Telegram Web Link
مقالات مختارة
إن من الناس من إذا مات يعزى فيه أهله، ومنهم من تعزى فيه عشيرته، ومنهم من تعزى فيه منطقته، ومنهم من تعزى فيه مدينته، ومنهم من يعزى فيه وطنه ومن الناس من إذا مات تعزى فيه أمته جميعا وفي مقدمتهم وعلى رأسهم في هذا العصر هو إمام العصر الشيخ الدكتور يوسف عبدالرحمن…
📝الإمام الموسوعي يوسف القرضاوي في ركب الخالدين!


أ.د فؤاد البنا _أكاديمي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي


اتسم بالعلم الموسوعي كثيرون من علمائنا القدامى، لكنهم نادرون جدا في عصرنا، ولا شك بأن الإمام القرضاوي رحمه الله في طليعتهم من دون منافس!
فقد يتفوق عليه قليلون في الفقه التقليدي (الفردي) أو في الفكر السياسي، وقد يفوقه بعضهم في علوم التربية وتزكية الأنفس ومعرفة بواطن النفوس وآفاتها، وربما سبقه غيرهم في استنباط السنن الاجتماعية وارتياد فقه الآفاق من أوسع الأبواب، وهناك من برع أكثر منه في دراسة الاقتصاد وتثمير الأموال، ويوجد من تألق في تنزيل فقه الأولويات والموازنات وتفعيل فقه المقاصد في الواقع السريع التغير، وهناك من أجاد في التخطيط للآتي واستشراف المآلات وتوقع العواقب، وهناك من برز في ساحة الدعوة أشد منه وربما ضحى بنفسه وماله من دون أدنى تردد، لكن لا يوجد أحد فعل كل هذه الأمور مجتمعة ثم ضاهاه في فكره وفعله فضلا عن أن يتفوق عليه أبدا!
إنه فقيه العصر وعلّامة المقاصد، فقد تبحر في علوم النقل والعقل وتعمق في معرفة دقائق الزمان والمكان، وأجاد في غربلة الماضي وبناء الحاضر والإعداد للمستقبل، وأحسن في تأصيل المنهج الذي يجعل التراث أداة بناء لا هدم، بمعنى أنه جمع بصورة متفردة بين فقه الواجب وفقه الواقع، ونقل أفكاره من التجريد إلى التجسيد عبر مشاريع ومؤسسات عديدة!
إنه عملاق المفكرين وإمام الدعاة، ولا شك بأنه مجدد عصره وكبير مصلحي أمته؛ إذ مزج بين النظر والعمل، وجسّر بين الأقوال والأفعال، ووازن في أفكاره وأفعاله بين الثبات والتغير وكذا بين المثالية والواقعية، ووائم بين الأصالة والمعاصرة، وفرق بجلاء بين الغزو الثقافي المرفوض والتفاعل الحضاري المفروض وكذا بين الاختلاف المباح والتفرق المحرم، وفضّ الاشتباك بين النقل والعقل، بين العلم والإيمان، بين الأصالة والمعاصرة، وحاول فض الاشتباك بين الحكام ورعيتهم لكن مجاميع من هؤلاء وأولئك أبت الاستجابة لجهوده واتفقت في محاربته رغم العداوة بينهما!
ولقد أسهم بفاعلية في تأصيل مناهج الوسطية وإطلاق أفكار الاعتدال، واجتهد بقوة في ترشيد تيارات التدين والدعوة، ومساعدتها في الخلاص من الآفات الداخلية والمؤامرات الخارجية، وما فتئ يحارب التطرف التقليدي كمحاربته للتطرف التغريبي، وما برح يعمل من أجل تجفيف منابع العنف والإرهاب بكل صوره وأشكاله!
وتحكي سيرته الثرية ومسيرته الطويلة بأنه قد تقلب في ابتلاءات الشدة والرخاء، فما حزن على ما فاته ولا فرح بما أتى إليه، دخل السجون فلم يضعف عن القيام بواجبه أو يتنازل عن المبدأ الذي يؤمن به أو يتوقف عن الدعوة إليه، ودخل القصور فلم يهادن الظلم أو يتعايش مع الاستبداد!

وفي يومنا هذا مات جسد القرضاوي بعد عمر مديد لكن تجسيده الوسطي لقيم الإسلام في عصرنا لم يمت أبدا، وتوقف نفسُه لكن أنفاس الحياة التي بثها في تلاميذه وكتبه وأبحاثه وفتاواه ومحاضراته لم تتوقف، وسيهال التراب على جثمانه لكن فكره سيظل يحرر الإنسان من آفات التراب وأغلال الظلم والجهل؛ ذلك أن الأصل الذي نهل منه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فصار فكره بجملته ثابتا وفرعه في السماء يؤتي أُكله كل حين بإذن ربه، وهذا لا يعني أنه معصوم من الخطأ أو الزلل فقد كان يراجع نفسه بنفسه وإن نصحه أحد فإنه رجاع للحق، وظل يشجع على تفعيل ثقافة النقد والنصيحة للجميع، ولا يعني أيضا أن أفكاره ستظل صالحة لكل زمان ومكان، ولكنها ستظل مفيدة نسبيا إذا قرئت في ضوء معرفة منهجيته التي انطلق منها في تنزيل النصوص والمقاصد على الحوادث والمتغيرات، وفهم خصائص عصره وظروف زمنه وملابسات ما توصل إليه، كما يستفيد العقلاء من أفكار ابن تيمية وابن القيم والغزالي وابن رشد والشاطبي وابن حزم وابن الجوزي وابن خلدون وغيرهم.

نسأل الله عز وجل أن يجزيه خير الجزاء على ما قدم لأمته، وأن يتقبله في الصالحين ويرفع درجته في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يعوض الأمة عن فقدانه خيرا ويمنحها من يقومون بدوره ويواصلون السير في دربه

https://www.tg-me.com/menoathgafi
محمد ألهامي باحث في التاريخ :

خبر وفاة الشيخ الإمام يوسف القرضاوي من تلك الأخبار التي لا يتمالك المرء نفسه أن يكتب فيها شيئا! ويظل بعدها زمنا حتى يتسنى له أن يتزن ويختار وينظر إلى الأمر من بعيد، فيتهيأ له أن يتحدث!

وهذه الحيرة أراها بادية في كلام محبيه وطلابه، فالكلام فيه مضطرب، والفكر فيه مرتبك، والعين تدور والعقل يجول، يبحث المرء عن الزمام!

فإن رأيت القرضاوي في الكتب بهرك بسعة علمه وتفننه في الكتابة واهتمامه بأمر المسلمين وقضاياهم ونوازلهم، وإن جالسته بهرك بتواضعه وأدبه وطرافته وتوسعته لجلسائه وصبره عليهم.. ولقد رأيته وهو في الثامنة والثمانين من عمره يجلس في المؤتمر من أوله إلى آخره لأربعة أيام في دأب وصبر لا يطيقه الشباب!

ويكفي دليلا على قوة شخصيته وملئه لمكانه أن يحتار الناس في خلفائه من بعده!

كان القرضاوي رأس الأمر الذي ينتمي إليه، وباب الشأن الذي يقوم عليه، فهو في الفقه أكبر فقهاء العصر، وهو في الأزهر أرفع أعلامه، وهو في مصر أشهر مشايخها ورموزها، وهو في مدرسة الإخوان شيخها وفقيهها الأكبر!

ولستَ تجد عاقلا فيه إنصاف، من أي مدرسة إسلامية كانت، إلا وقد ترحم عليه وعرف فضله وتأسف لموته!

لقد شاء الله أن بُثّت بالأمس حلقة لي تكلمت فيها عن مذكرات الشيخ المجدد محمد رشيد رضا، وكان رشيد رضا ثمرة من ثمرات الأفغاني ومحمد عبده، فإن جريدتهم "العروة الوثقى" هي التي أيقظت فيه أن الإسلام شيء أكبر من العبادة والشعائر والأخلاق، وأنه نظام شامل لإصلاح الحياة والسياسة والاقتصاد والاجتماع!

هذا هو نفسه فضل القرضاويّ عليّ، فلقد أخرجتني كتبه من جدالات الأمور الصغيرة، التي لا تغادر تقصير الثوب أو فرضية النقاب أو إعفاء اللحية أو نحوها.. ففي كتبه رأيت أن الإسلام نظام حياة، وأنه منهاج أمة، وأنه الحل للبشرية!

وبعد أن كنت أرى الفتوى في كلام المشايخ تستغرق السطر أو السطرين، رأيتها تستغرق عشر صفحات أو أكثر في كتابه "فتاوى معاصرة"، فأنقذني ذلك من استسهال الفقه والاستهانة بعملية استخراج الحكم الشرعي من النص، وقد كنت على وشك ذلك أو وقعت فيه، فمنذ ذلك الوقت (وكان عمري 14 عاما) وحتى الآن، لا شيء أكثر مهابة عندي من الفقه.. ولئن كنتُ لا أستحضر الآن الفتاوى نفسها، فإن يقيني بأن الفقه عمل دقيق عظيم لا يزال حاضرا في نفسي حتى الآن!

كان الشيخ القرضاوي رجل عصره، مهموم بالنوازل، فليس يهتم أن يحرر الدقائق التي تعجب العلماء والمتخصصين، بل يقتحم الأمور التي تحتاج إلى الفتوى مما يفرضه الواقع.. وبهذا كان الشيخ أعظم تأثيرا ممن غرق في بحر الفقه العلمي التقليدي، فلم يعرفه سوى طلابه!

كتب عنه جاكوب سوفجارد بترسون كتابه "المفتي العالمي: ظاهرة يوسف القرضاوي".. فالرجل كان يقصده للفتوى أهل الصين وأهل أمريكا الشمالية!

ومع بلوغه هذه المكانة التي يحلم بها أي إنسان، ويسكر بها أي مغرور، إلا أن الشيخ كان كثير الإلحاح على ضرورة الاجتهاد الجماعي، وأن مسائل الأمة ونوازلها صارت أوسع من قدرة الشخص على أن يفتي فيها ويستوعب أحوالها. وهذه منه سمة عالِم الأمة والحريص على شأنها، فلم يكن بالذي يرضى بما بلغه من السمعة والشهرة، لأن همه فوق حيّز نفسه!

ولهذا أيضا كان مغرما بالمؤسسية، ويعرف القارئ له من خشيته أن ينتهي العمل بانتهاء صاحبه ورائده، ولذلك خاض في إنشاء المؤسسات كي يبقى الأثر والخبر بعد ذهاب الرجال! فسعى في هذا حتى كان من أحسن ثمراته: موقع إسلام أون لاين، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ثم درته الكبيرة: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين!

فكان إسلام أون لاين أعظم موقع إسلامي في وقته، وصار المجلس الأوروبي مرجع المسلمين الشرعي في ديار الكفر، وكان الاتحاد العالمي أول تجمع علمائي مستقل لا تسيطر عليه دولة!

وقد نختلف كثيرا في تقييم هذا الإنجاز المؤسسي، ومدى بلوغه أهدافه، ومدى سيره على النحو الذي أمّله الشيخ منه، وليس هذا مقصد الكلام هنا.. إنما مقصد الكلام الإشارة إلى هذا الهمّ الرابض في صدر الشيخ، وهذا المعنى الثائر في عقله، معنى المؤسسة، لكي لا ينفرد أحد بالرأي أولا، ولكي لا ينتهي العمل بوفاة صاحبه ثانيا.. فذلك الهمّ وذلك المعنى هو من أدلة العظمة التي تميز بها الشيخ الإمام.

لو كان الإمام في بلاد غير بلاد العرب في زماننا هذا لما كان من شك في أنه كان سيبلغ أعظم مما بلغ بكثير بكثير بكثير.. فمثل هذا الرجل لو كان شيخا للأزهر لكان الأزهر الآن في حال عظيم من القوة والسعة وتخريج العلماء واجتذاب الطاقات والطلاب!

لقد كان الشيخ طاقة هادرة وموجا متدفقا، نشاط هائل منطلق في جهاتها الأربع، ولقد هيأ الله له أن يسكن قطر، حيث توفر له فيها أمانٌ ما كان ليجد مثله في مكان آخر، فلقد كانت قطر من نعمة الله عليه، كما كان هو من نعمة الله على قطر، وهيأ الله له من حُكَّامها من اتسعت صدورهم له، وبلغت عندهم منزلته وقبلت لديهم شفاعته! وما كان له أن يبلغ ما بلغ لولا ما هيأه الله له منهم!
ولئن كنت لا أرتاب في أن القرضاوي رجلا عظيما، فإني لا أرتاب كذلك في أن الأمة لا تخلو من مثله، لكن يد البطش والطغيان والاستبداد، وأفواه السجون والمشانق قد ابتلعت والتهمت سائر هؤلاء، فإن هي لم تلتهمهم فقد كبتتهم وأخرستهم وقيدتهم، وإن هي لم تفعل ذلك عمدا فقد فعلته بما نشرته من أجواء الخوف وبيئة الفساد وارتفاع الأسافل والأراذل!

وتلك الجواهر النادرة المكنونة التي لم تسمح لها الأوضاع أن تتألق كما تألق القرضاوي، مهما جهلناهم فلم نعرفهم، ومهما كانوا مغمورين لم يأخذوا حقهم، فلا ريب أن الله يجزيهم أجرهم، ولا ريب أن التاريخ سينصفهم في قابل أيامه!

لكن يجب أيضا أن نقول، أن الشيخ الإمام القرضاوي قد استثمر الظرف المهيأ له أفضل استثمار، فكم من المشايخ أمثاله ممن توفر لهم أمنٌ ورزق، فلم تحملهم همتهم ولم تسعفهم مواهبهم أن يبلغوا شيئا مما بلغ الشيخ!

لئن كان الله قد أنعم على الشيخ ببلد آمن ورزق طيب، فلقد وفى الشيخ -نحسبه- شكر نعمة الله عليه، فبذلها في مرضاته، واستهلكها في نصرة قضايا الأمة!

وهذا هو واجب كل امرئ فيما أنعم الله عليه به، وفيما استخلفه فيه.

نعم، أعرف أنها سطور مرتبكة محتارة، وأعرف أني سأتحسر بعد قليل على شيء نسيته كان من حقه أن يذكر، ولكن يكفيني أن استطعت كتابة هذا في يوم كهذا! فهذا يوم غربت فيه الشمس، وانهد فيه ركن العلم، وخُتِم بالشيخ جيل الكبار!

فاللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها.

https://www.tg-me.com/menoathgafi
📝 بين الشيخين القرضاوي وابن باز

يقول الدكتور القرضاوي رحمه الله :

ومما أذكره من وقائع تلك المدة من الزمن: أنني تلقيت رسالة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، خلاصتها:
أن وزارة الإعلام طلبت رأيه في كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) لأن بعض الناشرين طلبوا من الوزارة أن (تفسح) له، وكلمة (الفسح) غدت مصطلحا معروفا في المملكة يقصد به الإذن بنشر الكتاب ودخوله في السعودية.

وكان الشيخ صالح الفوزان من شباب علماء المملكة قد أثار ضجة بما كتبه في الصحف، وأصدره في كتاب سماه (الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام)
وهو يمثل وجهة النظر السلفية في المسائل الخلافية المعروفة من قديم، مثل :
تغطية وجه المرأة هل هو واجب أو لا؟
وحكم خروج المرأة للتعلم والعمل،
وحكم الغناء بآلة وبغير آلة،
وحكم التصوير الزيتي والفوتوغرافي، وغير ذلك، مما تتفاوت فيه فتاوى المفتين بين ميسر ومعسر،
وبين من يميل إلى الظاهر، ومن يرجح الالتفات إلى المقاصد.
فلا غرو أن ذكر الشيخ ابن باز بأدب العالم الكبير، ورفق الداعية البصير:
أنه يريد أن يفسح الكتاب لما فيه من نفع للمسلمين لسلاسته وجمال أسلوبه، وأخذه بمنهج التيسير،
ولكن المشايخ في المملكة خالفوه في ثمانية مسائل. وسرد الشيخ رحمه الله هذه المسائل الثمانية، ومنها:

ما يتعلق بزي المرأة وعملها،
وما يتعلق بالغناء والسماع،
وما يتعلق بالتصوير،
وما يتعلق بالتدخين،
وأني لم أحسم الرأي فيه بالتحريم، وما يتعلق بمودة غير المسلم..الخ.

وقال الشيخ رحمه الله: وإن كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس،
ولذا نتمنى لو تراجع هذه المسائل، لتحظى بالقبول الإجماعي عند المسلمين.

والواقع: أني ظللت محتفظا بهذه الرسالة سنين طويلة ثم اختفت مني، ويبدو أنها غرقت في بحر الأوراق الخضم الذي عندي، والذي قل أن ينجو ما غرق فيه!

هذا، وقد رددت تحية الشيخ بأحسن منها،
وكتبت له رسالة رقيقة، تحمل كل مودة وتقدير للشيخ،
وقلت له: لو كان من حق الإنسان أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده، ويتنازل عنه لخاطر من يحب، لكان سماحتكم أول من أتنازل له عن رأيي، لما أكن لكم من حب وإعزاز واحترام،
ولكن جرت سنة الله في الناس أن يختلفوا، وأوسع الله لنا أن نختلف في فروع الدين، ما دام اختلافا في إطار الأصول الشرعية، والقواعد المرعية،
وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار، فما ضرهم ذلك شيئا، اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، وصلى بعضهم وراء بعض.

والمسائل التي ذكرتموها سماحتكم،
منها: ما كان الخلاف فيها قديما، وسيظل الناس يختلفون فيها، ومحاولة رفع الخلاف في هذه القضايا غير ممكن،
وقد بين العلماء أسباب الاختلاف و ألفوا فيها كتبا، لعل من أشهرها كتاب شيخ الإسلام ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام).
ومن هذه المسائل: ما لم يفهم موقفي فيها جيدا،
مثل موضوع التدخين، فأنا من المشددين فيه، وقد رجحت تحريمه في الكتاب بوضوح،
إنما وهم من وهم في ذلك؛ لأني قلت في حكم زراعته: حكم الزراعة مبني على حكم التدخين، فمن حرم تناوله حرم زراعته، ومن كره تناوله كره زراعته، وهذا ليس تراجعا عن التحريم.

وأما مودة الكافر، فأنا لا أبيح موادة كل كافر،
فالكافر المحارب والمعادي للمسلمين لا مودة له،
وفيه جاء قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) المجادلة: 22، ومحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، ولكنها المشاقة والمعاداة.

وتعلم سماحتكم أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج كتابية، كما في سورة المائدة(والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب)
فهل يحرم على الزوج أن يود زوجته، والله تعالى يقول: (وجعل بينكم مودة ورحمة) الروم،
وهل يحرم على الابن أن يود أمه الكتابية؟
أو يود جده وجدته، وخاله وخالته، وأولاد أخواله وخالاته؟
وكلهم تجب لهم صلة الرحم، وحقوق أولي القربى.

على كل حال، أرجو من فضيلتكم ألا يكون الاختلاف في بعض المسائل الاجتهادية الفرعية حائلا دون الفسح للكتاب،
وهاهو الشيخ الألباني يخالفكم في قضية حجاب المرأة المسلمة، فهل تمنعون كتبه؟
وختمت الكتاب بالتحية والدعاء..
وأعتقد أن الشيخ استجاب لما فيه، وفسح لكتاب (الحلال والحرام) ولغيره من كتبي، والحمد لله.


كتاب: مذكرات الدكتور القرضاوي.
مقالات مختارة
Photo
📝 العز بن عبد السلام بائع الملوك و سلطان العلماء

بقلم :د. طارق سويدان

(بلغَ رتبةً الاجتهاد، وانتهت إليهِ رئاسةُ المذهب، مع الزُهدِ والورع والأمرِ بالمعروفِ والنهيّ عن المثنكر والصلابةُ في الدين، وقَصَدَهُ الطّلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة) الحافظ الذهبيّ.

أُمتنا الإسلاميّة غنيّة بالرجالِ العِظام،المبدعون والقُدوات في كلّ ميدان، نقفُ لنتعرّف على أحدِ هؤلاءِ القاماتِ، إنهُ قاضي القُضاة وبائعث الملوك وسلطانُ العلماء  العزبن عبد السلام المُجاهد الفقيه مُجدد قَرنه.

نسب العز بن عبد السلام

(أبو محمد عزّ الدين) عبدُ العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن مُحمد بن مُهذب السلميّ، المغربيّ أصلاً، الدمشقيّ مولداً، ثم المصري داراً ووفاة، والشافعيّ مذهباً، الإمامُ والفقيه والعالِم، مُقاوم الظُلم والطغيان، الذي كانت تخشاهُ السلاطين والمُلوك.

وُلدَ في دمشق سنة (577هـ)، وتوفي في القاهرة سنة (660هـ).

القاب العز بن عبدالسلام

  سلطان العلماء : لقَّبٌ أطلقهُ عليهِ تلميذهُ (ابن دقيق العيد).

وقالوا عن سببِ تسمّيه سلطان العلماء: (لأنه أكّدَ مكانةَ العُلماء، ورفعَ ذِكرهُم في عَصرهِ، وجسّد ذلكَ في مواقفِه، في الإنكار على الحُكّام والسلاطين والأمراء لبعضِ تصرّفاتهِم المُخالفة، وقارعهُم بالحجةِ والبيان فغلبهُم، وكانَ على رأسِ العُلماء في هذا الموقفِ الصلب، مما عرّضه لكثير من المتاعب).

(أو لنظراتِه التجديديّة، ونفورهِ من التقليد، وبلوغِه مرتبةَ الاجتهاد، وخاصةً أنهُ عاشَ في عصرِ شاعَ فيه التقليدُ، والتزمَ الناسُ به، وهمسَ بعضهُم بقفلِ باب الاجتهاد، وعكفوا على كُتب السابقين وآرائهِم، ولم يُكلفوا أنفُسَهُم عناء البحثِ والاستنباط، ومواجهةَ الظروفِ المتغيرّة والمسائلِ الجديدة والقضايا المطروحة، فخرجَ العزّ عن هذا الطوق بقولهِ وفعلهِ واجتهادهِ وتصنيفهِ).

بائع الملوك : وسبب هذه التسمية يظهر في موقفه مع نجم الدين أيوب في قضية الأمراء المماليك.

القاضي : وهذا وصف له لتوليه منصب القضاء في دمشق والقاهرة.

قاضي القضاة : لتعيينه مسؤولاً عن القضاء والقضاة في الفسطاط والوجه القبلي.

عزالدين : جرياً على عادة ذلك العصر الذي انتشرت فيه الألقاب عامةً للخلفاء والملوك والأمراء والعلماء، والنسبة إلى الدين خاصة.

مواقف العز بن عبد السلام السياسية

  عالم الدين لا ينبغي أن يخشى في الله لومة لائم

عاشَ العزّ في عصرٍ شابتُه الظروفُ السياسيّة المُضطربة، عصرُ ضعف وانهيارِ الدولة العباسيّة والانشقاقات الداخليّة وتكالبِ الصليبيين والمغول على الأمّة، في هذهِ الظروف فضّل كثيرون من أهلِ العلم والدين السكوتَ عن الحق واعتزالَ المشهدِ العام، في حين انخرطَ العزّ في قلبِ هذه الأزمات مُقدمًا صورةً مُغايرّة لعالمِ الدين الذي يُجاهدُ في سبيلِ الله الذي لا يخشى أحدًا.

واشتهرَ العزّ بمواقفه العظيمة في إحقاقِ الحق وإنكارِ المُنكر، لا سيما مع حكّام عصرهِ، فمن هذه المواقف:

موقف العز بن عبد السلام مع الملك الصالح اسماعيل

بعد وفاةِ صلاح الدين الأيوبي (589هـ)، اختلفَ خلفاؤهُ من بعدهِ، وقويتَ إماراتُ الصليبيين نتيجةً لذلك، وبلغَ الصراعُ مداه بين حاكمِ دمشق (الصالح إسماعيل بن الكامل) وبينَ أخيه (نجم الدين أيوب)سُلطانِ مصر، حتى إنّ حاكمَ دمشق حالفَ الصليبيين، وأعطاهُم عدةَ قلاعٍ وحصون، وسمحَ لهُم بدخولِ دمشق لشراءِ السلاح والتزوّدِ بالطعام.

 كانَ العزّ آنذاكَ إمامَ المسجدِ الأمويّ ومُفتي دمشق، فاستنكرَ ذلكَ، وصعدَ المنبر وخطبَ في الناسِ خُطبةً قويّة: فأفتى بحُرمةبيعَ السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصُلحِ معهُم، وهاجمَ السُلطان، وقالَ في آخر خُطبته: «اللهمّ أبرم أمرًا رشدًا لهذهِ الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزلَ دونَ الدعاءِ للحاكمِ الصالح، فأمرَ السّلطان بعزلهِ واعتقالهِ ثم أفرجَ عنهُ، وأُلزِمَ العزذ بمُلازمةِ دارهِ، وألا يُفتي.

خروج العز بن عبد السلام إلى مصر

تلقى العزّ أمرَ العزلِ راضياً مرضيّاً، ولكنّه ضاقَ بالإقامةِ الجبريّة، وتعطيلِ العمل المسؤولِ عنهُ شرعاً، فقررَ مُغادرةَ دمشق.

 فاتجهَ إلى مصر عن طريقِ القُدس، لكنَّ اسماعيل استمرّ في مطاردةِ العزّ، وأرادَ مُساومته بالتراجعِ عن رأيهِ والاستسلامِ للسُلطان، فأرسلَ من يداهنُه ويساومه ويعدهُ بالمناصب، بشرطِ الرجوع عما هو عليه، ويتوعدهُ إن استمرَ على ذلك.

 فقالَ العزّ للمبعوث : (يا مسكين ما أرضاهُ أن يُقَبِّل يديّ فضلاً أن أُقبـِّل يده، يا قوم أنتُم في وادٍ وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به). فقال له: (لقد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك أن أعتقلك)، فقال العز: (افعلوا ما بدا لكم)، فأخذه واعتقله في خيمة بجوار خيمة السلطان.

منزلة العز بن عبد السلام عن الصليبيين 
مقالات مختارة
Photo
فكانَ الشيخُ يقرأُ القرآن في خيمته مَحبوساً، والسلطانُ يسمع،فأرادَ إسماعيلُ أن يتبجحَ أمامَ الصليبيين بما فعلَ بالعز، فقال لملوكِ الصليبيين: (تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟) قالوا: (نعم)، قال: (هذا أكبرُ قُسُاوسة المسلمين، وقد حبستهُ لإنكارهِ عليَّ تسليمي حُصُون المسلمين، وعزلتِه عن الخطابة بدمشق وعن مناصبهِ، ثم أخرجَته فُجاء إلى القدس، وقد جَدّدتُ حبسه واعتقاله لأجلكم)، فقالت لهُ ملوك الفرنج: (لو كان هذا قِسِّيسَنا لغَسلنا رجليه وشربنا مَرَقَتها).

 بقي العزّ في المُعتقل حتى جاءت الجيوشُ المصريّة، فانتصروا وقتلوا عساكرَ الفرنج بالقدس، وانهزمَ أعوانهُم، ونجى العزّ بن عبد السلام فتابعَ سيرهُ إلى الديارِ المصريّة، فأقبلَ عليهِ السّلطان الصالحُ أيوب، وولاهُ خطابةَ مصر وقضاءها.

مواقف العز بن عبد السلام مع الملك الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر

العز بن عبد السلام والمماليك

 أراد الصالح أيوب أن يُقوِّيَ جيشَه ويَصطفيَ قُوَّادَه ويَحميَ نفسَه، فاشترى المماليك الأتراك(من مال الدولة)، ودَرَّبهم على الفروسية والقتال، حتى نالوا ثقته، فاتسع نفوذهم حتى صاروا أمراءَ الجيش وقادتَه، وبلغ أحدُهم أن صار نائب السلطان مباشرة.

 فلما تولى العز منصب قاضي القضاة، اكتشف الخلل في الإدارة والسلطة، وأن القادة الأمراء لا يزالون في حكم الرق لبيت مال المسلمين، وبالتالي فإن الحكمَ الشرعي عدمُ صحة ولايتهم من جهة، وعدمُ نفوذ تصرفاتهم الخاصة والعامة من جهة أخرى.

فأوقف تصرفاتهم، ولم يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، فلما بلغهم ذلك عظم الخطب عليهم، واضطرب أمرهم، واستشاطوا غضباً، وثارت ثائرتهم، واجتمعوا به فصمم على حكم الشرع وأنه يجب بيعهم لصالح بيت المال، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحراراً، ثم يتولوا تصريف الأمور.

 وقال لهم بكل وضوح وصراحة: (نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي)، فرفضوا واستكبروا، ورفعوا الأمر إلى السلطان أيوب، فبعث إليه وراجعه، فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمةٌ فيها غلظة على العز، وحاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر الذي لا يعنيه ولا يتعلق به.

أعلنَ العزّ الانسحاب، وعزلَ نفسهُ عن القضاء، وقررَ الرحيلَ، فحملَ أهلهُ ومتاعهُ على دابة، وركبَ دابة أُخرى، وخرجَ من القاهرة.

 ما إن انتشرَ خبرُ خروجِ العزّ بينَ الشعب إلا وأعلنَ الناس اللحاقَ بالعزّ، فلم يصل العزّ خارجَ القاهرة إلا قليلاً حتى لحقهُ غالب المسلمين من العلماء والصلحاء والتّجار، حتى النساء والصبيان،فقالَ قائل للسلطان: (أدرك ملكك، وإلا ذهب بذهاب الشيخ)!! فركِبَ السلطان بنفسه، ولحقَ بالعز، واسترضاهُ وطيَّبَ قلبه، وطلب منه الرجوعَ والعودةَ إلى القاهرة.

 فوافقَ العز على شرطه بأن يتمّ بيع الأمراء بالمناداة عليهم، ورجع الجميع إلى القاهرة.

بائع الملوك

حاولَ نائبُ السلطة المملوك التّدخلَ: بالمُلاطفة حيناً، وبالتهديدِ والوعيدِ حيناً، فذهبَ في جماعةٍ من الأمراء إلى بيتِ الشيخ يريدون قتلَه، فلما رآهم ابنه فزعَ وخاف على أبيه، فما اكترث الشيخ، بل قال: (يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتل في سبيل الله)، أي إنَّ من يُقتَل في سبيل الله يكون على مرتبة عالية عند الله، وأنا لم أَبْلُغْها!.

فلما فشلت محاولاتهُم، أذعن الأمراء للأمر، واستسلموا لحكم الشرع.

أُعلنَ المزادُ العام، ووقف العز ينادي على أمراء الدولة واحداً واحداً،ويغالي في ثمنهم، وتدخّل الشعب في المزايدة، حتى إذا ارتفع السعر إلى أقصى غايته وعجز الأفراد عنه قام السلطان أيوب بدفع الثمن من ماله الخاص، ليتملك الأرقاءَ الأمراءَ، ثم أعتق رقابهم فصاروا أحراراً، واحتفظ بهم قادة، وقبض العز الثمن فوضعه في بيت مال المسلمين ليُصرف في شؤونهم العامة ووجوه الخير المختلفة، قال ابن السبكي: (وهذا لم يُسمع بمثله عن أحد رحمه الله تعالى ورضي عنه).

 موقف العز بن عبد السلام من بيع الخمور

فقد ذكر السبكيّ في طبقاته: ((أنَّ الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد، فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه، والأمراء تقبّل الأرض أمامه، فالْتَفَتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: (يا أيوب!! ما حُجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك مُلكَ مصر ثم تبيح الخمور)؟ فقال: (هل جرى ذلك)؟ فقال: (نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات)! فقال: (يا شيخنا هذا من أيام أبي)! فقال الشيخ: (أنت من الذين يقولون: إنّا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون)؟!  فأمر السلطان

بإقفال الحانة فوراً)).

ثم سأله أحدُ تلامذته: (أما خفتَ السلطان وأنت تخاطبه بهذا)؟! فقال الشيخ: (استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقطّ).

العز بن عبد السلام ومعركة عين جالوت 
مقالات مختارة
Photo
كان من قدر الله أن أُجلي العز من دمشق إلى مصر،{ وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} فراح يُذْكي روح الإيمان والجهاد في شعب مصر، ويذكّر الولاة بواجبهم تجاه ربهم ودينهم، وتجاه حرمة الأرض المسلمة.

عندما وصل السيل التتري الجارف إلى عين جالوت ، وصار الأمر بحاجة إلى معركة فاصلة، قام (الملك قطز) بجمع القضاة والفقهاء والأعيان، لمشاورتهم فيما يلزم لمواجهة التتار، وأنَّ بيت المال بحاجة إلى أموال الشعب ليتمكن من الجهاد، فوافقه جُلّ الحاضرين على جباية الضرائب لهذا الأمر، ولم يذْكروا ما عند الأمراء من أموال،

عندئذ تكلم العز فقال: ( إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجبقتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وبشرط أن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحُليّ، ويقتصرالجند على سلاحهم ومركوبهم، ويتساووا والعامة)، وكانت الكلمةُ كلمةَ عز الدين.

وا إسلاماه

 وراح يعبّئ النفوس، ويشحنها بالإيمان، ويحرّض المؤمنين على القتال، وخرج الجيش من مصر على أكمل استعداد، وبلغوا بيسان في الوسط الشرقي من فلسطين في رمضان 658 هـ.

 واستمرّ الشيخ يُذكي روح العزيمة، ويذكّر بنصر الله، وعظيم فضل الجهاد والمجاهدين، ومكانة الشهيد عند الله.

وكانت المعركة الهائلة التي حارب فيها جيش الإسلام تحت صيحات: (الله أكبر… واإسلاماه”) واندحر جيش التتار في عين جالوت، ولولا انتصار المسلمين في هذه المعركة لسقطت أفريقيا أوروبا في يد المغول.

هذا هو العالم العامل العزّ بن عبد السلام الذي حوَّل العلم إلى عمل.

 
https://www.tg-me.com/menoathgafi
مقالات مختارة
Photo
📝 ما الذي تفرّد به القَرَضاوي حتّى يكون له بحياته وموته كلّ هذا الأثر؟


بقلم : محمد خير موسى

 على الرّغم من أنّ رحيل الكبار موجعٌ، إلّا أنّ خلف غلالة الحزن معان لا بدّ من التوقّف معها، لا على سبيل الرّثاء والمدائح الفجائعيّة، بل على سبيل استلهام الدّروس وبناء القناعات في زمن استنسار البغاث الافتراضيّ وتيه العلاقة بين الشباب المسلم ومرجعيّاتهم من العلماء والدّعاة.
وحين نتحدّث عن القرضاوي الإمام فإننا لا نقصد به محض شخص كان اسمه الشيخ يوسف القرضاوي؛ فالرّجلُ على مدى قرنٍ هجريّ عاشها للإسلام بكلّ أنفاسِه تحوّل من شخصٍ إلى مدرسة ومن فردٍ إلى منهج، فنحن أمام مدرسةٍ اسمها القرضاوي، وأمام منهجٍ في الطلب ومنهج في العطاء ومنهج في العمل اسمه القرضاوي.

ومن نافلة القول إنّه لا عصمة لأحد بعد الأنبياء، فلم يكن القرَضاوي معصوماً، ولكن إذا بلغ الماء قُلّتين لم يحمل الخبث، فكيف إن كان الماء بحراً زاخراً ونهراً جارياً؟ فذلك بحرٌ ونهرٌ -لعمري- لا تكدّره الدّلاءُ.

ولكن السّؤال الذي يلحّ على الذّهن في حالة الإمام القرضاوي: ما الذي تفرّد به القرَضاوي حتّى يكون مالئ الدّنيا وشاغل النّاس في حياته وعند وفاته؟ ما الذي يجعله في صدارة الشّخصيات العلميّة الشرعيّة التي تناولتها الجامعات ومراكز الأبحاث بالدّراسة في حياتها بمختلف اللغات؟ فلك أن تتخيّل أنّ عدد الأوراق البحثيّة التي ألّفت عن الإمام القرضاوي باللغة الإنكليزيّة وحدها تجاوز ألف ورقةٍ بحثيّة، كما أفاد كتاب "دليل الباحثين إلى كتابات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي والكتابات عنه".
وما الذي يجعله معروفاً عند أجيال متعاقبة من الشباب، فيبني وعيها ويؤسّس فكرها ويرسم توجهاتها الشرعيّة والفقهيّة والفكريّة؟

وعند وفاته لم تضجّ بالرّحيل مؤسّسات العلماء فحسب، بل تحوّلت وسائل التّواصل الاجتماعيّ إلى سرادقات تعزية فلا تكاد تجدُ حديثاً عن غيره فيها.

إنّ ما تفرّد به الإمام القرضاوي وجعل له كلّ هذا الحضور والتأثير في حياته وعند موته هو أنّه قد اجتمع فيه ما تفرّق في أشخاص كثر، وحوى في شخصه وحده ما يعجز عن حمله العصبة أولو القوة من أهل العلم مجتمعين؛ فقد اجتمعت فيه صفات ومزايا قد تجدُ إحداها في أحد العلماء، ولكنّ القوّة كلّها في اجتماعها معاً في شخص واحد، ولعمري ما اجتمعت في هذا العصر في شخصٍ اجتماعها في شخص إمامنا القرَضاوي.

ومن هذه المزايا التي قد نجد إحداها في آحاد العلماء، لكنّها كلّها اجتمعت في شخص القرضاوي بأجلى صورها وأنصع تجلّياتها.

أولاً: موسوعيّة العلم مع تبسيط الطرح

فالإمام كان عمله موسوعيّاً يأخذ من علوم الشريعة كلّها واللغة والمنطق بلبّها لا بأطرافها، وهو عالمٌ بكلّ هذه العلوم، أستاذٌ للمتخصصين فيها. ومن عظيم علمه أنّه استطاع تقديمها للنّاس بأسلوب سهلٍ لا تكلّف فيه ولا تعقيد ولا تسطيح، وهذا لا يستطيعه إلّا من أخذ من العلم بخطامه وحوى أطرافه.

ثانياً: الجمع بين الأصالة والمعاصرة

فهو ينطلق من التراث وكتبه التي قرأها وهضمها وغدا بها عالماً لا مجرّد مطّلع عليها؛ لكنّه لم يبقَ أسيراً فيها وبعباراتها؛ بل استند إليها للتّعامل مع واقعٍ معاصرٍ متجدّد؛ فكان من أعرف النّاس بدقائق النّوازل المستجدة، قادراً على إيجاد الحكم الشرعيّ فيها؛ فغدا مرجعاً رئيساً في قضايا المسلمين في مختلف البلدان المسلمة وغير المسلمة وفي مسائلهم المستجدة.

ثالثاً: الجمع بين الثّبات والمرونة

فالإمام ينطلق من أصول ثابتة يستند إليها، ويقف على أرض صلبةٍ لا تميد تحته، وهو متمسك بالثّوابت الشّرعيّة التي ينطلق منها ولا يحيد عنها، ومع ذلك فهو يتّسم بالمرونة في التّعامل مع القضايا المعروضة، يسعى إلى ترسيخ فقه التيسير. كما أبدع في تحرير فقه الموازنات وفقه الأولويات وقدّمه للنّاس سائغاً حلواً؛ فترى فريقاً يتّهمه بالتشدّد، وفريقاً يتّهمه بالتّمييع، وهذا أمارة خيرٍ منهجيّة.

رابعاً: الجمع بين الفقه والفكر

فقد كان الإمام مفكراً عميقاً، ومنظراً فكرياً قلّ نظيره، عالماً بالتّيارات الفكريّة على مدار التّاريخ، الناشئة منها في الواقع الإسلاميّ والغربيّة كذلك؛ يناقشها بعمق ويفنّد أفكارها بحجّة بالغة وبهدوءٍ بالغ دون انفعالٍ أو توتر لفظي أو منهجي.

خامساً: الجرأة التجديديّة المتزنة

فالإمام هو عنوان التجديد الفقهيّ وعنوان التجديد الدّعوي في هذا العصر، وهو في طرح اجتهاداته الجديدة جريء لا يهاب مخالفاً ولا خصماً ولا تيّاراً معاكساً جارفاً؛ فهو لم يعتد السّباحة مع التيّار بل كان يصنع التيّار الذي يسبح فيه. وجرأته التجديديّة هذه جرأة متّزنة ومتوازنة، فهي ليست حالة من السّيولة والانفلات من كل الضّوابط باسم التجديد، وهي أيضاً جرأة تجديديّة منبعها الحرص على الإسلام؛ فهو تجديدٌ من داخل البيت الإسلاميّ وليس تجديداً لإرضاء الغرب أو خوفاً من الاتّهام بالإرهاب أو تلبيةً لمتطلبات حاكمٍ مستبد.

سادساً: الجمع بين الفقه والدّعوة
مقالات مختارة
Photo
لم يكن الإمام فقيها يعيشُ بين الكتب فحسب، ويتابع الأحداث من برج عاجيّ منفصلٍ عن الواقع، بل كان داعيةً متحرّكاً بين النّاس وفي صفوف الشّباب ومع شرائح المجتمع. وفي العصر الذي ابتليت فيه الأمّة بفقهاء لا حظّ لهم من الدّعوة، وبدعاة لا حظّ لهم من الفقه؛ كان الإمام القرضاوي في جمعه بين الفقه والدّعوة نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه الفقيه من تحرك عمليّ في أوساط النّاس، ونموذجاً لما يجب أن يكون عليه الدّاعية من بناء فقهيّ وعلمي رصين قبل الانخراط في عمل الدّعوة.
سابعاً: الفقيه الثّائر

من بداية حياته إلى موته بقي الإمام ثائراً على الظلم والطغيان والاستبداد والاحتلال، والأخاديد التي صنعتها السّياط في ظهره في السجن الحربي وبقيت معه إلى وفاته تشهد له بأنّه عندما قال:

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي
بالسّوط؛ ضع عنقي على السّكينِ
لن تستطيع حصارَ فكري ساعةً
أو نزع إيماني وردّ يقيني

.. تشهد أنّه لم يكن إماماً قوّالاً بل إماماً فعّالاً، وقد بقي ثابتاً على موقفه إلى مماته، فناصر كل مظلومٍ في الأرض، وجابه الطّغاة والمحتلين، وكان النّصير الأبرز من العلماء لثورات الشّعوب في الربيع العربي. وكان يعدّ تزوير الانتخابات من أكبر الكبائر، والانقلابات العسكريّة من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم، وما فتئ يحارب ويجابه الاحتلال الصّهيونيّ ويعلن دعمه لكلّ أشكال مقاومته وانتصاره لها.

ويكفيك أن تعلم أنّه اجتمع على الفرح بموته الكيان الصّهيوني وأنصار الطّغاة من الحكام المجرمين وذباب الثّورات المضادة الالكترونيّ، فهذا والله شهادةٌ عظيمة له تزيد في رفعته وتزيدُ في ذلّهم وهوانهم.

ثامناً: همّة التأليف

إن نظرتَ إلى جهود الإمام في العمل العام فستظن أنّه لم ينشغل بغيره، فما يفعله في العمل العام يحتاج إلى أكثر من حياة، وحين تنظر إلى مؤلفاته التي ستخرج في موسوعة قوامها مئة مجلّد كلّها مؤلفات نوعيّة إبداعيّة ليست من قبيل تكرار المكرّر ولا النّسخ واللصق؛ تظنّ أنّه انقطع عن الحياة للتأليف فحسب، إنّها بركة الوقت وهمّة العمل والنّفوس الكبيرة التي تتعب في مرادها الأجسام.

تاسعاً: العقل المؤسّسي

تميّز الإمام بعقليّة مؤسّسيّة فذّة، فعمل على تأسيس المؤسسات للعلماء والفقهاء والدّعاة. فعلى سبيل المثال لا الحصر هو مؤسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومؤسّس المجلس الأوروبيّ للإفتاء والبحوث، ومؤسّس كليّة الشريعة في جامعة قطر.

هذه العقليّة المؤسّسية قلّ من يتسم بها من الفقهاء الكبار، وهي تحتاج إلى جهود كبيرة ومضنية ووقت عريض، ومع ذلك كان يتصدّى لها الإمام القرضاوي باقتدار كبير.
عاشراً: الرقيّ مع الخصوم وإهمال المعارك الجانبيّة

ممّا تميّز به الإمام أنّه كان عفّ اللّسان مع المخالفين له والمسيئين له على السّواء، وكان يترفّع على الردّ على من يؤلّفون الرّدود عليه ويكيلون له السّباب والشتائم. ولعلّه كان من أكثر من تعرّض للهجوم في هذا العصر بسبب مواقفه الجريئة الاجتهاديّة والفقهيّة والسّياسيّة، ومع ذلك كان يسارع إلى إنصاف مخالفيه ومنتقديه، ويتراجع في العلن معتذراً عن أيّ خطأ اجتهاديّ يظهر له وقوعه فيه. وكان حريصاً ألّا يدخل في معارك مع غير الطّغاة والمستبدّين والمحتلّين، ويوجه الشّباب إلى تركيز معركتهم مع الطّغيان والاستبداد والاحتلال وعدم الانشغال بالخصومات، وهذا رقيّ نفسيّ وخلق عظيم لا يستطيعه إلّا الكبارُ حقّاً.

تلك إذن عشرة كاملة، قد يوجد أحدها في آحاد العلماء والدّعاة، ولكن اجتماع العشرة في شخص واحد هو التفرّد الذي اتسم به الإمام القرضاوي، فاجتماعها كلّها في شخص القرضاوي هو الذي جعله إمام العصر. فالإمامة ليست محض لقبٍ يطلقه من شاء على من شاء، بل هي الزعامة التي يكسبها من أفنى عمره لأجل رفعة هذا الدين واجتمعت فيه من الصفات والمزايا ما عزّ اجتماعها فيمن سواه.
باجتماع هذه المزايا كلّها في شخص الإمام القرضاوي حقّ له أن يتفرّد في حياته وفي موته، وحق له أن يغدو القرضاوي الإمام، والقرضاوي المدرسة، والقرضاوي المنهج.

https://www.tg-me.com/menoathgafi
مقالات مختارة
Video
📝دفاعا عن القرضاوي

بقلم : محمد ألهامي

بلغ تراث العلامة الشيخ يوسف القرضاوي مائة مجلد، أو يزيد، بحر خضم من العلم والفقه والفكر والدعوة والأدب..

أكثر الذين رأيتهم ساخطين على الشيخ لمحت فيهم أمرين:

1. أنهم لم يقرؤوا للشيخ إلا أخطاءه -أو ما يرون أنها أخطاؤه- من هذا التراث الواسع، قرؤها في ردود غيره عليه، أو على المنتديات.. فصارت صورة الرجل في أذهانهم صورة الرجل الذي يتعمد الخطأ ويتقصده ويسعى إليه، أو في أحسن الأحوال صورة الرجل الكثير الخطأ الذي هو في أحسن الأحوال ومهما عذرناه، لا يؤتمن على الدين.

وصار هؤلاء يستغربون ولا يتصورون كيف يثني عليه الجمع الغفير من العلماء وطلبة العلم، ويجدون في أنفسهم هذا الحزن الكبير على فقده!

وها هنا مشكلتان معا؛ الأولى أنهم كالرجل الذي لم ير من الفارس المغوار إلا لحظات كبوته، فما يصدق أن هذا فارسٌ أصلا، وهو بعد ذلك يتهم عقول الذين يتغنون بشجاعته!

والثانية أنه لو افترضنا أن القرضاوي أخطأ في كل مجلد مرة أو مرتين، فكان مجموع أخطائه مائة أو مائتين، لكان هذا على كثرته هو من القليل المغمور في بحر حسناته التي أصاب فيها.

2. ولمحت في هؤلاء الساخطين أيضا أنهم لا يستحضرون سوى المواقف القريبة الحديثة الوقوع، ويكادون لا يعرفون كيف أسهم هذا الشيخ في التصدي للشيوعية وقت أن كانت تأكل الأخضر واليابس، وكيف أنه وقف يجادل عن الحل الإسلامي ويدافع عنه في تلك الأيام السود التي لم يكن للمسلمين فيها منبر ولا إذاعة ولا قناة، فكان هو منذ شبابه، وبين جيل الكبار الذين رحلوا، صخرة شماء تكسرت عليها موجة الشيوعية العاتية في الخمسينات والستينات.. ثم وقف هؤلاء أنفسهم يرعون جيل الصحوة الإسلامية الذي تجدد في السبعينات والثمانينات، فبذلوا في محاولة رعاية هذا الجيل رحيق أعمارهم وخلاصة جهدهم لينفوا عنه الغلو والذهاب إلى التكفير، وليحفظوه من تيارات التمييع والليبرالية التي صارت ترث الشيوعية بعد تفوقها!

هذا مجهود ضخم ضخم في وقته وزمانه، لا يمكن استيعابه إلا إذا فتحت كتب الشيخ القرضاوي وأقرانه التي كتبها في تلك الأحقاب، ورأيت فيها لهيب المعارك الضارية التي كانت تأكل الشباب وتستنزف عقولهم وقلوبهم!

ثم ثمة أمر ثالث لا يلتفت إليه أصحابنا الساخطون، وهو المجهود الضخم الذي بذله الشيخ -وأقرانه- في الحفاظ على المسلمين المقيمين في الغرب.. وأنا أعترف هنا أني لم أستوعب حجم الخطأ والضرر والانهيار في مسلمي الغرب إلا بعد أن عشت في تركيا فرأيت فيها شيئا من التعلمن والتغريب الذي أصاب صميم المجتمعات!

أولئك الأقوام الذين يعيشون في الغرب من المسلمين، والمسلمون الجدد منهم، يحتاجون خطابا آخر، وفقها آخر، غير الذي يمكن قوله وتطبيقه في عالمنا العربي المسلم الذي لا يزال الإسلام يهيمن عليه وعلى تفاصيله.

لقد واجه هذا الجيل نوازل هائلة حقا، واستلموا زمام العلم والدعوة يوم كانت الإسلام تعصف به العواصف، فما رحلوا حتى تركوا كثيرا من العلم وكثيرا من المؤسسات الإسلامية التي سعت لتقديم البديل الإسلامي الحلال لعالم مغمور في الحرام!! وكان القرضاوي رأسا في هذا الجيل!!

وأي إنسان معرض للخطأ، ثم هو في لحظة الضعف والهزيمة أكثر عرضة له، ثم هو في لحظة الاجتهاد في عالم شكّله أعداء الإسلام إنما يقع بين مآزق عديدة واعتبارات كثيرة وتتزاحم عليه المفاسد فيكون مضطرا لاختيار أدناها وارتكاب أهونها، وفي هذا الواقع يندر أن تتزاحم عنده المصالح ليختار أعلاها!

وثمة أمور لا تُدرك بالنظر في الكتب، بل لا تُعرف إلا بممارسة الحركة واختبار الحياة، فالعمل في لحظات التأسيس صعب عسير، ومن طال ضربه في الأرض اتسع عنده إعذار الناس، ومن نعم الله على المرء أن يعرف زمانه ليستقيم فيه ويستقيم له!

وإني، بعد كل ما تقدم، قد أخالف ما انتهى إليه الشيخ في قليل أو كثير، في أصول أو فروع، (وهذه والله عبارة بغيضة إلى نفسي أن أقولها، لا سيما في هذا الموطن).. لكني أقف متصاغرا متضائلا أمام هذا الجهد الهائل والبذل الكثير والنشاط الواسع!

لا زلت بعد مرور الساعات أشعر بمرارة الحزن لفقده، وأشعر بانهداد ركن العلم الذي كان قائما، وأشعر بفراغ لا أعرف من ذا الذي يسده، وبعلم غزير قد ارتفع من الأرض بقبضه.

فرحمه الله وأجزل مثوبته ورضي عنه.. وعوضنا خيرا منه.

https://www.tg-me.com/menoathgafi
مقالات مختارة
Photo
📝وسائل التواصل.. منابر للتفاهة والعبث

الكاتب: إسلام ويب

فتح "الانفجار الرقمي"، والارتفاع المتزايد لمستعملي الإنترنت، والبحث الدؤوب لتحقيق أعلى نسب للمشاهدة والنقر، من خلال السعي وراء الإثارة "الحصرية" والفرجة الجماعية، وبالتالي تحصيل أكبر ربح مادي، الباب أمام المواقع الإلكترونية لتقديم بضاعتها التي تحقق لها هذا المراد دون أدنى تقييم فني أو بحث عن الأثر الإيجابي الناتج، ضاربة عرض الحائط بضوابط ووظائف الرسالة الإعلامية وأهدافها.

لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ـ على سبيل المثال: برنامج التيك توك، واليوتيوب، وكييك، وسناب شات، وإنستجرام، وغيرها الكثير ـ عوالم جاذبة لأغلب المتصفحين ـ على مستوى جميع الأعمارـ، وباتت أماكنهم الأكثر أريحية واستقطابا، يتهافت عليها الجميع لكسر جمود الحياة اليومية وصراع لقمة العيش المضني؛ولذلك فقد تم الترويج لهذه المواقع بسهولة وبساطة مستغلين بذلك أسلوب الحياة العصرية السريعة. 

عبث ومهازل أخلاقية
ومن يتابع هذه المواقع سيرى بكل وضوح كمية الترهات والأعمال السخيفة والفارغة والتافهة التي تعرض عليها، فإنه يتم نشر آلاف بل ملايين الفيديوهات والعروض الترفيهية المنوعة والتي تستهدف في أغلبها الجيل الجديد، جيل الرقميات والحداثة التكنولوجية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية. بل أصبحت هذه المواقع "تبدع" في كل مرة وتتفوق على نفسها في إنتاج مواد "إعلامية أو ترفيهية" صادمة، بالنظر إلى حجم التفاهة والعبث الذي تذهب إليه وفي أحايين أخرى الحضيض الذي تنزل إليه، دونما أي انشغال بالقضايا الحقيقية التي تهم حياة المواطنين في العالم.

وجعلت هذه المواقع من الفضيحة والإثارة واستغلال مآسي الناس ومعاناتهم، من خلال الخوض في حياتهم الخاصة والتشهير بهم، ونشر فيديوهات تخترق خصوصياتهم وحياتهم، بل أحياناً يبلغ الأمر حد محاكمتهم علناً أمام سلطة الشارع، حتى أصبحت هذه السلوكيات وسيلة تقتات منها الكاميرا ومادة تتكسب منها تلك المواقع، لا ينظر فيها إلا كونها تحقق أرقام مشاهدات عالية، ومردودية مالية. 

واستغلالا لرغبات المتابعين لهذه المواقع في البحث عن الجديد والغريب، ونتيجة لهذا التهافت الملفت لمتابعة كل ما هو غير مألوف واعتيادي، أصبح تسخيف المحتوى الإعلامي على تلك المنصات أشبه بضرورة ملحة وكلمة السر لنجاحها يراها القائم على صناعتها لتلقي الاهتمام المناسب والكافي.

إن من أكبر مساوئ متابعة هذه الحسابات أن أغلب من يتابعها أو يشاهد تلك الفيديوهات المنشورة فيها ـ والتي تسفر عن سطحية مفرطة ـ يشعر بالامتلاء والتشبع من الأخبار الهامشية والفقيرة، ويصبح نتيجة ذلك غير مستعد لمتابعة أخبار مصيرية مهمة وأحداث حيوية تناقش حياته وأحوال بلاده، بمعنى أنها تحول متابعها إلى إنسان مهمش يعيش خارج واقعه، وينشغل عن مهمات حياته.

إضافة إلى ذلك فإن هناك معركة أيديولوجية واختراقا صارخا لأخلاقياتنا وعاداتنا وتقاليدنا، يتلازم يدا بيد ويتماشى خطوة خطوة مع الاستغراق الكامل لهذه المواقع التي تعمل بالخفاء لتتلاعب بموازين مجتمعاتنا المحافظة.
يقول مهاتير محمد ـ رئيس الوزراء الماليزي السابق ـ في كتابه "الإسلام والأمة الإسلامية": "الإعلام له أجندته الخاصة في الوقت الحالي؛ لأنه يريد تشكيل العالم، وليس العالم أو فكر قادته هو الذي يشكل التغطية الإعلامية. إن ما تراه وسائل الإعلام أو ما تعتبره صحيحا للعالم، هو الذي تعتد به الآن وتأخذه في الحسبان".

ومن نتائج تلك المتابعة الدائمة أنها تجعل أغلب المتابعين يعيش حياة ازدواجية ما بين الواقعية والافتراضية.. وكثير منهم يقوم بتقليد تلك المشاهدات ومحاكاتها من قبل الكبار قبل الصغار بلا اهتمام بالمعايير الأخلاقية المجتمعية، والقيود القانونية رغبة في الشهرة أو وسيلة للهرب من واقع محبط أليم.

ومن النتائج للأسف الشديد ـ أن "صنعة" السخافة والتفاهة أصبحت بضاعة رائجة، وبات البعض أحيانا يتصنع الجنون، والآخر يتصنع البلاهة، وآخرون يتصنعون (العظمة) ويمارسون الخفّة في أتعس مفرداتها، ووجدنا بعض من ينتسبون إلى الفن، يعيشون ذات الدور، في نرجسية وكبرياء بليد، ظنا منهم أن المال يصنع الاحترام والاهتمام والذكاء والخلود.. كل ذلك بغية الحصول على متابعين، وتحقيق شهرة زائفة، تخفي خلفها "عقولا فارغة"، ومستوى فكريا غير متوازن ومستقر. ولكنها تستهوي جماهير عريضة خصوصا في سوق العرب، وإن كانت غالبيتها تتابع للوناسة والضحك والتسلية!

إن تسطيح الفكر وتهميش العلم والجد والعمل، من آثار هذا الاستغراق، فالمشكلة أكبر من مجرد اختراق إعلامي أو مخالفة لأخلاقيات المهنة، إنها أكبر من ذلك في الواقع، فالعلماء والمفكرون والأطباء وأصحاب المواقع الجادة، سواء على تويتر أو الانستجرام أو سناب شات مثلا، تجد من يتابعهم ـ ليستفيد من أفكارهم وآرائهم وعلمهم ـ قلة قليلة، في
مقالات مختارة
Photo
الوقت الذي تجد متابعي "مروجي التفاهات" بعشرات الآلاف وربما مئات الآلاف، وهو مؤشر غير إيجابي على الإطلاق.

وواحدة أخرى خطيرة من عواقب متابعة هذه المواقع المفتوحة بلا قيود، أنها أصبحت وسيلة للإغراء والإفساد، ومحلا لاستعراض الأجساد، ومرتعا للدعوة للفواحش ونشر الفجور؛ وهذا ما نشاهده حقيقة، عري فج، وممارسات لا أخلاقية تمارس وتشجع عليها بحجة "الحرية الشخصية"، ولكنها تضرب في الصميم في أخلاقيات المجتمعات المسلمة وتهدم كل المبادئ والقيم للمجتمعات المحافظة. 

تنبيه هام
أولا: لابد أن نقول إننا هنا لا نعمم، ولكن نؤكد بأن هناك منصات تقدم فكرا رائعا ومضمونا نافعا، وأفرادا تحرص على الجدية والمصداقية والسلامة الاجتماعية ولكنها قليلة وبلا تأثير ولا يكاد يسمع لها صوت في خضم هذا الموج العاتي والضجيع العالي.

ثانيا: إن مقاومة هذا النوع من وسائل الإعلام إنما يكون أولا بنشر الوعي وبيان الآثار المدمرة لمتابعة هذا الهراء، مما يحرم أصحاب هذه المواقع من نسبة كبيرة من المشاهدات، وبالتالي فقدان مبالغ كبيرة مما تدره عليهم، فلولا أنهم وجدوا من يشجعهم على هذا الفساد لتراجعوا عنه.

على الآباء والأمهات تحصين الأجيال القادمة من هذه اللوثة، كما عليهم تطعيمهم ضد تلك الجراثيم والأوبئة. 
ازرعوا فيهم روح الإبداع والجدية واحترام العقل والإنسان. 
انزعوا من قلوبهم أي تعاطف مع من يحاربنا بلساننا وبأسمائنا. 
ينبغي تفعيل قوانين الإعلام في مجتمعاتنا، لحفظ إرث يُحارَب ويشوّه من الداخل أكثر منه من الخارج؟

ثالثا: أننا لسنا ضد الاستمتاع وحب الاستطلاع والاستكشاف، ولكننا ضد تسخيف المحتوى الإعلامي ليناسب بعض العقليات السطحية، وليستدرج الشباب المراهق للمخاطرة بالقيام بتحديات غير اعتيادية وبالأغلب خطرة.. أو ليكون منبرا لنشر أفكار دخيلة ومنحلة تعبث بأيديولوجية وفكر الشباب المسلم.

https://www.tg-me.com/menoathgafi
. ~بسم الله الرحمن الرحيم~

. 📝.قناة.مقالات.مختارة.tt 📝

💡 قناة تحتوي على مقالات حول القضايا اليمنية والعربية والاسلامية

🌍 مقالات سياسية حول القضايا العربية والاسلامية

🧠 مقالات فكرية في الفكر الاسلامي

👨‍👨‍👧‍👧 مقالات اجتماعية والقضايا الشائكة في المجتمع المسلم

🌦 مقالات إعجاز علمي من القرآن والسنة للرد على الملاحدة

📚 مقالات تاريخية ( أحداث - معارك وفتوحات -شخصيات - دول)

📢 كتابات كشف وفضح العلمانيين العرب حلفائهم من جامية مداخلة ومتصوفة غلاه

أقوال العلماء و المفكرين وتغريدات الكتاب والصحفيين


~رب مقال كانت فائدته بوزن كتاب~

📚 انقر على رابط قناتنا 👇
https://www.tg-me.com/menoathgafi

ساهم في نشر الرابط 👆
2025/07/13 15:29:33
Back to Top
HTML Embed Code: