••
معلومة غير مهمة
شكر الله لكم حسن ظنّكم برسائلكم، لكن دعونا نضع النقاط على الحروف: لستُ معبّر رؤى، ولا تلميذ ابن سيرين، تعبير الرؤى شأنٌ جليل، يُسأل فيه أهل الاختصاص الصادقين، لا أصحاب الأقلام التي تتعثر أحيانًا في تفسير الواقع أصلًا.
••
معلومة غير مهمة
شكر الله لكم حسن ظنّكم برسائلكم، لكن دعونا نضع النقاط على الحروف: لستُ معبّر رؤى، ولا تلميذ ابن سيرين، تعبير الرؤى شأنٌ جليل، يُسأل فيه أهل الاختصاص الصادقين، لا أصحاب الأقلام التي تتعثر أحيانًا في تفسير الواقع أصلًا.
••
••
تم حذف الرسالة.
في أدبيّات التواصل في هذا العصر الرقمي، يختبئ خلقٌ دقيق غاب عن وعي كثيرين: أدب التغافل عن الرسائل المحذوفة، فمن الناس من يكتب، ثم يستدرك، فيحذف؛ لا هروبًا ولا مواربة، بل لأن بصيرته نبّهته أن ما كُتب لا يليق أن يُرى، أو أن توقيته قد فات، أو أن العبارة خانت المعنى الذي أراد، وربما كان ذوقاً خفيّ، أو تردّد نبيل.
فلا يكن حرصك على ما حُذف أشد من حرص كاتبه على ألا يُرى، ولا تلبس نظارة المحقق وأنت تقف على أطلال رسالة لم يشأ الله أن تُقرأ، فلا نُفسد جمال الحذف بفضول السؤال.
••
تم حذف الرسالة.
في أدبيّات التواصل في هذا العصر الرقمي، يختبئ خلقٌ دقيق غاب عن وعي كثيرين: أدب التغافل عن الرسائل المحذوفة، فمن الناس من يكتب، ثم يستدرك، فيحذف؛ لا هروبًا ولا مواربة، بل لأن بصيرته نبّهته أن ما كُتب لا يليق أن يُرى، أو أن توقيته قد فات، أو أن العبارة خانت المعنى الذي أراد، وربما كان ذوقاً خفيّ، أو تردّد نبيل.
فلا يكن حرصك على ما حُذف أشد من حرص كاتبه على ألا يُرى، ولا تلبس نظارة المحقق وأنت تقف على أطلال رسالة لم يشأ الله أن تُقرأ، فلا نُفسد جمال الحذف بفضول السؤال.
••
••
وهل القلمُ – يا صاحبي – إلا لسان القلب، ورسولُ الضمير، وترجمانُ السرّ، وموثقُ اللحظة، وسادنُ الفكر، هو الشاهد إذا أنكر الناسُ ما في النفس، وهو الحافظ إذا خانت الذاكرة، وهو الطبيب إذا اعتلّ الوجدان، وهو العادلُ إذا طغت الخصومة واستطال النزاع.
يُمسك الوهمَ فيطوّقه، ويصطاد الفكرةَ من هُوَّتها فيصعّدها، ويغمس طرفه في مداد الحزن فيفيض بالحكمة، ثم ينقله إلى بهجة إن شاء بجميل قدر الله، هو الصمتُ الناطق، واللسانُ الحييّ، ألا تراهُ يَجمع شتات الهاجس، ويَرقَعُ ما تمزق من أحوال النفس، ويُطوّفُ بك في أرضٍ لا تَبلغها القدم، ولا تراها العين، فإذا هو يُسائل عنك مَن هجرك، ويُعاتب عنك من ظلمك، ويُبشّر من أحبك.
تراه يسير على بياض الورق كأنّه ساعي نور، يوقظ المعاني إذا نامت، ويستفزّ الأرواح إذا كَلَّت، فسلامٌ على القلم، ما دام فيه شيءٌ من فيض الروح، وصدق البوح.
••
وهل القلمُ – يا صاحبي – إلا لسان القلب، ورسولُ الضمير، وترجمانُ السرّ، وموثقُ اللحظة، وسادنُ الفكر، هو الشاهد إذا أنكر الناسُ ما في النفس، وهو الحافظ إذا خانت الذاكرة، وهو الطبيب إذا اعتلّ الوجدان، وهو العادلُ إذا طغت الخصومة واستطال النزاع.
يُمسك الوهمَ فيطوّقه، ويصطاد الفكرةَ من هُوَّتها فيصعّدها، ويغمس طرفه في مداد الحزن فيفيض بالحكمة، ثم ينقله إلى بهجة إن شاء بجميل قدر الله، هو الصمتُ الناطق، واللسانُ الحييّ، ألا تراهُ يَجمع شتات الهاجس، ويَرقَعُ ما تمزق من أحوال النفس، ويُطوّفُ بك في أرضٍ لا تَبلغها القدم، ولا تراها العين، فإذا هو يُسائل عنك مَن هجرك، ويُعاتب عنك من ظلمك، ويُبشّر من أحبك.
تراه يسير على بياض الورق كأنّه ساعي نور، يوقظ المعاني إذا نامت، ويستفزّ الأرواح إذا كَلَّت، فسلامٌ على القلم، ما دام فيه شيءٌ من فيض الروح، وصدق البوح.
••
كثيرةٌ هي الوسائل التي تُجمّل الخارج، ولكن القرآن وحده هو الذي يُجمّل الداخل.
••
•| الاغتراب عن القرآن |•
حين تتأمل السماء في هدأتها المهيبة، وتقرأ في سكونها تلك الوصية الكبرى: (كتابٌ أُنزِل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه)، تدرك أن أعظم هدية أُهديت إلى الأرض، لم تكن ثروة ولا حضارة، بل وحيٌ منزّل، ذاك النور العتيق الذي شقَّ من السماء طريقه، لا ليزيّن رفوف المكتبات، بل ليُقيم العدل في الأرض، ويُنعش الأرواح، ويجعل للإنسان سبيلاً حين تتكاثر عليه السُبُل.
و نحن في زمنٍ تضاءلت فيه المسافات وتكثفت فيه المشاريع، أصبحنا نعيش مفارقةً مذهلة: تعلو رايات البرامج القرآنية، وتغيب حرارة القرآن نفسه عن القلوب، لا تكاد تلتفت إلا وتجد مؤتمرًا عن “تمكين القيم”، أو مبادرةً تحمل اسم “القرآن”، أو برنامجًا للتربية على هدي الوحي، ومع ذلك، تسأل نفسك سرّ هذا الجفاف الباطني، وهذه القلوب التي تمضي في الإنجاز دون أن تُروى.
ولم يكن القرآن يومًا مشروعًا يُضمّ إلى غيره، ولا برنامجًا يُدمج ضمن غيره، بل كان هو المنبع والبوصلة والمصب، وكل مشروعٍ لا يجعل من القرآن مقصده، لا مجرد عنوانه، فإنه يُنذر بانفصالٍ خطير بين الشعار والجوهر، بين الهيكل والمضمون، بين ما يُقال وما يُعاش.
وإن من أخصّ ابتلاءات طلاب العلم وأهل التأثير اليوم: أن يغترب القرآن عن قلوبهم تحت لافتة الانشغال بخدمته، فيغيب صوت الآية التي كانت تهزّهم، وتتبدّد تلك اللحظة التي كانت السورة تقلبهم من حال إلى حال، ويستبدل كل ذلك بـ”عناوين عرض”، و”محتوى تقديمي”، و”شريحة افتتاحية جذابة، كيف تزرع فيهم عظمة الوحي، وأنت نفسك فقدت الدهشة الأولى؟
الاغتراب عن القرآن لا يبدأ بهجره، بل يبدأ حين يصبح وردًا بلا حضور، وتلاوة بلا خشية، وعلمًا بلا مهابة، وقد صار القرآن عن البعض “مرجعًا للاستشهاد” لا “نبضًا للتشكّل”، وصار الورِد القرآني يُقرأ وكأنه مهمة في دفتر الإنجاز، لا جلسة تزكية في معراج العارفين، والمعضلة حين يتحول إلى عادة ذهنية لا أثر لها في باطن النفس، أو إلى أداة خطابية تُستخدم في التأثير لا في التزكية، وهنا، تنشأ فجوة مرعبة بين “أهل القرآن”، و”أثر القرآن”.
الإشكال أن تنشغل بتمكين الدين في الأرض، وتنسى تمكين الإيمان في القلب، والحق أن هذا النمط من الاغتراب لا يُدركه الإنسان فجأة، بل يتسلل على هيئة انشغالات مبررة، وشعارات مقبولة، حتى إذا به يجد نفسه فاترًا أمام المصحف، جافًا في دعائه، غريبًا في صلاته، باردًا عند آيات الوعد، وساكنًا عند آيات الوعيد.
والقرآن – وهو دستور المشروع الإيماني الأول – لا يرضى أن يكون بندًا على هامش المهام، ولا مرجعًا مؤقتًا عند الحاجة، بل هو أصل كل تحول، ومنطلق كل بناء، فكيف يجوز لمؤمن أن يترقى في سلّم الدعوة، وهو يتراجع في تأمل القرآن؟ كيف يستقيم حال من يهندس برامجه على قاعدة التأثير، وقد هدم في داخله أركان التلقي والخشوع والأنس بكلام الله؟
والانشغال بالمشروعات الكبرى لا يعفي من التبعة، بل يثقل الكاهل أكثر، فمن ارتقى منصة التأثير، وجب أن يكون أقرب الناس إلى المصحف، لا في التلاوة الجهرية فقط، بل في المناجاة، في الحياء، في الرهبة، في التبتل، وهذا لا يتحقق إلا حين يتخفّف العبد من ضجيج الإنجاز، ويعود إلى لحظة السجود الأولى، حيث لم يكن له من الدنيا إلا مصحفه ودمعته، ولذلك كان السلف أشد الناس خلوةً بالقرآن كلما ازدادوا تأثيرًا في الناس؛ لأنهم يعلمون أن الصوت الذي لا يُروى من النبع سيفقد عذوبته ولو صدح في أكبر جمع.
ومن لم يجعل له وردًا ثابتًا يحفظه في زحمة مشاريعه، فسيجد أن نفسه قد ذبلت، ومشاريعه قد تكلست، وخطابه – وإن كان بليغًا – فقد روح النور، وفي هذا الزمن، يُختبر صدق القلوب لا بجزالة الأثر، بل بثباتها على باب الوحي، فمن حافظ على لحظته مع المصحف، وسط الندوات والتخطيط والتأثير، فقد ثبّت قدمه في الصراط، ومن انشغل بكل شيء إلا القرآن، خيف عليه أن يكون ممن: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ).
••
•| الاغتراب عن القرآن |•
حين تتأمل السماء في هدأتها المهيبة، وتقرأ في سكونها تلك الوصية الكبرى: (كتابٌ أُنزِل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه)، تدرك أن أعظم هدية أُهديت إلى الأرض، لم تكن ثروة ولا حضارة، بل وحيٌ منزّل، ذاك النور العتيق الذي شقَّ من السماء طريقه، لا ليزيّن رفوف المكتبات، بل ليُقيم العدل في الأرض، ويُنعش الأرواح، ويجعل للإنسان سبيلاً حين تتكاثر عليه السُبُل.
و نحن في زمنٍ تضاءلت فيه المسافات وتكثفت فيه المشاريع، أصبحنا نعيش مفارقةً مذهلة: تعلو رايات البرامج القرآنية، وتغيب حرارة القرآن نفسه عن القلوب، لا تكاد تلتفت إلا وتجد مؤتمرًا عن “تمكين القيم”، أو مبادرةً تحمل اسم “القرآن”، أو برنامجًا للتربية على هدي الوحي، ومع ذلك، تسأل نفسك سرّ هذا الجفاف الباطني، وهذه القلوب التي تمضي في الإنجاز دون أن تُروى.
ولم يكن القرآن يومًا مشروعًا يُضمّ إلى غيره، ولا برنامجًا يُدمج ضمن غيره، بل كان هو المنبع والبوصلة والمصب، وكل مشروعٍ لا يجعل من القرآن مقصده، لا مجرد عنوانه، فإنه يُنذر بانفصالٍ خطير بين الشعار والجوهر، بين الهيكل والمضمون، بين ما يُقال وما يُعاش.
وإن من أخصّ ابتلاءات طلاب العلم وأهل التأثير اليوم: أن يغترب القرآن عن قلوبهم تحت لافتة الانشغال بخدمته، فيغيب صوت الآية التي كانت تهزّهم، وتتبدّد تلك اللحظة التي كانت السورة تقلبهم من حال إلى حال، ويستبدل كل ذلك بـ”عناوين عرض”، و”محتوى تقديمي”، و”شريحة افتتاحية جذابة، كيف تزرع فيهم عظمة الوحي، وأنت نفسك فقدت الدهشة الأولى؟
الاغتراب عن القرآن لا يبدأ بهجره، بل يبدأ حين يصبح وردًا بلا حضور، وتلاوة بلا خشية، وعلمًا بلا مهابة، وقد صار القرآن عن البعض “مرجعًا للاستشهاد” لا “نبضًا للتشكّل”، وصار الورِد القرآني يُقرأ وكأنه مهمة في دفتر الإنجاز، لا جلسة تزكية في معراج العارفين، والمعضلة حين يتحول إلى عادة ذهنية لا أثر لها في باطن النفس، أو إلى أداة خطابية تُستخدم في التأثير لا في التزكية، وهنا، تنشأ فجوة مرعبة بين “أهل القرآن”، و”أثر القرآن”.
الإشكال أن تنشغل بتمكين الدين في الأرض، وتنسى تمكين الإيمان في القلب، والحق أن هذا النمط من الاغتراب لا يُدركه الإنسان فجأة، بل يتسلل على هيئة انشغالات مبررة، وشعارات مقبولة، حتى إذا به يجد نفسه فاترًا أمام المصحف، جافًا في دعائه، غريبًا في صلاته، باردًا عند آيات الوعد، وساكنًا عند آيات الوعيد.
والقرآن – وهو دستور المشروع الإيماني الأول – لا يرضى أن يكون بندًا على هامش المهام، ولا مرجعًا مؤقتًا عند الحاجة، بل هو أصل كل تحول، ومنطلق كل بناء، فكيف يجوز لمؤمن أن يترقى في سلّم الدعوة، وهو يتراجع في تأمل القرآن؟ كيف يستقيم حال من يهندس برامجه على قاعدة التأثير، وقد هدم في داخله أركان التلقي والخشوع والأنس بكلام الله؟
والانشغال بالمشروعات الكبرى لا يعفي من التبعة، بل يثقل الكاهل أكثر، فمن ارتقى منصة التأثير، وجب أن يكون أقرب الناس إلى المصحف، لا في التلاوة الجهرية فقط، بل في المناجاة، في الحياء، في الرهبة، في التبتل، وهذا لا يتحقق إلا حين يتخفّف العبد من ضجيج الإنجاز، ويعود إلى لحظة السجود الأولى، حيث لم يكن له من الدنيا إلا مصحفه ودمعته، ولذلك كان السلف أشد الناس خلوةً بالقرآن كلما ازدادوا تأثيرًا في الناس؛ لأنهم يعلمون أن الصوت الذي لا يُروى من النبع سيفقد عذوبته ولو صدح في أكبر جمع.
ومن لم يجعل له وردًا ثابتًا يحفظه في زحمة مشاريعه، فسيجد أن نفسه قد ذبلت، ومشاريعه قد تكلست، وخطابه – وإن كان بليغًا – فقد روح النور، وفي هذا الزمن، يُختبر صدق القلوب لا بجزالة الأثر، بل بثباتها على باب الوحي، فمن حافظ على لحظته مع المصحف، وسط الندوات والتخطيط والتأثير، فقد ثبّت قدمه في الصراط، ومن انشغل بكل شيء إلا القرآن، خيف عليه أن يكون ممن: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ).
••
••
ما أكثر من بكى على غزة، ثم عاد إلى نومه عميقًا، وإلى ضحكته الصاخبة، وإلى يومه العادي كأن لم يسمع أنينًا، ولم يرَ دمًا، أي قلوبٍ هذه التي لا تلبث أن تذرف حتى تجفّ؟
من أعجب ما في هذا الزمن، أن صور القصف باتت تُستهلك كما تُستهلك الإعلانات، تُمرر بسرعة، ويُنسى وجعها بخفة، غزة تُضرب، البيوت تُسحق، الأشلاء تتناثر، لكنّ الشاشة تعود بعد دقائق لتعرض عروض السفر، وشهوة الحياة، لقد وقع انفصال رهيب بين حرارة الحدث وحرارة التفاعل معه، بين عمق الجراح، وسطحية المشاعر.
ولعل أخطر ما في هذا المشهد ليس عجز الجسد، بل تحلل القلب من فريضة النصرة، وتبخّر الشعور بالواجب الشرعي، حتى صار البعض يكتب تغريدة، أو يرفع دعاء مرتين، ثم يستقيل من القضية، كأن دوره قد انتهى هنا.
لكن القصف لا ينتظر مواسم وعيك، ولا يهدأ حين تنام، العدو لا يقرأ جدولك الأسبوعي، ولا يحترم فتورك العاطفي، هنا تتجلّى الفريضة المنسية: فريضة ثبات الشعور الإيماني تجاه قضايا الأمة، وعدم السماح للكسل النفسي والانشغال الحياتي أن يُطفئ حرارة النصرة فيك.
فالدعاء المستمر، والبذل، والتذكير، والجهر بالبشرى، والتصبير، ليست عواطف طارئة، بل عبادات ممتدة، تُبقي الوعي يقظًا، والإيمان مشتعلاً، وتدفع عن قلوب المؤمنين خواطر الوهن والخذلان.
واعلم أن من رحمة الله بالأمة، أن جعل للكلمة المخلصة وزنًا، وللدمعة الصادقة أثرًا، وللدعاء في جوف الليل سهمًا نافذًا، فلا تستخف بمقامك في النصرة.
••
ما أكثر من بكى على غزة، ثم عاد إلى نومه عميقًا، وإلى ضحكته الصاخبة، وإلى يومه العادي كأن لم يسمع أنينًا، ولم يرَ دمًا، أي قلوبٍ هذه التي لا تلبث أن تذرف حتى تجفّ؟
من أعجب ما في هذا الزمن، أن صور القصف باتت تُستهلك كما تُستهلك الإعلانات، تُمرر بسرعة، ويُنسى وجعها بخفة، غزة تُضرب، البيوت تُسحق، الأشلاء تتناثر، لكنّ الشاشة تعود بعد دقائق لتعرض عروض السفر، وشهوة الحياة، لقد وقع انفصال رهيب بين حرارة الحدث وحرارة التفاعل معه، بين عمق الجراح، وسطحية المشاعر.
ولعل أخطر ما في هذا المشهد ليس عجز الجسد، بل تحلل القلب من فريضة النصرة، وتبخّر الشعور بالواجب الشرعي، حتى صار البعض يكتب تغريدة، أو يرفع دعاء مرتين، ثم يستقيل من القضية، كأن دوره قد انتهى هنا.
لكن القصف لا ينتظر مواسم وعيك، ولا يهدأ حين تنام، العدو لا يقرأ جدولك الأسبوعي، ولا يحترم فتورك العاطفي، هنا تتجلّى الفريضة المنسية: فريضة ثبات الشعور الإيماني تجاه قضايا الأمة، وعدم السماح للكسل النفسي والانشغال الحياتي أن يُطفئ حرارة النصرة فيك.
فالدعاء المستمر، والبذل، والتذكير، والجهر بالبشرى، والتصبير، ليست عواطف طارئة، بل عبادات ممتدة، تُبقي الوعي يقظًا، والإيمان مشتعلاً، وتدفع عن قلوب المؤمنين خواطر الوهن والخذلان.
واعلم أن من رحمة الله بالأمة، أن جعل للكلمة المخلصة وزنًا، وللدمعة الصادقة أثرًا، وللدعاء في جوف الليل سهمًا نافذًا، فلا تستخف بمقامك في النصرة.
••
••
العناية بالقرآن ليست مرحلةً في الطريق، بل هي الطريق ذاته؛ أن يكون مراد الله هو الغاية، ومحبوباته هي المعيار، وأوامره ونواهيه هي السياج الذي تُضبط به حركة النفس وتُهذَّب به شهواتها.
وكلما تعمّق العبد في حقائق القرآن، انتقل من حظّ اللفظ إلى مرتبة المقصود، ومن ظاهر التلاوة إلى وعي التلقي؛ فيرى أن علوّ كلمة الله لا يبدأ من منابر الخطابة، بل من انكسار داخلي يجعل الوحي سلطانًا على الهوى، وموجّهًا لمجاري الإرادة والاختيار.
وأعظم ما يبلّغك مقام “أن تكون كلمة الله هي العليا”، أن تتخلّى عن سيادة رأيك عند مراد الله، وأن تستبدل شهوة النفس بخشية الآخرة، ومن تأمل تاريخ التمكين، علم أن كل عزٍّ رُفع فيه لواء الإسلام، إنما ارتفع حين كانت كلمة الله هي العليا في القلب قبل أن تُرفع في الساحات، وفي السلوك قبل أن تُرفع في الخُطب، فالعناية بالقرآن هي الخطوة الأولى في مسار العلوّ، وهي الصيغة التي يصعد بها العبد من حدود العادة إلى آفاق الخلود.
••
العناية بالقرآن ليست مرحلةً في الطريق، بل هي الطريق ذاته؛ أن يكون مراد الله هو الغاية، ومحبوباته هي المعيار، وأوامره ونواهيه هي السياج الذي تُضبط به حركة النفس وتُهذَّب به شهواتها.
وكلما تعمّق العبد في حقائق القرآن، انتقل من حظّ اللفظ إلى مرتبة المقصود، ومن ظاهر التلاوة إلى وعي التلقي؛ فيرى أن علوّ كلمة الله لا يبدأ من منابر الخطابة، بل من انكسار داخلي يجعل الوحي سلطانًا على الهوى، وموجّهًا لمجاري الإرادة والاختيار.
وأعظم ما يبلّغك مقام “أن تكون كلمة الله هي العليا”، أن تتخلّى عن سيادة رأيك عند مراد الله، وأن تستبدل شهوة النفس بخشية الآخرة، ومن تأمل تاريخ التمكين، علم أن كل عزٍّ رُفع فيه لواء الإسلام، إنما ارتفع حين كانت كلمة الله هي العليا في القلب قبل أن تُرفع في الساحات، وفي السلوك قبل أن تُرفع في الخُطب، فالعناية بالقرآن هي الخطوة الأولى في مسار العلوّ، وهي الصيغة التي يصعد بها العبد من حدود العادة إلى آفاق الخلود.
••
••
عزيزي كونان، نصيحة لن تؤثّر في ذكائك.
تتبعك لصور العرض – البروفايل – لا تدلّ بدلالةٍ قاطعة على قدرتك التنبؤية في تحليل الشخصية، ومعرفة من تحادثه، صاحبنا المحقق يتأمل الصورة ثم يقول: احمرارُ الغروب يدلّ على حزن، والزهرُ على رقة، والهرّة على رحمة، والطيرُ على آمال منتظرة، والبيداء على وعورة، والبحارُ على عمقٍ وتعقّل، والسماءُ على نقاوة وغربة، وكل ما يعلو من جبلٍ أو منارة يدلّ على همّةٍ وأنفة.
يا صاحبي، لا يضرّك إن قلتُ لك إن التحليل – مهما بلغ ذكاؤك – ليس من الفراسة في شيء، بل هو أقرب إلى التكلّف النفسي منه إلى البصيرة، أعرف أحدهم يضع صورةً لشارع الشانزليزيه في باريس، وهو لم يغادر قريته منذ أن خُلق، وليس ببعيد عنّا من يضع مكتبة الكونغرس الأميركية، وآخر كتاب تصفحه: رياضيات المرحلة الثانوية.
وللفتيات: طرف أناملك الممسكة بالورد، وتناولك للكتاب، لا يُفهم منه جمالك الخفي بقدر ما يُظهر حرصًا على الظهور تحت عباءة الحشمة الافتراضية. فاتقين الله في صوركن.
لن أحجّر واسعًا، لكن الواسع يحتاج إلى تهذيب. لنا حرية الاختيار بما يتناسب مع الآداب العامة ولا يخالف رسوم الشريعة، ولا يخفى تباين الناس في اهتماماتهم ومذاقاتهم، فاختر ما تظنه يليق بك، والمباح هو بهو الشريعة الأرحب، ودع عنك فرط التحليل يا كونان.
••
عزيزي كونان، نصيحة لن تؤثّر في ذكائك.
تتبعك لصور العرض – البروفايل – لا تدلّ بدلالةٍ قاطعة على قدرتك التنبؤية في تحليل الشخصية، ومعرفة من تحادثه، صاحبنا المحقق يتأمل الصورة ثم يقول: احمرارُ الغروب يدلّ على حزن، والزهرُ على رقة، والهرّة على رحمة، والطيرُ على آمال منتظرة، والبيداء على وعورة، والبحارُ على عمقٍ وتعقّل، والسماءُ على نقاوة وغربة، وكل ما يعلو من جبلٍ أو منارة يدلّ على همّةٍ وأنفة.
يا صاحبي، لا يضرّك إن قلتُ لك إن التحليل – مهما بلغ ذكاؤك – ليس من الفراسة في شيء، بل هو أقرب إلى التكلّف النفسي منه إلى البصيرة، أعرف أحدهم يضع صورةً لشارع الشانزليزيه في باريس، وهو لم يغادر قريته منذ أن خُلق، وليس ببعيد عنّا من يضع مكتبة الكونغرس الأميركية، وآخر كتاب تصفحه: رياضيات المرحلة الثانوية.
وللفتيات: طرف أناملك الممسكة بالورد، وتناولك للكتاب، لا يُفهم منه جمالك الخفي بقدر ما يُظهر حرصًا على الظهور تحت عباءة الحشمة الافتراضية. فاتقين الله في صوركن.
لن أحجّر واسعًا، لكن الواسع يحتاج إلى تهذيب. لنا حرية الاختيار بما يتناسب مع الآداب العامة ولا يخالف رسوم الشريعة، ولا يخفى تباين الناس في اهتماماتهم ومذاقاتهم، فاختر ما تظنه يليق بك، والمباح هو بهو الشريعة الأرحب، ودع عنك فرط التحليل يا كونان.
••
••
في ساحة البلاء، لا ينكشف صدق العزائم فقط، بل تتجلى أخطر ملامح الانكسار العقدي: سوء الظن بالله، ليس الأمر عثرة في الخاطر، بل انحراف في البوصلة، يُنقل العبد من ساحة العبودية إلى هوّة الاعتراض المستتر.
وقد توعّد الله هذا الصنف بأشدّ ما يُتوعد به عبدٌ في كتابه، فقال جلّ في علاه: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]
خمس عقوبات متتالية: دائرة السوء، وغضب الله، ولعنته، ثم جهنم، ثم سوء المصير، كلّها نزلت بمن انحرف ظنّه عن عدل الله، وحكمته، ووعده الصادق، قال ابن القيم: “لم يتوعد الله أحدًا بالعقاب أعظم ممن ظنّ به ظنّ السوء.”
وغزة – في ظاهرها مأساة – لكنها في باطنها ميزان، يُوزن به يقين الأمة، وتتمايز فيه القلوب، ومن انكسر يقينه وقت الأزمة، أو تسرّب إلى قلبه الشك في حكمة الله، فقد جنى على توحيده، وإن بقي لسانه يردد الأدعية.
••
في ساحة البلاء، لا ينكشف صدق العزائم فقط، بل تتجلى أخطر ملامح الانكسار العقدي: سوء الظن بالله، ليس الأمر عثرة في الخاطر، بل انحراف في البوصلة، يُنقل العبد من ساحة العبودية إلى هوّة الاعتراض المستتر.
وقد توعّد الله هذا الصنف بأشدّ ما يُتوعد به عبدٌ في كتابه، فقال جلّ في علاه: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]
خمس عقوبات متتالية: دائرة السوء، وغضب الله، ولعنته، ثم جهنم، ثم سوء المصير، كلّها نزلت بمن انحرف ظنّه عن عدل الله، وحكمته، ووعده الصادق، قال ابن القيم: “لم يتوعد الله أحدًا بالعقاب أعظم ممن ظنّ به ظنّ السوء.”
وغزة – في ظاهرها مأساة – لكنها في باطنها ميزان، يُوزن به يقين الأمة، وتتمايز فيه القلوب، ومن انكسر يقينه وقت الأزمة، أو تسرّب إلى قلبه الشك في حكمة الله، فقد جنى على توحيده، وإن بقي لسانه يردد الأدعية.
••
••
أن يُزَجَّ بك في صباح جديد، فذلك إذنٌ رباني بالبقاء في ميدان الطاعة، وتأجيلٌ إلهيّ للحساب، كي تتدارك ما فات وتستزيد مما بقي، فليس النهار مجرّد انبلاج نور، بل هو منحةٌ رحمانيّة تُسلِّمك إلى أبواب التوبة، وتفتح لك دفتر العمل من جديد، كم من عبدٍ طُوِي صحيفته البارحة، وأنت ما زلت تُمنح الحبر والوقت والأنفاس.
••
أن يُزَجَّ بك في صباح جديد، فذلك إذنٌ رباني بالبقاء في ميدان الطاعة، وتأجيلٌ إلهيّ للحساب، كي تتدارك ما فات وتستزيد مما بقي، فليس النهار مجرّد انبلاج نور، بل هو منحةٌ رحمانيّة تُسلِّمك إلى أبواب التوبة، وتفتح لك دفتر العمل من جديد، كم من عبدٍ طُوِي صحيفته البارحة، وأنت ما زلت تُمنح الحبر والوقت والأنفاس.
••
Forwarded from قناة | فيصل بن تركي
لا قلمي كقلمه،
ولا حرفي كحرفه،
إنما هو تآلفُ الأرواح؛ ألقى على الحروف ملامحَ التشابه!
ولا حرفي كحرفه،
إنما هو تآلفُ الأرواح؛ ألقى على الحروف ملامحَ التشابه!
قناة | توّاق
لا قلمي كقلمه، ولا حرفي كحرفه، إنما هو تآلفُ الأرواح؛ ألقى على الحروف ملامحَ التشابه!
ما ظنّوه تطابقًا في الحبر، هو في الحقيقة تمازجٌ في الأرواح، وتجاورٌ في دوحة الفهم، ولو علموا أني أتشرّف بخطئهم، لما صحّحته، فإن كان انتسابي إلى الشيخ فيصل بن تركي وهمًا، فنعْم الوهم الذي يرفع قدري، وما تداخلت الأسماء إلا حين تقاربت النفوس، وإلا فـ”تواق” تلميذُ المعنى، و”فيصل” سيّده.
••
في قولك “آسف” نبضٌ من التواضع يُرمم ما صدّعته لحظات الغضب، وهي وإن خفّت حروفها، ثقلت في ميزان الأدب والمروءة، وهي الكلمة التي تُذيب جليد الخصام، وتُقرّب ما نأى، وتُسكن ما اضطرب، إذا خرجت من القلب لا من اللسان.
“آسف” ليست ضعفًا، بل قوّةُ من عرف موطن الخطأ فأقرّ به، وامتلك شجاعة الاعتذار، وكم من قلوبٍ لانت بها بعد جفاء، وصدورٍ انشرحت لها بعد انقباض، آسف” تعني توبةُ شعور، ومراجعةُ ضمير، وإقرارٌ بأن صفاء العلاقة أثمن من كِبر اللحظة، هي الكلمة التي تسقط بها حجج التبرير، وتقوم بها براهين المحبة، وتُعيد للحوار نبضه الأول: الصدق.
••
في قولك “آسف” نبضٌ من التواضع يُرمم ما صدّعته لحظات الغضب، وهي وإن خفّت حروفها، ثقلت في ميزان الأدب والمروءة، وهي الكلمة التي تُذيب جليد الخصام، وتُقرّب ما نأى، وتُسكن ما اضطرب، إذا خرجت من القلب لا من اللسان.
“آسف” ليست ضعفًا، بل قوّةُ من عرف موطن الخطأ فأقرّ به، وامتلك شجاعة الاعتذار، وكم من قلوبٍ لانت بها بعد جفاء، وصدورٍ انشرحت لها بعد انقباض، آسف” تعني توبةُ شعور، ومراجعةُ ضمير، وإقرارٌ بأن صفاء العلاقة أثمن من كِبر اللحظة، هي الكلمة التي تسقط بها حجج التبرير، وتقوم بها براهين المحبة، وتُعيد للحوار نبضه الأول: الصدق.
••
Forwarded from قناة يوسف بن عمر
يتكرر كثيرًا أن تجد شخصًا لا تعرفه، يذكر أنه انتفع بك انتفاعًا عظيمًا، أو أن يُحدّثك شخصٌ لم تبدِ له اهتمامًا فتتفاجأ بحجم انتفاعه، وربما يفوق مَن أوليته عناية خاصة.
وقد تقول كلمةً لم تلقِ لها بالًا، فينتفع بها ناسٌ كثر، أو تنشر مقطعًا عفويًا فيُكتب له انتشار، على خلاف مقطع أعددت له واستعددت، فلم يُكتب له ما كُتب لذاك.
وعند المعلمين قصص كثيرة من هذا، أنهم تفاجأوا بنبوغ شخصٍ وانتفاعه لم يكونوا يتوقعون منه ذلك الأمر.
وتفسير ذلك -والله أعلم- هو الإخلاص.
وذلك أن الاهتمام بنجاح أمر ما ربما أخل بالإخلاص؛ لأنك ناظر إلى النتيجة، مهتم بها، مشغول بصداها، أما ذاك المقطع العفوي، أو الكلمة التي لم تلقِ لها بالًا: يكون الإخلاص فيها أكبر، والعين فيها على الله أقرب، فتثمر.
أقول: فكيف بمن فقِه هذا فتقدم خطوة إلى الأمام، كيف ذلك؟
بأن يصب اهتمامه على قلبه، يعالج نيّته، ويتبرأ من حوله وقوته، ويدمن الاستعانة بالله، ويكثر اللهج، أي شيء يكون له من الله الكريم؟
وقد تقول كلمةً لم تلقِ لها بالًا، فينتفع بها ناسٌ كثر، أو تنشر مقطعًا عفويًا فيُكتب له انتشار، على خلاف مقطع أعددت له واستعددت، فلم يُكتب له ما كُتب لذاك.
وعند المعلمين قصص كثيرة من هذا، أنهم تفاجأوا بنبوغ شخصٍ وانتفاعه لم يكونوا يتوقعون منه ذلك الأمر.
وتفسير ذلك -والله أعلم- هو الإخلاص.
وذلك أن الاهتمام بنجاح أمر ما ربما أخل بالإخلاص؛ لأنك ناظر إلى النتيجة، مهتم بها، مشغول بصداها، أما ذاك المقطع العفوي، أو الكلمة التي لم تلقِ لها بالًا: يكون الإخلاص فيها أكبر، والعين فيها على الله أقرب، فتثمر.
أقول: فكيف بمن فقِه هذا فتقدم خطوة إلى الأمام، كيف ذلك؟
بأن يصب اهتمامه على قلبه، يعالج نيّته، ويتبرأ من حوله وقوته، ويدمن الاستعانة بالله، ويكثر اللهج، أي شيء يكون له من الله الكريم؟
••
•| نعمة البدء القرآني |•
كنت أتأمل نعمة الله على من نشأ في كنف القرآن منذ بواكير العمر، فخطر لي أن ذلك ليس فضلًا عارض في سيرة العبد، بل هو اصطفاء ربانيّ يغيّر مسار العمر من جذره، ويجعل نقطة البداية هي عين النجاة، لا محطة التصحيح.
فكثير من الناس يُبصرون نور القرآن بعد أن أضرّ بهم التيه، وتصدّعت فيهم دوائر المعنى، فإذا هم يعودون إليه طلبًا للترميم، لا تأسيسًا للبناء، أما من استُفتح له بسكينة القرآن من أول الطريق، فقد أُعفي من كثير من الانكسارات المؤلمة.
وليس هذا التوفيق مجرّد مسألة “زمنية”، أن تصل مبكرًا أو متأخرًا، بل هو مسألة تكوين جوهريّ، فمن شبّ على تلاوة الوحي، كانت مفاهيمه وأذواقه وعلاقته بالكون تتشكّل تحت إشرافٍ مباشر من الله.
وهذه النشأة المبكّرة، لا تمنحك فقط أسبقية في السباق، بل تمنحك مناعةً من الداخل، ورسوخًا في الفهم، وحصانةً من الالتواءات التي يتعثر بها غيرك حين يلجأ للقرآن متأخرًا.
ولذلك، فإن من أعظم ما يُستصحب في باب الشكر: أن تفقه أن بدايتك مع القرآن ليست صدفة، ولا اجتهاد بيئة فقط، بل هي إذنٌ سماويّ بالهداية المبكّرة، ولبنةٌ أولى في بناءٍ أراد الله له أن يكتمل على عين منه، وهنا يتبدّى الفارق الجوهري بين أن يكون القرآن ملاذًا من السقوط، أو يكون مانعًا من السقوط أصلًا، فالأول يتعافى، والثاني ينمو.
ومن أعظم الألطاف التي يُخفيها الله في ثنايا النشأة، أن يُورثك القرآن في سنين الفطرة، قبل أن تنقضّ عليك الدنيا بسعارها، فذاك بكور الهداية، وذاك هو التفضيل الذي لا تُكتَب نعمتُه على الجباه، بل تُكتَب في خاتمة المصير.
••
•| نعمة البدء القرآني |•
كنت أتأمل نعمة الله على من نشأ في كنف القرآن منذ بواكير العمر، فخطر لي أن ذلك ليس فضلًا عارض في سيرة العبد، بل هو اصطفاء ربانيّ يغيّر مسار العمر من جذره، ويجعل نقطة البداية هي عين النجاة، لا محطة التصحيح.
فكثير من الناس يُبصرون نور القرآن بعد أن أضرّ بهم التيه، وتصدّعت فيهم دوائر المعنى، فإذا هم يعودون إليه طلبًا للترميم، لا تأسيسًا للبناء، أما من استُفتح له بسكينة القرآن من أول الطريق، فقد أُعفي من كثير من الانكسارات المؤلمة.
وليس هذا التوفيق مجرّد مسألة “زمنية”، أن تصل مبكرًا أو متأخرًا، بل هو مسألة تكوين جوهريّ، فمن شبّ على تلاوة الوحي، كانت مفاهيمه وأذواقه وعلاقته بالكون تتشكّل تحت إشرافٍ مباشر من الله.
وهذه النشأة المبكّرة، لا تمنحك فقط أسبقية في السباق، بل تمنحك مناعةً من الداخل، ورسوخًا في الفهم، وحصانةً من الالتواءات التي يتعثر بها غيرك حين يلجأ للقرآن متأخرًا.
ولذلك، فإن من أعظم ما يُستصحب في باب الشكر: أن تفقه أن بدايتك مع القرآن ليست صدفة، ولا اجتهاد بيئة فقط، بل هي إذنٌ سماويّ بالهداية المبكّرة، ولبنةٌ أولى في بناءٍ أراد الله له أن يكتمل على عين منه، وهنا يتبدّى الفارق الجوهري بين أن يكون القرآن ملاذًا من السقوط، أو يكون مانعًا من السقوط أصلًا، فالأول يتعافى، والثاني ينمو.
ومن أعظم الألطاف التي يُخفيها الله في ثنايا النشأة، أن يُورثك القرآن في سنين الفطرة، قبل أن تنقضّ عليك الدنيا بسعارها، فذاك بكور الهداية، وذاك هو التفضيل الذي لا تُكتَب نعمتُه على الجباه، بل تُكتَب في خاتمة المصير.
••
••
•| شيخ الشباب |•
حين أطالع تراجم الأئمة في سير الذهبي، وطبقات السبكي، ووفيات ابن خلّكان، أوقن أن الأثر لا يُصنع بصوتٍ مرتفع، بل بخطى ثابتة على درب الحق، ولم تكن العظمة في فصاحة اللسان، بل في عمق الفكرة، وسكينة المقصد، ومتانة البناء الخفيّ، وفي هذا السياق، خطر لي لقبٌ اجتهدتُ في تسميته: “شيخ الشباب”، لا على جهة الترف، بل على جهة التمييز بين الحماسة العابرة والبصيرة الراسخة.
هو من يَجمع حرارة الجيل بوعي التأسيس، ويصوغ وعيًا لا يذوب عند أول اصطدام، ذلك مقامٌ لا يُوهب بكثرة الكلام، بل يُمنح لمن نهض بتكاليفه في زمنٍ كثرت فيه الألقاب وقلّت فيه الأثقال.
وهو ليس وصفًا طارئًا يُعلّق على الأكتاف، ولا لقبًا يُنتزع من زحمة الأضواء، بل مقامٌ تولّده الموازنة الدقيقة بين حرارة التغيير وسكون التمكُّن، بين توثُّب البدايات ورسوخ النهايات، هو ذلك النموذج النادر الذي إذا تحدّث إلى الشباب لم يتكلف النزول إليهم، لأنه لم يغادرهم أصلًا، وإذا جالس الشيوخ لم يداور لغتهم، لأنه يحمل من سكينتهم ما يليق بالمقام.
شيخُ الشباب هو من جمع الله له في قلبه حدّة النظر وبُعد الخُطى، فإذا فكرَ، ربط بين السنن لا بين الشعارات، وإذا قرر، مدّ بصره إلى العواقب لا إلى فتنة التأثير. لا يستخفّه التصفيق، ولا تجرّه المجازفة، لأنه يزن الأشياء بميزانٍ أدق من الضجيج، وأثقل من وهج اللحظة.
هو من يَفهم أن الميدان لا يُدار بردّات الفعل، ولا يُبنى بصخب الحشود، بل بمن امتلك وعيًا مركّبًا: يُبصر هشاشة الواقع، لكنه لا يسقط في اليأس، ويؤمن بسنن الإصلاح، لكنه لا يُسرع على جسرٍ لم يُشدَّ بعد.
شيخُ الشباب ليس ابنًا للمرحلة، بل هو ناظمٌ لاتّزانها، يَعرف مداخل الانهيار، ويُحسن صناعة المفاتيح، فيكون دعامةً فكرية حين تميل الموازين، وصمام توازن حين يشتدّ التيار.
شيخ الشباب هو الذي إن مشى مع الجيل الصاعد لم يتصاغر، بل شبّ هو بهم، وإن جلس إلى الشيوخ لم يتكلّف، بل تلبّس سمتهم وكأنه أحدهم، يحمل مشروعًا يتنفّس، لا فكرةً تتردّد، ويعرف أن التغيير لا يكون بانفجار العاطفة، بل بانضباط الشعور وامتداد النظر.
هو من إذا تكلّم مع الشيوخ فهموه، وإذا نادى الشباب تبعوه، لأنه لا يتكلّف لسان أحد، بل يجمع لغتين: لغة الجيل القادم، ولسان الخبرة المتراكمة، فتستقيم له المعادلة التي تُخفق فيها المؤسسات وتُرهق بها المشاريع.
وإذا أردت أن تراه، فلا تبحث عنه في أعمار الرجال، بل التفت إلى من يحمل في صدره جذوةً لا تحرق، وبصيرةً لا تتكاسل، وعزيمةً لا تنكسر، فذاك هو شيخ الشباب، وإن لم تبيّض لحيته بعد.
••
•| شيخ الشباب |•
حين أطالع تراجم الأئمة في سير الذهبي، وطبقات السبكي، ووفيات ابن خلّكان، أوقن أن الأثر لا يُصنع بصوتٍ مرتفع، بل بخطى ثابتة على درب الحق، ولم تكن العظمة في فصاحة اللسان، بل في عمق الفكرة، وسكينة المقصد، ومتانة البناء الخفيّ، وفي هذا السياق، خطر لي لقبٌ اجتهدتُ في تسميته: “شيخ الشباب”، لا على جهة الترف، بل على جهة التمييز بين الحماسة العابرة والبصيرة الراسخة.
هو من يَجمع حرارة الجيل بوعي التأسيس، ويصوغ وعيًا لا يذوب عند أول اصطدام، ذلك مقامٌ لا يُوهب بكثرة الكلام، بل يُمنح لمن نهض بتكاليفه في زمنٍ كثرت فيه الألقاب وقلّت فيه الأثقال.
وهو ليس وصفًا طارئًا يُعلّق على الأكتاف، ولا لقبًا يُنتزع من زحمة الأضواء، بل مقامٌ تولّده الموازنة الدقيقة بين حرارة التغيير وسكون التمكُّن، بين توثُّب البدايات ورسوخ النهايات، هو ذلك النموذج النادر الذي إذا تحدّث إلى الشباب لم يتكلف النزول إليهم، لأنه لم يغادرهم أصلًا، وإذا جالس الشيوخ لم يداور لغتهم، لأنه يحمل من سكينتهم ما يليق بالمقام.
شيخُ الشباب هو من جمع الله له في قلبه حدّة النظر وبُعد الخُطى، فإذا فكرَ، ربط بين السنن لا بين الشعارات، وإذا قرر، مدّ بصره إلى العواقب لا إلى فتنة التأثير. لا يستخفّه التصفيق، ولا تجرّه المجازفة، لأنه يزن الأشياء بميزانٍ أدق من الضجيج، وأثقل من وهج اللحظة.
هو من يَفهم أن الميدان لا يُدار بردّات الفعل، ولا يُبنى بصخب الحشود، بل بمن امتلك وعيًا مركّبًا: يُبصر هشاشة الواقع، لكنه لا يسقط في اليأس، ويؤمن بسنن الإصلاح، لكنه لا يُسرع على جسرٍ لم يُشدَّ بعد.
شيخُ الشباب ليس ابنًا للمرحلة، بل هو ناظمٌ لاتّزانها، يَعرف مداخل الانهيار، ويُحسن صناعة المفاتيح، فيكون دعامةً فكرية حين تميل الموازين، وصمام توازن حين يشتدّ التيار.
شيخ الشباب هو الذي إن مشى مع الجيل الصاعد لم يتصاغر، بل شبّ هو بهم، وإن جلس إلى الشيوخ لم يتكلّف، بل تلبّس سمتهم وكأنه أحدهم، يحمل مشروعًا يتنفّس، لا فكرةً تتردّد، ويعرف أن التغيير لا يكون بانفجار العاطفة، بل بانضباط الشعور وامتداد النظر.
هو من إذا تكلّم مع الشيوخ فهموه، وإذا نادى الشباب تبعوه، لأنه لا يتكلّف لسان أحد، بل يجمع لغتين: لغة الجيل القادم، ولسان الخبرة المتراكمة، فتستقيم له المعادلة التي تُخفق فيها المؤسسات وتُرهق بها المشاريع.
وإذا أردت أن تراه، فلا تبحث عنه في أعمار الرجال، بل التفت إلى من يحمل في صدره جذوةً لا تحرق، وبصيرةً لا تتكاسل، وعزيمةً لا تنكسر، فذاك هو شيخ الشباب، وإن لم تبيّض لحيته بعد.
••
••
العبودية لله هي الحرية الحقة، وما عداها رقٌ مستتر في ثوبٍ زائف من الاستقلال.
••
العبودية لله هي الحرية الحقة، وما عداها رقٌ مستتر في ثوبٍ زائف من الاستقلال.
••