إشكاليّة العمر في ربيع العشرينيات: أنَّك تحمل أعباء الدنيا كجبل فوق كاهل لم يعتَد الثقل بعد، فلا أنت طفل تلوذ بالدّموع في حضن والديك، ولا أنت ناضج بِما يكفي للخوض في ظُلمة الطَّريق بخبرتك. إنها مفارقة المرحلة التي تُحاصرك فيها الأسئلة من كلِّ جانب، بينما تشدّك الحيرة إلى وسَطِ المعركة بلا دِرع ولا سلاح. تشعرُ بأنَّك وحدك في وسط العاصفة، تُصارع لتُثبتَ أنك قادر على الوقوف مرارًا وتكرارًا، رغمَ أنَّ خطواتك الأولى ما زالتْ تترنَّح.
كثيرون يبحثون في ذاكرتهم عن صورهم الأولى، تلك التي حملتْ قلوبًا أخفَّ حملًا وأفكارًا أقل تعقيدًا، رغم ما شابها من جهلٍ بالحياة وقلّة خبرة بمتاهاتها. لقد كانت أيامًا بسيطة تتدفّق براءة، تُزيّنها ابتسامة صادقة لم تلوّثها شوائب الزمن. يُدرك المرء لاحقًا أنَّ السكينة التي افتقدها بعد ليست سوى حنين إلى ذلك الزمن الذي كان فيه القلب نقيًّا، والروح حرة طليقة من أثقال الوجود. ففي النهاية، لا يُعادل ثمن الرضا والسلام الداخلي أيّ كنز مهما عظُم.
ستدرك مع تراكم الأيام أن كثيرًا من جراحك لم تكن سوى وهم نسجته مخيلتك، وألمٌ افترضته قبل أن يلمسك، كمن يبني سدودًا في فراغ لا ماء فيه. لقد ظننت أن التعمق في تشريح الأحزان سيُريك جذرها، فإذا بك تحوّل رملًا طيّعًا إلى صخور تُثقل خطاك. الحقيقة التي ستُضيء لك لاحقًا هي أن الحياة لا تُحملق في تفاصيلها كشَعر تحت المجهر، بل تُعاش كنسيم يمرُّ دون أن يُسأل عن اتجاهه أو سرعته.
لا أحد يدرك حقيقة أن تواجه المحن بصمت عميق، أن ترسم ابتسامةً على شفتيك في لحظات تدفعك إلى الانكسار، لا أحد يعي معنى أن يشتعل قلبك بالأسى بينما تبدو للعالم كأنك في قمة الاتزان. إنها معاناة خفية، كأنك تحمل نارًا تتأجج في صدرك، ولا يسمع لهيبها سواك. تمر الأيام وأنت تبتلع آلامك، تتنفس بهدوء، وتتصرف وكأن كل شيء على ما يرام، بينما في داخلك عاصفة لا تهدأ.
لا أحد يفهم كم من المرات تغمض عينيك لتمنع دموعك من الانهمار، أو كم من المرات تتنهد في سرية لتخفف من ثقل الأحزان. أنت تعيش في عالمين: عالم ظاهري تظهر فيه القوة والثبات، وعالم باطني تغلي فيه المشاعر وتتصارع. إنها معركة صامتة، لا يعرفها إلا من خاضها، ولا يقدّرها إلا من عاشها. في النهاية، تبقى تلك الابتسامة التي ترسمها على وجهك لغزًا يحير من حولك، بينما أنت تعلم أنها مجرد قناع تختبئ خلفه، تحاول أن تحمي نفسك من نظرات الشفقة أو أسئلة الفضول. إنها قوة من نوع آخر، قوة تفرضها الظروف، وتصبح معها الصمت لغة، والابتسام درعًا، والثبات وهمًا تخفي وراءه كل ما لا تستطيع قوله.
النسيان فنٌّ يُعلّم النفس أن تتقبل الحقيقة كما هي، دون أن تُثقلها بأوهام الماضي أو توقعات لم تتحقق. إنه تمرين لتهذيب الخيال، كي لا يطغى على واقع الحياة ويُبعدنا عن إدراكها بوضوح. فمن خلال النسيان نتعلم أن نعيش اللحظة، ونحرر أنفسنا من قيود الذكريات التي لا تُفيد. هو ليس هروبًا، بل مواجهة شُجاعة للحاضر بقلب خفيف وعقلٍ صافٍ.
من أعظم النعم التي يُمنحها الإنسان هي القدرة على البدء من نقطة الصفر، مهما بلغت الصعوبات أو تعقّدت الظروف. أن يُمنح دائمًا قوة جديدة لنسير نحو الأمل، ونصنع من الخسائر فرصًا للتجدد. هذه القدرة هي هبةٌ إلهية تُذكرنا بأن النهايات ليست سوى بداياتٍ أخرى، وأن الحياة لا تنتهي عند الفشل، بل تبدأ من حيث نتعلم.
يتعلم المرء من تجاربه القاسية، عبر المواقف التي أودعها وجدانه واطمأن إليها. فكم من مرة خُدع فيها الإنسان بأشياء آمن بها، فإذا بها تتحول إلى جراح غائرة في أعماقه. إن الدروس الأليمة غالبًا ما تأتي من حيث لا يحتسب، من بين أحضان الثقة والانخداع. فالحياة تُعلّمنا أن ما نستودعه القلوب قد يصبح مصدر ألمنا، حين يتحول الأماني إلى خيبات. فنكتشف أن بعض الدموع هي ثمنٌ لسذاجة الإيمان بكل ما يلمع.
"كل عام وأنتم في ظلّ الأمل." للمتعبين الذين ضلّوا دروبهم، للذين تاهوا في زحام الدنيا ولم يجدوا مرفأً يلوذون به. للغرباء على أرصفة المدن، وللعابرين بين الحدود بحثًا عن ملاذٍ آمن. للأيتام الذين فقدوا سندهم، وللجرحى الذين يحملون أوجاع الحروب في صدورهم. للمقهورين في المنافي، وللمهمّشين في زوايا النسيان. لكل من يحمل جراحًا لا تُرى، ولكل من ينتظر بصيص نورٍ في ظلمة هذا العالم... عيدٌ يُلملم شتاتكم، ويُعيد لقلوبكم شيئًا من الدفء.
عيدكم عيدٌ يليق بصدوركم الواسعة، للصامدين في وجه العواصف، الذين يحملون أحلامًا أثقل من الجبال، للباحثين عن لقمة العيش في أرضٍ لا ترحم، وللحالمين بغدٍ أفضل وهم يعبرون بحار المعاناة، للأمهات التي تبكي في صمت، وللأطفال التي تبحث عن معنى للفرح في عيون الغرباء. لكل من كتبته الحياة في سجلّ المنكوبين، ولكل روحٍ لا تزال تؤمن بالخير رغم كل الظلام. عيدكم عيدٌ يُجبر كسركم، ويرسل إليكم حنين الأوطان في رياح العيد.
النُضج الحقيقي ليس أن تزداد قسوة، بل أن ترقى بقلبك فوق السَفاسِف. أن تُحب بعمق، لكن دون ذُلّ. أن تُعطي بلا حدود، لكن بكرامة. أن تَغفرُ بسهولةٍ، لكن لا تنسى، ستُدرك يومًا أنَّ كل من أَبهر قلبك ذات مرة، لم يكن سوى مرآة عكستْ أشواق روحك، فلا تبحث عن بطل في سماء الآخرين، بل اصنع من ألمك جناحين وحلّق، فالحياة قصيرة جدًا لأن تعيشها ظلًا لغيرك!
أقسى ما يجرح النفس في لحظات الألم، أن تُجبر على مواصلة روتين الحياة وكأنّ شيئًا لم يكن، بينما يشتدّ في داخلك شوقٌ إلى الانقطاع عن كلّ شيء. أن تبتسم للعالم بوجه يخفي دموعًا لا تُرى، وتُنهي أعمالك بيد ترتجف من الصمت. تُصارع ذاتك كلّ صباح كي تنهض، بينما يرنو قلبك إلى السكوت الأبدي. كم هو مُرّ أن تحيا جسدًا حاضرًا وروحًا غائبة في دهاليز الحزن.
قراءتُ عبارة تقول: "ليس هناك أبشع من الحوار مع غبي يحمل شهادة الدكتوراه." أتفق معها جدًا، فما أتعس الجهل المُزيّن بزخارف العلم!، حين يُخفي الغرور نقص الفهم تحت عناوين برّاقة. فليس كل من حمل شهادة عالية امتلك حكمة تُؤهله للحوار البنّاء. بل ربما كان الجاهل الواعي بجهله أهون شرًا من متعالم يملأ الدنيا ضجيجًا بلا فائدة. الحكمة الحقيقية تُقاس بتواضع العقل ورحابة الفكر، لا بأوراقٍ تُعلَّق على الجدران.
أصبحتُ أشعر كأنني غريب في عالم كان لي ذات يوم. المشاعر التي كانت تملأ صدري كالنهر الجاري، صارت قطرةً تتلاشى في الرمال. حتى الأحلام التي كانت تُقلق نومي، لم تعد تأتي لزيارتي. لم أعد أخافُ من الألم، بل من هذا السكون الذي يأكلُ روحي ببطء. كأنني أسير في حلمٍ طويل، أرى كل شيء من وراء زجاج سميك. أسمعُ الضحكات ولا أضحك، أرى الدموع ولا أبكي. أحيانًا أتمنى لو يعود القلق ليحرق قلبي من جديد، فالشعور بالخوف خيرٌ من لا شيء.
تسألني كيف يحلو لك الوداع؟ فأجيبُك: حين يكون البُعدُ أبقى من اللقاء، وحين يصير الفراق أغلى من الوصال. أرأيتَ كيف يُعلّمنا الربيع فنَ الانفصال حين يُساقطُ أوراقه الذهبية كي تخلق من تلقاء نفسها ربيعًا جديدًا؟ وكيف يُلقي البحر بأمواجه على الشاطئ كي تعود إليه أنقى مما كانت؟ إنّ في التخلي حكمة إلهية لا يدركها إلا من ألقى بِقلبه في اليمِّ فعاد إليه مكلّلاً باللآلئ.
في أعماق النفس بِحارٌ لا يُعبّر عنها بالكلمات، وأشواقٌ تئِنُّ في الصمت أبلغ من كلِّ خطاب. كم حرف كتبتهُ هنا فخان المعنى، وكم صمت وصل ما لا يصلهُ نثر ولا شعر. إنّ أعظم العواطف تغرق في فضاء الصمت، وأعمق الأسرار تموتُ إذا نُطق بها. فأحيانًا الحب والحزن والألم، جُمّلتُهم في الصمت تبقى، وإذا خرجت إلى العبارة مات جمالها.
Forwarded from اقتباسات انكليزية مترجمة
- لسنا بموتى، لكننا لسنا أحياء أيضًا🤍 .
- We're not dead, but we're not alive either.
- We're not dead, but we're not alive either.
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM