Telegram Web Link
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
الفلسفة والحقيقة.
الفيلسوف الجديد .pdf
750.5 KB
ألين تورينغ - موسوعة ستانفورد للفلسفة - 36 ص
وتعمل كل الحكومات على إبقائه في جهله بكل الجهود المدروسة ، لانها ترى في ذلك الجهل ، واحدا من الشروط الاساسية التي تمثل قوتها . ويقبل هذا الشعب التقاليد الدينية بكل حذافيرها دون نقاش ، ما دام مسحوقا بعمله اليومي ومحروما من الترفيه ومن النشاط الفكري ومن المطالعة . وتحيط به هذه المسلمات منذ الصغر في مختلف ظروف حياته ويتعهدها لتثبت في اعماقه حتى تمسي لديه ضربا من العادات الذهنية والاخلاقية الاقوى في معظم الأحيان من عقله السليم .

ميخائيل باكونين من كتابه " الإله والدولة "
جورج مور
زكي نجيب محمود


وُلد جورج مور سنة ١٨٧٣م في إحدى ضواحي لندن، لأبٍ طبيبٍ عُنِي أكبر عنايةٍ بتربية أولاده، حتى لقد تولَّي بنفسه تعليمهم في المرحلة الأولى، فإذا ما أتمَّ الولَدُ من أبنائه هذه المرحلة الأولية على يدَيه، أرسلَه إلى مدرسةٍ عُرِفت بمُستواها التربوي الرفيع؛ وفي هذه المدرسة لبِثَ جورج مور أعوامًا عشرة، من سنِّ الثامنة إلى الثامنة عشرة، ظهر فيها استعداده للدراسة الكلاسيكية من يُونانية ولاتينية، حتى لقد أوشك أن ينصرِفَ إلى دراستِها دون غيرها من مواد إلَّا قليلًا من فرنسيَّةٍ وألمانية ورياضية، وقد فرغ من دراسته الثانوية وهو لا يعرِف كثيرًا ولا قليلًا عن العُلوم الطبيعية؛ مما جعله فيما بعدُ يتمنَّى لو لم يكن قد أنفق كلَّ الوقت الذي أنفقَهُ في ترجمة مُختارات من النَّثر الإنجليزي إلى اليونانية واللاتينية، ومُختاراتٍ من هاتَين إلى اللغة الإنجليزية، ليجِدَ فراغًا من وقتِهِ يملؤه بشيءٍ من العلوم الطبيعية التي أُغلِقت من دُونه.

وأيًّا ما كانت دراستُه في المرحلة الثانوية، فقد دخل كيمبردج، وأنفق عامَيه الأوَّلَين في دراسةٍ كلاسيكية كاد لا يجِد فيها جديدًا يُضاف إلى ما كان قد تعلَّمه في مدرسته الثانوية، لكن الجديد حقًّا خلال ذَينك العامَين، هو تلك المجموعة الفذَّة من شباب الجامعة الذين رآهم يلتقُون معًا للمُناقشة والحديث، فدأب على الاتِّصال بهم والاستماع إليهم، مأخوذًا مَشدوهًا لذلك المستوى الرفيع الذي كانوا يرتفِعون إليه في أحاديثهم ومُناقشاتهم، ممَّا لم يكن لصاحِبِنا به عهدٌ من قبلُ، فهو يَسمعهم يتحدَّثون في السياسة والأدب، والفلسفة وغيرها في براعةٍ وفي عُمقٍ وكذلك في جِدٍّ لم يكن يتصوَّر أن يكون في مُناقشات شبابٍ لم يزل في عهْد الطلَب، فامتلأ فتانا نشوةً وإعجابًا. ولم يكن له إزاء ذلك إلَّا أن يُنصِت لهؤلاء الزملاء في صمت، وأحسَّ في دخيلة نفسه كأنما هو الريفيُّ الساذج جِيء به بغتةً إلى حيث الحضارة والثقافة، ولم يجِد عنده ما يُضيفه ممَّا يقبَل المُقارنة بما يقوله هؤلاء الزملاء، لا بل إنه قد أحسَّ بالزَّهو أن قَبِلتْه تلك الجماعة واحدًا منهم، فكانت هذه أول مرة في حياته — كما يقول هو — يجِد فيها نفسه على علاقةٍ وثيقة حميمة مع أفراد ذوي كفاية عقلية ممتازة، فكان لذلك ما كان في تحريك نفسه وتنشيط عقله.

كان برتراند رسل أحد هؤلاء الطلَّاب، كان يكبُرُ مُور بعامَين عمرًا ودراسةً، وله يرجِع الفضل في أنْ دخَلَ مور ميدان الفلسفة؛ ذلك أنه حين سمِعَه يتحدَّث إليه ويُناقِشه، قال إنَّ له استعدادًا فلسفيًّا يلفِت النظر، وحَثَّه على أن يُكمل العامَين الباقِيَين له في الدراسة الجامعية، في طلَب الفلسفة. وهنا يقول مور إنه لم يكن قد سمِع قبل ذلك أنَّ الفلسفة مادة تُدرَّس في الجامعات، إنه حين ذهب إلى كمبردج لم يتوقَّع إلَّا أن يُواصِل دراسته الكلاسيكية، ليُصبِح بعد تخرُّجه مُدرِّسًا لها في المدارس الثانوية. نعم إنه إبَّان مرحلته الثانوية كان قد درَس مُحاورة بروتاجوراس لأفلاطون، لكنَّهُ لم ينفعِل قطُّ لنوع المسائل الفلسفية التي تُثار في تلك المُحاورة، وغير هذه المُحاورة لم يكن جورج مور قد قرأ شيئًا قطُّ من الفلسفة.

1
أما وقد ذكَرْنا أولَ لقاءٍ بينه وبين برتراند رسل إذ هما طالِبان في كيمبردج، فيجمُل أن نقِفَ هاهنا وقفةً قصيرة لنَقُصَّ عن علاقةٍ بين هذَين الفيلسُوفَين اللَّذين لا يكاد يُذكَر اسم أحدهما حتى يثِبَ إلى الذهن اسم زميله، لأنهما معًا يُعدَّان زعيمَي مدرسةٍ فلسفية مُعاصرة، هي مدرسة التحليل، حتى لَيُطلق أحيانًا على هذه المدرسة اسم مدرسة كيمبردج، لوجود هذَين الصديقَين في كيمبردج.

ترك برتراند رسل الجامعة سنة ١٨٩٤م، وكان مور لم يزَلْ في مُنتصف شَوطه الجامعي، لكنَّ العلاقة كانت قد توثَّقتْ بينهما، فلَبِثَ مور مدى ستَّة أعوامٍ بعد ذلك دائمَ الِاتِّصال بصديقه، يُناقِشان معًا ما يَعرِض لهما من المسائل الفلسفية، إما في كيمبردج عندما كان رسل يُعاوِدها بالزيارة حينًا بعد حين، وإمَّا في منزل رسل الرِّيفي حين كان مور يُعاوده بالزيارة حينًا بعد حين. وكان الصديقان بطبيعة الحال يُؤثِّر أحدُهما في الآخر بأفكاره ولفتاته، ممَّا حدا بِرَسل أن يعترِف في مُقدِّمة كتابه «أصول الرياضة» بما هو مَدين به لِمُور. ولعلَّ هذا الاعتراف من رسل هو الذي أوحى إلى كثيرين بالظنِّ بأنَّ مور كان أستاذًا لرسل، وأنه أكبر منه سنًّا وأسبقُ منه في الدراسة. وها هنا يُحاول مور في تاريخ حياتِهِ المُوجز الذي كتبَهُ عن نفسه، يُحاول أن يؤكِّد أنَّ الأفكار التي قصَدَ إليها رسل عندما اعترَفَ بفَضْل مور عليه، قد تبيَّن لهما معًا — فيما بعد — أنها أفكار خاطئة، أي أنَّ رسل لم يأخُذ عن مور — فيما يقول مور نفسه — إلَّا أخطاءً على حين أنَّ مُؤلَّفات رسل قد كانت من أهمِّ ما أثار التفكير عند مُور. فلئن كان رسل قد أثَّر تأثيرًا بالغًا في صديقه بالاتصال الشخصي المُباشر، إلَّا أن أثَرَه فيه كان أبلغَ وأعمَق بِكُتُبه التي أنفق مور في دراستها وتحليلها وقتًا أطول بكثيرٍ جدًّا — حسب اعترافه هو نفسه — ممَّا أنفقه في دراسة مؤلَّفات أيِّ فيلسوف آخَر على الإطلاق.

هذا ما يقوله فيلسوفُنا مُور عن تأثُّره برسل، فاسمَعْ ما يقوله رسل عن تأثُّره بمور. يقول ما معناه إنه بعدَ أن كان مُعجبًا بكانْت وهيجل وبرادلي في أول دراستِهِ الجامعية، عاد فانفضَّ عنهم جميعًا لمَّا تبيَّن له أنهم على ضلال، «ولولا تأثير جورج مور في تشكيل وجهةِ نظري، لجاء تَحوُّلي عن هؤلاء بخطواتٍ أبطأ، فقد اجتاز جورج مُور في حياته الفلسفية المرحلةَ الهيجليَّة نفسها التي اجتزتُها، لكنها كانت عندَهُ أقصرَ أمَدًا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثَّورة على الفلسفة المِثالية، وتَبعْتُه في ثورته، وفي نفسي شعور بالتحرُّر؛ فبعد أن كان برادلي يقول عن كلِّ الإدراكات الفطرية إنها ظواهر وليست من الحقِّ في شيء، جِئنا نحن لنقول إن كلَّ ما يقول الإدراك الفطري إنه حقٌّ فهو حق، ما دام هذا الإدراك الفطري غير مُتأثِّر بفلسفة أو لاهوت.»

قُلنا إنَّ الصديقَين لَبِثا على صِلةٍ دائمة ستَّ سنواتٍ بعد أن تخرَّج رسل من الجامعة، لكن تلتْها عشرةُ أعوام (١٩٠١–١٩١١م) لم يلتَقِيا خلالها إلَّا نادرًا، ثُمَّ تلاقيا بعد ذلك في كيمبردج زميلَين في التَّدريس.

2
قضى جورج مور ثمانيةً وعشرين عامًا يدرُس الفلسفة في كيمبردج (١٩١١–١٩٣٩م) وكان من أهمِّ الأحداث التي حدَثَتْ خلالها — فيما يروي مور في قصَّة حياته — لقاؤه بفتجنشتَين، الذي كان له فيما بعدُ أبلغُ الأثر في توجيه مدرسةٍ فلسفية مُعاصرة نشأت في فِينَّا، وهي ما أُطلِق عليها اسم «الوضعية المنطقية». كان فتجنشتَين يستمع لمُحاضرات مور، فلَمَح الأستاذ في تلميذه نُبوغًا حمَلَه على أن يقول: «سُرعان ما شعرتُ إزاءه أنه أبرَعُ مِنِّي في الفلسفة بدرجةٍ كبيرة، بل شعرتُ أنه كذلك أعمَقُ بكثير، وأنفذُ منِّي بصيرةً فيما ينبغي أن يكون عليه البحثُ والسير فيه.» ويمضي مور في رواية قصَّته مع فتجنشتَين فيقول: إنَّني لم أعُدْ أراه في كيمبردج بعد سنة ١٩١٤م، حتى عاد إليها سنة ١٩٢٩م، لكنني لما نُشِرَتْ رسالته في فلسفة المنطق، قرأتُها، مرَّةْ بعد مرَّةٍ مُحاولًا أن أتعلَّم منها؛ فهي رسالة أعجبْتُ وما أزال أُعجَب بها إعجابًا شديدًا؛ نعم لقد وجدتُ فيها كثيرًا ممَّا لم أستطِعْ فهمَه، لكنَّني كذلك — فيما أظن — قد فهِمتُ منها أشياء كثيرةً أراها تُنير أمامنا الطريق بضوءٍ ساطع. ولمَّا عاد فتجنشتَين إلى كيمبردج سنة ١٩٢٩م حضرتُ له مُحاضراته عدَّة أعوامٍ مُتلاحِقة، لم أزدَدْ به خلالها إلَّا إعجابًا فوق إعجاب؛ وأحسَبُه بغير شكٍّ قد جعلني بتأثيره أتشكَّك في أشياء كثيرةٍ كنتُ — لولاه — لِأُثْبتها مُطمئنًا لها. ولقد حمَلَني على الاعتقاد بأن حلَّ المسائل الفلسفية التي كانت تُحيرني، إنما هو مَرهون باصطِناع منهجٍ أجاد هو استخدامُه إجادةً رائعة، وإنه لَيَسُرُّني أنه هو الذي قد خلَفَني في أُستاذية الفلسفة بكيمبردج.

ولقاء آخَر بشخصٍ آخَر يستحقُّ الذكر، هو لقاء فيلسوفِنا بأحدِ طُلَّابه وهو رامزي F. P. Ramsey الذي أبدى من المَقدِرة والذكاء ما استوقَفَ نظر الأستاذ، مُعترفًا كذلك في صراحة أنَّ التلميذ هنا أيضًا قد تفوَّق على أستاذِه تفوُّقًا جعل مور على شيءٍ من القلق دائمًا أثناء المُحاضرة التي يكون رامزي أحد مُستمعيها، خَشيةَ أن يَزلَّ في الخطأ أمام ذلك الذهن النافِذِ المُتوقِّد. ولقد كان يحلو للأستاذ أن يجتمِع بالتلميذ على مُناقشاتٍ لمسائل فلسفية، حتى لقد تواعدا أن يَتعاوَنا على عملٍ مُشترَك، لكن الموت عاجَلَ ذلك الشابَّ النابِهَ قبل أن يبلُغ الثلاثين.
ولا نختم الحديث عن حياة جورج مور قبل أن نذكُر عنه جانبًا هامًّا في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث، وهو تولِّيه رئاسة تحرير مجلة «عقل» التي تُعَدُّ من غير شكٍّ في طليعة الطليعة من المجلَّات الفلسفية في العالم كله؛ وظلَّ رئيسًا لتحريرها منذ عام ١٩٢٠ حتى ثقُل عليه المرَض الذي انتهي بموته (١٩٥٩م).

3
لقد وردت عبارة في السيرة الذاتية التي كتَبَها مور عن حياته، تصلُح — في رأيي— أن تكون مفتاحًا لموقِفِه الفلسفي كله، وهي العبارة التي يقول فيها: «إنَّني لا أظنُّ أن العالَمَ أو العلوم كانت لتُوحي إليَّ أيَّةَ مُشكلاتٍ فلسفية؛ أما ما قد أوحى إليَّ بالمُشكلات الفلسفية فهو أشياء قالَها فلاسفة آخَرون عن العالمَ وعن العلوم؛ ففي كثيرٍ من المسائل التي أُوحِيَ إليَّ بها عن هذا الطريق، وجدتُ نفسي — وما أزال أجِدُ نفسي — مشغوفًا بالبحثِ شغَفًا شديدًا. وكانت هذه المسائل من نَوعَين رئيسيَّين: النوع الأول منها مُشكلات «تدور حول ما يكون الفيلسوف المُعيَّن قد قَصَدَ إليه بشيءٍ قالَه، فماذا عساه يعنى — على وجه الدِّقَّة — بهذه العبارة أو بتلك ممَّا ورَدَ في فلسفته؟ والنوع الثاني مُشكلات تدُور حول هذا السؤال: ماذا يُسوِّغ لهذا الفيلسوف أو ذاك أن يصِف هذه العبارة أو تلك من أقواله بأنها حق؟ أحسَبُني قد بذلتُ حياتي كلها مُحاولًا حلَّ مشكلاتٍ من هذَين النوعَين المذكورين».»

أعتقِد أنَّ هذه العبارة الهامَّة التي قالها مور لِيَصِف بها عمله الفلسفي تكفيني — وتكفي كلَّ كاتبٍ يتصدَّى لوضع مور موضِعَه الصحيح من مجال النشاط الفلسفي — مَئونةَ البحث الطويل؛ فهو لم يبحث في العالَم ولا في أيِّ جُزء منه بحثًا مُباشرًا. إنه لم يتورَّط في حُكمٍ يُطلِقه من عنده على الطبيعة أو ما وراء الطبيعة، أو على الإنسان فردًا أو مُجتمعًا مع غيره، إنه لم يتورَّط في رأيٍ خاصٍّ يُدلي به في شئون السياسة أو الفنِّ أو التاريخ مِمَّا ألِفنْا أن يتحدَّث فيه الفلاسفة الآخرون، كلَّا بل إنه لم يتورَّط في تحليل القضايا العلمية تحليلًا مُباشرًا، بحيث يتناوَل ما يقوله العلماء — عُلماء الرياضة وعلماء الفيزياء بصفةٍ خاصَّة — ليَصُبَّ تحليله على ما هو واردٌ في أقوالهم من مفاهيم وأحكام، أعنى أنه لا هو قد واجَهَ العالَم الخارجي بظواهره مُواجهةً مُباشرة وأدلي فيه برأي، ولا هو تراجَعَ خطوةً فوقف وراء العالِم الذي يتصدَّى للعالَم وظواهره بالبحث المُباشر، بحيث جعل أقوال هذا العالِم موضوعًا لبحثِه، بل إنَّه ترك مِثل هذا التحليل — تحليل أقوال رجال العِلم — لغَيره من الفلاسفة، أما هو فقد وقف وراء هؤلاء الفلاسفة لينظُر في معاني أقوالهم عن العلوم وعن العالَم. فلو كان العالِم هو الذي يصِف العالَم بقوانينه وصفًا مُباشرًا، ثُمَّ لو كان فيلسوف العِلم هو الذي يُحلِّل ما يقوله العالِم، فجُورج مُور هو فيلسوف الفلاسفة — كما يُقال عنه أحيانًا — لأنه يَصبُّ تحليلاته، لا على العالَم وظواهره ولا على العُلماء وقضاياهم ومفاهيمهم، بل يَصبُّها على أقوال الفلاسفة باحثًا عن معانيها التي قصدَ إليها أصحابها، حتى إذا ما اطمأنَّ إلى أنه قد فهِم المقصود راح يسأل إنْ كان عند الفيلسوف ما يُبرِّرُ له الاعتقاد في صواب ما يقوله.

يَتبيَّن من هذا في جلاءٍ أنَّ كلَّ ما يعمله «مور» هو «التحليل»، وليس هو أن يُضيف حُكمًا جديدًا عن جانبٍ من جوانب العالَم، أو عن قضية من قضايا العلم. عمله هو التحليل من أجل فَهم المعنى المقصود ممَّا قد ورَدَ على ألسِنَةِ الفلاسفة من قبله وفي عصره. فتراه يقرأ كتابًا من الكُتُب الفلسفية القديمة أو المُعاصرة ليقِفَ عند فقرةٍ أو عبارة أو كلمة، فيسأل عن معناها الذي يظنُّه المؤلِّف أمرًا مفهومًا مُسلَّمًا به، فإذا هو أمام تعقيدٍ وغموض يقتضِيانِهِ أن يمضي في عملية التحليل، حتى يزول التعقيد وينجلي الغموض، أو يُصرِّح آخِر الأمر أنه إزاءَ شيءٍ غير مفهوم. وما أكثر ما يقول الفلاسفة أشياء يَظنُّونها واضحةً وما هي بواضحةٍ حتى تُحَلَّ وتُشرَح، ثم ما أكثر ما ينتهي التحليل والشرح إلى أن هؤلاء الفلاسفة إنما قالوا — في حقيقة الأمر — شيئًا بِغير معنًى.

والأداة التحليلية التي يَستخدمها مور هي مُحاولته دائما أن يجِد بدَل العبارة التي يتصدَّى لتحليلها عبارةً أخرى تُساويها معنًى لكنها تكون أوضحَ منها؛ وذلك لأنَّ العِبارة الثانية من شأنِها أن تبسط ما كان قد تركَّز في العبارة الأولى، ولهذا وَجَب أن تكون كلمات العبارة الثانية أكثرَ عددًا من كلمات العبارة الأولى، رغم تساويهما في المعنى. وأبسط مثَلٍ نَسوقُه لذلك هو أن نُحلِّل العبارة القائلة: «الحَسَن أخو الحُسين» بقولنا: «إن الحَسن والحُسين اسمان أُطلِقا على ذكَرَين اشتركا في الوالِدَين اللَّذَين أنسلاهُما، فوالِد أحدهما هو والد الآخر، ووالدة أحدهما هي والدة الآخر.»

4
ليست المُشكلة عند مور هي ماذا نعرِف؟ بل المُشكلة هي: ماذا نعني بهذا الذي نقول إننا نعرفه؟ ذلك لأنه يركَن في تحصيل المعرفة إلى الذَّوق الفِطري — وهذه هي إحدى خصائصه المُميِّزة — فالذوق الفِطري، أو الإدراك الفِطري، صادِق فيما يَهدينا إليه من صنوف المعرفة. ولو جاءك إدراكُكَ الفِطريُّ بمعرفة، كأنْ تعرِف مثلًا أنك موجود وأنك ذو بدَن وأنك تنتقِل من مكانٍ إلى مكان وهكذا، أقول إنه لو جاءك إدراكُك الفطري بمعرفةٍ كهذه ثم سألت: أهي معرفة صادِقة؟ كنتَ في رأي مور تسأل سؤالًا غير مشروع. ومع ذلك فما أكثر ما يسأل الفلاسفة أسئلة كهذه! أهذه المِنضدَة التي أمامي وهذه الورَقة وهذا القلم في يدي موجودة حقًّا؟ هل أنا اليوم هو نفس الشخص الذي كُنتُه بالأمس؟ هل أنا حُرُّ الإرادة في تحريك يدي حين أُحرِّكها بكتابةِ هذه الأسطر الآن؟ وإذا كنتُ مُوقنًا بوجودي، فهل أوقِنُ كذلك بوجود الأشخاص الآخرين، وبأنَّ لهم مشاعر كمشاعري وخواطر كخواطري، وهكذا وهكذا. نعم ما أكثر ما سأل الفلاسفة أسئلةً كهذه يُريدون أن يَستوثِقوا بها إن كان إدراكُهم الفِطريُّ قد صَدَقَهُم النَّبأ حين أنبأَهُم بهذه الأمور كلها. أما «مور» فمَوقِفه آخَر، وهو أنَّ السؤال لا يكون عن صِدق ما يجيء به الإدراك الفِطري؛ لأنَّ هذا الصِّدق لا ينبغي أن يكون مَوضع تساؤل، وإنما يكون السؤال عن تحليل المعرفة التي يَجيء بها الإدراك الفطري لِنُلِمَّ بعناصرها فنفهم مقوماتها ومَدلولها فَهْمًا صحيحًا.

ويشرح مور وجهةَ نظرِهِ هذه في بحثٍ عنوانه «دفاع عن الذَّوق الفطري» يقول فيه إنه بالإدراك الفِطري مُوقِن بأنَّ ثَمَّة الآن جسدًا بشريًّا — هو جسدُه — وأن هذا الجسَد قد وُلِدَ في لحظةٍ مُعيَّنة من الزَّمن الماضي، وأنه لم يزلْ منذ تلك اللحظة موجودًا وجودًا مُتَّصِلًا، رغم تعرُّضه للتغيُّر، فمثلًا كان لحظة ولادَتِهِ أصغرَ جدًّا مما هو الآن؛ ولقد ظلَّ هذا الجسَد منذ ولادته حتى الآن إما لصيقًا بالأرض أو مُفارقًا لها على مسافةٍ ليست بعيدةً عنها؛ ولقد كانت هنالك منذ وُلد هذا الجسد، أشياء أخرى كثيرة، ذوات شكلٍ وحجم في أبعادٍ ثلاثة، وأن هذا الجسد قد كان على مسافاتٍ مُتفاوتة من هذه الأشياء، فبعضها أقرب إليه من بعض. ومن بين الأشياء التي كانت تُحيط به منذ ولادته فتكوِّنُ بيئتَه، عددٌ كبير من الكائنات البشرية، كل منها شَبيهٌ به في أنه (أ) قد وُلِدَ في لحظة مُعيَّنة من الزمن الماضي، (ب) وأنه قد لبِثَ موجودًا فترة ما بعد ولادته، وأنه (ﺟ) كان في لحظةٍ زمنية منذ ولادته إما لصيقًا بالأرض أو مفارقًا لها مسافةً ليست بعيدة عنها، وأعلم كذلك بإدراكي الفطري أنَّ كثيرين من هؤلاء الناس قد ماتوا واختفَوا من الوجود، كما أعلم أنَّ الأرض التي نعيش عليها كانت موجودة قبل ولادتي بزمن طويل؛ وأنها شهدتْ ناسًا غيري ولدوا وماتوا قبل أن يُولَد جسدي، وأخيرًا فإني أعلم أنني كائن بشري أخذتْ تمرُّ به الخِبرات منذ ولادته، فيُدرِك بحواسِّه أشياء وما بينها من علاقات.


5
هذه كلها أشياء عرفْناها بالإدراك الفطري، معرفةً لا يجوز أن تكون مَوضع تساؤل، وإنما الذي يجوز — بل يجِب — إزاءها، هو أن نُوضِّح بالتحليل ما هو مُتضمَّن فيها، ابتغاء الفَهم الكامل لمَدلولاتها. إنَّ عبارة مثل قولنا: «لقد كانت الأرض موجودة لعدَّة أعوامٍ مضت.» حقيقة يشهَد الذَّوق الفطري بصِدقها، وليس وراء شهادته شهادة، لكنَّنا لو سألْنا فلاسفة كثيرين: هل صحيح أنَّ الأرض كانت موجودةً لعدَّة أعوامٍ مضت؛ لما عدُّوه سؤالًا بسيطًا يُجاب عليه بنعم أو بلا، أو يُجاب عليه بقولِنا إنَّنا لا نعرِف الجواب الصحيح، بل تَراهم يقولون: إنَّ الإجابة تتوقَّف على معنى الكلمات التي وردَتْ فيه، مثل كلمة «الأرض» وكلمة «موجودة» وكلمة «سنين» فإذا كانت معاني هذه الكلمات هي كذا وكذا فالجواب هو كذا، وأما إذا كانت معانيها هي كيت وكيت فالجواب هو كيت. لكن مور — على خِلاف أمثال فلاسفة كهؤلاء — يؤكد أنَّ عبارة كهذه هي نموذج الوضوح، لأنها مفهومة عند الإدراك الفطري، وهذا وحده فيه ما يكفي؛ وكلُّ من ساوَرَتْه النفس بأن يتشكَّك في فهمه لِعبارة كهذه، هو في الحقيقة شخص يخلِط بين مَسألتَين مُختلفتَين؛ الأولى هي: هل نفهَم العبارة؟ والثانية هي هل نعرِف تحليل هذا الذي فهِمناه؟ أي أنه هو الفرق بين إدراك المعني من جهةٍ وإدراك عناصره التي ينحلُّ إليها من جهةٍ أخرى، وهي تفرقة بالِغة الأهمية؛ لأنه بينما يجعل فلاسفةٌ كثيرون الأمرَ الأول موضوع اهتمامِهم، ترى مور ينقُل مركز الاهتمام إلى الأمر الثاني؛ فهو — مثلًا — لا يسأل كما سألَ ديكارت: هل حقًّا أنا موجود؟ بل هو يسأل بدلَ ذلك: ما تحليل العبارة التي أقول بها إنني موجود؟

والفرق — كما ترى — بعيد بين الوقفتَين، فالذي يتشكَّك فيه الفلاسفة الآخَرون يجعله مور موضِعَ تصديقٍ لا شكَّ فيه، والذي يؤمن بصِدقه الفلاسفة الآخرون هو الذي يجعله مور موضع شكٍّ وحافزًا على البحث؛ فقد يتشكَّك الآخرون في صِدق عبارة كهذه: «قد ظلَّتْ هذه الأرض موجودةً لأعوام كثيرةٍ مضت.» ويتساءلون ما بُرهانُنا على صَوابها؟ وهم في الوقت نفسه يطمئنُّون إلى الطريقة التي يُحلِّلون بها معناها كأنما هُم على فَهْمٍ دقيق لعناصرها. أما مور فيعكس الوضع: فهو لا يَشكُّ في صِدق العبارة لكنه في الوقت نفسه لا يطمئنُّ أبدًا إلى تحليلها الصحيح كيف يكون وماذا عساه أن يكون.

6
ويُطبِّق مور مبدأه في قَبول الإدراك الفِطري على فكرة الخير فلا يتردَّد في قَبولها إذ يكفي أنَّ الإنسان بإدراكه الفطري يعلم أنَّ الخير موجود.

فإذا سألت عن «الخير» ما تعريفه، فستنتهي إلى أنه شيءٌ بغَير تعريف، لأنك لكي تُعَرِّف الشيء، فلا بدَّ لك من تحليله إلى عناصره البسيطة، أما إذا كان بسيطًا بطبيعتِهِ لا ينحلُّ إلى ما هو أبسط، تعذَّر التعريف؛ فالبسيط يُدرَك بذاته إدراكًا مُباشرًا ولا يحتاج إلى سواه ليُعين على توضيح معناه؛ لهذا يقول مور: إنني إذا سُئلتُ «ما هو الخير؟» لأجَبتُ بقولي: «الخير هو الخير.»

وفي هذا ختام السؤال وختام الإشكال، أو إذا سُئلتُ «كيف تُعرِّف الخير؟ لأجَبتُ بقولي: «إنَّ الخير لا تعريف له؛ لأنه فكرة بسيطة شأنها في ذلك تمامًا شأن اللون الأصفر، فكيف تُعرِّف اللون الأصفر لمن لم يرَه؟ إنَّ ذلك مُحال، لأنَّ اللون الأصفر بسيط غير مُركَّب، ويُدرَك مباشرة أو لا يُدرَك على الإطلاق؛ فكذلك الخير؛ فالتعريف محال إلا على الأشياء المُركَّبة، وأما الأشياء البسيطة فواضحة بذاتها وليست بحاجةٍ إلى تعريف».»

إنك تستطيع أن تُعرِّف الحصان، لأن الحصان مُؤلَّف من خصائص مُختلفة كثيرة، وتعريفه هو عبارة عن عدِّ هذه الخصائص، أما إذا وصلتَ إلى الخصائص البسيطة وأردتَ تعريف إحداها، فلن تجِد ذلك مُستطاعًا، لأنها هي نهاية طريق التحليل والتعريف، فهي أشياء تنظُر إليها وتُدرِكها، لا أكثر ولا أقل — وعند مور أن «الخير» هو من قبيل تلك الأفكار البسيطة التي تُدرَك مُباشرة وتُدرَك بذاتها، وليس وراءها ما هو أبسط منها تنحلُّ إليه وتُعَرَّف به؛ وهنا يُنبهنا مور إلى غلطةٍ وقَعَ فيها الفلاسفة الأخلاقيُّون، وهي أنهم إذا رأوا هذه الحقيقة البسيطة مقترنة دائمًا بصفةٍ أخرى ظنُّوا أنَّ هذه الصفة الأخرى هي تعريف الخير، مثال ذلك أن يرَوا الخير مصحوبًا دائمًا بنشوة النفس أو سعادتها، فيقولون إنَّ الخير هو السعادة، على حِين أنَّ اقتران الشيئَين لا يجعلهما شيئًا واحدًا.

7
هكذا كان مور نصيرًا للذَّوق الفطري، أو الإدراك الفطري، في قَبوله لما يراه الإدراك الفطري حقًّا ورفضِه لِما يراه الإدراك الفطري باطلًا. فإن قال الإدراك الفطري إن في يَدي قلمًا، كان هنالك يدٌ وقلمٌ على الرغم من كل ما يقوله الميتافزيقيون عن صِدق أو عدم صِدق هذا القول؛ وكما أسلفْنا، ليستِ الفلسفة عند مور هي أن تسأل إن كان هنالك حقًّا يدٌ وقلمٌ أو لم يكُن، بل مُهمَّتُها هي — بعد قَبولها لصِدق ما يُقرِّره الإدراك الفطري — مُهمَّتها أن تبحث عمَّا عسى أن يَعنيه ذلك بالتفصيل. فإن كانت المُعطيات الحِسِّية هي التي دلَّتْنا على وجود القلم بين أصابع اليد، سألْنا ما طبيعة المُعطَيات الحِسِّية، وما طبيعة الإدراك الحِسِّي وهكذا.

كذلك إن قرَّر لنا الإدراك الفطري أنَّ في العالم خيرًا، كان وجود الخَير أمرًا لا يُنازَع فيه، وتُصبِح مُهمَّة الفلسفة تحليل العبارة التي تقول «هذا خير» لا أن تتشكَّك في صوابها.

وكان من أهمِّ ما كتَبه مور فصل بعنوان «دحض المِثالية» يُحلِّل فيه موقِف الفلاسفة المِثاليِّين تحليلًا يُظهِر بطلانَ مذهبهم؛ فهذا المذهب مِحوره الرئيسي هو المبدأ القائل بأن وجود الشيء هو وقوعُه في خِبرة ذاتٍ ما. ولمَّا كانت خِبرة الذات رُوحانية في طبيعتها وليست مادية، كان الوجود كله رُوحانيًّا في طبيعتِه فيتناول مور مبدأهم هذا بالتحليل ليُبيِّن أنه ينطوي على تناقُض؛ لأنه إذا كان هذا المبدأ صادقًا كما يزعُم له أصحابه، فلا يخرج صِدقه هذا عن أن يكون إما صدقًا تحليليًّا أو صدقًا تركيبيًّا، (والصِّدق التحليلي هو الذي يُقام عليه البُرهان بقانون عدم التناقُض وحده؛ فيكفي أن يكون الشطر الثاني من الجملة مُتضمِّنًا في الشطر الأول منها، وألا يكون بين الشطرَين تناقُض، لنقول عن الجملة إنها صادِقة صدقًا تحليليًّا. وأما الصدق التركيبي فهو ما لا يُكتفَى في البُرهان عليه بقانون عدَم التناقُض وحده، بل لا بُدَّ كذلك من صِدق الجملة على الواقع).

نقول إنَّ صِدق هذا المبدأ إما تحليلي أو تركيبي بالمَعني الذي حدَّدناهُ الآن لهاتَين الكلمتَين؛ فإن كان تحليليًّا، كانت كلمة «خبرة» وكلمة «وجود» مُترادِفَتَين ولم يكن المبدأ دالًّا على شيءٍ سواء أكان صادِقًا أم كاذبًا، فذلك شَبيهٌ بأن تُكرِّر كلمة «الورقة» مثلًا مرَّتَين: فتقول الورقة الورقة، فلا يكون ذلك دليلًا على وجود ورقة أو عدم وجودها. وأما إن كان صِدق مبدئهم تركيبيًّا، احتاج الأمر إلى واقِعٍ موجود خارج الذات نفسها لنُراجِع المبدأ عليه فنعرِف إن كان صادقًا حقًّا أو غير صادق، وما دام هنالك واقِع خارج الذات، بطَلَ أن يكون الوجود مُنحصِرًا في الذات وحدَها.

على أنَّ هذه اللَّمحات القصيرة التي قُلتها عن بعض الجوانب التي تناوَلَها مور بتحليلاته، ليستْ بذاتِ نفعٍ كبير؛ لأنَّ أهمَّ ما في فيلسوفِنا هو طريقته في التحليل، وليس هو هذه النتيجة المُعيَّنة أو تلك في الميتافيزيقا أو في الأخلاق أو في غيرهما من موضوعات البحث الفلسفي.

8
#جورج_مور
#زكي_نجيب_محمود
#مقالات
ماذا عن الميتافيزيقا اليوم؟
- موسى وهبه

ماذا عن الميتافيزيقا اليوم؟ أيّ ميتافيزيقا لهذا العصر؟ ما المشكلة مع هذه الملكة المخلوعة عن عرشها؟ أي مقصد يملي كلَّ هذا النعف؟ ما العمل أمام كلّ هذه الميتات؟
أسئلةٌ ما فتئت تراودني من ثلاثين ونيّف، منذ معاقرتي المتّصلة لنصوص فلاسفة العصر المنصرم ( هل ينصرم حقًّا؟)، وبخاصةٍ فلاسفة النّهايات وما يروّجون له من نهاية الميتافيزيقا...نهاية الفلسفة...موت الانسان...موت الذّات...ما بعد الحداثة...الخ.
وما يقترحون من بديلٍ، مثال: فلسفة الحياة...فلسفة اللغة...الهرمينوطيقا...تحليل القول العلمي. هذا في جانب. ونقد المنطق والعقلانيّة...الصّمت عن الأسئلة المقلقة...النَّشيد الخلاصيّ...التفكيك...في جانبٍ آخر.
لكن، نلاحظ، منذ قليلٍ، عودةً خجولةً الى الميتافيزيقا أو الى ما يشبه...وأحيانًا الى بعض صورها السابقة، مثال الأنطولُجيا التحليليّة.
قد يستحقُّ الأمرُ دراسةً تفصيليّةً، تأريخًا موثَّقًا، مع التوقُّف عند هيغل وهيدغر والفلسفة التحليليّة. لكنّ هذا ليس مقصدي الآن. وسأكتفي بالعبور من دون التّوقُّف الّا قليلًا في المطلوب اليوم.
أقول: الميتافيزيقا صارت مشكلةً فلسفيّة مع كنط إثر نقد العقل المحض، وابتدأ رذلها مع فيشته، مرورًا بهيغل، ليكتمل مع هيدغر ومن جرى مجراه.
١-من كنط الى نتشه
١.١- يشكّل كنط منعطفًا حاسمًا في ما نحن بصدده الآن: فهو من أنهى كلّ دعوى ميتافيزيقيّة بمعرفة نظريّة لما يتخطّى شروط التجربة ( نظريّة بمعنى يمكن إثباتها بالتجربة أو التّأكّد من صدقها). فأسئلةٌ من نوع: هل النّفس خالدةٌ أم فانيةٌ؟ هل الكوسمس متناهٍ أم غير متناهٍ، وهل تحكمه الحتْميّة المطلقة، أم ثمّة عليّة حرّة؟ هل الله موجود؟
أسئلةٌ من هذا النوع، وعلى الرّغم من أصالتها، لا يمكن الإجابة عنها نظريًّا، لأنّ الإجابة المرجوّة تتخطّى قدرة العقل البشري النّظريّ.
الخلاصة: الميتافيزيقا الكلاسيكيّة برمّتها تتهاوى كنصّ، إلّا أنّ مطالبها، إلّا أنّها كرغبة عليا باقية وملازمة لطبيعة العقل: وهذا ما يفسّر كون تاريخها مسرحًا لصراع الجبابرة، ساحة حربٍ فعليّة، إنّما بالكلمات؛ والرّهان ليس أقلّ من انتزاع عرش الأقاويل جميعًا، وربّما ليس أقلّ من تغيير العالم ( ماركس يغفل عن هذه في قولته الحادية عشرة عن فويرباخ).
قوّة النّقد الكنطيّ تعتّم لاحقًا على إعطائه أماثيل العقل النظريّ دورًا تنظيميًّا للمعرفة، وعلى اقتراحه ميتافيزيقا عمليّة قوامها جملة فروض تؤمّن السلام في جمهوريّة العقل.
٢.١-هيغل يُحسّ بالضيق نفسه من خراب الميتافيزيقا. يوافق كنط على نقده أقاويلها وإصراره على المطالب. لكنّه يرى أنّ كنط ما زال في كنف ما انتقده، ولم يستطع دفع ما بدأه حتّى نهايته المنطقيّة، لم يدرك أنّ ما سيأخذ على عاتقه مهام التّصدي للأسئلة القديمة هو "علم المنطق". فعيب الميتافيزيقا القديمة هو المنهج التفكّري الذي يبقى ثنائيًّا ويحرن أمام التّناقض، فيظلّ قاصرًا عن الارتقاء الى فهم نسخ التّناقض بتحقق الأمثول (die Idee)، إذ يقوم على الفصل الثابت بين الذات والموضوع، بين الكون والتّفكير، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
مع هيغل ومن لحق به أو تأثّر، صارت الميتافيزيقا تهمةً يُقذف بها الخصم، وتعني عنده الفصل الثّنائي، ومعه يناقض المنهج الجدليّ والتّاريخي المنهجَ الميتافيزيقيَّ. وهذا يصحّ على ماركس وأوغست كومت الذي حسب الميتافيزيقا عمرًا انقضى من أعمار العقل لصالح العمر العلميّ، بعد أن كان عمرها قضى بدوره على العمر اللاهوتيّ. ويصح ذلك أيضًا على نتشه وإن بدرجةٍ أقلّ.
٣.١- نتشه يحسب الميتافيزيقا تعبيرًا عن توق العبيد الى الإمرة، وذلك بفصل السّماء عن الأرض، واعتماد ثنائيّة الخير والشّر، وتأبيد مُثُل العبيد. الميتافيزيقيّ قاتل. الأفهوم يقضي على الحيّ ويحيله الى جثّة، وصولًا الى العدميَة. ويقترح نتشه فلسفةً للمستقبل تعتمد منهج البحث عن الحسب والنّسب ( الجينولُجيا) والتّفلسف بالمطرقة. وفي مواجهة كلّ "وضعيّة" ممكنة، يضع العلماء وموضوعيّتهم في خدمة فيلسوف المستقبل وذاتيّته.
٢-أوان التّحليل
١.٢- النّيّو-كنطيّون يتابعون كنط مخلَّصًا من الميتافيزيقا، أي هم يزمّون الكنطيّة الى مجرّد إبيستمولُجيا. ويُعمِّمون رفض الميتافيزيقا بما فيها الرّواسب الميتافيزيقيّة عند كنط نفسه ( وأوّلها الشّيء فيّاه).
٢.٢- الوضعيّة المنطقيّة وعموم الفلسفة التّحليليّة، في مرحلتها الأولى، تُفتي لجهة استبعاد الميتافيزيقا من القول الفلسفيّ بوصفها كلامًا خاليًا من المعنى. وفي مرحلتها الثانية تهتمُّ بالأنطولُجيا والميتافيزيقا بمعنًى ما.

1
١.٢.٢- الهدف من كرّاس فتغنشتاين: لا أن تُقال حقيقة العالم، بل أن يُحدَّد ما هو قابل لأن يُفكّر فيه، أي لأن يُعبَّر عنه باللغة. وحدها عبارات العلم، صادقة كانت أم كاذبة، تُلبّي هذا الطلب. أمّا تحليل قول الفيلسوف فيبيّن السّمة الموهمة لاستعمال اللغة حين يزعم الذّهاب الى ما بعد الوصف العلميّ الحقّ للوقائع. وعن التّركتتوس يحفظ السّلف حكمة الختام: " حول ما لا يمكن قوله، ينبغي لزوم الصّمت".
كرناب: " الأقاويل المبثوثة في الميتافيزيقا خالية تمامًا من المعنى" ولا دلالة حقّة لها لأنّها لا تلبّي الشّروط الدّلالية والإبستميّة اللازمة لتأدية المعنى ( لا تحيل الى أي مشاهدة ممكنة، ولا نعثر لها على تأييد في التجربة(.
وبعامة، ما النّفع من التّساؤل إن كانت الطّاولة، مثالًا، موجودة بذاتها أم كانت مجموعة من جزيئات بسيطة. وأي معنى يستفاد من القول: "العدم يعدم". إنّ نزاع الميتافيزيقيّين حول وجود العالم الخارجيّ أو ثنائية الرّوح والجسد نزاع لا طائل تحته. والأهمّ من كلّ ذلك أن هذه المسائل يترك البتّ بها للإعتقاد.
٢.٢.٢- لكنّ تنبيه بوبر الى أنّ العلوم نفسها تستند الى عبارات أساسيّة (مبادىء) هي نفسها " لا تُلبّي الشروط الدّلاليّة والإبستيميّة اللازمة لتأدية المعنى"، أسهم، إضافةً الى النّقد اللاحق، بعودة مدارس التّحليل الى تبنّي نوع من الأنطولُجيا والميتافيزيقا، إنّما بمعنى قبل-نقديّ: الأنطولُجيا (١) تقول الكائن، أي تعدّ جدولًا بأثاث العالم/ أو (٢) هي تهتمّ بمجمل ما هو ممكن؛ والميتافيزيقا (١) تقول ما هو الكائن، أي تُعيّن ماهيّة الكيانات التي أثبتت وجودها/ أو (٢) هي تهتمّ بما هو فعليّ وراهن.
٣- أوان هيدغر
هوسرل يفتتح القرن العشرين بمباحثه المنطقيّة متجنّبًا حلبة الصّراع الميتافيزيقي، فالفيمياء تُعلِّق الكلام على الميتافيزيقا بانتظار الانتهاء من مشروع تحليل بنية الوعي القصديّة. لكنّها تقترح، حيث لا يمكن إغفال ما لا بدّ منه، أنطولُجيا صوريّة.
٢.٣- هيدغر ينطلق من فيمياء هوسرل بنظرة أخرى الى الإنسان، لا بوصفه وعيًا أو ذاتًا عارفة ( وعيانًا) بل بوصفه موجودًا، بوصفه هوذيّة فِعْلميّة ( قائمة في العالم). يكشف تحليل هذه البنية، بالتّالي، أواجيد لا أفاهيم. ذلك أنّه تحليل انتروبولُجي مجاوز وليس تحليلًا منطقيًّا، والمشروع إقامة أنطولُجيا أساسيّة بدلًا من الميتافيزيقا القائمة منذ البدء على نسيان الكون ونسيان هذا النّسيان، بالانصراف الى الانهماك بالكائن أو معاملة الكون بوصفه مجرّد كائن وإن أسمى. ويحاول هيدغر تعزيز مساره الجديد انطلاقًا من تأويله ل نقد العقل المحض، وعدّه، في معارضة النّيّو-كنطيّة، تأسيسًا جديدًا للميتافيزيقا أو لما يُسمّيه هو أنتروبولُجيا.
نقرأ، في الكون والزّمان: "الميتافيزيقا هي المستقبل الأساسي ضمن الهوذيّة إيّاها". والانسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك، في الأصل، وعيًا يقظًا بالكون. إنّه دفعة واحدة، هوذيّة، انفتاح على الكون في ما يتعدّى الكائن.
لكن هيدغر لا يلبث أن يلحق بركب التبرُّؤ من الميتافيزيقا، إنّما مع عدّها قَدَرًا لمرحلة من تاريخ الكون قضت بأن يظلّ الكون منسيًّا. وبعد مطلب تخطّي الميتافيزيقا التي يحسب أنّ نتشه كان آخر ممثّل لها، بأفهوم التوق الى الإمرة، وصيغته العدميّة المطلقة: التوق الى التوق، التي تُتَرجم بهيمنة التقانة على العالم، وربما لزمنٍ طويل؛ بعد رصد انتهاء الميتافيزيقا، بمعنى استنفاد إمكاناتها كلّها، يُطلب إهمالُها والإصغاء الى نداء الكون الآتي ولا بُدّ: " وحده إلهٌ يمكن أن يُنقذنا".
٣.٣- بعد هيدغر يستمرّ رذل الميتافيزيقا في صفّ الفلسفة وصولًا الى دريدا، مع ملاحظة عودة حييّة للكلام على الميتافيزيقا. أو للكلام على الأنطولُجيا في الفلسفة التّحليليّة.
٣.٣.٣- دريدا أراد أن يُكمّل هيدغر استنادًا الى حدث العصر: اللسانيّة البنيويّة التي تحرّر الكتابة من وصاية القوليّة، من حيث تُهمل القائل لتنظر الى اللغة فقط بوصفها سستام علامات متعيّن في علاقات متبادلة ضمنيّة ( وليس في الإحالة الى مدلول خارج اللغة). يرى دريدا هذا الحدث اللسانيّ علامةً على التحرّر من "الحضور" ومن "الذات"، علامتي الميتافيزيقا الرّئيستين: الميتافيزيقا تطمس الفرق ( الاختلاف) بين الكون والكائن، تطمس الاختلاف كتزمُّنٍ انوجاديٍّ، تطمس الاختلاف كشرطٍ للمعنى. وتُحِل محلّ الإختلاف والإخلاف حضور مبدأ أساسيّ هو الجوهر، كمدلول مجاوِز، وتُحِل محلّ الهوذيّة الانوجاديّة جوهريّة الذات".
٢.٣.٣- هبرماس يحسب أنّ الميتافيزيقا تقوم على عصفٍ مثلّث: أوّليّة نمط العلاقة بين الذات والموضوع، أوّليّة القول الجملي بصدد الواحد والكلّ، أوليّة النّظر على العمل؛ ويرى أنّه من اللازم، في مواجهة اللاعقلانيّة المعاصرة( يسبرز وهيدغر وفتغنشتاين ودريدا وأدورنو)، لا استعادة الميتافيزيقا العقلانيّة بل استبدالها بعقل تواصلي يشارك في الطفرة العقلانيّة المعاصرة في

2
مجتمعاتنا الحديثة.
٤- إمكان الميتافيزيقا؟
وبدءًا ما الميتافيزيقا التي يتمّ التّبرُّؤ منها ورمي الخصم بها؟
كيف يمكن تدبّر رسم للميتافيزيقا ضمن هذا التّباين الكبير في مفهوم الإشارة إليها؟ بين كونها علمًا بما بعد الطبيعة، وكونها تحتفظ بكيانات مستعصية على الفهم العلمي. أو كونها تقسم العالم الى ثنائيّات مستعصية على الحلّ، أو كونها كلامًا غامضًا عمّا لا يقع في التجربة، أو كونها مجرّد نسيان للكون والانهمام بالكائن، الى فهمها أخيرًا بوصفها إصرارًا على الذات والحضور وطمس الاختلاف...
خلف هذا التّباين الكبير العائد في النّهاية الى تباين بين ميتافيزيقا الفصل وميتافيزيقا الوصل، لا بدّ من ملاحظة القاسم المشترك: الميتافيزيقا علمٌ بموضوعها مع التّباين الفاضح في تعيين ما هو موضوعها.
وفي خضمّ فوضى تراشق التُّهم بارتكاب الحُمُق الميتافيزيقي، أسألُ: كيف نُفسّر عودة هذه العائدة بخطًى حثيثة تحت راية التّحليليّة بأسماء ملطَّفة، أو تلك التي تخصّص لها مشاغل وكراريس منذ عشرٍ ونيِّف؟
٢.٤- وأسأل: هل الميتافيزيقا ممكنة اليوم، وكيف تكون ممكنة؟
وأبدأ الإجابة بالقول: ليست الميتافيزيقا، في الأصل، قدَرًا للعقل البشريّ، بل لحالة مخصوصة من أحواله، هي الحال الفلسفيّة. ومن الأسلم أن يُقال إنّ ما لا غنًى للعقل البشريّ عنه هو إضفاء المعنى على السّعي البشريّ بعامة، وإنّ هذا الإضفاء ممكنٌ بأشكال عدّة مبدئيًّا.
١.٢.٤- لكن، مع هيمنة الميتافيزيقا على المعمورة قاطبةً أضحى التّفكير الميتافيزيقي لا غنًى للعقل البشريّ عنه.
٢.٢.٤- ولا غنًى من ثمّ للتّفكير بالعربيّة عنه إن شاء أن يعطي للسّعي البشريّ في العالم المعاصر معنًى، يلبّي الحاجة التي تلوب بالعقل ويلوب بها.
٣.٢.٤- وعليه، أقول: الميتافيزيقا ممكنة بدليل المحاولات الخجولة للعودة اليها، بل هي واجبة اليوم بدليل الحاجة اليها.
٣.٤- فكيف تكون ممكنةً؟ وأيّ رسم يمكن تدبّره في هذا الخضمّ؟
- الميتافيزيقا ليست علمًا بالمعنى المتعارف عليه. وليست علمًا نظريًّا ( بلغة كنط)، فهي لا تخبر شيئًا عن موضوعها. ولا تضيف معلومات وإن كانت في جانبٍ منها تشير الى وجهة تنظيم هذه المعلومات. وهي لا تقول في الأحوال جميعًا: إنّ هذا هكذا. وهي في جانبها الأساسيّ اقتراح حلولٍ ممكنة لمعضلات مطروحة على العقل في مختلف ملكاته.
قوام هذا اقتراح جملة من المزاعم لإخراج العقل البشريّ من مأزقه، لتخفيف وطأة إرهاق الأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل نفسه، لمعالجة انهمامه (seine sorge) إن جاز القول.
وأتدبّر، بالمناسبة، فهمًا آخر، رسمًا آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علمًا بالكائن بما هو كائن، ولا سأْلاً عن الكون، ولا مبحثًا في الغيبيّات، ولا تلك الشّجرة الوارفة الظل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشّجرة، وجذورها المخفيّة في الأرض، إن صحّ لنا استثمار الاستعارة الديكارتيّة مرّةً أخرى.
أقول: الميتافيزيقا هي سِستام المزاعم اللازمة للعقل البشريّ في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل؛ أو تلك الفروض التي تسند القول في ما وراء الفيزيقا ( بوصفها عالم التجربة بما فيه السّعي النّظريّ والعمليّ والتّخيّليّ). وعليه يمكن تمييز:
١.٣.٤-مجموعة الفروض المعلنة المصوغة أو التي يمكن صوغها في سِسْتام، مثال ميتافيزيقا ديكارت أو ليبنتس أو سواهما.
٢.٣.٤-من مجموعة الفروض المعلنة بوصفها بديلًا عن الميتافيزيقا، مثالًا: الأمثول والعلمان المطلق عند هيغل، والتَّوق الى الإمرة والعود الأبدي للهوهو عند نتشه، ولزوم السؤال عن الكون وقصور المنطق وتفكير تاريخ الكون في انكشافه واحتجابه عند هيدغر، الخ، بمعنى أنّ ثمّة دومًا ميتافيزيقا تخجل باسمها تنازل ميتافيزيقا أخرى في حلبة " صراع الجبابرة".
٣.٣.٤-ومن مجموعة الفروض المضمرة التي قد تندرج ضمن سِسْتام يعبِّر عن مذهبٍ ما في القول، أو عن روحٍ تشكيلة ثقافيّة ما، ويعبَّر من خلالها، مثال فروض التّفكير اليوناني المضمرة: ما يبدأ ينتهي، الشّبيه لا يُدرك الا الشبيه، الدائرة أكمل الأشكال، البشر أحرار أو عبيد،..الخ. والمعنى أنّ الميتافيزيقا قائمةٌ أبدًا خلفَ كلّ تفكيرٍ له سمة الشّمول.
٤.٣.٤- وحين يجرُؤ العصر على صوغ مزاعمه المضمرة والمعلنة ويعترف بها كمزاعم لازمة لسلام العقل في عالم اليوم السُّوقي والدّيجيتالي، ويكون بالوسع إدراجُها في سستام بدعوى يونيفرساليّة يكون لدينا ميتافيزيقا للعصر.
٥- بالعربي اليوم
أمّا بالعربيّة، واليوم، فلا أفهم هذا الغضب المعمّم من الذات والوعي. لا أفهمه لكنّي أرى حصيلته: تخليص التّفلسف من الذّاتيّة ( العزيزة على نتشه) ليصير صالحًا للخدمة في بلاطٍ ما.

3
ولا يروقني اليوم، كذلك، هذا الرذلُ المعمَّم للميتافيزيقا وكأن ليس يمكن قيام ميتافيزيقا الا كميتافيزيقا جواهر.. ولا هذا الإنبهار بآخر المُوَض" الفكريّة، وكأنّ التفلسف معرض تباهٍ بالأزياء... ولا تلك الإقليميّة القائمة على الانهماك بالإجابة عن سؤال: ما العمل؟ أو ما أسمّيه وصاية إرادة العَمَلان على إرادة العِلْمَان.
وأودُّ أن أنبِّه الى أنّ العربيّة لم تُستنفَد معانيها بعد، وأنّ ثمَّةَ مجالًا للبحث عن جذور لشجرةٍ وارفة الظلّ، جذور لم تُعلن أو لم تُصنع باعتبارها تحصيل حاصل. وثمّة، على سبيل المثال، جذرٌ أساس لم يكشف عنه بعد ولم يجد له مكانًا في الصياغة أقصد مزعم المثنّى الذي توحي به العربيّة بلا مفرّ، والمثنّى الذي يعامل معاملة المفرد مثال إيّاك وإيّاه أو مثال ثعبان وربّما إنسان:
ربما كان الاثنان، ربّما كان المثنّى غير مناقض للتّفكير. أكثر: ربما كان التّفكير بالمثنّى وتفكير المثنّى المجال الما زال مفتوحًا للخوض فيه. ربما كان ما يزال ثمّة معنى، اليوم، لقراءة أخرى بالعربيّة هذه المرّة، فاتح عهد التّفكير بالمثنّى، وعهد تفكير المثنّى في ما يتعدّى الرّكون الى الوحدة الأصليّة، والتّوحيد الصّائر، والتّناقض الثّنائي والثّالث النّاسخ، وزغاريد الاختلاف والفرق والتعدّديّة والكثرة. ربما كان ما يزال ثمّة معنًى لقراءة عربيّة لميتافيزيقا حداثة يونيفرساليّة حقًّا.
وربما أمكن دعم هذا الزّعم الأنطولُجي بزعمٍ أبيستمي هو القول: إنّ العلم لا يُضادُّه الجهل بل يعضده. فإذا كان على ما يمكن علمانه أن يكون لامتناهيًا واذا كان الجهل هو الإطار المحيط بالعلمان، يصبح من الواضح أنّ جهلنا يتعاظم علمنا. ويضع هذا الزّعم حدًّا نهائيًّا لكل دغمأة وتأسيسًا حقيقيًّا لحريّة التّفكير.
لكنّي أسرع الى القول: لست هنا بصدد إقامة ميتافيزيقا للعصر الحاضر، بل بصدد التنبيه الى إمكان ذلك ووجوبه من ثمّ إن شئنا أن يكون للسّعي في عالم اليوم معنى.

4

الفيلسوف الجديد
#موسى_وهبة
على الشاب ألا يتأخر عن التفلسف ، وعلى الشيخ ألا يمل من تعاطي الفلسفة ، إذ لا يحق لأحد القول بأنه لا يزال شابا أو أنه أصبح طاعنا في السن لكي يعمل على أكتساب صحة النفس. إن من يزعم أنه لم يحن بعد الأوان للتفلسف ، أو أنه فات الأوان ، لهو شبيه بمن يقول إن وقت السعادة لم يحن بعد او أنه فات . فعلى كل من الشاب والشيخ أن يمارس الفلسفة : الشيخ لكي يستعيد شبابه بتذكر الخيرات التي كانت من نصيبه في الماضي ، والشاب لكي يقف من المستقبل ، رغم حداثة سنه ، موقفاً لا يقل عن موقف الرجل المسن .

أبيقور من كتاب " فلسفة أبيقور مع ترجمة الرسائل والحكم "

أبيقور البحث عن السعادة في الفلسفة
علي حسين


كان أبيقور المولود سنة 324 قبل الميلاد في جزيرة ساموس، قد بلغ الثامنة عشرة من عمره حين قرر أن يجد إجابات على ما طرحه معلمه من أسئلة لم يجد لها أجوبة في قاعة الدرس لأنها حسب قول المعلم من اختصاص الفلاسفة فقط .. إذن ليدرس الفلسفة ..كان أبوه معلماً يتقاضى راتباً بسيطاً، مما دفع أمه أن تعمل لتعيل العائلة، فكانت تبيع الأعشاب الطبية لمعالجة المرضى ، يسافر الى أثينا لحضور دروس الفلاسفة وكان في ذهنه مشروعين الأول البحث عن العماء.. والثاني تخليص العالم من هذا العماء ..لكنه وجد إن النزاع شديد بين الفلاسفة، فقرر أن يسافر إلى بلدان الشرق باحثاً عن إجابات لأسئلته ، دارِساً الحكمة الشرقية .. وما أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره حتى عاد ثانية الى أثينا حيث قرر أن يشتري بيتاً كبيراً وحديقة لينشئ مدرسة لتدريس الفلسفة، وكان الانضمام الى هذه المدرسة متاحاً للجميع ، رجالا ونساء .. أغنياءً وفقراءً، وكان يهدف من وراء مدرسته إلى نشر أفكار عن عالم مثالي يعيش فيه الجميع بإخاء ومساواة .. وبعكس مدرسة أفلاطون التي كان يسعى صاحبها إلى إنشاء جمهورية مثالية ، كان أبيقور يبشر بمدينة شعارها " الاستمتاع بالحياة " ، وكانت المدرسة التي سميت " حديقة أبيقور" ترفع شعار المساواة ، فلا فرق بين التلاميذ وأستاذهم، ولا وجود للفروقات الطبقية ، والحياة داخل المدرسة تتسم بالتقشف، فالطعام اليومي يقتصر على خبز الشعير والقليل من الجبن ، وكان الطعام الدسم محرماً لأنه يبعث على الأسى والألم . يكتب أبيقور :" إنني أنتشي من خبزي ومائي ..وإني لأعرض عن التوابل واللحوم " . وقد كان الخبز والماء والنبيذ هي مقومات الحياة السعيدة في نظر أبيقور. كانت فلسفة أبيقور تدين لسقراط بالكثير من مفاهيمها، فسقراط أول فيلسوف يشير إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة باعتبارها تهدف الى تغيير حياة الإنسان، وأن تكون أولى غايتها الاهتمام به، ولهذا سعى أبيقور وتلامذته إلى إثبات إن الوصول الى السعادة هو الهدف من الحياة، وكانوا يثنون على أهمية تحرر الإنسان من العبودية والتسلط والاضطراب . قال سقراط إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق الأذى بالآخرين ..فمفتاح الحكمة هو إشاعة الخير والسلم بين البشر .
اعتقد أبيقور أنه يجب أن تكون الفلسفة عملية. ويجب أن تغيير الطريقة التي نعيش بها. و تبعاً لذلك، كان مهماً أن يمارس مَن التحقوا به ، مهنة الفلسفة عوضاً عن تعلمها فقط.
بالنسبة لأبيقور، كان مفتاح الحياة هو إدراك أن ما نسعى إليه هو المعرفة الممتزجة بالمتعة. و الأهم من ذلك هو تجنب نشر الشقاء بين الناس ، ولهذا نجد إن أهم وصايا أبيقور لتلامذته :
• السعي إلى إلغاء المعاناة من حياة الناس .. إلغاء المعاناة من حياتك .
• نشر السعادة لأنها ستجعل الحياة أفضل
• العيش ببساطة، فليس مهماً أن تحصل على أشياء لا تحتاجها . إذا كانت رغباتك بسيطة فمن السهل تلبيتها و سيبقى لك الوقت و الطاقة للاستمتاع بالأمور المهمة في حياتك.
ويرى أبيقورإننا لن نستطيع العيش بسعادة ما لم نفهم العالم الذي نعيش فيه وندرك طبيعته، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نعرف من نكون،ولماذا نعيش ؟ ولهذا يؤكد أبيقور إن بإمكان الإنسان أن يعيش سعيداً لو تحرر من الخوفين الكبيرين الذين يفسدان الحياة : الخوف من الآلهة والخوف من الموت .


1
قضى أبيقور كثيراً من الوقت في الكتابة، كان كثير الإنتاج. كتب حوالي 300 كتاب، رغم أنه لم يصلنا منها أي كتاب. ما نعرف عنه اليوم هو مستمد في أغلبه من كتابات تلامذته وأتباعهم فيما بعد . فقد كانوا يحفظون كتابات أستاذهم عن ظهر قلب و نقلوا تعاليمه عبر المؤلفات التي ظهرت في العصر الروماني ، وكان أشهرها كتاب " في طبيعة الأشياء " كتبه الفيلسوف الروماني لوكريتوس الذي عاش بعد وفاة أبيقور بـ 200 عام .وفي هذه القصيدة – الكتاب – ( ترجمه الى العربية علي عبد التواب علي) يرى لوكريتوس إن شقاء الجنس البشري وانهيار أفكاره يرجع الى الخوف من تسلّط الآلهة والفزع من غضبهم، وأن فلسفة أبيقور جاءت لتخليص الإنسان من تلك المخاوف، ومن ثم توطيد الإحساس بالطمأنينة في قلوبهم .

اهتم أبيقور بالأفكار والمعتقدات الخاطئة، وكان يرى أن معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها. ورغم أن أبيقور يتحدث عن الآلهة، فإنه في كثير من الأحيان يرفض الأقاويل التي تذهب الى أن الآلهة تتدخل في الشؤون اليومية، وهو يرى إنه لادع لأن تتدخل الآلهة في عمل العالم الطبيعي .. وقد تبنى الأبيقوريون وعلى راسهم لوكريتوس لتفسير نشأة الحياة رأياً يشبه نظرية الانتخاب الطبيعي لدى سبنسر وداروين، كان أبيقور على حد قول لوكريتوس يهدف الى المحافظة على الفكر قريباً من الواقع ومرتبطاً به قدر الإمكان، لأن ما يميز العقل إنه مكون من أشياء مادية . ولهذا أنكر ابيقور إن للآلهة علاقة بخلق العالم الذي نعيش فيه، أو تقرير مصير البشر أو هدايتهم فالحياة: " إن هي إلا مهزلة، فيها من الجنون ما يستحيل أن يكون قد أبدعها عقل آلهي .فلا يوجد آله عاقل يأمر ببناء معبد تمجيداً له، ثم لايلبث أن يهدمه من أساسه بضربة صاعقة ينزلها به . وليست هناك عناية آلهية خيّرة تنقذ حياة صبي صغير من مرض خطير من غير سبب، اللهم إلا لتبعث به إلى ساحات القتال ليموت ميتة أشنع، فليعن الآلهة أذن بأنفسهم، ولنحاول نحن أن نقلدهم من غير أن نطلب منهم عوناً، أما خلاصنا فيتوقف على أنفسنا فحسب، لأننا نعيش في عالم خلق نفسه من خلال التقاء الجواهر ، تلك الجزيئات من المادة التي تتحرك في أشكال لا حد لها، ولكن من غير ما ترتيب أو تخطيط " . وربما يسأل البعض كيف حدث أن أدى تجمع هذه الجزيئيات غير الموجهة من المادة معاً الى خلق عالم من الأشجار والطيور والحيوانات والبشر، وما نوع هذه العملية التي مكّنت الجوهر خلالها الى أن يُخرج الى الوجود فيلسوفاً مثال سقراط ؟ يجيب أبيقور قائلاً :" إن ذلك يتم بجهل وبغير قصد خلال تطور المادة التدريجي من الأشكال الأولية الى الأشكال الأكثر تطوراً .خلال التخلص من غير الصالح والبقاء للأصلح ".. إنها عملية النشوء والإرتقاء تظهر إلأى الوجود قبل أن يكتب تشارلز داروين كتابه المثير للجدل " اصل الانواع " بأكثر من ألفي عام .

2
#أبيقور
#علي_حسين
مامعنى أخلاقيات المناقشة ؟
"يورغن هابرماس نموذجاً"


تجدر الإشارة في البداية إلى أن أخلاقيات المناقشة تقليد فلسفي ألماني، يُعد هابرماس و آبل من أهم ممثليه. لكن هذا
التقليد ليس وليد تربة ألمانية فقط، بل هو مدين لتقاليد فلسفية قارية و انغلوسكسونية حديثة ومعاصرة.
إن القاسم المشترك بين ممثلي أخلاقيات المناقشة هو إعادة
صياغة الأخلاق الكانطية، وهذا ما أعلن عنه هابرماس نفسه
في كتابه "أخلاقيات المناقشة"، بقوله : "في السنوات الأخيرة شرعتُ في إعادة صياغة الأخلاق الكانطية إلى جانب آبل، وذلك بتأسيس المعايير اعتماداً على وسائل مستمدة من نظرية التواصل". تعد هذه المحاولة المشتركة بينهما مساهَمة منهما لمواصلة مشروع تغيير البراديغم من فلسفة الوعي إلى فلسفة التواصل.

إن مبحث هابرماس وآبل ليس هدفه وضع المعايير الأخلاقية والتنظير لها والدفاع عنها كما فعل كانط وغيره، بل هو مبحث إجرائي يسعى إلى وضع الشروط الضرورية لتنظيم الحوار والمناقشة، التي يتوجب على كل الذوات القادرة على الكلام والفعل أن تلتزم بها أثناء المناقشة قصد الوصول إلى اتفاقات مؤسَّسة عقلانياً، والتي على أساسها يمكن صياغة معايير أخلاقية ذات طابع كوني، تراعي مصلحة جميع الأطراف المعنية. فأخلاقيات المناقشة هي أخلاقيات إجرائية خالية من أي مضمون معياري.
وبحكم الارتباط الوثيق لنظرية التواصل لهابرماس بالعالم المعيش، كان اهتمام هابرماس موجهاً لتعميق هذه العلاقة. ولهذا تسعى أخلاقيات المناقشة في انشغالها بالمعايير الأخلاقية إلى تقعيد هذه المعايير في النسيج الاجتماعي، لتحقيق مزيد من التماسك الاجتماعي. فالأخلاق عنده تلك المسائل التي تعنى بواقعة العيش مع ملاحظة معايير قويمة بالنسبة للأشخاص الفاعلين الذين قد يدخلون في صراع الواحد منهم ضد الآخر. والعقل يقول لنا أن مثل هذه الصراعات يمكن أن تُحَلّ بأساليب أخرى غير العنف، وأهم هذه الأساليب الحوار العقلاني الذي تنظمه أخلاقيات المناقشة. والمناقشة هنا لا يُنظر إليها موضوعاً للتنظيم، بل بوصفها منهجاً أو إجراء يسمح بتحديد معايير عادلة لوجهة نظر الأخلاقية.

لم يفُت هابرماس تحديد إيجابيات المناقشة العملية التي حصرها في العناصر التالية :
أولاً : في المناقشات الحجاجية بوصفها مناقشات عملية، يجب على المشاركين أن ينطلقوا من واقعة أنه وبشكل مبدئي : كل المعنيين أحراراً ومتساوون، يشاركون في البحث عن الحقيقة بشكل جماعي. وفي مثل هذه المناقشة تعطى الأهمية لسلطة أفضل حجة باعتبارها الوسيلة الوحيدة المعتمدة. أو بصيغة أخرى فالقوة غير القاهرة لأفضل حجة هي المُنتصِرة.
ثانياً : تعد المناقشة العملية أسلوباً مطلوباً لتشكيل حجاجي للإرادة، التي يجب أن تضمن صحة كل الاتفاقيات المعيارية
الممكنة بالاعتماد الافتراضات الكونية للتواصل فقط.
ثالثاً : تُفهم المناقشة العملية بوصفها سيرورة للتفاهم التي تُمنح لكل المشاركين في الوقت نفسه تبنِّي الدور المثالي.

وهكذا تظل أخلاقيات المناقشة تجديداً نظرياً فلسفياً، فالمجتمع بتعقيداته لن يعرف الاستقرار، ولن يحقق التفاعل على مستوى العلاقات الاجتماعية إلا في إطار حوار ونقاش عمومي مُحفِّز عقلانياً. ولهذا يمكن القول أن أخلاقيات المناقشة هي أخلاق الفضاء العمومي المفتوح، تسعى إلى تأسيس عقلانية مفتوحة منطلقها الفعل التواصلي الذي يريده هابرماس بديلاً عن الفعل الاستراتيجي، وبديلاً عن كل نزعة متمركزة حول الذات.


محمد عبد السلام الأشهب، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار ورد : الأردن، ٢٠١٣.

#هابرماس
أهم المصطلحات للمبتدئين..

- #الليبرالية : الحرية المطلقة.
- #الإمبريالية : الإستعمارية.
- #الديمقراطية : حكم الشعب لنفسه.
- #الأرستقراطية : طبقة النبلاء.
- #البرجوازية : الطبقة بين العمّال والنبلاء (التجار).
- #البروليتاريا : الطبقه العاملة (الكادحين).
- #التكنوقراطية : حكم الطبقة العلمية الفنية المثقفة.
- #الأيديولوجية : علم الأفكار.
- #السيميائية : علم العلامات.
- #السايكوبوتية : العدائية أو النزاعية.
- #البراغماتية : المنفعة .
- #العلمانية : فصل الدين عن الدولة.
- #البلشفية : الأغلبية .
- #الغائية : علم الغايات .
- #الغنوصية : الإنغماس في العالم الروحاني .
- #الميتافيزيقيا : ما وراء الطبيعة .
- #الأستاطيقا : علم الجمال .
- #الأبستمولوجيا : علم المعرفة.
- #الميثيلوجيا : علم الأساطير .
- #أنطولوجيا : علم الوجود .
- #جيولوجيا : علم الأرض .
- #الميثودولوجيا : علم المنهج .
- #الباثولوجيا : علم الأمراض .
- #الثيلوجيا : علم الإلهيات أو اللاهوت
- #الأنثروبولوجيا : علم الإنسان.
- #البانثولوجيا : علم الإنسان القديم .
- #الأركيولوجيا : علم الثقافات البائدة.
- #المنطق : علم بقوانين التفكير .
- #الديالكتيكية : فن الجدل والحوار .
- #البروتوكولات : ضوابط أو معاهدات رسمية.
الإنسان كائن لغوي
* كلود ليفي ستراوس



لقد اعتقدنا، لفترة زمنية طويلة، كما اعتقد الكثير من الإثنولوجيين، أن ما يميز الثقافة هو حضور الأشياء المصنوعة. فقد عُرِّفَ الإنسان بأنه صانع Homo Faber، صانع الأدوات، بحيث تم اعتبار خاصية الصنع العلامة المميزة للثقافة. أعترف بأنني لست متفقا مع هذا الرأي، وبأن أحد أهدافي الأساسية كان دائما هو أن نضع خطا فاصلا بين الطبيعة والثقافة، لا في صنع الأدوات الأدوات وإنما في اللغة المنطوقة المتمفصلة Le langage Articulé، وهنا تقوم الثقافة ككيان خاص. فلنفترض أننا التقينا، في كوكي مجهول، بكائنات تصنع الأدوات، إننا لن نكون على يقين تام من أنها تنتمي إلى نظام الإنسانية. ففي الواقع، نلتقي بنماذج منها على كوكبنا الأرضي، ونجد فيه أن بعض الحيوانات قادرة، إلى حد ما، على صنع أدوات أو أنها تقوم بمحاولات أولية لصناعتها. ومع ذلك فنحن لا نعتقد بأن هذه الحيوانات الأرضية قد أنجزت الإنتقال من الطبيعة إلى الثقافة. لكن لنتخيل، أننا صادفنا كائنات حية تمتلك لغة مختلف عن لغتنا بالقدر الذي نريد، لكنها لغة قابلة لأن تترجم إلى لغتنا، إذاك تصبح عملية التواصل مع هذه الكائنات عملية ممكنة…
يبدو لي أن اللغة هي الظاهرة الثقافية بامتياز، وذلك على عدة مستويات: أولا لأن اللغة هي جزء من الثقافة، إنها جزء من تلك الإستعدادات أو العادات التي نتلقاها من التراث الخارجي المحيط بنا.
وثانيا لأن اللغة هي الأداة الأساسية، والوسيلة المتميزة التي نتمثل من خلالها ثقافة الجماعة التي نتمثل من خلالها ثقافة الجماعة التي ننتمي إليها، فالطفل يتعلم ثقافة الجماعة التي ينتمي إليها، لأننا نكلمه ونتحدث إليه، يتعلم بالكلمات ما معنى المنع والتوبيخ والنصيحة.
وأخيرا، وبصفة خاصة، لأن اللغة هي المظهر الثقافي الأكثر اكتمالا من مظاهر نظام الثقافة، هذه المظاهر التي تشكل بصورة أو بأخرى، أنساقا.
فإذا أردنا أن نفهم ما هو الفن، وما هو الدين أو الحق، بل أن نفهم ايضا ما هو المطبخ أو قواعد الإحترام واللياقة، فإنه يجب علينا كل هذه المظاهر الثقافية كسنن Codes تتشكل بواسطة تمفصل العلامات على نموذج التواصل اللساني.
---
كلود ليفي ستراوس، حوارات مع شاربوني داربلون، باريس 1969. صفحات 182-184.
#ستراوس
2025/07/07 14:42:12
Back to Top
HTML Embed Code: