني وذاتي، وأعلوا وبجلوا العقل. إن العقل لا يصل بالإنسان للسعادة، لكنه في أغلب الأمر يوصل الإنسان إلى الشقاء والألم والاغتراب والتشيؤ. ونسأل هل حقا كان نيتشه على صواب؟ إن الحقيقة الجلية تخرج من فم رجل مجنون!
يرى نيتشه أن مهمة الفلاسفة لا تظهر إلا داخل حضارة أصيلة لأن الفلسفة لا يمكنها أن تنتعش إلا داخل الشعوب المتعافية، والفلسفة ليس لديها القدرة أن تعيد للشعوب أو الحضارة عافيتها، وبالنظر للحضارة المعاصرة نجد أنها حضارة آسنة وبائسة بل هي آثمة بمعنى الكلمة. فقط حضارة كالحضارة اليونانية يمكنها أن تكشف ما هي مهمة الفيلسوف، هناك وحدة قوية صلبة تشد الفيلسوف إلى حضارة أصيلة؛ فالإغريق قد برروا وجود الفيلسوف انطلاقًا من واقع أنه لديهم وحدهم ليس في حالة المذنب؛ حيث توصلوا للعثور على إمكانات جميلة للحياة (9).
يتسم نيتشه بقدرته على كشف عيوب الواقع وذلك بتوجيه النقد وكشف كل صور العوار. إنّ الحضارة الأوربية قامت على أساس العقل فما الذي يعنيه تمجيد العقل والمثل العليا؟ يعني أن الإنسان عمل جاهدًا وما زال على احتقار الجسد والإساءة إليه، بل يصل الأمر إلى إذلال الجسد عن طريق الحرمان والعزل وترويض متطلباته ورغباته وغرائزه، وكلما نجح الإنسان في ذلك أصبح المكرم والمبجل والمحترم، وأكملت المسيحية ذلك الأمر بالتركيز على إماتة الجسد وإخضاعه للعقل، ولم يفعل الفلاسفة إلا نفس الأمر: إعلاء للعقل واحتقار للجسد، وهذا يعني أن الإنسان في الحضارة المعاصرة يعيش بشكل مشوه.
لما كانت الجينالوجيا تعرف المرض بأنه نتيجة طلاق عنيف للإنسان مع ماضيه الحيواني، ونتاج قفزة وسقطة في آن واحد في وضع جديد، في ظل شروط وجود جديدة، ونتيجة لإعلان الحرب على الغرائز القديمة التي كانت قوام الإنسان؛ فإن المريض المنهك يكره جسده، فلا يعتني به، إنه يحتقره في فعل الأكل، ذلك أن الغذاء النباتي مثلًا، وهو أمر دارج اليوم، ليس سوى علامة وهن، ونسيان العصور البدائية التي تتميز بالرغبة اللامحدودة في تذوق اللحوم الحيوانية. إنّ الاكتفاء بأكل الخضروات علامة على فقر الدم، وعلامة وهن في الإرادة بعد تراجع مكانة الصيد. إن نيتشه ليضع سلمًا تراتبيًا يشمل البلدان الأوروبية بحسب تفاوتها فيما توليه لأهمية الطعام(10).
بحسب نيتشه، حقيقة الإنسان ليست شيئًا آخر سوى جسده، وما الروح إلا أداة يلهو بها هذا الجسد، وبهذا تصبح الأفكار والمشاعر التي كانت انفعالات للنفس ما هي إلا تشكلات حقيقية للجسد؛ إذ هو الذي يسكن وراء كل سلوك يقوم به الإنسان ويريده. فكل ما نفكر فيه أو نحس به قد أملاه علينا جسدنا.: إن وراء أفكارك ومشاعرك ، يا أخي، يقوم سيد جبار وحكيم مجهول هو (الهو) الذي يسكن جسدك، بل هو جسدك. الجسد هو الذي يحس ويفكر، فيفرح ويتألم، ويتخيل، وعدة أفعال أخرى كان يعتقد أنها من أفعال النفس أو الروح. إنّ الجسد هذا الغائب الحاضر هو الذي يقدر كل شئ فحتى ما كان يعتقد أنه من تقديرات النفس، إنما هو من تقديراته هو؛ فقيمة الخير والشر وقيمة الحق والخطأ، وقيمة الجمال والقبح، إنما هي قيم يضعها الجسد ويقيّم الأشياء من خلالها. إن الجسد هو الذي يريد كل شئ. هكذا يصبح الجسد هو الذي يريد وليست النفس.
4
يرى نيتشه أن مهمة الفلاسفة لا تظهر إلا داخل حضارة أصيلة لأن الفلسفة لا يمكنها أن تنتعش إلا داخل الشعوب المتعافية، والفلسفة ليس لديها القدرة أن تعيد للشعوب أو الحضارة عافيتها، وبالنظر للحضارة المعاصرة نجد أنها حضارة آسنة وبائسة بل هي آثمة بمعنى الكلمة. فقط حضارة كالحضارة اليونانية يمكنها أن تكشف ما هي مهمة الفيلسوف، هناك وحدة قوية صلبة تشد الفيلسوف إلى حضارة أصيلة؛ فالإغريق قد برروا وجود الفيلسوف انطلاقًا من واقع أنه لديهم وحدهم ليس في حالة المذنب؛ حيث توصلوا للعثور على إمكانات جميلة للحياة (9).
يتسم نيتشه بقدرته على كشف عيوب الواقع وذلك بتوجيه النقد وكشف كل صور العوار. إنّ الحضارة الأوربية قامت على أساس العقل فما الذي يعنيه تمجيد العقل والمثل العليا؟ يعني أن الإنسان عمل جاهدًا وما زال على احتقار الجسد والإساءة إليه، بل يصل الأمر إلى إذلال الجسد عن طريق الحرمان والعزل وترويض متطلباته ورغباته وغرائزه، وكلما نجح الإنسان في ذلك أصبح المكرم والمبجل والمحترم، وأكملت المسيحية ذلك الأمر بالتركيز على إماتة الجسد وإخضاعه للعقل، ولم يفعل الفلاسفة إلا نفس الأمر: إعلاء للعقل واحتقار للجسد، وهذا يعني أن الإنسان في الحضارة المعاصرة يعيش بشكل مشوه.
لما كانت الجينالوجيا تعرف المرض بأنه نتيجة طلاق عنيف للإنسان مع ماضيه الحيواني، ونتاج قفزة وسقطة في آن واحد في وضع جديد، في ظل شروط وجود جديدة، ونتيجة لإعلان الحرب على الغرائز القديمة التي كانت قوام الإنسان؛ فإن المريض المنهك يكره جسده، فلا يعتني به، إنه يحتقره في فعل الأكل، ذلك أن الغذاء النباتي مثلًا، وهو أمر دارج اليوم، ليس سوى علامة وهن، ونسيان العصور البدائية التي تتميز بالرغبة اللامحدودة في تذوق اللحوم الحيوانية. إنّ الاكتفاء بأكل الخضروات علامة على فقر الدم، وعلامة وهن في الإرادة بعد تراجع مكانة الصيد. إن نيتشه ليضع سلمًا تراتبيًا يشمل البلدان الأوروبية بحسب تفاوتها فيما توليه لأهمية الطعام(10).
بحسب نيتشه، حقيقة الإنسان ليست شيئًا آخر سوى جسده، وما الروح إلا أداة يلهو بها هذا الجسد، وبهذا تصبح الأفكار والمشاعر التي كانت انفعالات للنفس ما هي إلا تشكلات حقيقية للجسد؛ إذ هو الذي يسكن وراء كل سلوك يقوم به الإنسان ويريده. فكل ما نفكر فيه أو نحس به قد أملاه علينا جسدنا.: إن وراء أفكارك ومشاعرك ، يا أخي، يقوم سيد جبار وحكيم مجهول هو (الهو) الذي يسكن جسدك، بل هو جسدك. الجسد هو الذي يحس ويفكر، فيفرح ويتألم، ويتخيل، وعدة أفعال أخرى كان يعتقد أنها من أفعال النفس أو الروح. إنّ الجسد هذا الغائب الحاضر هو الذي يقدر كل شئ فحتى ما كان يعتقد أنه من تقديرات النفس، إنما هو من تقديراته هو؛ فقيمة الخير والشر وقيمة الحق والخطأ، وقيمة الجمال والقبح، إنما هي قيم يضعها الجسد ويقيّم الأشياء من خلالها. إن الجسد هو الذي يريد كل شئ. هكذا يصبح الجسد هو الذي يريد وليست النفس.
4
مع نيتشه تنفتح مرحلة جديدة للجسد حيث تنكشف قواه الإبداعية ويتخلص من كل التشويهات التي مورست عليه خلال التاريخ، وأهم أمر تمثل في إجلاء قدراته الجمالية، عبر إعادة الاعتبار للظاهر والإحساس فيصبح كل ما هو جمالي وإبداعي منبعه الجسد؛ فعبر انفعالات الجسد تنجلي معاني الحياة وتدفق الأحاسيس التي تكشف عن الصيرورة (11).
ولا شك أن نيتشه – بعد شوبنهور وفيورباخ – قد اكتشف أن الجسد فكرة أكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس «العتيقة». وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام إن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل – الذى انهار وخُلِعَ عن عرشه بعد موت هيجل – إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع. وقد يكون نيتشه أشدهم من هذه الناحية تاثيرًا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود، وعلم النفس الوجودي، والانثربولوجيا الفلسفية، ومدارس التحليل النفسي المختلفة (12).
انتقد نيتشه الأخلاق المسيحية لأنها تستأنس شجاعة الإنسان وتروض جسارته، فالحيوان المتوحش متى تم استئناسه فإنه يفقد روعته، ويقول نيتشه: ما الذي نحاربه في المسيحية؟ نحن نحارب فيها سعيها إلى تحطيم الأقوياء وكسر أرواحهم واستغلال لحظات تعبهم وعجزهم، وسعيها إلى تحويل الفخور بالذات إلى حالة من القلق وتنغيص الضمير، ونحن نحارب فيها أنها تعرف كيف تسمّم أنبل الغرائز وتصيبها بالسقم والمرض حتى تتجه قوتها وإرادتها في الحياة إلى دخيلة الذات وتدمر نفسها (13).
يقول نيتشه إن أخلاقنا اليهودية–المسيحية تقدم القليل من العون؛ لأن إدانتها للقسوة ترتكز على نفس الطريقة الإشكالية التي تصبغ الطهارة بالصبغة المثالية. إنّ ما يتمسك به نيتشه هو أن تلك الأخلاق تحمل في طياتها كراهية مقدسة تجاه ما هو مختلف، وتجبر هذه الاختلافات على أن تكون نقيضًا للنقاء (14).
إنّ الأخلاق المضادة للطبيعة تسير على العكس تماما ضد غرائز الحياة. فهذه الأخلاق هي غريزة الانحطاط نفسها؛ فالكاهن يصير كل من يخالطه من الأصحاء مريضًا فاستئصال النزوات فقط لاتقاء حماقتها أو النتائج المغضبة لحماقتها يبدو لنا اليوم مجرد شكل صارخ من الحماقة، والكنيسة تحارب النزوة ببترها، بكل معاني الكلمة؛ فأن يرغم المرء على مقاومة غرائزه تلك هي صيغة الانحطاط. كما أن مهاجمة النزوات من الجذر تعنى مهاجمة الحياة من الجذر، ولهذا يعتبر عمل الكنيسة معاد للحياة «فالمسيحية […] هي التي تخدر الأعصاب، باستعمالها أدوية خطيرة ومتهورة»(15).
تظهر جينالوجيا الأخلاق عند نيتشه في ثلاث مقالات مرتبطة: تعالج الأولى أصول التعارض الأخلاقي بين الخير والشر، والتي تعرف الخير على أنه واضح وطاهر وغير أناني، والشر على أنه نقيض ذلك، وتعرض الثانية لأصل الموضوع الأخلاقي ومعنى الذنب. وهذا نتيجة طبيعية لمنطق الخير والشر، لكنه أيضًا امتداد له وفقًا لرؤية نيتشه عن الشمولية الأخلاقية. والمقالة الأخيرة تبحث في نموذج الطهارة – الزهد – كما يظهر في الاستطيقا والفلسفة والدين والعلم، ويوضح نيتشه هنا كيف أن الفكر الأخلاقي والديني عن الخير والشر يستمر في تلويث علمانيتنا المزعومة وعصرنا التنويري ويفضي بنا إلى العدمية(16).
إن نيتشه لا يؤسس القيم الأخلاقية؛ بل يتساءل عن مشروعية وجودها، ومدى صلوحيتها بالنسبة للحياة؛ فنيتشه لا يؤسس وإنما يبحث عن الأصل؛ فهو يتساءل لماذا الأخلاق؟ هل هي تعبير عن امتلاء الحياة أم عن ضيقها وتقهقرها؟ هل تبعث فينا الأمل والشجاعة والقوة أم هي تعرقلنا؟ هكذا يضع نيتشه القيم الأخلاقية أمام المحاكمة الجينيالوجية فهو ينطلق من منطلق آخر، غير منطلق العقل، في نظره، بل الحياة هي التي تحدد المعنى. إنّ الحياة هي التي تحملنا على وضع القيم، إنّ الحياة هي التي تقوم من خلالنا في كل مرة نضع فيها قيمًا.
5
ولا شك أن نيتشه – بعد شوبنهور وفيورباخ – قد اكتشف أن الجسد فكرة أكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس «العتيقة». وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام إن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل – الذى انهار وخُلِعَ عن عرشه بعد موت هيجل – إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع. وقد يكون نيتشه أشدهم من هذه الناحية تاثيرًا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود، وعلم النفس الوجودي، والانثربولوجيا الفلسفية، ومدارس التحليل النفسي المختلفة (12).
انتقد نيتشه الأخلاق المسيحية لأنها تستأنس شجاعة الإنسان وتروض جسارته، فالحيوان المتوحش متى تم استئناسه فإنه يفقد روعته، ويقول نيتشه: ما الذي نحاربه في المسيحية؟ نحن نحارب فيها سعيها إلى تحطيم الأقوياء وكسر أرواحهم واستغلال لحظات تعبهم وعجزهم، وسعيها إلى تحويل الفخور بالذات إلى حالة من القلق وتنغيص الضمير، ونحن نحارب فيها أنها تعرف كيف تسمّم أنبل الغرائز وتصيبها بالسقم والمرض حتى تتجه قوتها وإرادتها في الحياة إلى دخيلة الذات وتدمر نفسها (13).
يقول نيتشه إن أخلاقنا اليهودية–المسيحية تقدم القليل من العون؛ لأن إدانتها للقسوة ترتكز على نفس الطريقة الإشكالية التي تصبغ الطهارة بالصبغة المثالية. إنّ ما يتمسك به نيتشه هو أن تلك الأخلاق تحمل في طياتها كراهية مقدسة تجاه ما هو مختلف، وتجبر هذه الاختلافات على أن تكون نقيضًا للنقاء (14).
إنّ الأخلاق المضادة للطبيعة تسير على العكس تماما ضد غرائز الحياة. فهذه الأخلاق هي غريزة الانحطاط نفسها؛ فالكاهن يصير كل من يخالطه من الأصحاء مريضًا فاستئصال النزوات فقط لاتقاء حماقتها أو النتائج المغضبة لحماقتها يبدو لنا اليوم مجرد شكل صارخ من الحماقة، والكنيسة تحارب النزوة ببترها، بكل معاني الكلمة؛ فأن يرغم المرء على مقاومة غرائزه تلك هي صيغة الانحطاط. كما أن مهاجمة النزوات من الجذر تعنى مهاجمة الحياة من الجذر، ولهذا يعتبر عمل الكنيسة معاد للحياة «فالمسيحية […] هي التي تخدر الأعصاب، باستعمالها أدوية خطيرة ومتهورة»(15).
تظهر جينالوجيا الأخلاق عند نيتشه في ثلاث مقالات مرتبطة: تعالج الأولى أصول التعارض الأخلاقي بين الخير والشر، والتي تعرف الخير على أنه واضح وطاهر وغير أناني، والشر على أنه نقيض ذلك، وتعرض الثانية لأصل الموضوع الأخلاقي ومعنى الذنب. وهذا نتيجة طبيعية لمنطق الخير والشر، لكنه أيضًا امتداد له وفقًا لرؤية نيتشه عن الشمولية الأخلاقية. والمقالة الأخيرة تبحث في نموذج الطهارة – الزهد – كما يظهر في الاستطيقا والفلسفة والدين والعلم، ويوضح نيتشه هنا كيف أن الفكر الأخلاقي والديني عن الخير والشر يستمر في تلويث علمانيتنا المزعومة وعصرنا التنويري ويفضي بنا إلى العدمية(16).
إن نيتشه لا يؤسس القيم الأخلاقية؛ بل يتساءل عن مشروعية وجودها، ومدى صلوحيتها بالنسبة للحياة؛ فنيتشه لا يؤسس وإنما يبحث عن الأصل؛ فهو يتساءل لماذا الأخلاق؟ هل هي تعبير عن امتلاء الحياة أم عن ضيقها وتقهقرها؟ هل تبعث فينا الأمل والشجاعة والقوة أم هي تعرقلنا؟ هكذا يضع نيتشه القيم الأخلاقية أمام المحاكمة الجينيالوجية فهو ينطلق من منطلق آخر، غير منطلق العقل، في نظره، بل الحياة هي التي تحدد المعنى. إنّ الحياة هي التي تحملنا على وضع القيم، إنّ الحياة هي التي تقوم من خلالنا في كل مرة نضع فيها قيمًا.
5
أي نوع من الحياة ينتج عن هذه الأخلاق؟ يتساءل نيتشه ويجيب: الحياة الآفلة، الضجرة، المذمومة. إنّ الأخلاق كما فهمت حتى الآن كما صاغها شوبنهاور في نهاية المطاف «نفى لإرادة الحياة» هذه الأخلاق هي غريزة الانحطاط. إن الأخلاق شوهت الإنسان بأن قلصت من إرادته، فالإنسان الأعلى هو أرقى من أن يمارس الشفقة، أو أن تمارس عليه؛ فهو يتميز «بإرادة القوة» وإرادة الحياة، هو الذي يخلق ذاته بذاته ولا يقوم بمجرد التمييز انطلاقًا من مبدأ الشفقة، هذا المبدأ جعل نيتشه يدعو الإنسان إلى أن يثور على كل الفلسفات السابقة(17).
ما الذي فعلته الحداثة؟ لقد انطلق الإنسان إلى خارجه. لقد تخارج الإنسان إلى الواقع المادي، وكل شئ حوله أصبح له نفع وله مقابل، وظل الداخل الإنساني بلا أدنى اهتمام، حتى أن الإنسان نفسه تشيئ وأصبح مثل باقي الأشياء المادية، لقد فقد إنسانيته، وبمعنى آخر لقد اغترب الإنسان عن نفسه، وتعالى الواقع المادي الخارجي عليه، لقد اكتشف الإنسان أنه أصبح من الصعب عليه -أو من المستحيل- أن يقيم التوازن بين ما هو مادي وما هو معنوي داخلي.
بحسب نيتشه، أصبح الإنسان الحديث مريضًا ومنحطًا؛ لأن وهنًا أصاب إرادته، كما أن هبوط حياته في تسارع مطرد ، وانحطاطه يتزايد، كي يفضى في النهاية إلى إنهاك كلي لقواه، ولعل من أهم العلامات الدالة على هذا الإنهاك، عدم الاعتناء بصحة الجسم، واحتقاره في فعل الأكل ونوعه وفى الفعل الجنسي.
وتمثل العدمية الشكل الواضح للإنسان الحديث – الإنسان الأخير – حيث إن بحثه عن المعنى جعله يبتدع قيمًا مضادة للحياة. وإذا كان نيتشه يعتبر أن الفيلسوف هو طبيب الحضارة وأن «كل فلسفة وكل فن يمكن أن يكون علاجًا»، فإن أول مهمة للفيلسوف الطبيب ستكون هي أولًا محاربة أنواع العلاجات الفاسدة والساذجة التي اعتمدها القساوسة والكهنة كوسائل لتدجين الإنسان. ولما كانت تلك العلاجات قد أنتجت أمراضًا جديدة، وبما أن الكهنة جعلوا الإنسان أكثر مرًضا وأكثر حقدًا تجاه ذاته واتجاه العالم، فإن رهان الطبيب-الفيلسوف سيكون هو تشخيص أمراض الإنسان، والبحث جينيالوجيا عن أصولها وأسبابها. كل ذلك بقصد محاربة السموم التي أطلقها لعاب الكاهن في جسم الحياة بدعوى خلق القيم: الخير والشر، والحسن والقبيح (18).
يقول نيتشه «كل حضارتنا في أوروبا ما زالت تئن وتتلوى من القلق الذي يتزايد من عقد إلى عقد كأنها في انتظار كارثة؛ فهي قلقة مضطربة عنيفة مبعثرة شذر مذر، مثل سيل جارف سيعاود منبعه، وهى ترفض أن تتأمل وتفكر – أجل ، بل أنها تخاف من التفكير». يبدو أن الذي لفت انتباهه أكثر من أي أمر آخر لم يكن «التعصب المنحرف» العصري فقط، في خلوة من أي توجيه في المسائل ذات القيم الأساسية، بل كذلك سيطرة العقلية التجارية على الحياة بما لم يعد في الإمكان تلافيه، حيث نصب مبدأ «الدفع نقدًا، وبالدَين» حكمًا على الجميع ومراقبًا عليهم. عمليًا صار الغني، وذو الثقافة المبتذلة «بلذة نهاره» الدنيئة، و«لذة ليله» مثالًا «للنوع الإنساني» على كل المستويات الاجتماعية، وحتى مطالب الجماهير المستغلة نادرًا ما بدت تتجاوز طموح تحقيق ابتذال ثقافي شامل يشترك فيه الجميع بصورة عادلة.
سبب من أسباب هذا الوضع هو الفراغ النفسي والخلقي الذي ابتدأ بالسيطرة على العالم عندما فقدت الأديان القائمة سلطتها . هناك سبب آخر، مصيري بدرجة أكبر من الأول، هو تلك الفجوة بين السير السريع بدرجة لا تصدق لمدنيتنا الخارجية – التكنيكية والعلمية – من جهة ، والتطور الداخلي أو الحضاري المتخلف للإنسان الحديث من جهة ثانية، والواقع أننا نكاد نستطيع القول إنه لم يبق ثمة جسور بين الاثنين. ومن هنا سيطرت الكمية على حساب النوع . صارت الحضارة الخلاقة تختنق شيئًا فشيئًا بدخان الإنتاج الصناعي الجبار. لقد تطور الإنسان الخارجي على حساب الإنسان الداخلي(19).
ونيتشه يعتقد في أعماله الناضجة أن الحضارة الأوربية يمكن إنقاذها من خلال ثورة تعكس اتجاه الحياة، بخضوع البرجوازية والجماهير لنخبة جديدة. وقد قال ذلك حين كان تحت تأثير موسيقى «فاجنر» الذي وجه نيتشه وجهة جمالية، ورأى نيتشه أن أوبرا فاجنر سوف تنقذ حداثة فاسدة عن طريق مزج التطهير العاطفي بالتجربة الموسيقية السامية، بالطقس الأسطوري؛ أي خلاص أوروبا من خلال موسيقى فاجنر. وقد انقلب نيتشه بعد ذلك على فاجنر وأعاد تقييم فنه في كتابه «إنساني مفرط في إنسانيته»، ووصل إلى أن أوربا الحديثة فقدت قوة الحياة الدافعة لخلق قيم وخصوبة تؤدي إلى ثقافة قوية حقًا. و«قوة الحياة» تلك يطلق عليها نيتشه «إرادة القوة». كما اكتشف نيتشه أن الجذر التاريخي لتفسخ حياة الحداثة هو مولد الأخلاق، وفلسفته هي احتفال بإرادة القوة، وهي تعني لديه حقيقة الحياة والعالم، وهى تجسد «غريزة الحياة»، والحضارة كلها من صنع أصحاب القوة الذين يمتلكون إرادة قوة لا تقهر، وهم الآريون.
6
ما الذي فعلته الحداثة؟ لقد انطلق الإنسان إلى خارجه. لقد تخارج الإنسان إلى الواقع المادي، وكل شئ حوله أصبح له نفع وله مقابل، وظل الداخل الإنساني بلا أدنى اهتمام، حتى أن الإنسان نفسه تشيئ وأصبح مثل باقي الأشياء المادية، لقد فقد إنسانيته، وبمعنى آخر لقد اغترب الإنسان عن نفسه، وتعالى الواقع المادي الخارجي عليه، لقد اكتشف الإنسان أنه أصبح من الصعب عليه -أو من المستحيل- أن يقيم التوازن بين ما هو مادي وما هو معنوي داخلي.
بحسب نيتشه، أصبح الإنسان الحديث مريضًا ومنحطًا؛ لأن وهنًا أصاب إرادته، كما أن هبوط حياته في تسارع مطرد ، وانحطاطه يتزايد، كي يفضى في النهاية إلى إنهاك كلي لقواه، ولعل من أهم العلامات الدالة على هذا الإنهاك، عدم الاعتناء بصحة الجسم، واحتقاره في فعل الأكل ونوعه وفى الفعل الجنسي.
وتمثل العدمية الشكل الواضح للإنسان الحديث – الإنسان الأخير – حيث إن بحثه عن المعنى جعله يبتدع قيمًا مضادة للحياة. وإذا كان نيتشه يعتبر أن الفيلسوف هو طبيب الحضارة وأن «كل فلسفة وكل فن يمكن أن يكون علاجًا»، فإن أول مهمة للفيلسوف الطبيب ستكون هي أولًا محاربة أنواع العلاجات الفاسدة والساذجة التي اعتمدها القساوسة والكهنة كوسائل لتدجين الإنسان. ولما كانت تلك العلاجات قد أنتجت أمراضًا جديدة، وبما أن الكهنة جعلوا الإنسان أكثر مرًضا وأكثر حقدًا تجاه ذاته واتجاه العالم، فإن رهان الطبيب-الفيلسوف سيكون هو تشخيص أمراض الإنسان، والبحث جينيالوجيا عن أصولها وأسبابها. كل ذلك بقصد محاربة السموم التي أطلقها لعاب الكاهن في جسم الحياة بدعوى خلق القيم: الخير والشر، والحسن والقبيح (18).
يقول نيتشه «كل حضارتنا في أوروبا ما زالت تئن وتتلوى من القلق الذي يتزايد من عقد إلى عقد كأنها في انتظار كارثة؛ فهي قلقة مضطربة عنيفة مبعثرة شذر مذر، مثل سيل جارف سيعاود منبعه، وهى ترفض أن تتأمل وتفكر – أجل ، بل أنها تخاف من التفكير». يبدو أن الذي لفت انتباهه أكثر من أي أمر آخر لم يكن «التعصب المنحرف» العصري فقط، في خلوة من أي توجيه في المسائل ذات القيم الأساسية، بل كذلك سيطرة العقلية التجارية على الحياة بما لم يعد في الإمكان تلافيه، حيث نصب مبدأ «الدفع نقدًا، وبالدَين» حكمًا على الجميع ومراقبًا عليهم. عمليًا صار الغني، وذو الثقافة المبتذلة «بلذة نهاره» الدنيئة، و«لذة ليله» مثالًا «للنوع الإنساني» على كل المستويات الاجتماعية، وحتى مطالب الجماهير المستغلة نادرًا ما بدت تتجاوز طموح تحقيق ابتذال ثقافي شامل يشترك فيه الجميع بصورة عادلة.
سبب من أسباب هذا الوضع هو الفراغ النفسي والخلقي الذي ابتدأ بالسيطرة على العالم عندما فقدت الأديان القائمة سلطتها . هناك سبب آخر، مصيري بدرجة أكبر من الأول، هو تلك الفجوة بين السير السريع بدرجة لا تصدق لمدنيتنا الخارجية – التكنيكية والعلمية – من جهة ، والتطور الداخلي أو الحضاري المتخلف للإنسان الحديث من جهة ثانية، والواقع أننا نكاد نستطيع القول إنه لم يبق ثمة جسور بين الاثنين. ومن هنا سيطرت الكمية على حساب النوع . صارت الحضارة الخلاقة تختنق شيئًا فشيئًا بدخان الإنتاج الصناعي الجبار. لقد تطور الإنسان الخارجي على حساب الإنسان الداخلي(19).
ونيتشه يعتقد في أعماله الناضجة أن الحضارة الأوربية يمكن إنقاذها من خلال ثورة تعكس اتجاه الحياة، بخضوع البرجوازية والجماهير لنخبة جديدة. وقد قال ذلك حين كان تحت تأثير موسيقى «فاجنر» الذي وجه نيتشه وجهة جمالية، ورأى نيتشه أن أوبرا فاجنر سوف تنقذ حداثة فاسدة عن طريق مزج التطهير العاطفي بالتجربة الموسيقية السامية، بالطقس الأسطوري؛ أي خلاص أوروبا من خلال موسيقى فاجنر. وقد انقلب نيتشه بعد ذلك على فاجنر وأعاد تقييم فنه في كتابه «إنساني مفرط في إنسانيته»، ووصل إلى أن أوربا الحديثة فقدت قوة الحياة الدافعة لخلق قيم وخصوبة تؤدي إلى ثقافة قوية حقًا. و«قوة الحياة» تلك يطلق عليها نيتشه «إرادة القوة». كما اكتشف نيتشه أن الجذر التاريخي لتفسخ حياة الحداثة هو مولد الأخلاق، وفلسفته هي احتفال بإرادة القوة، وهي تعني لديه حقيقة الحياة والعالم، وهى تجسد «غريزة الحياة»، والحضارة كلها من صنع أصحاب القوة الذين يمتلكون إرادة قوة لا تقهر، وهم الآريون.
6
وهذا الاستنتاج ليس مجرد حكم أخلاقي أو فلسفي ولكنه حكم تاريخي، لأنه يرى أن انهيار الحضارة ليس حركة للخلف نحو حالة بدائية كما يعتقد «بوكهارت»، وإنما حركة نحو الأمام، نحو التفسخ واللامعنى. وهو يرى أن الغرب الحديث مريض، وقد عبر نيتشه عن نهاية الحضارة في كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، حيث يصف موت الإنسان الغربي وضياع الإيمان(20).
يرى نيتشه أن مهمة الفلسفة تكمن في كشف العوار أو الجوانب السلبية في الواقع المعاش، وفضح كل ماهو آسن وبليد ومدمر للحياة الإنسانية، وفي نفس الوقت تقديم الحلول الممكنة أو العلاج الممكن لإنقاذ الإنسان؛ فالفيلسوف ينبغي أن يكون بمثابة الطبيب الذي يشخص المرض وفى نفس الوقت يقدم العلاج الممكن للمرض.
كان نيتشه ينظر إلى الفيلسوف أنه بمثابة «طبيب» لأنه من المفترض أنه يبين جوانب الخلل والاضطراب إلى جانب أنه يمتلك القدرة على تقديم السبل لمعالجة أو لتلافي تلك المثالب.
هذا ما جاء على لسان زرادشت : «صوتي علاج حتى بالنسبة للذين ولدوا عميانا». يصرح الفيلسوف أن «كل فلسفة وكل فن يمكن أن يكون علاجا لكائنات تعاني». بل يعتبر نفسه طبيب الحضارة ويسند للفيلسوف مهمة جديدة: مهمة العلاج، فعوض الفيلسوف التقليدي، يصبح عندنا الفيلسوف الطبيب الذي يكشف عن علل المرض بحيث تتحدد مهمته في «البحث عن الصحة الكبرى للفرد ، والشعب والمجتمع». يستخدم نيتشه في مؤلفاته جهازًا مفاهيميًا ينتمي إلى مجال الطب أو على الأقل ينتمي إلى تصوراته كفيلسوف طبيب. وهكذا ففي المتن النتشوي يتكرر مفهوم «علاج »، بل نجد تمييزًا بين أصناف العلاج، كالعلاج الساذج والعلاج الخاطئ والعلاج الجذري. كما نجد تكاثرًا في مواقع الصحة والمرض والألم والمعاناة.
يرى نيتشه أنه يجب على الفيلسوف أن يكون فزيولوجيًا وطبيبًا كي تكون له القدرة على أن يبلغ الأعماق : حالة الجسد. ولعل ذلك ما ذهب إليه david farrel krell من أن الفزيولوجيا هي أهم تقنيات الجينالوجيا. يأمل نيتشه في أن يتم اعتماد المقاربة الفيزيولوجية في دراسة أصل الأخلاق إضافة إلى باقي المقاربات المعتمدة، بل أنه يدعو إلى إخضاع الأخلاق لاختبار طبي.
إنّ الكاهن أو رجل الدين أو اللاهوتي ينظر إلى نفسه بوصفه القادر على علاج كل تابعيه، ويعطي لنفسه كل حقوق الطبيب، بل إن الأمر يصل لدرجة مزرية عندما نجد القطيع يستسلم لذلك الكاهن ويعتبره بمثابة الطبيب والمنقذ والمفضي إلى الصحة والعلاج وإلى المنشود، بل هو الذي سيجعلهم يصلون إلى الجنة وإلى الفردوس المنشود والمأمول. نعم إن للكاهن القدرة على السيطرة على تلك النفوس الضعيفة والمضطربة والقلقة فتجد السبيل والملاذ والخلاص عند ذلك الكاهن بكل أدواته وقدرته على النفاذ إلى الداخل النفسي. وكل ما يفعله ذلك الكاهن هو تصميت العقل أو تغييبه أو عمل شلل بدرجة ما لعمل العقل ولذلك نجد نيتشه يتساءل بشكل استنكاري واستهجاني: ترى هل فعلا مثل هذا الكاهن يمكن أن يكون طبيبا بالفعل؟
لقد رأينا قلة الحقوق التي تخول له لقب الطبيب، وإن كان ينظر إلى نفسه بكثير من العجب على أنه مخلص، ويدع الآخرين يبجلونه باعتباره كذلك. إن ما يستعمله وما يوظفه الكاهن في تأسيسه للأخلاق يسميه نيتشه تطبيبًا وعلاجًا، لكنه تطبيب كهنوتي. إنّ حماة هذا التطبيب من كهنة وقساوسة يسببون بعلاجهم المزيد من المرض، ويجعلون الإنسان المريض أكثر مرضًا. فالكاهن الطبيب يجلب معه البلسم والعلاج. حيث عليه أن يجرح قبل أن يقوم بالعلاج كطبيب، فيسمم الجرح في نفس الوقت الذي يهدئ فيه الألم الناتج عن ذلك الجرح. «إنه يتقن هذا العمل، هذا الساحر والمروض للسباع ، الذي يصير كل من يغالطه من الأصحاء مريضًا». مهمة الفلسفة عنده هي تشخيص للأعراض المرضية – سمبتمولوجيا – أو سيميولوجيا تقف عند مرض المعنى. إن مهمة الفيلسوف الطبيب تقتضي أولًا محاربة أنواع العلاجات الفاسدة والساذجة التي اعتمدها القساوسة والكهنة كوسائل لتدجين الإنسان ضد كل أشكال القوة الطبيعية التي تميز حيوانيته. وبما أن الكهنة جعلوا الإنسان أكثر مرضًا وأكثر حقدًا تجاه ذاته واتجاه العالم، فإن مهمة الطبيب الفيلسوف تقوم على تشخيص أمراض الإنسان، والبحت جينيالوجيا عن أصل المرض. كل ذلك بقصد محاربة السموم التي أطلقها لعاب الكاهن في جسم الحياة بدعوى خلق القيم: الخير والشر، الحسن والقبيح. يعتبر نيتشه أن «الإنسان حيوان مريض» وأنه «أحد الأمراض الجلدية للأرض» ، ولذلك يجعل من مهمته الجينالوجيا كشف الوجوه المسمومة لعلاج القساوسة، وحتى نقده للفلاسفة يدور في عمقه على نقد الدور الذي يقوم به هؤلاء في إثبات أو نفي الصحة الكبرى، في علاج أو تسميم المجتمع، في إثبات أو نكران الحياة(22).
7
يرى نيتشه أن مهمة الفلسفة تكمن في كشف العوار أو الجوانب السلبية في الواقع المعاش، وفضح كل ماهو آسن وبليد ومدمر للحياة الإنسانية، وفي نفس الوقت تقديم الحلول الممكنة أو العلاج الممكن لإنقاذ الإنسان؛ فالفيلسوف ينبغي أن يكون بمثابة الطبيب الذي يشخص المرض وفى نفس الوقت يقدم العلاج الممكن للمرض.
كان نيتشه ينظر إلى الفيلسوف أنه بمثابة «طبيب» لأنه من المفترض أنه يبين جوانب الخلل والاضطراب إلى جانب أنه يمتلك القدرة على تقديم السبل لمعالجة أو لتلافي تلك المثالب.
هذا ما جاء على لسان زرادشت : «صوتي علاج حتى بالنسبة للذين ولدوا عميانا». يصرح الفيلسوف أن «كل فلسفة وكل فن يمكن أن يكون علاجا لكائنات تعاني». بل يعتبر نفسه طبيب الحضارة ويسند للفيلسوف مهمة جديدة: مهمة العلاج، فعوض الفيلسوف التقليدي، يصبح عندنا الفيلسوف الطبيب الذي يكشف عن علل المرض بحيث تتحدد مهمته في «البحث عن الصحة الكبرى للفرد ، والشعب والمجتمع». يستخدم نيتشه في مؤلفاته جهازًا مفاهيميًا ينتمي إلى مجال الطب أو على الأقل ينتمي إلى تصوراته كفيلسوف طبيب. وهكذا ففي المتن النتشوي يتكرر مفهوم «علاج »، بل نجد تمييزًا بين أصناف العلاج، كالعلاج الساذج والعلاج الخاطئ والعلاج الجذري. كما نجد تكاثرًا في مواقع الصحة والمرض والألم والمعاناة.
يرى نيتشه أنه يجب على الفيلسوف أن يكون فزيولوجيًا وطبيبًا كي تكون له القدرة على أن يبلغ الأعماق : حالة الجسد. ولعل ذلك ما ذهب إليه david farrel krell من أن الفزيولوجيا هي أهم تقنيات الجينالوجيا. يأمل نيتشه في أن يتم اعتماد المقاربة الفيزيولوجية في دراسة أصل الأخلاق إضافة إلى باقي المقاربات المعتمدة، بل أنه يدعو إلى إخضاع الأخلاق لاختبار طبي.
إنّ الكاهن أو رجل الدين أو اللاهوتي ينظر إلى نفسه بوصفه القادر على علاج كل تابعيه، ويعطي لنفسه كل حقوق الطبيب، بل إن الأمر يصل لدرجة مزرية عندما نجد القطيع يستسلم لذلك الكاهن ويعتبره بمثابة الطبيب والمنقذ والمفضي إلى الصحة والعلاج وإلى المنشود، بل هو الذي سيجعلهم يصلون إلى الجنة وإلى الفردوس المنشود والمأمول. نعم إن للكاهن القدرة على السيطرة على تلك النفوس الضعيفة والمضطربة والقلقة فتجد السبيل والملاذ والخلاص عند ذلك الكاهن بكل أدواته وقدرته على النفاذ إلى الداخل النفسي. وكل ما يفعله ذلك الكاهن هو تصميت العقل أو تغييبه أو عمل شلل بدرجة ما لعمل العقل ولذلك نجد نيتشه يتساءل بشكل استنكاري واستهجاني: ترى هل فعلا مثل هذا الكاهن يمكن أن يكون طبيبا بالفعل؟
لقد رأينا قلة الحقوق التي تخول له لقب الطبيب، وإن كان ينظر إلى نفسه بكثير من العجب على أنه مخلص، ويدع الآخرين يبجلونه باعتباره كذلك. إن ما يستعمله وما يوظفه الكاهن في تأسيسه للأخلاق يسميه نيتشه تطبيبًا وعلاجًا، لكنه تطبيب كهنوتي. إنّ حماة هذا التطبيب من كهنة وقساوسة يسببون بعلاجهم المزيد من المرض، ويجعلون الإنسان المريض أكثر مرضًا. فالكاهن الطبيب يجلب معه البلسم والعلاج. حيث عليه أن يجرح قبل أن يقوم بالعلاج كطبيب، فيسمم الجرح في نفس الوقت الذي يهدئ فيه الألم الناتج عن ذلك الجرح. «إنه يتقن هذا العمل، هذا الساحر والمروض للسباع ، الذي يصير كل من يغالطه من الأصحاء مريضًا». مهمة الفلسفة عنده هي تشخيص للأعراض المرضية – سمبتمولوجيا – أو سيميولوجيا تقف عند مرض المعنى. إن مهمة الفيلسوف الطبيب تقتضي أولًا محاربة أنواع العلاجات الفاسدة والساذجة التي اعتمدها القساوسة والكهنة كوسائل لتدجين الإنسان ضد كل أشكال القوة الطبيعية التي تميز حيوانيته. وبما أن الكهنة جعلوا الإنسان أكثر مرضًا وأكثر حقدًا تجاه ذاته واتجاه العالم، فإن مهمة الطبيب الفيلسوف تقوم على تشخيص أمراض الإنسان، والبحت جينيالوجيا عن أصل المرض. كل ذلك بقصد محاربة السموم التي أطلقها لعاب الكاهن في جسم الحياة بدعوى خلق القيم: الخير والشر، الحسن والقبيح. يعتبر نيتشه أن «الإنسان حيوان مريض» وأنه «أحد الأمراض الجلدية للأرض» ، ولذلك يجعل من مهمته الجينالوجيا كشف الوجوه المسمومة لعلاج القساوسة، وحتى نقده للفلاسفة يدور في عمقه على نقد الدور الذي يقوم به هؤلاء في إثبات أو نفي الصحة الكبرى، في علاج أو تسميم المجتمع، في إثبات أو نكران الحياة(22).
7
فماذا يقصد بالمرض في فلسفة نيتشه؟ يعرف نيتشه المرض كما يلي : «أعني بالمرض اقتراب الشيخوخة المبكرة، القبح، الأحكام التشاؤمية، ثلاث صفات مجتمعة». فالكائن المريض، ليس فقط من يعجز عن الهضم، ولكن الذي يبتلع كل شيء و يجد صعوبات في الإفراز. وللمرض أو ما يعوضه من مكافئات دلالية كالانحطاط كالانحلال، الضعف، التهجين…، وله عدة أعراض منها :ضعف الإرادة، عدم القدرة على مقاومة إثارة ما، التناقض الفيزيولوجي وعدم القدرة على هضم التجارب المعيشة و البحث عن المنبهات والمسكنات. ولما كانت الغريزة هي مركز إرادة القوة، فان كل وهن يصيب الجسد وغرائزه له تأثير كبير على طبيعة الإرادة نفسها، بحيث تصبح إرادة إثبات وصحة أو نفي وانحطاط. ويتجلى ضعف الإرادة، باعتباره عجز عن التحكم في الذات، في شكل عبودية المرء لغرائزه الأكثر قوة، باعتبار أن غياب التوازن الداخلي هو السمة المميزة لجسد مريض(24).
هذا الإنسان الذي تحول إلى قشرة خارجية منزوعة اللب إنسان يخدع نفسه بنفسه. التصق قناع المنصب أو الوظيفة التي يؤديها في المجتمع بجلده حتى أخفى وجهه الحقيقي وتوحد «بالدور» الذي يقوم به فاستبدله بذاته الأصيلة. وإذا كان هذا الدور ضرورة تحتمها الحياة الاجتماعية ويفرضها التعامل مع العالم والناس، فانه يصبح في الحالات المرضية قناعًا تتخفى وراءه الشخصية أو بالأحرى تختفي فيه.
ولا شك في أن نيتشه قد سلط نيران غضبه على الأقنعة الكاذبة التي ارتداها الناس في عصره، واستطاع أن يعرى حضارته ويكشف عن العفن والفساد والعدمية التي فغرت هاويتها المخيفة لتتردى فيها. فعل ذلك ليحمى «النفس الشابة» من لعنة الأقنعة والأدوار المتشابهة إلى ما لا نهاية، من السقوط والضياع وسط الجماهير المجهولة -كما سيقول هيدجر فيما بعد – ومن إنكار الذات الأصيلة وتسليم قيادها للناس والرأي، فعل ذلك لكي تقسو على نفسها وتقول لها : كوني نفسك! (25)
عبر هذه الصفحات يمكن أن نرى بشكل واضح مدى الدهشة التي يمكن أن تعتريك وأنت تقرأ ما يقوله نيتشه عبر كتاباته وأفكاره: إنها دهشة حيوية ومتوهجة وتجعلك تعيد النظر بشكل أو بآخر في الكثير من المسائل والأفكار. إن ما عرضه سيحدث درجة من درجات الانجذاب إلى ما يقوله، وهنا تكون الذات قبل قراءة نيتشه غيرها بعد القراءة، وتلك لحظة جمالية منشودة نحتاج آن تبقى معنا طويلًا في زمن فقد الكثير أو قل أغلب جمالياته ليسود القبح كل شيء.
المراجع
1- د. عبد الغفار مكاوي : دراسات في الأدب والفلسفة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1995، ص223
2- ناثان ريدر : نيتشه ثورة القيم وسياسة الاختلاف :ترجمة : بدر الدين مصطفى ، (فى) مؤمنون بلا حدود – 17ابريل 2019 .
3- د. رمسيس عوض – ملحدون محدثون ومعاصرون ، دار سينا للنشر ، ط1 ، 1998 ، ص22
4- د . رؤوف سلامة : نيتشه ، دار وطابع المستقبل : ص14
5- نيتشه : السابق : ص34
6- فؤاد زكريا : نيتشه : سلسلة نوابغ الفكر الغربي 1 ، دار المعارف ، ص9،8
7- سمير الزغبى : نيتشه الفن والوهم وإبداع الحياة ، التنوير 2009 بيروت ، ص70
8- د. عبد الغفار مكاوي : دراسات في الأدب والفلسفة ، السابق : ص239،238
9- نيتشه : الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ، ترجمة : سهيل القش ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 1983 ، ص39
10- تفروت لحسن : نيتشه – الفيلسوف طبيب المجتمع (في) الحوار المتمدن – العدد 4715 – 9/2/2015
11- سمير الزغبى : السابق ص95،94
12- د. عبد الغفار مكاوى : السابق: ص225
13- د. رمسيس عوض – ملحدون محدثون ومعاصرون ، 21
14- ناثان ريدر : نيتشه ثورة القيم وسياسة الاختلاف : السابق ذكره
15- تفروت لحسن : السابق
16- ناثان ريدر : السابق ذكره
17- سمير الزغبى : السابق ، ص84-86
18- تفروت لحسن : السابق
19- بانكولافرين : نيتشه ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1973 ، ص63،62
20- انظر : مقدمة .د. رمضان بسطاويسى في كتاب : فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي – ترجمة : طلعت الشايب ، المجلس القومي للترجمة ، 2009 ، ص23،22
21- تفروت لحسن ، السابق
22- السابق
23- Nietzsche، F; The antichrist ; London. 1968، p،150
24- تفروت لحسن : السابق
25- عبد الغفار مكاوى : السابق : ص242
8
#فريدريك_نيتشه
الفيلسوف الجديد
هذا الإنسان الذي تحول إلى قشرة خارجية منزوعة اللب إنسان يخدع نفسه بنفسه. التصق قناع المنصب أو الوظيفة التي يؤديها في المجتمع بجلده حتى أخفى وجهه الحقيقي وتوحد «بالدور» الذي يقوم به فاستبدله بذاته الأصيلة. وإذا كان هذا الدور ضرورة تحتمها الحياة الاجتماعية ويفرضها التعامل مع العالم والناس، فانه يصبح في الحالات المرضية قناعًا تتخفى وراءه الشخصية أو بالأحرى تختفي فيه.
ولا شك في أن نيتشه قد سلط نيران غضبه على الأقنعة الكاذبة التي ارتداها الناس في عصره، واستطاع أن يعرى حضارته ويكشف عن العفن والفساد والعدمية التي فغرت هاويتها المخيفة لتتردى فيها. فعل ذلك ليحمى «النفس الشابة» من لعنة الأقنعة والأدوار المتشابهة إلى ما لا نهاية، من السقوط والضياع وسط الجماهير المجهولة -كما سيقول هيدجر فيما بعد – ومن إنكار الذات الأصيلة وتسليم قيادها للناس والرأي، فعل ذلك لكي تقسو على نفسها وتقول لها : كوني نفسك! (25)
عبر هذه الصفحات يمكن أن نرى بشكل واضح مدى الدهشة التي يمكن أن تعتريك وأنت تقرأ ما يقوله نيتشه عبر كتاباته وأفكاره: إنها دهشة حيوية ومتوهجة وتجعلك تعيد النظر بشكل أو بآخر في الكثير من المسائل والأفكار. إن ما عرضه سيحدث درجة من درجات الانجذاب إلى ما يقوله، وهنا تكون الذات قبل قراءة نيتشه غيرها بعد القراءة، وتلك لحظة جمالية منشودة نحتاج آن تبقى معنا طويلًا في زمن فقد الكثير أو قل أغلب جمالياته ليسود القبح كل شيء.
المراجع
1- د. عبد الغفار مكاوي : دراسات في الأدب والفلسفة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1995، ص223
2- ناثان ريدر : نيتشه ثورة القيم وسياسة الاختلاف :ترجمة : بدر الدين مصطفى ، (فى) مؤمنون بلا حدود – 17ابريل 2019 .
3- د. رمسيس عوض – ملحدون محدثون ومعاصرون ، دار سينا للنشر ، ط1 ، 1998 ، ص22
4- د . رؤوف سلامة : نيتشه ، دار وطابع المستقبل : ص14
5- نيتشه : السابق : ص34
6- فؤاد زكريا : نيتشه : سلسلة نوابغ الفكر الغربي 1 ، دار المعارف ، ص9،8
7- سمير الزغبى : نيتشه الفن والوهم وإبداع الحياة ، التنوير 2009 بيروت ، ص70
8- د. عبد الغفار مكاوي : دراسات في الأدب والفلسفة ، السابق : ص239،238
9- نيتشه : الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ، ترجمة : سهيل القش ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 1983 ، ص39
10- تفروت لحسن : نيتشه – الفيلسوف طبيب المجتمع (في) الحوار المتمدن – العدد 4715 – 9/2/2015
11- سمير الزغبى : السابق ص95،94
12- د. عبد الغفار مكاوى : السابق: ص225
13- د. رمسيس عوض – ملحدون محدثون ومعاصرون ، 21
14- ناثان ريدر : نيتشه ثورة القيم وسياسة الاختلاف : السابق ذكره
15- تفروت لحسن : السابق
16- ناثان ريدر : السابق ذكره
17- سمير الزغبى : السابق ، ص84-86
18- تفروت لحسن : السابق
19- بانكولافرين : نيتشه ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1973 ، ص63،62
20- انظر : مقدمة .د. رمضان بسطاويسى في كتاب : فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي – ترجمة : طلعت الشايب ، المجلس القومي للترجمة ، 2009 ، ص23،22
21- تفروت لحسن ، السابق
22- السابق
23- Nietzsche، F; The antichrist ; London. 1968، p،150
24- تفروت لحسن : السابق
25- عبد الغفار مكاوى : السابق : ص242
8
#فريدريك_نيتشه
الفيلسوف الجديد