Telegram Web Link
في ذكرى مرور 220 عاما على رحيله
كيف ينظر إيمانويل كانط الى عالمنا اليوم ؟

علي حسين



على رقعة صغيرة من الارض في ريف شرق المانيا ، وفي مدينة صغيرة تقع على ضفاف نهر البريغل ، عاش مواطن الماني حياة رتيبة ، حيث ظل لأكثر من نصف قرن يستيقظ كل يوم في الخامسة صباحا ، كان ينام كل ليلة لمدة سبع ساعات بالتمام والكمال ، وعند الساعة الخامسة إلا خمس دقائق ، كان " لامب " الرجل الذي يقوم على خدمته يسير الى غرفة الفيلسوف وقد تملكه شعور بانه يؤدي واجباً ، ثم يصيح بنبرة عسكرية : " السيد الاستاذ لقد حان الوقت " .
ومن الطريف انه طلب ذات يوم من " لامب " أن يتركه ينام نصف ساعة زيادة ، فرفض الرجل رفضا قاطعا وهو يقول :" تريد مني ان اخالف التعاليم " . بعد ان يستيقظ يجلس على منضدة في زاوية من المطبخ ليكتب لمدة ثلاث ساعات لا تزيد دقيقة ولا تنقص دقيقة واحدة ، يتناول خلالها قدحا من الشاي . في الثامنة صباحا يرتدي ملابسه التي كان ينسقها حسب فصول السنة ، فقد كان يهتم كثيرا باناقته ، ويصر على أن تتناغم سترته الطويلة مع جواربه ، ويزين رأسه بباروكة بيضاء، وكان يقول لكل من يمتدح أناقته : " من الأفضل ان تكون مجنوناً بالموضة ، على ان تكون الموضة خارج حساباتك". كان صاحبنا متوسط الطول ، قامته معتدلة ، غير انه يعاني من ارتفاع طفيف في كتفه الايمن .. عيناه زرقوين إلا ان اليسرى كانت تعاني من الضعف بسبب القراءة المتواصلة . يكتب عن نفسه :" إنني ضئيل قليل الاهمية إلى حد ان الرياح تمر فوق رأسي فلا تقتلعني كما تفعل بالنباتات التي تعلوني طولا " . يفلسف اهمية الرياضة في حياة الانسان ، ويرى أن المشي لمسافات طويله يجب ان يتحول إلى قانون يومي يرافق الانسان ، بشرط أن تسير لوحدك دون ان يجهدك صديق او تلميذ في حديث غير مجدي ، ولهذا كان يقول أن اولى شروط المشي أن يبقى الفم مغلقا ،
في مدينة كونيغسبرغ التي ولد فيها في الثاني والعشرين من نيسان 1724 وعاش فيها اقل من ثمانين عاما باسابيع – توفي في الثاني عشر من شباط عام 1804 ، لم يغادرها ، لكنه تنقل في عدد من البيوت وكان السبب ضوضاء الجيران ، حتى انه اشتكى يوما من ديك كان يربيه جاره ، واضطر ان ينتقل الى مسكن جديد ، الامر الذي دفع الجار ان يقول :" هل يعقل ان ديكا بسيطا ، يمكن ان يزعج فيلسوفا عظيما " . لم تربك حياته علاقات نسائية ، في شبابه كان يصربعد الانتهاء من القاء محاضراته، على الذهاب الى المقهى للعب البليارد ، لأنه كان يعتقد ان في ذلك تنشيطاً للذهن . يحب الهدوء ، ويكره السفر ، يجد ان حياته مرتبطة ببلدته التي كتب عنها :" ان مدينة مثل كونيغسبرغ ، يمكن ان تجد فيها مكانا مناسبا لتوسيع المعرفة بالانسان والمعرفة بالعالم سواء بسواء ، ويمكن ان تكتسب هذه المعرفة دون سفر "- إيمانويل كانط (الانثربولوجيا ) ترجمة فتحي إنقزو - . كانت الناس لاترى فيه سوى استاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم يحيونه تحية الصديق ، ويضبطون ساعاتهم عليه ، ولكنهم لم يدركو ان هذا الرجل يمارس بصمت عملية "تهديم" لأفكار قرون مضت " كانت احواله المادية تتقدم ببطأ ، فقد بدأ حياته المهنية محاضرا في الجامعة عام 1755 براتب ضئيل ، كما كانت اثنتان من شقيقاته تعملان خادمتان ، وظل يعمل اربعة عشر سنة قبل أن يحصل على وظيفة استاذ .. عاش إيمانويل كانط حياته يمارس عاداته اليومية بانتظام ، حتى ان جيرانه كانوا يقولون انهم يستطيعون ضبط ساعاتهم على مواعيد خروجه من بيته وعودته ، وبرغم نمط حياته الذي يعتبره البعض ميكانيكيا إلا ان كانط كان متشددا لا يهادن في المسائل التي تتعلق بالعالم من حوله . كان يرى ان الحق واضح والباطل واضح ، ولا يجوز الخلط بينهما ، ولهذا يسجل له تاريخ الفكر انه من ابرز الذين واجهوا بشجاعة الاكاذيب وظل يؤمن ان الوعي هو الشيء الثمبن في حياة الانسان ، وان قدرتنا على المناقشة المنطقية هي الشيء الوحيد الذي يميزنا عن باقي المخلوقات في الكون . نحن قادرون على تطوير العالم الذي حولنا باستخدام التفكير والارادة . نحن الوحيدون القادرون على توجيه قدرنا . نحن الوحيدون الذين لدينا إدراك لذاتنا . ان تغيير العالم حسب مفهوم كانط لا يتم من خلال ايديولوجية ، ولا من خلال تحول جماهيري إلى دين او عقيدة ما ، ولا من خلال احلام واهمة عن المستقبل . بل من خلال إحراز النضج والكرامة لكل فرد . ستكون هناك دائما ديانات مختلفة وانظمة وقيم مختلفة قائمة على الثقافة والتجارب ، وستكون هناك دائما افكار مختلفة ، لكن اصر كانط على ان قضية الكرامة الانسانية واحترام حقوق الانسان ، يجب ان تتحول الى قضية عامة وشاملة .

1
يُصدِر كتابه :" الدين في حدود مجرّد العقل " – ترجمه فتحي المسكيني – بالعبارة التالية :" إنّ دينا يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه " . ونجده يحاول ان يُشدد على الناحية الاخلاقية في كل دين ، وبالتالي فأن أي تقرب من الله خارج العمل الانساني الصالح ، هو مجرد جري وراء سراب :" كل ما يظن الانسان انه يستطيع ان يفعله من اجل نيل رضا الله خارج التصرف الحسن والعمل الجيد ليس سوى وهم وعبادة خاطئة " - الدين في حدود مجرّد العقل -
كان والد كانط " يوهان جورج " يعمل سراجا ، مات عندما كان كانط في الثانية والعشرين من عمره ، اما امه " حنا ريجينا " فقد توفيت وهو في الثالثة عشر من عمره ، كان الابن الرابع لعائلة تتكون من تسعة اطفال ، مات ثلاثة منهم وهم اطفال ، عاشت العائلة في جو ديني متشدد .
بين كانط ومدينته التي كانت جزءً من المانيا ، علاقة خاصة جدا ، اطلق عليها اسم " مدينة السلام " ، وقد تاسست المدينة في نفس السنة التي ولد فيها كانط من تجمع ثلاث مناطق سكنية ، عاش في مدينته كونيغسبرغ حياة هادئة ، ولم يكن يتوقع يوما ان هذه المدينة الصغيرة ستهب عليها ويلات الحروب التي كان يحذر منها ، ، وانها ستتصدر مشهد الصراع العسكري بين روسيا والتحالف الغربي، وتتحول الى قاعدة عسكرية روسية عائمة وسط القارة الأوروبية. وانها ستكون عنوان من عناوين الحروب الاوربية خلا القرون الاخيرة . فهذه البقعة التي لا تزيد مساحتها عن 215 كلم مربع، ويسكنها أقل من نصف مليون انسان ، كانت تخضع للسيادة الألمانية، لتنتهي سنة 1945 تحت السيطرة الروسية، ويتغير اسمها من كونيغسبرغ الى كالينينغراد حيث قامت روسيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باخلاء المدينة من السكان الالمان ، ورغم تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور دويلات في البلطيق، بقيت كالينينغراد روسية واكتسبت أهمية كونها تخترق اوربا . حاول الغرب إقناع روسيا بالتخلي عنها، ومنحها الاستقلال مثل باقي دول المنطقة الصغيرة مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، وقدمت المانيا عرضا مغريا عام 2001 بشراء مسقط راس اعظم فلاسفتها ، مقابل ، إعفاء روسيا من الديون المستحقة وقتها، التي تجاوزت 25 مليار يورو، لكن روسيا رفضت فالروس يؤمنون ان كونيغسبرغ التي تقع في قلب البلطيق، قادرة على خلق " مفاجأة استراتيجية" ، وان بامكانها ان تزرع الرعب في المنطقة وهذا ما قام به الكرملين عشية الحرب في اوكرونيا ، حيث صدرت الاوامر بتعزيز القوة العسكرية الروسية وتوجيه الرؤوس النووية باتجاه اوربا .
في صباح يوم الحادي والعشرين من كانون الاول عام 1794 كتب ايمانويل كانط الجملة الاولى من كتابه الذي سيختار له اسم " مشروع للسلام الدائم " ، وقد اراد كانط لكتابه الصغير الحجم أن يكون بمثابة التطبيق العملي لنظريته السياسية والتي سيضع اسسها فيما بعد في كتابه " الاصول الميتافيزيقية لفلسفة الحق " والذي صدر عام 1797 اي بعد عامين من صدور " مشروع للسلام الدائم " وسيكتب في مقدمته :" المسألة لم تعد مسألة معرفة ما إذا كان السلام الدائم واقعا حقيقيا او تصورا فارغا ، وما إذا كنا لسنا على خطأ في حكمنا النظري .. إنما ينبغي أن نعمل كما لو كان السلام ، الذي ربما لن يتحقق ، قابلا للتنفيذ ، وأن نعمد ، سعيا وراء هذه الغاية " .
ربما يقول البعض لماذا نعود بانظارنا الى هذا الفيلسوف الذي عاش قبل ما يقارب الثلثمائة عام ، ولماذا لا نلجأ الى احد معاصرينا من الفلاسفة ، يقول برتراند رسل وهو يتحدث عن دور كانط في ترسيخ مفهوم السلام ان هناك اجابة واحدة تتلخص في الدور المحوري الذي يلعبه مفهوم كانط في كل نقاش عن السلام . ان كتابات كانط كما يقول شوبنهاور :" لا تزال فتية جدا" ، ولهذا اذا كنا نعيش في مجتمع ديمقراطي فعلينا ان نتذكر كانط ، حيث كان من اوائل الذين اكدوا على ان لكل انسان كرامة اصلية ملازمة له ينبغي احترامها ورعايتها – كانط تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ترجمة عبد الغفار مكاوي – وقد كان اول فيلسوف يطالب بانشاء هيئة عالمية قادرة على ضمان السلام في العالم ، كما كان متصلبا وغير مهادنا في موضوعة الاستبداد . وربما كان الفيلسوف الاكثر اهمية الذي تمعن في مفهوم الاخلاق والخير ، واصر على ان إرادة الخير " لا تكون خيرة بما تحدثه من أَثر أو تُحرزه من نجاح، لا ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، بل إنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده أعني أنها خيِّرة في ذاتها" - تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق -
بعد الحرب العالمية الثانية قررت المانيا ان تلتفت الى فيلسوفها الكبير ، ورغم ان قبره تحول الى ارض روسية ، فقد بدأت المطابع باخراج طبعات جديدة من كتاب " مشروع للسلام الدائم " بلغت في عام واحد " 14 " طبعة كتبت لها مقدمات مختلفة ، فيما اصدرت مطابع نيويورك ولندن وباريس طبعات لكتاب كانط الذي تم اعتباره اشبه بدستور ينظم حياة البشرية ، وهو ما تحقق بمشروع الامم المتحدة الذي يقترب من مقترح كانط في

2
تكوين رابطة تجتمع بها الأمم للتحاكم في النزاعات بغية تعزيز المجتمع السلمي في أنحاء العالم.
في مقدمة كتابه " مشروع للسلام الدائم " يضع كانت هذه العبارة :" لقد وضع احد اصحاب الفنادق من الهولنديين ذات يوم لافته وكتب فوقها عبارة ( الى السلام الابدي ) . ترى أكان مقصودا من ذلك النقش الساخر أن يوجه اللوم الى الناس عامة ام الى رؤساء الدول الذين لا يشبعون من الحرب ابداً ، ام الى الفلاسفة الذين الذين يستمرئون حلم السلام اللذيذ " .
لعله منظر بالغ الاهمية والجمال عندما نتخيل ان ايمانويل كانط ، الاستاذ الجامعي ، الوديع ، الذي يعيش حياة منتظمة انتظاما آليا مثل ساعة دقيقة ومحكمة ، يجلس ذات يوم بعد ان ينتهي من شرب قدح الشاي الصباحي ليفكر في احوال العالم ويكتب :" لا يجوز الاستيلاء على دولة مستقلة ، كبيرة كانت ام صغيرة " . ويكملها بعبارة ستعتبر دستورا يحكم العلاقات بين الدول قائلا :" لا يجوز لدولة ان تتدخل بالقوة في نظام الحكم القائم في دولة اخرى " وفي خضم شرحه لفكرة الوصول إلى الذروة المفترضة من الحرية، يطرح فكرة العلاقات الدولية بين الدول القومية في العالم. حيث اعتبر كانط الدولة القومية ضرورية، للوصول إلى الحرية وبلوغ السلام العالمي. واعتبر التوازن بين هذه الدول، شرطاً أساسياً في الحفاظ على السلم والحرية. وفي المقابل، اعتبر كانط الدولة أو الحكومة العالمية (أي دولة القطب الواحد التي تحكم جميع البشرية) دولة استبدادية تناقض النضال العالمي من أجل بلوغ الحرية. الدولة ليس متاعا يباع ويشترى ، بل هي جماعة انسانية لا يجوز لاحد ان يحكمها او يتصرف فيها إلا هي نفسها ، وادماج دولة في دولة اخرى يعني القضاء على شخصيتها المعنوية واعتبارها مجرد سلعة ، وفي هذا اهدار لها بوصفها كائنا معنويا . ان الحاكم ، مهما يكن شأنه لا يحق له ابدا ان ينظر الى أية دولة اخرى مستقلة على انها مجرد عقار يخضع للملكية . ان الحرب وسيلة للدفاع عن الحق ، وليست وسيلة للتدمير الشامل ، مهما كانت الحجج العسكرية التي يمكن التذرع بها . فهناك فوق اعتبارات الحرب ، اعتبارات انسانية تعلوا على كل اعتبار . يرفض كانط في تصويره للدولة وجود عقد سياسي بين الحاكم والمحكومين ، لانه بموجب هذا العقد يتنازل الشعب عن كامل حقوقه للحاكم . بحيث يصبح لهذا الاخير السيادة المطلقة على شعبه ، لأن الاساس القانوني للدولة عند كانط هو سيادة الإرادة العامة او ارادة الشعب التي لا يوجد سيد غيرها بموجب قوانين الحربة . وكانط هو صاحب الرأي الذي يقول ان الشعب هو صاحب الحق في التشريع وليس الحاكم ، وليس للحاكم اي سلطة سوى السلطة التنفيذية التي تخضع لتشريع الشعب . وحتى السلطة القضائية ايضا تخضع لإرادة الشعب من خلال اختيار السلطة القضائية اختيارا حرا . ويؤمن كانط بسن قانون اسماه قانون الشعوب :" ينبغي ان يقوم قانون الشعوب على اساس نظام اتحادي بين دول حرة . ان الشعوب – مثلها مثل الافراد – لكي تخرج من حالة الحرب التي غالبا ما تنشب بسبب انعدام القوانين إلا ان تتخلى كالافراد عن حريتها الجامحة الهوجاء وان تذعن لإلزام القوانين العامة " – مشروع للسلام الدائم - .
هل تحن بحاجة الى كانط هذه الايام ؟ سيكون الجواب من خلال ثلاثيته النقدية الشهيرة " نقد العقل الخالص " و" نقد العقل العملي" و" نقد ملكة الحكم " .حيث يؤكد لنا نحن ابناء القرن الحادي والعشرين ان العقل مفتاح لما نجربه ونختبره وما نعرفه ، وان اي شيء نختبره او نعرفه يرجع الى العقل نفسه ، وان الانسان قادر بقوة عقله على فهم الحقيقة .وان علينا ان ندرك ان كل شيء يتحقق في هذا العالم - السعادة والطمانينة والرفاهية - حين يحترم كل منا حقوق الآخر ، ونسمع صوت الحياة الذي يقول لنا على لسان كانط اننا قادرون على وقف المجازر بيننا ، لو اصغينا الى صوت العقل ، واننا جميعا نملك في اعماقنا بحراً يفيض بالخير .
في وصيته التي سلمها لاحد تلامذته طلب كانط ان يكتب على شاهدة قبره : " شيئان يملآن قلبي دوماً بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي" .
ونحن نعيد قراءة كانط والتمعن في كتاباته سنكتشف ان الرجل الانيق كان ينظر إلى الفلسفة بوصفها شيئاً لا ينفصل عن التجربة الفكرية للحياة ، بل وانها جزءاً حيويا من هذه التجربة الحياتية . .يكتب كارل ياسبرز ان إيمانويل كانط يريد منا جميعا ان نحمل لقب " مخلوق اخلاقي " .

3
"الفلاسفة قد دأبوا حتى يومنا هذا على القول بأنّ جميع معارفنا لا بُدَّ أن تنتظم وتُرَتَّب وفقاً للموضوعات، فلنبحث مرةً عسى أن نكون أكثر توفيقاً منهم، فلنفترض بالعكس أنّ الموضوعات هي التي لابُدَّ لها أن تنتظم وتترتَّب وفقاً للعقل، أي أنّنا لا ينبغي أن نلتمس في الأشياء تفسيراً لقوانين الذهن، بل ينبغي أن نلتمس في الذهن نفسه تفسيراً لقوانين الأشياء".

- إيمانويل كانط
من كتاب: نقد العقل المحض

حسب ما سبق فقد قام "إمانويل كانط" بعمل ثورة فلسفية، وهي التي تُلخص الخصائص العامة لعصر التنوير، ويعني التنوير قدرة العقل المطلق في الحكم على الأشياء وجعل مرد الحكم إليه في كلِّ شيء. وكانت من صور تلك الثورة الفلسفية هي: "الثورة الكوبرنيكية" كما سماها كانط، وتعني أنّه جعل محورها المقابلة بين الإنسان والعالم الخارجي. وانتهى منها إلى أن الإنسان هو المركز وأنّ العقل هو الأساس في جميع معارفنا.

- ملاحظة
الثورة الكوبرنيكية: نسبةً إلى نيكولاس كوبرنيكوس وهو عالِم رياضيات وفلك في عصر النهضة، قام بصياغة نموذج مركزية الشمس للنظام الشمسي بدلاً من التصور القديم الخاطئ (التي كانت الكنيسة تتبناه) بمركزية الأرض للنظام الشمسي والكون كله.
من المؤكد إن الفلسفة جردت الغباوة من راحة ضميرها .. لقد أضر الفلاسفة بالحمقى و الاغبياء ..!!

- جيل دولز / من كتاب (نيتشه و الفلسفة)
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
🟧بناء الذات من وجهة نظر الفيلسوف فريديريك نيتشه.



بناء الذات، عند نيتشه كما عند مونطيني، هو مشروع فردي بشكل أساسي. لا يترك الفرصة لأن نقلد، بالمعنى الأساسي للكلمة، المثال الذي قدمه شخص آخر. لأنه بدلا من أن نبدع ذواتنا، فإننا نقوم بتقليد ذلك الشخص الآخر. ومع ذلك، لا يتم تهديد الفردية فقط عندما نقلد شخصا آخر، ولكن أيضا، بطريقة أكثر قتامة، وأكثر خطورة ، عندما تتم محاكاتنا من قبل الآخرين.

يتميّز نيتشه عن الفلاسفة الآخرين الذين فكروا في فن العيش من خلال الوعي الحاد الذي حصل له بهذا الخطر والقلق الذي تسبب له فيهما هذا التهديد. النجاح في خلق الذات يمكن أن يؤدي إلى فشل هذه المهمة نفسها. لأنه إذا تم تقليدنا بالفعل من قبل الآخرين، إذا كان أسلوب الحياة الذي وقع عليه اختيارنا يكفي لباقي العالم ليصبح نموذجا للطريقة التي يجب أن تعاش بها الحياة بشكل عام، عندئذ فان ما يميز في الأصل الفرد عن العالم الذي يعيش فيه يبدأ يشكل جزءًا من هذا العالم. انه ليس هو؛ هذا الشخص يصير، لاستخدام كلمات نيتشه، واقعة: " المقلدون. - أ ...: "كيف؟ لا تريد أن يكون لك مقلدون؟ - ب ...: "لا أريد تقليدهم لشيء ما من عنديتي ، أريد أن يكون كل واحد نموذجا لنفسه: هذا ما أفعله. " - إذن... ؟"

تفترض الفردانية، مثل الأسلوب، التعددية والمعارضة. إذا كان الجميع يتبنى النمط نفسه، فإن الأسلوب يختفي: لا يعود سوى طريقة عادية للتصرّف، أي درجة الصفر في الحياة. يتعرض تاريخنا الفردي لخطر تقليد النموذج الذي يقدمه شخص آخر وخطر أن يصبح هو ( التاريخ ) ذاته نموذجًا يحتذي به الآخرون بدورهم. إن الجمع بين هذين الخطرين هو أحد الأسباب التي تجعل موقف نيتشه تجاه سقراط معقدًا للغاية، في نهاية التحليل، كما سنرى.

يدرك نيتشه تماما أنه ليس من الضروري أومن الممكن أو من المرغوب فيه، دونما شك، أن تكون الحياة التي قام ببنائها مثالاً يحتذى به.

هذا واحد من مظاهر نزعته "المنظورية". ويعتقد، مثل مونطيني، أن حياة كل فرد تتكون من مجموعة فريدة من الأحداث. لا وجود لطريقة شاملة يصنع بها الانسان تاريخه الخاص - إلى الحد الذي يكون في الواقع تاريخه وليس التاريخ التي تمليه المعايير المقبولة من لدن العالم بشكل عام. يجب أن يكون الأفراد ، على الأقل جزئيا ، مستقلين عن المعايير التي تحكم العالم الذي يحيط بهم. لكن نيتشه يعتقد أن هذه المعايير تحدد، بشكل عام، ما هو حسن وما هو ليس بحسن. ويقول إن البشر " حيوانات اجتماعية "، لأنه يعتقد أن الانسان يكون صالحا يعني أنه في تناغم مع العالم الذي يعيش فيه، ألا يثير اهتمام الناس، ألا يهدد أو يقلب الحياة التي يكون معظم الناس قادرين على عيشها. تفرض معايير الخير على الجميع القيام بما يفعله الآخرون. بل إنها استعملت لإقناع عدد كبير من أولئك الذين ربما تصرفوا بشكل مختلف بالتنكر لاختلافهم، بالانضمام الى القطيع.

هذا هو الجانب الثاني من لاأخلاقية نيتشه. فالأخلاق ، كما يراها ، تحاول منع خلق إمكانيات جديدة، منع تدمير المعبد: "من الذي يكرهه [الصالحون] أكثر؟ إنه المبدع الذي يكرهونه أكثر من غيره: الشخص الذي يكسر الطاولات والقيم القديمة، هو الكاسر - هو من يسمونه بالمجرم. / لأن الصالحين لا يمكن لهم أن أن يبدعوا: فهم دائما بداية النهاية: - / - انها يصلبون الشخص الذي يكتب قيما جديدة على ألواح جديدة [...] ".

للحديث عن الأمر بكلمات عامة، تأتي الأخلاق أولاً لتلتصق بالمبادئ التي تمليها احتياجات مجموعة معينة. هذه المبادئ مبنية على رغبة المجموعة في البقاء كما هي: من لا يلتزم بهذه الرغبة لا يجب أن يتقيد بها ( المبادئ). لكن الأخلاق تخفي الأصول المعنية والجزئية لهذه المبادئ المشروطة. هي تفرض أن تحظى مبادؤها بالقبول ليس لأنها نافعة لفئة معينة وعادية من الناس ولهذه الفئة وحدها. هي تدعي أنها مبادئ غير مشروطة، وأنه يجب قبولها لمجرد أنها صالحة بوجه عام، وبالتالي تنطبق على الجميع - أيا كانت آراؤهم واحتياجاتهم ورغباتهم - وليس فقط على فئة معينة بحكم أقدارها الخاصة. مثلا، الأمر الأخلاقي الذي يريد منا ألا نسيء لأحد " يعني باختصار، إذا ما استمعنا إليه ببرود ودون تحيز: "نحن، الضعفاء، إنا ضعفاء بكل تأكيد ؛ سوف نعمل جيدا على ألا نفعل أي شيء لسنا عليه أقوياء بما فيه الكفاية." - لكن هذا الإقرار المرير، هذه الحكمة المتدنية جدا التي تمتلكها حتى الحشرة، ظهرت كواجهة مفخمة لفضيلة تعرف كيف تنتظر، تنبذ وتصمت، كما لو كان ضعف الضعفاء ذاته - أي ماهيته، نشاطه، واقعه الفريد كله، الحتمي واللايعوض - كان إنجازًا حرًا ، شيئا مرغوبا فيه، مختارا، فعلا، استحقاقا."
الأخلاق تحول الحيطة الى فضيلة والضرورة الى اختيار.
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
سقراط، وفقا لنيتشه، هو الذي أعطى أولا منحى أخلاقيا لأحكام القيمة. في سياقها الأصلي، أي في الثقافة اليونانية المبكرة، تم إصدار أحكام القيمة تلقائيًا من الافتراض الضمني أنها اكتسبت بالثقافة وببقائها. ولذلك توقفت على رفاهية هذه الثقافة بالذات - بعبارات كانطية ، كانت " افتراضية " وحذرة. لكن سقراط أكد أن أحكام القيمة يجب أن تكون غير مشروطة. وأصر على أنه، لكي تنطبق عى شخص ما، كان عليها أن تستند إلى أسباب وجيهة لدى الجميع، حتى لو اختلفت احتياجاتهم وأقدارهم. سقراط اذن هو أصل الفكرة القائلة بأن كون نمط حياة يخدم مصالح وأقدار أشخاص أو مجموعات معينة لا يشكل أبداً سبباً أخلاقياً لقبوله. يجب أن نتبنى مسارًا للعمل فقط إذا كان صحيحًا، إذا كان يجسد القيم الحقيقية والأفكار الصحيحة. أن تتبني نمط حياة لأسباب احترازية فذاك نابع من اختيار، من رغبة في أن تكون مثل أولئك الذين يعتقدون أن نمط الحياة هو ما يجعل هذه الحياة جيدة أم لا. اعتماد أسلوب حياة لأسباب أخلاقية نابع من التزام، من الاعتراف بصحته. الخير والحق، مثل الفضيلة والمعرفة، يسيران جنبا إلى جنب.

أجاب آرثر دانتو على ذلك بأن وجهات النظر، وفق نيتشه، لا تكون صحيحة الا إذا " أبرزت قيمة الحياة ويسرتها". نيتشه، إذا التزمنا بتفسير دانتو المقبول على نطاق واسع، " اقترح معيارا براغماتيا للحقيقة: ب صادق و ج كاذب إذا كان ب يعمل و ج لا يعمل" . قد تشير بعض المقاطع في عمل نيتشه إلى أنه ربما كان يميل في بعض الأحيان إلى التمسك بمثل هذه النظرية. لكن البعض الآخر يظهر أنه يرفض البراغماتية بطريقة أكثر وضوحا:
" الحياة ليست حجة. - لقد قمنا ببناء عالم يمكننا العيش فيه - مع الاعتراف بوجود أجسام، خطوط، أسطح، أسباب ونتائج، حركة وسكون، شكل ومحتواه: بدون عناصر الإيمان هاته لا يقوى أي أحد على الحياة! لكن ليس ذلك حجة في صالح هذه العناصر. الحياة ليست حجة. ضمن ظروف الحياة يمكن أن يتواجد الخطأ".

قد تكون الأفكار الأساسية والأحكام التي تضمن البقاء على قيد الحياة، مع كل ما نعرفه عنها، خاطئة على الرغم من كل شيء. يرفض نيتشه مماثلة الحقيقة بالمنفعة التي يدعو إليها البراغماتيون.

وبدون اللجوء إلى النص، يجب التأكيد على أن إسناد مثل هذه المماثلة إلى نيتشه هو تعريض فكره لواحد من أهم الاعتراضات التي يوجهها هو نفسه إلى الدوغماتية. لماذا نعتقد أن قيمة الحقيقة غير مشروطة، أن "ليس هناك ما هو أكثر ضرورة من الحقيقة ، وفيما يتعلق بها ، فإن كل الباقي له قيمة من الدرجة الثانية فقط"؟ لا يمكن لأي حساب بمنطق المنفعة أن يقنعنا بذلك:

" ماذا تعرفون في المقام الأول عن طبيعة الوجود حتى تكونوا قادرين على تقرير ما إذا كانت الميزة الأكبر هي إلى جانب الحيطة المطلقة أو إلى جانب الثقة المطلقة؟ لكن في حال كان كلا الأمرين ضروريين، [...] من أين يستمد العلم اذن إيمانه المطلق، هذا الاعتقاد الذي يتخذه أساسا له، ( الذي مفاده ) أن الحقيقة أكثر أهمية من أي شيء آخر، وأيضاً أكثر أهمية من أي اعتقاد آخر؟ هذه القناعة، على وجه التحديد، لم يكن من الممكن أن تكون قد تشكلت، إذا كانت الحقيقة واللاحقيقة تؤكدان، في نفس الوقت، منفعتهما، تلك المنفعة التي هي واقعة".

تنفي الفلسفة البراغماتية هذا التناقض على وجه التحديد بين الحقيقة والقيمة. نيتشه ليس براغماتياً، وهو لا يقبل بتاتا أي نظرية أخرى عن طبيعة الحقيقة. على العكس من ذلك، هو يدافع عن الفكرة الهامة والمثيرة للجدل بأنه لا فائدة ترجى من محاولة تفسير الحقيقة. إنه لا يعتقد أن هناك تعريفا للحقيقة، طريقة مفيدة ووحيدة بها نفسر لماذا تكون جميع أفكارنا صادقة. يعتقد الكثير من الناس أنه في غياب مثل هذا التعريف، لا يمكن لأي فكرة من أفكارنا أن تكون صادقة على الإطلاق؛ أو أنه إذا كانت الفكرة صادقة ، فقد كانت كذلك بدون سبب. لكن هذا خطأ. يمكننا أن نجد سبباً محدداً، أحياناً معقدا جداً، لكل ما نعرفه؛ هذه الأسباب تكون مختلفة باختلاف الحالات؛ بعضها ليس أكثر تعقيدا من إثنين + إثنين = أربعة، والبعض الآخر معقد مثل براهين الفيزياء المعاصرة. تنفي النزعة المنظورية القدرة على أن نستخلص من كل هذا صيغة عامة مفيدة وعادلة في نفس الوقت.


🔗 أحمد رباص
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
لا تُفسد ما لديكَ برغبتكَ فيما ليس عندكَ، تذكَّر أنَّ ما تمتلكُهُ الآن كان في الماضي شيئاً تمنَّيتُه.

- إبيقور Epicurus
فيلسوف يوناني قديم
لقد تميزت بالشك ، ذلك إني كنت أمقت التسليم بكل الأخلاق التي يتم تمجيدها على الأرض، وقد دفعني هذا الشك في فترة مبكرة جداً وعلى نحو لا سبيل لمقاومته الى صراع مع بيئتي وجيلي، والاجيال السابقة،
على ان بداهتي وفضولي وشكوكي كان محتوماً عليها ان تتوقف عند السؤال عن أصل افكارنا عن الخير والشر..
والواقع ان مشكلة اصل الشر كانت تطاردني، منذ كنت صبياً في الثالثة عشرة، وهو العمر الذي ينقسم فيه إهتمام الأنسان بين الألعاب الصبيانية والإله !

- فريدريك نيتشه / من كتاب ( جينالوجيا الأخلاق)
هل ماتت الفلسفة؟
▪️ مقال لفريت جوڤن
▪️ ترجمة فاطمة الزهراء صفوت
* فريت جوڤن أستاذ الفلسفة بكلية إيرلهام في ريتشموند إنديانا




أما سمعتم بالرجل الغريب الذي أوقد فانوسه في وضح النهار، وصار يجري في المؤتمر صائحًا بلا توقف: أَبْحثُ عن الفلسفة! إني أَبْحثُ عن الفلسفة! ولمّا كان الكثير من الحاضرين هناك أساتذة فلسفة فقد أثار هذا سخطهم؛ ماذا حدث للفلسفة؟ هل فوّت محاضرتك؟ ألم تسجل في أي منها؟ ألا تفهم اللغة الإنجليزية؟ صاح الغريب: أنا سأخبركم ما الذي حدث لها، لقد ماتت الفلسفة! لكن كيف ذلك؟ كيف جعلنا الناس يتوقفون عن التفكير، كيف توقفنا عن العيش فلسفيًا؟ لقد قتلناها، جميعُنا؛ اعتبرناها تخصصًا ضمن باقي التخصصات، أصبحنا متخصصين نبيع الفلسفة، عندما أصبحنا خبراء، عندما أعددنا السير الذاتية والهويات وروجنا لأنفسنا لأجل المال، أردنا أن نحظى ببصماتنا الخاصة، عندما ألفنا الكتب، ونشرنا المقالات التي كُتبت للحصول على درجة علمية أو لمجرد النشر، بحضورنا المؤتمرات على غرار المنظمات المهنية الأُخرى وعندما اتخذنا من الفلسفة حياةً مهنية.

وتساءل الأساتذة، لكن كيف نواصل الانشغال بالفلسفة إن كانت ميتة؟ كيف نؤلف الكتب؟ ما الذي سنفعله في المؤتمرات؟

قرأت منذ حوالي عامين تدوينة نمطية نوعًا ما (نمطية من حيث إنها تتكون من قائمة، وهي عبارة عن عناوين مضللة مشهورة لسبب ما) حول أن المؤتمرات ليست بالشكل ولا المحتوى الملائم للعلوم الإنسانية. علّقتُ بأنني لم أعد أذهب إلى مؤتمرات الفلسفة لنفس المشكلات التي أوردها المقال. لم تكن المقالة «سلبية»، فقد ذكرت عشرة معايير (لمَ دائمًا عشرة؟) لجعل كلمات المؤتمر أفضل حتى لا يساهم المتحدث في موت الإنسانيات. بدأتُ في الاعتقاد أنه ربما ليست المشكلة في طريقة تحسين المؤتمرات أفضل، بل شكل المؤتمر نفسه يُمثل منتدى إشكاليًا للفلسفة. غير أن شكل المؤتمر لا يُمكن فهمه بمنحى مُستقل عن جميع النشاطات «المهنيّة» للإنسانيات عمومًا والفلسفة تحديدًا. تتعلق ملاحظاتي بالفلسفة «كتخصص» حيث لا أعتقد أن فروع الإنسانيات الأُخرى تتعارضُ مع التأهيل المهني بالضرورة.

تُمثل معارضتي لشكل المؤتمرات جزءًا من قلق أكبر حيال موت الفلسفة في القرن الحادي والعشرين. وكنتيجة لملاحظاتي فيما يتعلق بالمدونة التي ذكرتها، علق زميل بالآتي:

ألم تقابل قط شخصًا، أي شخص، وأصبح زميلًا وصديقًا ما زلت تتعاون معه؟ أو باحثًا كبيرًا أُعجب بعملك وأصبح مرشدك بعدها؟ أو طالبَ دراسات عُليا ساعدته في فهم فكرة صعبة؟ ألم يسبق أن طار عقلك؟ ألم يحدث أبدًا أن تتلقى ملاحظات مرجعية ساعدتك في جعل ورقتك البحثية مقالًا أفضل؟ إن بعض المؤتمرات والكلمات أفضل من غيرها؛ لا أحد يجبرك على الذهاب. ربما المشكلة تكمن فيك.

بالطبع المشكلة فيّ أنا. إن الأمر يتعلق بما تعنيه لي الفلسفة، ولم أُفكر فيه أبدًا، وما زلت لا أُفكر فيه، ولا أظن أنني الوحيد الذي يفكر في هذا الأمر. لقد سمعت مراتٍ عديدة أن الناس تُعامل المؤتمرات على إنها فرصة لتطوير مسيرتهم المهنية في أفضل الأحوال، والانغماس في العلاقات الشخصية كأسوأ الفروض. ما الذي تعنيه الفلسفة «للمتخصصين»؟

حين قررت دراسة الفلسفة؛ قرأت كتابًا بعنوان «رجل غير عقلاني» للفيلسوف الأمريكي ويليام باريت، الذي يُعد كتابًا قديمًا حتى حينه، كان الكتاب عبارةً عن دراسة حول الوجودية، وقد عُنون الفصل الأول «نشأة الوجودية» واصفًا وصول الفلسفة الوجودية للأوساط الأكاديمية الأمريكية. وصف فيه باريت الفارق بين نوع فلسفة المشاريع الأكاديمية المهنية التي وصلت للولايات المتحدة، ونوعٌ آخر من الدافع للفلسفة التي كانت لا تزال حاضرة في فلسفة أفلاطون رُغم حقيقة أن فلسفة أفلاطون قد أصبحت مميزة ومتخصصة. يُوصف هذا الدافع بأنه «طريقة مُتّقدة للحياة». بحسب باريت فإن الفلسفة بالنسبة لأفلاطون تعني «سعي الأرواح إلى الخلاص»، «إلى النجاة من معاناة العالم الطبيعي وشروره». لم أتفق مع عبارة «شرور العالم الطبيعي»؛ بدا كما لو أنه أمر ميتافيزيقي أو ربما ديني لأنه بُني على الافتراض الضمني لعالم الحس وعالم الصيرورة بمفهوم نيتشه. ومع ذلك فوجئت بالجملة التالية:

حتى اليوم، يظل الدافع وراء مواصلة الشرقيين دراسة الفلسفة مختلفًا كليًا عن دافع الطالب الغربي: فإيجاد الراحة والسلام من عناء الحياة وحيرتها هو السبب الوحيد الذي يجعل الطالب الشرقي يتكبد عناء دراسة الفلسفة.

رغم إدراكي المشوش لطابع العبارة الاستشراقي، فقد تماهيت تمامًا معها. فقد كنت في نهاية المطاف شرقيًا نوعًا ما. في واقع الأمر كانت الفلسفة الأساس الذي قامت عليه الثقافة التي تُعرفني على أنني الآخر. فإذا كنت سأقاوم الأسلوب الذي أُقصيت به من الثقافة العالمية ومنطق الغيرية هذا، كان عليّ دراسة الفلسفة.
وقد قمتُ بالأمر بشغف، فطالما اعتقدت أنها أهم نشاط (على الصعيد الفكري والعملي) ولا أعتقد ذلك لأن الفلسفة مهنتي؛ فالفلسفة ليست مجرد اهتمام بل شيء لا أستطيع العيش بدونه. فهي أمرٌ إلزامي يتخطى خياري الفردي. فلطالما اعتقدت أنها تتجاوزني، ليست كالدين أو الإله لكن كشيء جعل حياتي محتملة.

لكن عندما أقرأ هذه الأسطر الآن أُدرك مدى سذاجتي على عدّة مستويات مختلفة. فبعد عملي لأكثر من عشرين عامًا في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، عرفت أنني لم يكن لدي أدنى فكرة عن كيف أن الفلسفة الأكاديمية الأمريكية لم تكن تشويهًا للفلسفة كشغف وحسب، وإنما كانت بمثابة نهاية الفلسفة. للأسف تتعدى المشكلة أي شخص في الأوساط الأكاديمية. الأمر متعلقٌ بأن الفلسفة في الأوساط الأكاديمية ما عادت تُثير الإشكاليات التي وُجِدت الفلسفة في ظلها. إذ أن امتهان الفلسفة لا يفسدها فحسب؛ بل يبيدها.

تُصدرُ الفلسفة التخصصية الملاحظات والأطروحات في محاولةٍ منها للمطالبة بمكانتها لأن عليها تبرير نفسها من منظور خطاب السلطة، حيث يُقاس أي نشاط بمدى فائدته؛ لذا نخبر الطلاب كم أن الفلسفة مفيدة، وكيف ستحسن مهاراتهم التحليلية (أو ربما الإبداعية). لكنّي قطعًا لا أقوله بقلبٍ صادق. الفلسفة ليست مهارة ولا مجموعة افتراضات ولا نظرية وليست «ملكية» يُمكن للمرء تجميعها وتسويقها؛ إنها عملية تحوّل، شيءٌ يعيد الحياة، طريقة لعيش الحياة بوعيٍ ذاتي، تأمل يجعل الحياة تتحرك، أو يجعلها «مفعمةً بالحياة»؛ كالعلاقة مع الذات يختبرها المرء عند الكتابة، أو عندما يشارك المرء في مناقشة شغوفة أو عندما يقرأ نصًا مستفيضًا، والذي يحدث للأسف بعد انتهاء مؤتمرات الفلسفة.
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
▪️ الشرق الفنان
▪️ زكي نجيب محمود



وما دمنا بسبيل مقارنات سريعة بين الفلسفة الشرقية وبعض فلسفات الغرب، فلا بد أن نقف وقفةً عند مقارنةٍ كثيرًا ما تَتردَّد على أقلام الكتَّاب، وهي المقارنةُ بين «بوذا» من ناحيةٍ و«هيوم» من ناحيةٍ أخرى؛ إذ إن كلَيْهما يتفقان في نقطةٍ رئيسية هامة، وهي تفكُّكُ مجرى المعرفة إلى حالاتٍ مفردة مُتتابِعة.

ففي الحق إن هناك شَبَهًا قويًّا بين خطوتَيْن من خطوات التفكير في كلتا الحالتين؛ فمن ناحيةٍ نرى «بوذا» (حوالي ٦٠٠ق.م) قد أعلن عن رأيه المعيَّن في المعرفة، ثم جاء تلاميذُه فأخرجوا النتيجةَ المنطقية التي تَترتَّب على هذا الرأي مما لم يُفصِح عنه «بوذا» نفسه؛ ومن ناحيةٍ أخرى نرى «باركلي» الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثامن عشر (١٦٨٥–١٧٥٣) قد أبدى كذلك رأيَه المعيَّن في المعرفة، الذي هو شبيهٌ برأي «بوذا»، ثم جاء مِن بعده «هيوم» في الفلسفة الإنجليزية (١٧١١–١٧٧٦) فأخرَجَ من الرأي نتائجَه المنطقية كما قد فعل تلاميذُ «بوذا»، بحيث انتهى الأمر في الحالتين إلى نقطةٍ واحدة وقفَتْ عندها الفلسفةُ الإنجليزية، لكنَّ الفلسفةَ الشرقية مضَتْ في السَّيْر بعدَها، فكان في هذا المُضِيِّ موضعُ الخلاف بين فلاسفة الغرب وفلاسفة الشرق.

في كلتا الحالتين — «بوذا» ومِن بعده الأتباع يُكمِّلونه، و«باركلي» ومِن بعده «هيوم» يُتمِّمه — يبدأ البادِئُ بقوله: إن حقيقةَ الشيء المُدرَك هي كيفيةُ وقوعه على الذات المُدرِكة، فحقيقةُ هذه الشجرة التي أنظر إليها هي انطباعُها على عيني، وحقيقةُ القلم الذي أحسُّه الآن بين أصابعي هي ضَغْطتُه على أصابعي مضافة إلى انطباعِ صورته اللَّوْنية على عيني؛ وهكذا حقائقُ الأشياء هي نفْسُها مُعطَياتُها الحسية المباشِرة؛ وإذن فما لم يكن هنالك ذاتٌ تُدرِك فلن يكون هنالك شيءٌ يُدرَك، هذا إلى أنه ما دامت الحاسَّةُ — كالبصر واللمس — لا تُدرِك إلا شيئًا جزئيًّا معينًا حاضرًا ماثلًا أمامها الآن، فكلُّ إدراكاتنا إذن هي من قبيل الجُزْئيات، وما المُدرَكُ الكلي العام (مثل قَوْلي «شجرة» و«قلم» على إطلاقهما) إلا إحدى الجُزْئيات التي أدركَتْها الحاسَّةُ فيما مضى، جعلناها مُمثِّلةً لبقيةِ أفراد نوعها، كما يُمثِّل مثلثٌ واحد مثلًا بقيةَ المثلثات … هكذا يقول «باركلي»، فيَجِيء من بعده «هيوم» ليُطبِّق المَنطِقَ نفْسَه على الذات المُدرِكة، فإذا هي وهْمٌ ليس له وجود؛ لأنه ما دام الإدراكُ لا يكون إلا لجُزْئيات حسية معينة، من لمعات الضوء التي تَنطبِع بها العين إلى نبرات الصوت التي تَنطبِع بها الأُذن، ثم لمَّا كانت «الذات» التي نفرض وجودَها ونزعم لها أنها هي التي تُدرِك تلك الجُزْئيات المتتابِعة دون أن تكون هي نفسها واحدةً منها، أقول إنه لمَّا كانت «الذات» ليسَتِ انطباعًا جزئيًّا من بين شتى الانطباعات التي تتعاقب مع تعاقُب اللحظات؛ إذن فليست «الذات» موجودةً بين الموجودات التي يمكن للإنسان معرفتها؛ لأن كلَّ ما لدى الإنسان من معرفةٍ هو خَرَزاتٌ مفردات من انطباعاتٍ تنطبع بها هذه الحاسَّةُ أو تلك، وأمَّا «الذات» التي هي بمثابة الخيط الذي يربط الخَرَزات في عقد واحد، فلا وجودَ لها … هكذا تطوَّرَ الرأي من «باركلي» الذي جعل الشيءَ المادي المعين — كهذه الشجرة مثلًا — مجردَ إدراكِ الذات له، ولا حقيقةَ له غير ذاك؛ إلى «هيوم» الذي مضى بالرأي إلى نتيجته، وهي أن الذاتَ المزعومةَ نفسها — بناءً على الأساس نفسه — وهْمٌ ليس له وجود. وهكذا أيضًا كان تتابُعُ الرأي بين «بوذا» وأتباعه؛ ﻓ «بوذا» يذهب إلى أن حقيقةَ كل موجود هي وقْعُ ذلك الموجود على الذات المُدرِكة له، ثم يَجِيء شُرَّاحه فيَنْفُون وجودَ الذات على الأساس نفسه الذي انتفَتْ به الحقائق المادية الخارجية.

«بوذا» في الشرق و«باركلي» في الغرب، كلاهما قد جعل الحقيقةَ ذاتية، فليس لشيءٍ — كائنًا ما كان — وجودٌ إلا بمقدارِ إدراكنا الذاتي له؛ وبهذا فلا عالَمَ إلا ما تُدرِكه ذاتُ الإنسان؛ وهكذا تتبخر الحقائقُ المادية الصلبة فتصبح لا شيءَ سوى حالاتٍ عقلية ذاتية عند الإنسان المُدرِك، وأتباعُ «بوذا» في الشرق و«هيوم» في الغرب كلاهما قد انتزعا نفسَ النتيجة من نفس المُقدِّمة، والنتيجةُ هي أنه إذا لم يكن ثَمة وجودٌ لشيء إلا إذا انطبعَتْ به الذات، ثم إذا كانت الذاتُ ليست من بين ما نَنطبِع به؛ إذن فهي اسمٌ على غير مُسمًّى، فلا موضوعَ في الخارج ولا ذاتَ في الداخل، وكل ما هنالك هو انطباعاتٌ فُرَادى تَتتابَع واحدةً في إثْرِ واحدة.

إلى هذا الحد يَسير المذهبان: الشرقي والغربي، في طريق واحدة من النفي والإنكار، لكن الفلسفةَ الشرقية تَمضِي في طريقِ الإنكار والنفي خطوةً أخرى لتَبلُغَ المنتهى. وها أنا ذا أوضِّح للقارئ خطواتِ هذا النفي واحدةً بعد واحدة، كما قد سارت فيها الفلسفةُ البوذية، بل الفلسفةُ الشرقية كلها:

1
هَبْني واقفًا في زَمالة فيلسوفٍ شرقي أمام شجرة معينة، ثم سألني الزميل الفيلسوف: ماذا ترى؟ فأجبتُه بما يوحي إليَّ به إدراكُ السليقة الفطرية، قائلًا: أرى شجرة قائمة خارج كياني، وهي قائمة هناك سواء أكنتُ أنا شاخصًا إليها ببصري أم لم أكن؟ ها هنا يخطو بي الفيلسوف أولَ خطوة في طريق النفي والإنكار، قائلًا: لا، ليست الشجرة قائمةً خارج ذاتك؛ إذ كيف يُتاح لك أن تخرج من إهابك وتنسلخ من جلدك وحواسِّك لتتحقَّقَ من وجودها أو عدم وجودها خارج نفسك؟ إن كل ما تعلمه هو أن لديك انطباعًا ذاتيًّا بصورتها، ولا حيلةَ لك بعد هذا في معرفةِ إن كان لهذه الصورة الذاتية أصلٌ خارجي أو لم يكن، وبهذا الإنكار ضاع الوجودُ المادي للشجرة وباتت عَدَمًا، وتحوَّلَتْ إلى وجود ذاتي صِرْف.

ثم يخطو بي الفيلسوف خطوةً ثانية، فيسألني: ماذا عندك الآن؟ وأجيبه: عندي ذاتٌ مُدرِكة وعليها انطباعٌ لصورةِ شجرةٍ. فيردُّني عن هذا قائلًا: هل أدركتَ فيما أدركتَ «ذاتًا» قائمة بنفسها كأنما هي موجود مستقل ذو كيان خاص؟ فأجيبه: كلا، لم أُدرِك مثل هذه الذات. فيقول: إذن فلا وجودَ لذاتٍ قائمة بنفسها في كيانك، فليس في وُسْعك أن تُجاوِز حدودَ مُدرَكاتك الجُزْئية التي تشغل انتباهك واحدةً بعد واحدة في لحظاتِ الزمن المتعاقبة، لترى إنْ كان وراءها «ذات» تُمسِك بها وتَعِيها أو لم يكن؟ فكلُّ محصولك هو خواطرُ وانطباعات، وبهذا يَضِيع الوجودُ المستقل للذات، ويصبح الموجود كله حالاتٍ عقليةً أو حالاتٍ نفسيةً أو ذاتيةً مُفكَّكة فُرَادى.

إلى هنا ينتهي شوط الإنكار والنفي عند فلاسفة الغرب («باركلي» و«هيوم»)، ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من النفي عند «بوذا» وأتباعه، فماذا لو جرَّدْتُ نفسي من هذه الإدراكات الجزئية نفسها؟ إنها عابرةٌ وإنها زائلة؛ فهذه لمعة من الضوء تظهر وتختفي، وهذه نبرة من الصوت تُسمَع ثم تَزُول، وتلك لمسة بالأصابع تُحَسُّ ثم تَفْنى، فَلْنَنفُضْها جميعًا، لنَنفُضْ هذه الموجات الصغيرة التي يضطرب بها السطح ثم ننظر فيما يبقى … إنه لا شيء، إنه لَعَدَم، إنه «النرفانا». هكذا يمضي البوذي في نفيه، وها هنا يقف الغربي مَشدُوهًا كأنما هذا «العَدَم» الذي انتهينا إليه، ليس نتيجةً تلزم عن كل تأمُّل يبدأ بالتجريد ثم يمضي في شوطه حتى نهايته.

لكن وجه الاختلاف بين الفيلسوف الغربي وزميله الشرقي في هذا، هو أن العَدَم عند الأول سلبيٌّ مَحْض، وأما عند الثاني فهو عَدَم إيجابي؛ أيْ أن العَدَم عنده هو الوجودُ المجرد، يُوصَف بصفاتٍ سالبة، فتَصِفه بأنه ليس كذا وليس كيت، ولكنك لا تدري ماذا تقول عنه على سبيل الإيجاب؛ لأنك إنْ فعلتَ تورَّطْتَ في صفاتِ ما هو متحدِّد متعين؛ وبالتالي جعلتَ له حدودًا وقيودًا، وهو ليس كذلك؛ ولهذا كله يرى البوذي استحالةَ أن يتحدَّث عنه المتحدِّث؛ لأن أقلَّ ما يُقال عن الحديث أنه كلمات مُفكَّكة ذاتُ ترتيبٍ نَحْوي معيَّن، وفي هذا شيءٌ من القواعد التي تَحُدُّ وتُقيِّد، وإنما أمرُ إدراكِه متروكٌ للشهود المباشِر حيث لا يُجدِي التعبيرُ اللفظي ولا يُفِيدنا استدلالٌ عقلي مجرد، إنه الوجودُ الخالص المتصل الواحد الذي تُمارِسه مُمارَسةً مباشِرة وتَذُوقه ذوقًا مباشِرًا، ولا يكون ذلك إلا بالفناء فيه؛ وفناءُ الذات المُدرِكة في الموضوع المُدرَك هو في الصميم من نظرة الفنان.

2
Forwarded from فريدريك نيتشه (.)
"حتى النازيون لم ينجحوا في تشويه فكر نيتشه كما فعل هايدغر. عندما تقرأ كتابه حول نيتشه، وهو كتاب مكون من جزئين، تجد أنه مليء بالحماقات من ألفه إلى يائه. منذ البداية يوضح هايدغر بأنه مقبل على الحديث عما لم يكتبه نيتشه، وليس عما كتبه نيتشه بالفعل، ويبرر الأمر بهذا الشكل الغريب، وهذا أقل ما يمكن أن نصفه به : "إذا حصرنا معرفتنا حول نيتشه بما كتبه نيتشه فقط، فسنظل الطريق، ولن نفهم ما كان يريد نيتشه قوله، ما كان في طور إعداده حتى ينضج ويكتمل، لكنه لم يبح به ". عن طريق هذه الفرضية، يوضح هايدغر أن فلسفة نيتشه بكاملها تدور حول فكرة العود الأبدي التي تؤكد أنه كان فيلسوفا وجوديا، فيلسوفا مهتما بما يدوم ويعود بإستمرار فيما وراء الأحداث اليومية والعرضية المحدودة زمنيا، وبالتالي فنيتشه كان هايدغريا قبل الأوان. العجيب في الأمر أن الفلاسفة الفرنسيين الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية، على رأسهم داريدا ودولوز، أخدوا هذه القراءة على محمل الجد.

لا أجد سببا مقنعا وراء إنتشار الأسطورة التي مفادها أن هايدغر هو أعظم فيلسوف في القرن العشرين، داخل الجامعات الفرنسية. الأمر يصبح أكثر غرابة عندما نعرف أن هذه القراءات المشوهة لفلسفة نيتشه، ظهرت مباشرة بعد انتهاء الاحتلال الألماني، الامر الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أننا أمة غير حقودة.

في الواقع، نيتشه هو المفكر الاكثر عداء لهايدغر على الإطلاق : بالنسبة له، الاهم هو الزوال وليس الأبدية، الواقع يملك أهمية أكبر من الوجود والسطح هو العمق الحقيقي. أنا معجب بنيتشه لأنه استطاع بمفرده أن يحمل فوقه كتفيه الضعيفين 20 قرنا من الفلسفة المثالية، وأن يقلبها رأسا على عقب. حتى الآن، لا أفهم كيف إستطاع ان يقوم بهذا الامر الجلل، وأن يقود هذه المعركة حتى النهاية رغم حالته الصحية الهشة ومساره المضطرب. لكنه إنجاز نيتشه."

▫️كليمون روسي (ترجمة يوسف اسحيردة)
قبل ردح من الزّمان، سَمّيتُ اللّغة، دونما احتياط كاف، منزل الكينونة. وإذا كان الإنسان من خلال لغته يقيم ضمن مطلب الكينونة، فإنّنا،نحن الأوروبيّون، نقيم على الأرجح، في منزل مغاير تماما لذاك الذي يقطنه إنسان شرق آسيا.[…] بذلك فإنّ حواراً من منزل إلى منزل إنّما يكاد يظلّ مستحيلا.

- مارتن هيدغر
ترجمة: فتحي المسكيني
M. Heidegger, Unterwegs zur Sprache (Pfullingen,, 1971).
2025/06/30 12:57:56
Back to Top
HTML Embed Code: