Telegram Web Link
الظاهراتية ، لكنه في النهاية وضع لنفسه منهجاً جديداً في الفلسفة الوجودية ، لقد بحثت الفلسفة العربية لدى أفلاطون وأرسطو عن وسائل لتطوير حججها الفلسفية ، وقد كان الفلاسفة العرب من الكندي ومروراً بالفارابي وابن طفيل وانتهاءً بابن رشد تحرّكهم غاية أساسية وهي جعل حقائق الفلسفة متماسكة ، لقد نشأت الفلسفة العربية – الإسلامية خلال القرن الثامن الميلادي وامتدت حتى القرن الثاني عشر ، ثم عادت للنهوض في القرن الرابع عشر على يد ابن خلدون ، وقد انجزت خلال تاريخها هذا عملية ضخمة تمثلت أولاً في الحفاظ على التراث الفكري العالمي " البابلي – الهندي – اليوناني – المصري القديم " والسعي الى تقديمه الى الشعوب الأخرى كاملاً ، أما البعد الثاني والمهم هو تطوير هذا التراث تطويراً خلاقاً ، أي تجاوزه من خلال طرح أفكار ورؤى جديدة تتلاءم مع العصر الذي ظهر فيه الفلاسفة العرب ، والأهم إن تأثير بعض هؤلاء الفلاسفة وخصوصاً ابن سينا وابن رشد وابن طفيل والفارابي في حقل الفكر الفلسفي العالمي ، تجاوز النطاق المحلي ليمتد تأثيره على عصر التنوير والنهضة في أوروبا .
يكتب فرانتز روزنتال في كتابه مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي إن :" العلم هو أحد المفاهيم التي سادت الإسلام وأعطت للحضارة الاسلامية صورتها المميزة وتركيبها الخاص . في الواقع لايوجد مفهوم آخر على نفس درجة مفهوم العلم الذي كان فعالاً كعنصر حاسم للحضارة الإسلامية في جميع نواحيها . وهذا ينطبق أيضاً على المصطلحات الأكثر شيوعاً في الحياة الدينية الأسلامية مثل التوحيد والدين وغيرها . لايوجد فرع في الحياة الفكرية للمسلم وحياته الدينية والسياسية اليومية يفلت من مسلك تجاه المعرفة بوصفها شيئاً له قيمة سامية بالنسبة للمسلم " .
ومع أن وفاة ابن رشد سنة 1198 تمثل للأسف خاتمة النشاط الفلسفي عند العرب ، إلا أن تأثير هذه الفلسفة ظل مستمراً وخصوصاً في اسبانيا وبعض البلدان الأوروبية ، ولعل أعظم شهادة يقدمها لنا فيلسوف غربي عن أثر الفلسفة العربية في نهضة الفلسفة الأوروبية في عصر النهضة ، هي شهادة الفيلسوف الانكليزي روجر بيكون التي يقول فيها :" وقد طمست فلسفة أرسطوطاليس وانقطع خبرها في الغالب أما لضياع مضامينها أو ندرتها ، أو لصعوبتها أو للغيرة منها ، أو من جراء الحروب في الشرق ، حتى عهد الإسلام ، حين كشف ابن سينا وابن رشد وسواهما عن فلسفة أرسطو تلك وجلوها جلاءً تاماً في شروحهم ، فقد ألف ابن سينا أمام مقلدي أرسطو وشراحه والمكمل لفلسفته ، ثلاثة كتب فلسفية ، كما يقول في مقدمة كتاب الشفاء .. وجاء بعده ابن رشد ، وهو أرسخ الناس قدماً في الحكمة ، فنقّح أقوال الأوائل وأضاف إليها الكثير " .
عندما ظهرت أفكار أرسطو من جديد في الغرب الأوروبي في القرن الثالث عشر الميلادي ، كان ذلك عن طريق ابن رشد ، وقد أخذ المفكرون الأوروبيون آنذاك ينظرون الى أرسطو بشيء من الريبة ، ظناً منهم أن أفكاره لاتنسجم مع العقيدة المسيحية ، ومن ثم مع الفلسفة المسيحية بمعناها الأشمل ، ولعل في هذا ما يفسر العداء الذي قوبلت به أفكار أرسطو في أوروبا في القرن الثالث عشر على أنه مفكر وثني . في موسوعته تاريخ الفلسفة يكتب فردريك كوبلستون :" لابد أن نذكر في هذا السياق إن المفكر الذي قدم شروحاَ صحيحة للفكر الأرسطي هو الفيلسوف المسلم ابن رشد الذي استفاد منه كثيراً القديس توما الاكويني بوجه خاص في طرح قضايا اللاهوت بمنهج من الديالكتيك الأرسطي " .
يضع الشاعر الايطالي دانتي الليجيري ابن رشد وابن سينا في المطهر ، ويخبرنا أدم ميتز في كتابه عصر النهضة في الإسلام :" إن دانتي كان مديناً بالشيء الكثير لأفكار الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وأبو العلاء المعري في كتاباته ، ومن ذلك تأثره بنظرية النورانية الإلهية ، ونظرية التجلي الالهي ، لقد كان دانتي مديناً بالشيء الكثير للفكر الإسلامي ولابن رشد بوجه خاص ، وهذا ما جعله يضع الفلاسفة المسلمين في رتب أخرى عالية ، وأن يضع واحداً من أتباع ابن رشد وهو " سيجر الرشدي " في ملكوت السماء نفسها " .
اذن لم يكن موقف الفيلسوف العربي ازاء فلسفة أفلاطون وأرسطو موقف المقلد الذي يأخذ ما يصل إليه دون تفحص ودراسة وإضافة ، بل كان موقفه إزاءها موقف الناقد الذي يختار ما يلائمه ويحتاج اليه ، ولهذا يذهب العديد من دارسي الفلسفة العربية الى القول إن تفضيل الفلاسفة العرب لأعمال أرسطو على أعمال افلاطون ، ومنحها النصيب الأكبر من الترجمة والشرح والدراسة ، لأنهم وجدوا في كتب أرسطو ما يوافق ميولهم الفكرية ، فأخذوا بها وحاولوا أن يعملوا على التوفيق بينها وبين العقيدة الاسلامية ، وأخذوا يوضحون ما غمض من مسائل الفلسفة اليونانية ، حتى بلغ الإنتاج الفلسفي العربي بفضل الكندي والفارابي وابن رشد وابن سينا درجة جعلت "أميل برهيه" يكتب في موسوعته الفلسفية :" تجلت إسهامات الفلاسفة العرب الواضحة في علم الفلسفة وتطويرها في تصحيح ما فيها من بعض الأخطاء ،

2
والربط بين ما جاء في أطرافها من معارف متناثرة وشذرات متباعدة وإضافة شروح وافية لها " .
ولعل من المؤسف والمثير للأسى أن يصاب الكثير من هؤلاء الفلاسفة بنكبات كثيرة أبرزها اتهامهم بالكفر والزندقة ، وإحراق كتبهم ، وسجنهم أو قتلهم حتى قال أحد الشعراء في موت ابن سينا :
رأيت ابن سينا يعادي الرجال ... وبالحبس مات أخس الممات
فلم يشفَ ما ناله بالشفا .... ولم ينجِ من موته بالنجاة
ونجد ابن جبير يكتب عن محنة ابن رشد :
نفذ القضاء بأخذ كل محوه .... متفلسف في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة .. إن البلاء موكل بالمنطق
ولقد غالى البعض في اتهام الفلسفة بأنها نوع من الكلام الفارغ والزندقة ، وهذا والي قرطبة أبو يوسف يعقوب الموحدي، الذي اتخذ لنفسه لقب المنصور ينشر منشوراً كتبه وزيره ابو عبد الله بن عياش لتحريم الفلسفة وإعدام كتبها وفيه يقول :" قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام ، وأقر لهم عوامهم بتفوق عليهم في الإفهام ، حيث لاداعي يدعو إلى الحي القيوم ، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم ، فخلدوا في العالم صحفاً ما لها من خلاق ، مسودة المعاني والاوراف ، بعدها عن الشريعة بعد المشرقين ، وتباينها تباين الثقلين ، يوهمون أن العقل ميزانها ، والحق برهانها ، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقاً ، ويسيرون فيها شواكل وطرقاً ، ذلك بان الله خلقهم للنار ، وبعمل أهل النار يعملون ، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، إلا ما ساء مايزرون " .
وهكذا جرى استدعاء الفيلسوف ابن رشد إلى مجلس المنصور، وأُهين ولُعن أمام الحاضرين واتُهم بالكفر والزندقة، وأمر الحاكم بإخراجه في أسوأ حال، وإبعاده وإبعاد من يتكلّم بشيء من العلوم المتعلقة بالفلسفة، وأمر أن يطلب من الناس ترك هذه العلوم جميعا، وإحراق كتب الفلسفة كلها ما عدا الطب والحساب وعلوم الفلك التي تؤدي فقط إلى معرفة أوقات الليل والنهار واتجاه القبلة في الصلاة. ويُكثر المنشور الذي أمر الوالي بتوزيعه من التحريض على ابن رشد وجماعته.
وليس بعيدا عن ابن رشد ما حصل لمترجم كتب اليونان" بشر بن متي" حيث يخبرنا أبي حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" كيف تم التنكيل بالفيلسوف ، في مجلس الوزير ابن الفرات، حين تعرض له أبو سعيد السيرافي، محتجاً أن العرب ليست بحاجة إلى منطق، لأن إجراء لغتها في مجراها الصحيح حرفاً وكلمة وجملة، هو المنطق بذاته. وبدأ يطرح الغاز نحوية على أبي بشر لا علاقة لها بموضوع النقاش. الشيء المثير في هذه القضية أن الوزير ابن الفرات اعتبر تصدي السيرافي للمنطق وتسفيه أفكار بشر بن متى نوعاً من "الانتصار للدّين "!
وبعد نكبة ابن رشد ، نُكبت الحضارة العربية حين ضُرب طوق محكم حول الفلسفة ظلّ متواصلاً طيلة قرون، تماماً كما ضربت الأطواق على خير ما أنجزته العقول في سياق الحضارة العربية، فتراكم التراب على "مقدمة بن خلدون"، ولم يتابع أحد المنجزات التي قدمها الفلاسفة العرب في العلوم التجريبية، الطب والتشريح، وعلم الحساب والجبر والفلك .
لقد اصبحت الفلسفة مثار الشك والريبة عند المتطرفين ، ورغم ان الفلاسفة العرب ايقنوا منذ البداية ان غاية الدين تتشابه مع غاية الفلسفة ، من حيث ان كليهما يسعى الى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق وعمل الخير ، وقد حاول الفلاسفة العرب التوفيق بين الدين والفلسفة في اسلوب ليس فيه عنف ولا نزوع الى التجريح ..في المقابل كان موقف المعادين للفلسفة متشدداً يسعى الى اتهام كل من اشتغل بالفلسفة وعلومها بالزندقة ، وقد بالغ بعض المتطرفين في هذا المجال حيث كانوا ينفرون من كل علم يتصل بالفلسقة او ينسب اليها ، ويروي ابن الاثير في كتابه " الكامل في التاريخ " ان نساخي الكتب في بغداد عام 900 ميلادي ، طلب منهم ان يقسموا صادقبن بأن لا ينسخوا كتاباً في الفلسفة .
ولعل اعجب الأراء التي طرحت بشان الفلسفة العربية هي في الخلاف على تسميتها هل هي فلسفة عربية ام فلسفة اسلامية ، فالبعض يقول انها فلسفة عربية لان رجالها كانوا يكتبون مؤلفاتهم بالعربية ، ومنهم من يقول انها فلسفة اسلامية لان العديد من فلاسفتها من اصول غير عربية .
يكتب الدكتور جميل صليبا في كتابه بحث في الفلسفة الإلهية عند ابن سينا : " ان الذين يجحدون وجود فلسفة عربية يثبتون وجود فلسفة اسلامية ، برغم كل ما نفذ اليه من العناصر الاجنبية ، ظل اثرا من اثار العبقرية العربية . اما ان اكثر الفلاسفة من اصل غير عربي فلا نكران له ، لكن الذي لانجد لم مستساغا هو القول بان الفلسفة التي يسميها العامة فلسفة اسلامية ليست تستند إلى الجنس العربي . نحن نتكلم عن فلسفة عربية ، كما نتكلم عن دين عربي " .

3
لقد استطاعت الفلسفة العربية ان تؤثر فيما تلاها من حلقات ، اسلمت اليها التراث القديم بعد ان هذبته وادخلت عليه ما ادخلت ، وولم يبق اليوم شك أن فلاسفة العصور الوسطى في اوربا قد افادوا من الفلاسفة العرب واخذوا عنهم ، مثلما تمعن رواد النهضة الاوربية بمفاهيم هذه الفلسفة ، لنجد ان الحب الفلسفي الذي قال عنه سبينوزا يشبه كل الشبه نظرية السعادة عند الفارابي ، وبرهان الرجل المعلق في الفضاء يقترب كل القرب من " الكوجيتو " الديكارتي ، ونظرية النبوة التي قال عنها الغزالي كانت الاساس الذي بنى عليه القديس توما الاكويني مفاهيمه الفلسفية .
والآن ربما السؤال الذي يجب ان يطرح هو كيف لنا ان نتفلسف ونحن شعوب تفقد ابسط حقوقها ، وتعيش في واقع عربي صدئ ؟ ، كيف للانسان العربي ان يناقش موضوعات مثل الهوية وهو مغترب في بلاده ؟ ،ان لم يفرض عليه النظام العربي ان يعيش في المنفى ، كيف للمواطن العربي ان يناقش موضوعة حقوق الانسان ، وهو مستلب الحرية ؟ ، كيف لنا ان نناقش موضوعة الحرية ،والانظمة السياسية تمارس الاستبداد ، كيف يمكن ان يظهر في بلداننا فيلسوف مثل كانط يطرح سؤال التنوير ، ونحن ضحايا رعب المتطرفين ، كيف يمكن لبلدان لاتزال تعيش عصر السقيفة ان تسمح للمواطن بان ينتج فلسفة ، والفلسفة لا تنشا إلا في الامم التي تعيش من اجل المستقبل .
أن الفلسفة مهمتها ايقاظ الضمائر وتحرر العقول ، لكنها بالمقابل ليست بناءً يرتكز في الفراغ ، وكما قال فؤاد زكريا ان الفلسفة : " لا يمكن ان تُشيد في الهواء " ، فهي تحتاج الى واقع صلب تستند اليه ، ولا يمكن ان تتطور إلا اذا تطور الواقع الذي تعبر عنه ، وهي لا يمكن ان تصبح قوة فاعلة ما لم تخوض معركتها الحاسمة من اجل اتاحة الفرص للفكر ان يعبر عن نفسه بحرية .
في مقال بعنوان " فلسفتنا وكيف تظهر " – نشر في مجلة الفكر المعاصر عام 1966 – يكتب فؤاد زكريا أن :" من المنطق قبل ان نقول نريد فلسفة عربية " ان نقول نريد فلسفة فحسب ، اي ان المطلب العام ياتي قبل المطلب الخاص .. بمعنى ان علينا ارساء دعائم الفلسفة في عمومها ، حتى نطالب بفلسفة خاصة بنا " .

4
سام صلف جداً ليعرف الحب.

لنفهم أعمال بيكيت الأدبية علينا أن نحاول فهم بيكيت نفسه.




عاش بيكيت طفولة في منزل يعج بالقيم الروحانية والدينية، لعائلة ميسورة الحال تنتمي إلى الطائفة البروتستانتية، حيث نشأ بيكيت وشقيقه الأكبر (فرانك) نشأة بروتستانية، كان في صغره متفوقاً في دراسته ومهتماً بلعبة الكريكيت، عاشقاً لمشاهدة الأفلام الصامتة، كأفلام شارلي شابلن وبوستر كيتون.
وكانت الأم شديدة التدّين، ولها مقعد خاص في الكنيسة تتلو الصلوات برفقة أولادها، كانت تقودهما غصباً إلى الكنيسة ولا تسمح لهما باللعب مع الأطفال في مواقيت الطقوس الدينية.
مزاجية جداً، لا تهتم بالتزّين، يباغتها البكاء وهي ضاحكة، عصبية لدرجة الشراسة، شراسة لا تُحتمل تطرحها أرضاً بنوبة صرع كمهدىء صلف لهياج مبهم، منعزلة لا تحب الاجتماعات، تتهرب من الواجبات الزوجية، وبسبب هذه الصرامة الدينية ومزاجية أمه، غلغل مقته نحو الدين ولها في نفسه، كما حدث بأقل حدة مع الفيلسوف كانط.
وحين توفيت والدته وأصيب شقيقه فرانك بالسرطان، قال: "ماذا فعل الدّين لأمي وأخي، وكانا متدّينين"
في رواية مولوي يكتب بيكيت على لسان بطل روايته : "كنت أذهب إلى أمي. ومن وقت لآخر كنت أقول أمي، دون شك لأشجع نفسي".
وكان سام يكره أمه ويشفق عليها في آن واحد، ولا عجب حين أباح بهذا الإحساس في روايته مولوي، حيث يشعر أن أسوأ ما فعلته والدته به، أنها ولدته.
صرخة الطفل خروجاً من رحم الأم، صرخة معبرة عن الأمان، الذي سيعوضه عن ملاذ الرحم المفقود، وحين يغدو الطفل في طور الجَحْوَش يبدأ تشكّل الحب والكره داخله استناداً على المعاملة، فإن كانت الأم عطوف أحب، وإن كانت قاسية كره، وبيكيت لم يحب والدته نظراً لسوء المعاملة منذ طفولته حتى هروبه منها في مرحلة الشباب.
يصف بيكيت طفولته،حين طُلب منه ذلك، فيقول:
"كانت بلا أحداث، يمكنك أن تقول إنها كانت طفولة سعيدة، على الرغم من أن موهبتى فى السعادة كانت ضعيفة. أبواي فعلا كل شيء يجعل الطفل سعيداً، ولكني كنت وحيداً في معظم الأحيان"
وإن كنا نلتمس تحايل من قبل بيكيت بهذا الوصف، فإن الوحدة والعزلة التي عاشها مأخوذة من أمه، التي كانت تقضي معظم وقتها وحيدة، يقول بيكيت : حين يكون المرء وحده يكون وحده تماماً.
كان بيكيت يحب أباه، ولكن نادراً نجد بيكيت يصف علاقة الأبوة في أعماله الأدبية، إلا في رواية مولوي ومسرحية نهاية اللعبة، ومن خلال تتبعي لسيرة سام لم أجد صلة بينهما.
وعندما توفي والد سام فجعه فقدانه، وكانت الزوجة الأرملة، في حداد بلباسها الأسود، فيصفها صمويل: ملفعة تماما بالأسود، حجر في قلب الليل.
بعد وفاة والد سام عاش فترة اكتئاب، لجأ إلى طبيب نفساني، خضع لعشرات الجلسات العلاجية، منحته سكينة مزيفة.
يقول سقراط: لم أكن لأطمئن إلاَّ وأنا في حجر أمي.
وهذا ما فقده سام، غياب الطمأنينة التي تمنحها الأم لولدها، فيضمحل الحب ويصّير كرهاً بسبب القسوة.
فقد سام الحب الفطري، الحب بلا مقابل، الحب الذي يشعر الإنسان به بالراحة مهما عصفت به الرياح، يعود إليه في الأوقات الموحشة.
الشاب الشغوف والبحث عن الحب.
توجه بيكيت عام 1928 إلى باريس ليعمل مدرساً للغة الإنجليزية، بمدرسة المعلمين العليا، وهناك التقى بالروائي الإيرلندي جيمس جويس، ربطتهما صداقة عميقة، تقاسما العزلة والعبثية، وحوارات الصمت الطويلة.
حتى شاهد لوسيا جيمس جويس فأحبها، لعله يعوض ما فشل به مرتين في شبابه، لكن الأمر لم يدم، فبعد تعمق في العلاقة استهجن سام تصرفاتها، حيث كانت لوسيا مصابة بالشيزوفرينيا، ووجد بها إضطرابات شديدة، فانفصل عنها، حاولت لوسيا الانتحار، ثم أُدخلت المصحة بسبب سوء حالتها النفسية بعد الانفصال.
علاقات حب فاشلة تعوضها عاهرة.
يقص علينا بيكيت هذه العلاقة بقصته الحب الأول، ولعلى العنوان فيه تحايل مرة ثانية منه، فهذه العلاقة هي الرابعة، وليست الأولى.
والقصة كما تلخصها المترجمة العشماوي: "القصة تحكي مفارقات حياة إنسان بسيط وربما يكون متخلفاً عقلياً أو- على الأقل- معوقاً. لأن والده كان يحميه أو يرعاه قبل وفاته: طالما أنه لم يؤذي أحداً وكان الوالد يطلب من بقية أهل البيت أن يتركوه في غرفته ولا يطردوه من البيت ولكن بعد وفاة الأب طرد أهل البيت الشاب من بيته، فهام على وجهه ووجد المأوى في غابة فوق دكة خشبية، ولكن جاءت امرأة تزعجه......".
فشعر بالحب لها، بات في بيتها عدة أيام ليكتشف أنها عاهرة، لكن ذلك لم يصدمه، إنما أصوات التأوهات التي أزعجته، كونها كانت تستقبل زبائن في بيتها وهو في الغرفة المجاورة، وكانت العاهرة حبلى، فاتهمته. "كانت لا تكف عن المثول أمامي في كل لحظة لتقتلني بطفلنا وهي تريني بطنها وثديها وتقول لي إنه سيأتي إلى هذه الدنيا بين لحظة وأخرى وأنها تحس به وهو يتحرك منذ الآن.

1
فقلت لنفسي: إذا كان يتحرك فهو ليس من صلبي".
ثم يغادر بعد أن يطمئن أنه ليس من صلبه، ويختم القصة : من الضروري أن أقع عدة مرات أخرى في الحب ولكن الحب لا يخضع للإرادة ولا يأتي بناء على طلبنا"
هل كانت المترجمة فوزية العشماوي لم تكن تعلم أن بيكيت يكتب قصته، فالظاهر لي أنها لم تقرأ سيرة بيكيت، لو أنها قرأتها لما كتبت: تصف بطل القصة ب"المختل عقلياً، أو معوقاً" بل اكتفت بتواريخ نتاج سام الأدبي، لكن وصفها لسام كان الواقع.
"الحب لا يخضع للإرادة"
عاش بيكيت بعد علاقته مع المومس عدة علاقات حب شهوانية، حب عابر وفاشل ، حتى التقى بسوزان فأعجب بها وكتب لها : "أحبيني ولكن قليلاً، إنني لا أستحق هذا الحب، هذا يجعلني تعيساً، أنت لا تعرفينني"
سوزان أحبت سام، وسام لم يعرف الحب، حرمها من رغبتها بأن تكون أماً، خانها عدة مرات، وعاشت معه ظروف وأوقات صعبة، يتزوجان عام 1961 ورغم ذلك بقيت معه حتى وفاتها، وانتقم من أمه بحرمان سوزان أن تكون أماً.
كتب بيكيت: "إن الحب هو المنفى"


2

طارق أبوبكر
#على الجذور الرباعية لمبدأ العقل الكافي وكتابات أخرى..
من أجل القلة الذين سبقوا عصرهم والذين اهتموا بفلسفتي ، أقوم بكسر سبعة عشر عامًا من الصمت من أجل تقديم بعض الدعم الذي تلقته فلسفتي من التجريبيين غير المتحيزين الذين لم يكونوا على دراية بها ، والتي كانت طريقتها ، التي تهدف إلى المعرفة من التجربة فقط ، تسمح لهم باكتشاف ما قدمته نظريتي في نهايتها على أنها النقطة الميتافيزيقية التي يمكن من خلالها شرح التجربة بشكل عام. هذا الموقف مشجع للغاية لأنه يميز نظامي عن جميع الأنظمة السابقة ، وكلها ، باستثناء أحدثها من قبل كانط ، لا تزال تترك فجوة واسعة بين نتائجها وخبراتها ، وهي بعيدة جدًا عن الوصول الفوري إلى تجربة ولمسها. تثبت الميتافيزيقيا الخاصة بي أنها الوحيدة التي لديها بالفعل نقطة اتصال مشتركة مع العلوم الفيزيائية ، وهي النقطة التي يلتقون بها بوسائلهم الخاصة ، بحيث يتواصلون معها ويتفقون معها ؛ وفي الواقع لا يتم تحقيق ذلك عن طريق التواء وإجبار العلوم التجريبية على أن تتناسب مع الميتافيزيقيا ، ولا عن طريق تجريد الميتافيزيقيا سرًا مسبقًا من العلوم التجريبية ثم ، بطريقة شيلينغ ، إيجاد بداهة ما تعلمته لاحقًا ؛ بدلاً من ذلك ، يلتقي كلاهما بمفردهما وبدون تآمر في نفس النقطة. لذلك ، فإن نظامي ، مثل كل الأنظمة السابقة ، لا يطفو في الهواء عالياً فوق كل الواقع والخبرة ، ولكنه ينحدر إلى أرض الواقع الثابتة حيث تستقبل العلوم الفيزيائية المتعلم بدورها.

#على الجذور الرباعية لمبدأ العقل الكافي وكتابات أخرى
#شوبنهاور
_ترجمة (ب.س)..
الضحك والخطيئة
يزيد بدر




المقدمة:

إن الضحك يعزى عادة إلى ما هو ناقص وخاطئ، ومن ثم إلى التناهي والمادة، ومن هنا جاء إستهجان وتهميش الضحك عبر التأريخ كما سنرى، والفرضية التي أدافع عنها في هذه المقالة هي كالتالي: الضحك وجوديا يحيل إلى(الفراغ) وليس العدم حيث أن هذا الأخير مرادف لمفهوم إشكالي أي الوجود ومن هنا نسج هيغل فلسفته، لكن ماذا أعني بالفراغ ؟

١-أولا علينا أن نعي بأن الفراغ لصيق للمادة ومن ثم هو مفهوم فيزيقي يتجاوز مباحث الوجود التي غرق فيها الفلاسفة مُنذ رِحلة بارمنيدس إلى الحقيقة! إن الفراغ مبحث في الذرية المادية وهو ما أطلق عليه : الذرية الفوضوية.

٢- الفراغ أيضا ليس عدمًا بقدر ما هو جدار مسدود كالجسد الذي لا يمكن تجاوز حدوده. ومن ثم ما يعنيني هنا هو التالي : الضحك هو موقف وجودي إزاء مساحة تُبقيها المادة خالية وهذه المساحة هي “المعنى” ولكن المعنى بوصفه يومي ولحظي فليس للحياة “معنى” وليس لها أيضا “معنى” أخير إنما هناك عالم واقع في تكرار لمعاني عابرة كالأشباح إذن لدينا بنية هنا : معنى زائل وفراغ . لذلك الرهان ينطلق من هذا السؤال : كيف نجعل اللاجدوى على قيد الحياة؟ كيف يكون الفراغ وترٌ ينبض من أجل العيش؟ لذلك إجابتي هي : الضحك. وهو نمط كينونة ومبدأ للعيش سيتم بيانه وتفصيله ومن ثم سيقودنا نمط الكينونة هذا إلى سرد بعض الشخصيات لتقريب الصورة للمتلقي على من أطلق عليهم(مُدبري اللاجدوى) ولكن قبل ذلك أريد أن أبدأ بتحليل تاريخي يتتبع مفهوم الضحك منذ أرسطو وكيف أنه أرتبط بالمادة وما هو ناقص ومتناهي وله منزلة دنيا على كل حال.



١- الضحك بين أرسطو وبرغسون:


قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تباعد شديد بين أرسطو وبرغسون من حيث البُعد الزمني ومن جهة الإختلاف الظاهري في الأطروحتين، حيث أن أرسطو ذكر الكوميديا والضحك في معرض تفلسفه حول الفن وتحديدا التراجيديا في كتابه (فن الشعر) بينما نظر برغسون إلى القضية من زاوية إجتماعية بحتة، لذلك لا يهمني هنا عرض الأطروحتين بقدر ما أريد لفت الإنتباه إلى ما يشترك فيه ما هو “مُضحك” ففي كتابه المذكور آنفا يعرف أرسطو الكوميديا بوصفها : محاكاة الرداءة. لكن علينا أن نقف هنا قليلا فما هو رديء لا يؤخذ في بعده الأخلاقي وهذه النقطة في غاية الأهمية كونها تقودنا إلى ما هو مشترك في مفهوم الضحك عند هؤلاء، فما هو رديء عنده هو ما “يثير الضحك لأنه خاطئ وناقص ” ثم يضرب مثالا لا يخلو من طرافة وأعني القناع الكوميدي فهو مضحك لأنه “ناقص ومشوه” وما نريد بلوغه هُنا هو تلك الخصيصة التي للضحك وهي: النقص واللاإكتمال والتشوه الخ فهذه كلها معاني تفيد عكس الكمال والجليل الذي يتوفر في الملحمة والتراجيديا فالنقص لا يكون إلا في عالم المادة وهذا ما سيتبين بوضوح مع برغسون : فكيف نضع برغسون في هذا السياق ؟ لاحظنا لدى أرسطو بأن ما يثير إنفعال الضحك أمر ناقص ورديء فهو ينتمي لعالم المادة لأن الصورة لا يشوبها النقص أي المُثل بلغة أفلاطون. في كتاب(الضحك) لبرغسون الذي عده الكثير سابقة في تأريخ الفلسفة وهو أمر لا يخلو من مبالغة فهناك من تناول الضحك مثل كانط في(نقد ملكة الحكم) وكذلك شوبنهاور(العالم إرادة وتمثل) الخ لكن قد يُحسب له بشكل من الأشكال أنه أفرد كتابًا حول هذا الموضوع، وعلى كلا ليس هدفنا أن نعرض فلسفة برغسون في الضحك بل أن نقرأه كما قرأنا أرسطو لنخرج بما نريده من هذا المبحث بعامة أي علاقة الضحك بالمادة والفراغ.



القانون الأساسي للضحك عند برغسون هو أن ما هو آلي وميكانيكي فهو مُضحك، وبعبارة أوضح الأشياء التي تُثير الضحك فيزيقية بينما الميتافزيقا تخص التراجيديا والخوف والرعدة وما إلى ذلك ، يضرب مثال الخطيب الذي على المنبر بينما يتحدث عن الله واليوم الآخر ومحاسبة النفس وما إلى ذلك لنتخيل أنه “عطس” فهذه النقلة من الروح إلى الجسد تثير الضحك بمعنى أخر القدوم من الماوراء إلى الطبيعة يعد أمراً مُضحكا لذلك يقول برغسون في كتابه نصا ” لهذا يحرص المؤلف المأساوي(تراجيدي) على تجنب كل ما من شأنه أن يستدعي إهتمامنا نحو المادة. إذن نصل هنا إلى مبتغانا وأعني علاقة الضحك بالمادة والتناهي والنقص، حيث رأينا ذلك عند كلا من أرسطو ضمنا وبكل وضوح مع برغسون. إذن لنستمر حتى نبلغ تلك النقطة التي تستلزم منا “الضحك” كنمط للعيش .



٢– كانط وهيغل ما بين العدم والسخرية :


لقد وضع كانط في كتابه(نقد ملكة الحكم) تعريفا للضحك ولا أبالغ بأن هذا التعريف كرره كل من قدم بعده وعلى رأسهم شوبنهاور ومن ثم برغسون وينص هذا التعريف على التالي: الضحك إنفعال ناتج عن تحول مفاجئ للعدم.

1
وهنا أريد أن أقف عند لفظ “العدم” الضحك تحول إلى المادة ومن ثم العدم، إلا أن العدم هنا ليس “نفي” يقوم به الذهن على غرار ما سارت عليه الفلسفة منذ أفلاطون، بل العدم هو جزء من العالم الطبيعي الفيزيقي لذلك أضع بديلا لمفردة “العدم” “الفراغ” حيث أن الفراغ ليس “ذاتيا” أي أنه نفي يقوم به الذهن لما هو موجود بل يسكن الفراغ المسافة بين الإنسان والطبيعة وذلك على إفتراض أنه هناك دائما قيمة(X) فليس الإنسان كائن منغلق بتجاربه على ذاته ولا هو خارج ذاته إنما هو في الطبيعة وهذه الأخيرة في تغير مستمر “تطور” مما يعني أنه لا يوجد إمكانية لخطاب مُكتمل ونهائي، الفراغ منطقة في العالم بمثابة الجدار الذي يجعلنا نرتد إلى الخلف ونعي جيدا بأنه لا يوجد غير هذا “الكون المُغلق” وداخل هذا الكون تكون أحد طُرق العيش الممكنة هي (الضحك) هنا تلمسنا عند كانط قليلا علاقة الضحك بالعدم ولكن سوف نلاحظ أن مفهوم السخرية كما عرضه هيغل في(دروس في الإستطيقا) أكثر وضوحا .



أ- السخرية للعبقري الإلهي :


ذكر هذا المفهوم هيغل كما قلنا سابقا في دروسه عن الاستطيقا، وعلينا أن نقف بعض الشيء عند هذا المفهوم وكيف نشأ حيث من خلاله سوف نعي جيدا معنى (الفراغ) ومن ثم : الذرية الفوضوية .



يقوم مبدأ السخرية على فلسفة فيخته التي ترى بأنه لا شيء راسخ ومطلق في هذا العالم إلا “الأنا” فهي تضع الأشياء ولديها القدرة على نفيها، فلا وجود هنا لما هو موضوعي فقط الأنا المطلقة القادرة على نفي كل شيء ، بعبارة أخرى الأنا التي تزرع العدم في “الوجود” فعند هذه الأنا لا شيء يعتبر في ذاته حقيقةً بل كل ما هنالك هو ظاهر فحسب. إن هذه السخرية للعبقري الإلهي تحطم كل القيود ومن ثم تعيش على ما يسميه هيغل “التمتع بالذات” والغبطة داخل “أنا” مطلقة لا ترى في الآخرية إلا ظواهر وصور ، وهنا أريد أن أقف قليلا عند هذا السؤال : كيف بلغت الأنا هذه المنزلة من اليقين والثبات بينما كل شيء قابل للتعديم والعدم؟ يعود ذلك(كما يتلمس هايدغر هذا الأمر في مشروعه الفلسفي) إلى فجر التأريخ عندما رأى الفلاسفة بأن الذهن أو العقل هو “موطن الحقيقة” ومن ثم جاءت الذاتوية مع ديكارت والأنا المطلقة التي تستطيع أن تشك في كل شيء. ومن هنا ألتمس خيطًا أوضح فيه قصدي من الفراغ و “الذرية الفوضوية” أولا الحقيقة ليست في الذهن وثانياً الفراغ الذي يسمونه العدم موجود في الطبيعة وليس أداة من أدوات الذهن أو قدرة عقلية لنفي الأشياء، الطبيعة مليئة بالعلل المجهولة(الفراغ) كما أنها لا تتسم بنظام محدد أبد الدهر لذلك هي “ذرية فوضوية” وهنا نبلغ الينبوع حيث يصل الفيلسوف إلى المنطقة القصوى والتخوم من هذا العالم وعندها يقرر بين أمرين أما سبيل هيغل ” ويمكن ألا يُشبع الأنا ذاته في دلك التمتع بالذات بل يصير هو نفسُه ناقصا على نحو أنه يشعر عندئذ بالتعطش إلى ما هو ثابت وجوهري” أو طريق كامو ” والحق أننا نهدف إلى إلقاء الضوء على الخطوة التي يقوم بها الذهن حين ينتهي به الأمر إلى العثور على معنى عميق في الفلسفة التي ييدأ منها والتي تقول بعدم وجود أي معنى في العالم” الصراع هنا بين ما هو ثابت وما هو مُتغير فماذا نختار ؟



الذرية الفوضوية ونمط الكينونة الضاحك:


الذرية الفوضوية تقول بكون مُغلق ليس له قوانين ولا قواعد، وأن هذا الكون عبارة عن ذرات لا تُختزل إلى “صورة ذهنية” كما عند أبيقور والذرية المنطقية حديثا، إنها تُبقي مساحة لعلل غير معلومة وفي ذات الوقت ترى بأنه لا شيء خارج الزمان والمكان، والذي يهمني هنا أنها تقودنا إلى حيث اللاإمكانية على الحسم ومن ثم يتبقى لنا ضربا من ضروب العيش الممكنة وهو ” الكينونة الضاحكة” فالضحك هنا موقف وجودي إزاء ينبوع العالم المتناهي وليس اللامتناهي حتى لا تُقرأ هذه الذرية بأي طريقة صوفية أو هرمسية ثيولوجية الخ في حقيقة الأمر “الضحك” يأتي متأخرا بعد أن يبدأ الإنسان معركة البحث عن الحقيقة والمعنى يصطدم بجدار الفراغ والذي يعني أن هناك حقيقة وهي “الموت” وتطور الكائنات الحية والعالم بإستمرار(هذا التطور البيولوجي والفيزيائي أحد ركائز الذرية الفوضوية)والأهم أن علاقة الإنسان بهذا العالم “تكيف”(مفهوم التكيف يحتاج تفصيل) وليس “معرفة” أو “تمثل” ببساطة هذه هي :الذرية الفوضوية. الإنسان عندي لا يعيش عالم بلا معنى أو له معنى بل يعيش عالمًا بلا “ضمانة” فما هي الضمانة الممكنة لأجل العيش؟ بمعنى آخر: كيف أبقي اللاضمانة على قيد الحياة نابضة ويانعة حية؟ إنه من خلال الضحك فما هو الضحك؟




2
الضحك كتقنية للعيش :


إننا كما أسلفنا أرتبط الضحك منذ القِدم بما هو مادي وناقص ومن حيث الأخلاق أُعتبر رذيلة نوعا ما وخاصة الإفراط في الضحك، وبينا بأن المادة ليس لها “قوانين” ولا “قواعد” إنما هناك ذرات مادية فوضوية أي لا يمكن وضعها في قانون أو إطار، وهذه الفوضوية لا تأتي من النفي العقلي بل هي من صميم العالم كونه مُتغيرا، والذي يهم في سياقنا هذا بيان أن “الضحك” موقف يُتخذ عند بلوغ نقطة ما من البحث والتقصي “للمعنى الأخير” لهذه الحياة، الضحك بمثابة الصرخة الأخيرة لكل واقعٍ صلب أي ميتافزيقا الواقع. والمادة ليست خطيئة ومن ثم وجب الدفاع عن حقنا في الضحك. هذه المقالة دعوة للضحك بكل أشكاله الخفيف والهستيري دون أي شعورٍ بالخطيئة أو الإثم.





المراجع:


أرسطو(٢٠١٤). فن الشعر. هلا للنشر والتوزيع

هنري برغسون. الضحك. المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع

ايمانويل كانط(٢٠٠٥) نقد ملكة الحكم. المنظمة العربية للترجمة

هيغل(٢٠١٤) دروس في الاستطيقا. منشورات الجمل

3
حقوق الإنسان... على أساس فلسفي

د. حسن منصور الحاج

إذا ألقينا نظرة إلى تاريخ الفلسفة فسوف نلاحظ بوضوح أن اهتمام الفلاسفة كان موجهاً نحو الميتافيزيقا بحثاً عن تفسير الكون ومصدره. وكان السؤال المحفز لتأملات الفلاسفة الأوائل مطروحاً على الشكل التالي: «لماذا هناك شيء ما بدلاً من لا شيء؟». ومن هنا بدأت الميتافيزيقا واستمرت طالما هناك تمييز بين الكائن الموجود وبين الكينونة. هذا المسار الميتافيزيقي حكم تاريخ الفلسفة، بحيث سيطر الهم الميتافيزيقي بحثاً عن المبدأ أو الأصل الكامن وراء الطبيعة الفيزيقية، وصولاً إلى عصر النهضة ثم إلى عصر التنوير، حيث برز الاهتمام بالإنسان كذات فاعلة في التاريخ وكقيمة أساسية في الكون. هنا، برزت النزعة الإنسانية وأصبح للإنسان الفرد دور مهم في صناعة التاريخ وفي بناء المجتمع القائم على القيم الأخلاقية. وهنا، لا بد من الإشارة إلى قاعدة أساسية من قواعد الأخلاق الكانطية التي تقول بضرورة التعامل مع الإنسان كغاية وليس كوسيلة. ولكن هذا المسار الإنساني تعرض لانتكاسات قوية بسبب الحروب العالمية من جهة، وبسبب ظهور الأنظمة الفاشية والنازية والتوتاليتارية الشمولية من جهة أخرى. أضف إلى ذلك بروز التيارات الفلسفية والاجتماعية التي أعطت الأهمية لدور الأنساق والبنى الخفية على حساب الإنسان كذات فاعلة، مما أدى إلى جدال عميق بين الوجودية من جهة، والتيارات البنيوية من جهة أخرى. وفي ظل هذا الواقع، برزت مسألة حقوق الإنسان حيث أطلق الفيلسوف الفرنسي الشهير جان - بول سارتر خطابه المعروف تحت عنوان «الوجودية هي نزعة إنسانية»، معلناً أنه يراهن على الإنسان. ولكن سارتر أراد أن يقيم حقوق الإنسان على أساس فلسفي.

في هذا المقال المكثف، سوف نحاول البحث عن الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان بحسب سارتر، وذلك من أجل تبرير التزامه المستبسل في الدفاع عن هذه الحقوق وتبيان كم هي صلبة القاعدة التي يتأسس عليها هذا الالتزام.

وأخيراً سنستخلص من الالتزام السارتري درساً قد يستطيع مساعدتنا على فهم الإنسان وعلى تأسيس أخلاقنا انطلاقاً منه وفي سبيله، لأنه هو نفسه مستقبله وقدره.

كيف يؤسس سارتر فلسفياً فكرة حقوق الإنسان؟ بالنسبة إليه، إن الحق هو سلب الواقع القائم. وهذا يعني أنه حافز التجاوز الدائم من حالة قائمة في الواقع إلى حالة قائمة على الحق، أو، من الكينونة إلى وجوب - الكينونة. هكذا، فإن الحق هو في آن واحد نفي (سلب) وإثبات للكينونة: سلب أو نفي لواقع قائم، من جهة، وإثبات لوجود كينونة المستقبل الذي سيكون بدوره مسلوباً أو منفياً من قبل حالة حق أخرى، من جهة أخرى. وحول هذه القضية كتب سارتر: «الحق: إثبات في كل حالة خاصة لعدم قيمة مملكة الكينونة. تدمير معمم لكل ما هو كائن** عندما أثبت حقي فإني أقوم برد فعل ضد حالة قائمة تهدد ما لدي كملكية أو ما يجب علي امتلاكه لأنه يجب أن يكون لي. ومن خلال رد فعلي ضد الواقع أدمر الكينونة التي تصبح عائقاً أمام قيمي التي من أجلها ألتزم في الكفاح ضد حالة قائمة من دون قيمة. إذن، إن حقي سيكون إثباتاً لقيمي الخاصة بوجوب - الكينونة، وتدميراً للكينونة من خلال الشروع في اللاكينونة (العدم). هكذا، أنا أفضل أن أموت على أن أتنازل عن حقي في الوجود على نمط وجوب كينونة ما يجب علي أن أكونه بصفتي مشروعاً أن أكون كل كينونتي الماضية والحاضرة والمستقبلية.

هكذا فإن سارتر يربط فكرة الحق بالنضال، خصوصاً عندما يتصور الحق بمثابة إشارة التباعد بين الكينونة وبين وجوب - الكينونة. وذلك يولّد شعوراً بالظلم لدى الناس الذين يقيمون أنفسهم كما لو أنهم يملكون الحق في أن يكونوا شيئاً آخر غير ما هم يكونون عليه في حالة قائمة ومحددة، كما تحت الاستعمار أو العبودية أو قمع الدولة. إذن، إن الحق يكون منشوداً منذ أن يشعر الناس أنهم مكسورون ضمن إطار رتابة وضع قائم ومحرومون من حقهم في الوجود كأناس حقيقيين لديهم المستقبل بمثابة مشروع حرية وتحرير دائم. بهذا المعنى كتب سارتر في «دفاتر من أجل أخلاق»: «إن الحق يختفي إذا جرى كل شيء طبقاً له. حينئذٍ يصبح عادة (أو تقليداً). فهو لا يبرز إلا عندما يكون منفياً وكنفي لما ينفيه... ففي هذه المجتمعات تحديداً (المستعمرة والمقموعة) يمكن للحق أن يوجد بسبب التباعد القائم بين الكينونة ووجوب الكينونة»***.

إذن، إن فكرة الحق هي فكرة ثورية لأنها، من جهة، رفض للعادة وللتقليد ونفي للواقع القائم باعتباره متمتعاً بحق نسبي غير أبدي، ومن جهة أخرى، تأخذ قيمتها من كونها محررة للإنسان من خلال المساهمة في تحقيق مشروعه في أن يكون مستقبل ذاته في إطار دولة حق تستطيع أن تنبعث من جديد عند كل عملية تحرير. فبحسب سارتر: «إن العيش من دون حق يعني فقدان كل أمل بتبرير الذات أي العيش من دون مبرر».****

1
إذن، الإنسان الحقيقي هو ذلك الذي يعتبر مستقبله بمثابة حق، ذلك لأن الإنسان، بحسب سارتر، هو مشروع. هذا يعني أن الموجود بصفته تجاوزاً دائماً لوضعه يمثل الحق في الشروع بحرية في المستقبل من خلال نفي الوضع القائم الذي يصبح ماضياً بالنسبة له.

على أي حال فإن حقوق الإنسان تجد أسسها في التصور السارتري للإنسان. وبالفعل، إن سارتر يعتبر أن الإنسان هو كوني مفرداً، إذ إنه بمقدار ما يشارك في الشرط الإنساني هو كوني أو كلي وبمقدار ما يكون حالة خاصة في العالم الملموس هو مفرد.

إذن، بحسب سارتر، إن الإنسان في شرطه الإنساني يكون حراً بما أنه يتمتع بذاتية فردية ولا يخضع لسيطرة «طبيعة إنسانية»، يمكن أن تمحو فرادته ووضعه الملموس. ولكن الشرط الإنساني، بكل بساطة، يحل، بحسب سارتر، محل الطبيعة الإنسانية، وذلك لأن كل الناس يمكن أن يكونوا محدّدين تبعاً لهذا الشرط، إذ إن الإنسان، حيثما يكون، يتمتع كما كل الناس الآخرين بميزة كونية وبميزة الذاتية الفردية، فهو يعيش ويموت ويأكل ويفكر كما كل البشر، ولكنه كفرد يتمتع بخصوصياته التي لا يمكن لأي شخص آخر تقاسمها معه، فهو لديه طريقة في العيش وفي الموت وفي الأكل وفي التفكير وباختصار هو مشروع ذاته. ويستنتج سارتر حول هذا الموضوع بالقول:

«إذا كان مستحيلاً العثور في كل إنسان على جوهر (أو ماهية) كوني والذي يمكن أن يكون الطبيعة الإنسانية، فمع ذلك يوجد هناك شرط ذات طابع إنساني كوني».* هكذا إذن فإن النزعة الإنسانية عند سارتر تستند إلى الإنسان الكوني - المفرد وتعتبر أن كل إنسان يتمتع بالحقوق الكونية في أن يكون إنساناً متساوياً مع الآخرين وفي أن يتمتع بفروقاته التي تطبع شخصيته وحريته الفردية.

وبما أن الإنسان، عند سارتر، هو بالتعريف حرية، فإن هذه الحرية تصبح حقاً مقدساً لكل فرد يريد أن يكون إنساناً بالمعنى الخالص للكلمة، وليس كائناً دون - الإنسان. هكذا إن النزعة الإنسانية السارترية تريد إنساناً حراً ومسؤولاً يصنع نفسه من خلال الكفاح ضد القمع والاستلاب مهما كان مصدرهما، وبما أن كل ما يحدث للإنسان لا يأتي إلا من الإنسان فإن تحرير البشرية يصبح ممكناً بمقدار ما ستخاض معركتها من أجل الحرية ومن أجل كل حقوق الإنسان، في مجتمع بشري حيث لا قوة فوق - بشرية تستطيع أن تحمي إنساناً ضد إنسان آخر. وطالما أن القمع والاستلاب يوجدان في بُنى المجتمع البشري فإن المعركة في سبيل حقوق الإنسان في الحرية وفي الكرامة ستكون دائماً مفتوحة.

وانطلاقاً من هذه الروحية راح سارتر يخوض معركة من دون هوادة في سبيل حقوق الإنسان، مستخدماً كل الأسلحة التي يمتلكها لإنجاحها. لقد كان مثقفاً قادراً على ترجمة أفكاره الفلسفية في معاركه في الشارع من أجل انتصار قضية الإنسان التي كان قد كرس كل حياته في سبيلها. لذلك يمكننا القول إن حياة سارتر لم تكن سوى معركة من أجل حرية الإنسان تبدأ بالكفاح ضد الاحتلال الألماني وتصل إلى الكفاح ضد كل نظام شمولي وكل نظام إمبريالي مروراً بالكفاح ضد الاستعمار (حرب الجزائر).

سارتر كان يريدنا أن نفهم بأنه يجب أن يكون المرء أخلاقياً كي ينقذ الإنسان. وذلك يبرهن أيضاً أن سارتر كان صاحب مذهب أخلاقي أكثر من كونه رجلاً سياسياً، وذلك لأنه كان يمقت الواقعية السياسية التي يمكن لها أن تشعل الحروب وتدمر البشرية. في حين أن الأخلاق تتدخل دائماً لتخفيف أو محو قدر الإمكان التوتر الناتج عن الواقعية السياسية. قد يمكننا القول، إذن، أن سارتر، من أجل إنقاذ الإنسان، كان مثالياً في السياسة. وذلك لأنه لم يتنازل أبداً عن حقوق الإنسان في الحرية الكاملة في مجتمع حر وعادل.

هكذا فإن حقوق الإنسان، بحسب سارتر، تتجسد في الحرية لا في غيرها، وذلك لأن كل شيء سيكون ثانوياً بالنسبة للإنسان منذ أن يصبح حراً.

*باحث وأستاذ جامعي لبناني

** - Sartre، Cahiers pour une morale، (posthume)، Gallimard 1983 p.145.

*** - م. ن.، ص145.

**** - م. ن.، ص22.

* - Sartre، L’existentialisme est un humanisme، Genève، Nagel 1970. p.67.

2
سينيكا الرواقي عاش بين عهدي كاليغولا ونيرون وانتحر بأمر الإمبراطور
سرعة في إنجاز المؤلفات الأخلاقية الكبرى والعودة إلى المسرح الإغريقي لتطويره

إبراهيم العريس




ربما كان من سوء طالع الفيلسوف الروماني الرواقي لوسيوس أنايوس سينيكا (العام الرابع قبل الميلاد والعام الميلادي 65) أنه لم يقيض له تلميذ كأفلاطون يقوم بتخليد ذكراه في حوارات رائعة كتلك التي بها خلد صاحب "الجمهورية" و"الشرائع" ذكرى الفيلسوف الإنساني الأول في تاريخ الفكر الإنساني. فعلى رغم أن نهاية سينيكا أتت بأمر من الإمبراطور المتوحش نيرون وتالياً لتهمة ظالمة اتهم بها الفيلسوف، وأنها كانت أشد وحشية بكثير من نهاية سقراط، لم تتمكن تلك النهاية من استثارة كثير من الأقلام والتعاطف على العكس مما طاول نهاية سقراط. وربما يمكننا النظر إلى هذا الأمر الغريب باعتباره لغزاً آخر من ألغاز التاريخ، أو يمكننا أن ننظر إليه من منظور حديث بالأثر الذي يتركه فعل الدعاية في النفوس على اعتبار أن أفلاطون بدا أقوى ترويجاً لمعاناة أستاذه من كل أولئك الذين تعاطوا مع "انتحار" سينيكا.

بين القصور والمنافي

ولكن قبل أن نتوقف عند التفاصيل المريعة لتلك النهاية لا بد من أن نتساءل مع القارئ عمن كان سينيكا ولماذا خصه الإمبراطور الوحش في النهاية التي سنصفها. منذ البداية لا بد من التأكيد أن سينيكا كان يعتبر في ذروة حضوره الفكري "الموجه الأول للوعي في المجتمع الروماني" هو الذي كان قد انتقل إلى روما، وكان بعد في مستهل صباه. وهو ما إن شب عن الطوق حتى توجه صوبو الفلسفة وانتمى إلى الفكر الرواقي في وقت راح فيه يمارس مهنة المحاماة في المحاكم العدلية، ثم ما إن لفتت مرافعاته الأنظار بقوة لغتها وفصاحة بيانها، حتى بات عضواً في مجلس الشيوخ في بدايات عهد كاليغولا بل يبدو أن هذا الأخير قد قربه منه، ولكن ما إن زال حكم كاليغولا بما له وما عليه، وجاء عهد كلوديوس حتى قام هذا، ولأسباب غير مفهومة، بنفيه إلى جزيرة كورسيكا، إذ تقول الأسطورة إنه عاش هناك عيش النساك في مبنى صغير يعلو قمة جبل لا تزال تسمى حتى اليوم باسمه. غير أن هذا الأمر غير مؤكد على رغم وجود الاسم في التداول الشعبي في المنطقة. المهم أن زوجة كلوديوس أغريبينا التي كانت تعرف أسرة سينيكا، استدعته من منفاه في عام 43، وكان قد أمضى فيه ثماني سنوات لتكلفه تأديب ابنها نيرون الذي كان بعد مراهقاً ويحضر لخلافة أبيه كلوديوس على العرش.

الإمبراطورية بين يدي الفيلسوف

والحال أن نيرون سرعان ما تسنم العرش وهو في السابعة عشرة وغير قادر بعد على اتخاذ ما يلزم من قرارات، فهو كان لا يزال بين يدي معلمه، وكان يثق به ثقة تامة، بالتالي بات سينيكا وإلى حد ما صاحب الكلمة الفصل في شؤون الدولة كما في حياة نيرون، بيد أن هذا سرعان ما راح يفضل الاستقلال بقراراته ورأيه ورأى أنه لن يكون قادراً على هذا إلا بانعتاقه أولاً من سيطرة أستاذه الفكرية عليه، إذ بات يشكل بالنسبة إليه نوعاً من ضمير يقف وازعاً في وجه نزوعه إلى الشر الذي راح يلوح عليه باكراً، وبالأحرى كإرث عائلي وصل إليه من كاليغولا من طريق كلوديوس. ولا شك أن سينيكا لم يقف في وجه تلميذه، بل تنحى جانباً وراح يستكمل مشاريع كتابية متعددة كان جلها قد بدأ بكتابته، ثم أجله لانشغاله في تربية تلميذه النجيب. وها هو اليوم ينعتق بدوره وينكب على استكمال النصوص التي سيكون من أبرزها نصوص حول "الغضب" و"الأخلاق" والرحمة" و"ديمومة الحكمة" و"العناية الإلهية"، وصولاً إلى رسالته الجامعة المعنونة "رسالة إلى لوسيليوس حول الكتابات الأخلاقية"، بل إنه لم يكتف بهذه النصوص الأخلاقية على أهميتها في إنجازاته الفكرية وفي تاريخ الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإنساني، وكذلك على دورها في تكوين متن الفكر الرواقي بشكل عام، بل رأيناه في مراحل متفرقة من حياته يعود إلى أمهات المسرحيات الإغريقية مثل "أوديب" و"فيدرا" و"ميديا" و"أغاممنون" و"تييستيس" فيعيد كتابتها، ولكن على ضوء فكره الرواقي فتقدم بحلل جديدة. وكذلك رأيناه يتطلع إلى محاكاة الحوارات الأفلاطونية عبر مواضيع جديدة تتلاءم مع زمنه الذي كانت فيه الأفكار تتصارع بشكل لا سابق له في تاريخ الفكر.

إنجازات ما قبل النهاية

وكان سينيكا يكتب بسرعة وبقوة وكأنه يحدس بأن نهايته باتت قريبة حتى وإن كان لا يزال يجهل كيف ستكون، تماماً كما كان يفعل، بحسب سيرة حياته ومدونيها، حين كان في منفاه الكورسيكي يكتب، بل يبدأ الكثير من المشاريع الكتابية التي سرعان ما يرميها جانبا، وكأنه يخشى أن ينتهي منفاه ويعود إلى انشغالات تلهيه عنها. والحقيقة أن ذلك ما حدث بالنسبة إلى مخاوفه في المنفى، كما سيحدث خلال المرحلة الأخيرة من حياته حين حل عليه فجأة جنون وغضب تلميذه السابق الذي يبدو أنه لم يكن ليستطيع أن يطيق وجود أستاذ أرفع منه مكانة في الإمبراطورية ويعرف كل عيوبه. وعلى ذلك النحو حلت نهاية سينيكا.

1
وكانت نهاية توجها انتحار الفيلسوف بأمر شخصي من الإمبراطور نيرون، وذلك بعد أن وجهت إليه تهمة يبدو أنها لم تثبت على الإطلاق وتحديداً لأنها كانت ملفقة أصلاً، فحواها أنه كان ضالعا في مؤامرة عرفت بـ"مؤامرة بيسسون" تهدف إلى التخلص من الإمبراطور. ولقد أمره هذا الأخير بأن يقتل نفسه عقاباً له على تآمره. وهكذا، وكما فعل سلفه الكبير سقراط قبله بنحو نصف ألفية من السنين، بادر سينيكا إلى إطاعة الأمر ونفذ الحكم على نفسه بنفسه كما تقول الحكاية. وكان الحكم الإمبراطوري يقضي بأن يمزق سينيكا شرايينه بنفسه بواسطة قطعة حديدية حادة، وأمام عدد من المسؤولين الذين يتوجب عليهم مراقبته ومرافقته حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.

"بيدي لا بيد عمرو"

وهنا ننقل مشهد تلك النهاية التي لا شك أنها كانت أكثر إيلاماً وضراوة من نهاية سقراط، عن مؤرخ عاد إلى هذا الموضوع في القرن التاسع عشر، "في البداية لم تفلح قطعة الحديد في إحداث جرح عميق في ساقي سينيكا أو ذراعيه، فجلده كان جافاً بسبب سوء التغذية ومكوثه جامداً في السجن فترة طويلة، فما كان من بعض الحاضرين إلا أن سارعوا إلى مساعدته وعلى الأقل كيلا تطول فترة آلامه. فتناولوا قطعة الحديد بكل غلظة وراحوا يقطعون لحم وشرايين يديه وساقيه وهو هادئ مستسلم لا تبدر عنه ولا حتى إشارة ألم أو احتجاج، بل إنه نظر حواليه ذات لحظة ليرى زوجته جالسة غير بعيد مذهولة مما يحدث وقد سمح لها الإمبراطور بأن تحضر انتحار زوجها. فالتفت الفيلسوف إلى بعض الحاضرين وطلب منهم إخراجها من المكان. وقد خشي أن تقطع معاناتها شجاعته، ففعلوا وهو يتوسل إليها أن تذهب إلى غرفة مجاورة. وهكذا استعاد قوة بلاغته في لحظاته الأخيرة ودعا رفاقاً له حاضرين ليملي عليهم خطاباً أخيراً وجهه خاصة إلى الأمين ستاتيوس آنيوس، الذي كان قد تعرف عليه وارتبط معه بصداقة طويلة هو الذي كان طبيباً ماهراً وصاحب خبرة طويلة وطلب منه أن يحضر له السم الذي كان قد حضره منذ فترة طويلة، على اعتبار أنه السم نفسه الذي كان يستخدم في أثينا ضد أولئك الذين كما حال سقراط حكم عليهم بالموت. تناول سينيكا هذا المشروب، ولكن من دون جدوى، فقد قاومت أطرافه الباردة بالفعل وأوعيته المنكمشة نشاط السم. فما كان منه أخيراً إلا أن دخل حماماً ساخناً كان قد اغتسل فيه قبل البدء بحفل الانتحار، وهناك بعد أن رش الماء على العبيد المحيطين به صرخ قائلاً، "ها أنا ذا أهدي هذه الرشة المنعشة إلى شهود حريتي الأخيرة"، ثم رمى نفسه في الموقد الملتهب لتخنقه أبخرة الوقود ولا تلوح على وجهه سوى نظرة هادئة لا تعبر لا عن الألم ولا عن الغضب. وهكذا يكون سينيكا الذي عاش طوال حياته فيلسوفاً رواقياً قد أنهى حياته بأهدأ ما يفعل فيلسوف رواقي بدت الأمور معه وكأنه عاش حياة وديعة هانئة هو الذي كانت بداياته مع كاليغولا ونهايته على يد نيرون، والاثنان معروفان بالطبع بكونهما أشرس إمبراطورين عرفتهما الدولة الرومانية، وربما أي إمبراطورية أخرى.

2
--قصة قصيرة لتاريخ الفلسفة--

يوسف اسحيردة

بدأ كل شيء بسجال مصيري بين بارمينيدس الذي يضع حدودا فاصلة بين الوجود واللاوجود، ويجعل من الأنطولوجيا (علم الوجود) تفكيرا حول الثابت؛ وهرقليطس الذي يعترف بالتناقض ووحدة الأضداد ويعتبر الصيرورة أساسا طبيعيا. وإذا كان هذا النزال الثنائي قد عرف بداياته الأولى خلال القرن الخامس قبل الميلاد، فإنه من السابق لأوانه اليوم إعلان فوز أحد الطرفين.

يُمثل هرقليطس نقيض بارمينيدس شكلا ومضمونا. فإذا كان الأول يميل أكثر إلى الكتابة الشذرية، فالثاني لا يُعبر عن أفكاره إلا من خلال قصائد طويلة. وعندما يحتفل أحد الغرمين بتَغُّير، وزوال، وصيرورة الأشياء، فإن الآخر يُمجد أبديتها وثباتها. في قصيدته "في الطبيعة" يقول بارمينيدس:

" يجب التحدث عن الوجود الموجود والتفكير فيه، ذلك أن الوجود موجود واللاشيء غير موجود. وأنا آمرك بقول ذلك، لأنني عن هذا السبيل الأول للبحث أزيحك، وعن السبيل الآخر أزيحك أيضا. ذلك السبيل الذي شكله الناس الجهلة المترددون لأن عجزا جاثما على صدورهم، يوجه على خط مستقيم فكرهم التائه، وهم مستسلمون لعملية نقلهم هنا وهناك صم، بكم، عمي في الوقت نفسه، أفواههم فاغرة حشود حيرانة، يشكل الوجود واللاوجود بالنسبة إليهم نفس الشيء ونقيضه، والطريق بالنسبة إليهم جميعا هي بمثابة عودة ترتد إلى ذاتها. "

بهذه الطريقة الأخيرة يشن بارمينيدس هجومه الحاسم على هرقليطس الذي لا يكل من الجمع بين الأضداد، ويقول أن من تعارضها يُولد توازن العالم. يصد هرقليطس هجوم بارمنيديس هذا قائلا: "هُم لا يفهمون كيف يتفق مع نفسه ما يختلف مع نفسه. وهنا يكون تتطابق التوترات المتضادة، كتطابق قوس الرامي ووتر القيثارة"، فكما أن وتر الآلة الموسيقية إذا أرخيته أو شددته أحدث التآلف في الذبذبة ما نسميه موسيقى أو نغمة، فكذلك تبادل الأضداد وتنازعها يخلق جوهر تآلف الحياة والتغير ومعناهما.

هذين الموقفين الميتافيزيقيين ظلا يتنازعان تاريخ الفلسفة لزمن طويل يستمر حتى اليوم: من جهة، هناك ورثة بارمينيدس الذين يجعلون من الحقيقة أفقا ثابتة يجب بلوغه، ووحدة متكاملة لا يصيبها التغير تجعل من التفكير في قيم خالدة ومعروفة من قبيل الخير والعدالة والجمال، أمرا ممكنا؛ ومن جهة أخرى، هناك ورثة هرقليطس الذين يرفعون النسبوية كشعار وحيد:

#ورثة_هرقليطس:

#أفلاطون

رغم أن أفلاطون قد خصص حوارً كاملا لبارمينيدس، فهو يُقلل من شأن مقولة " الوجود موجود واللاشيء غير موجود" من خلال دمجها في فكر تغَيُّر وتدفق الزمن. صحيح أن الأشكال معقولة، والأفكار خالدة، لكن الأشكال المحسوسة تظل عرضة للتغير والشيخوخة والفساد. وبالتالي فلا يجب إقصاء اللاشيء واللاوجود. وإذا شئنا الدقة، ففلسفة أفلاطون تُمثل توليفا بين المذهبين وليس انحيازا لمذهب دون آخر.

#هيجل

يصف هيجل التاريخ بكونه ساحة متغيرة لتصادم القوى الجدلية. مفهوم الروح عنده، أي مبدأ الوحدة الذي يعتمل وراء فوضى الأحداث، يُذكر بفلسفة هرقليطس حول وحدة الأضداد والمتناقضات: "إن موضوع الفلسفة الأول، ليس هو القدر، والقوة، وشغف الشعوب و، بموازاة ذلك، التدافع المُشوش للأحداث. موضوع الفلسفة الأول هو روح الأحداث نفسها، العقل الذي أنتجها."

1
#نيتشه

ألهم هرقليطس نيتشه في العديد من الأمور من بينها الكتابة الشذرية، ومفهوم العود الأبدي باعتبار أن التاريخ يتطور في شكل دائري، بالإضافة إلى فكرة التناقض والتعارض...وتظل مقولة نيتشه الشهيرة " صِر ما تكون" أجمل تعبير عن هذا التقارب، وذلك من خلال إبراز التوتر الذي يحكم العلاقة بين صيرورة الذات وديمومتها، وبالتالي الوضع التراجيدي للإنسان والعالم.

#ورثة_بارمينيدس

#أرسطو

كان أرسطو يحتقر هرقليطس ويشمئز منه: "ليس ما تحتويه آراء البعض من قناعات بأقل مما تحويه علوم البعض الآخر، يستشهد هرقليطيس"، هكذا يُندد أرسطو بأفكار هرقليطيس في كتابه "علم الأخلاق إلى نيقوماخوس". لا شيء سوى الغموض والمبالغة عند من يرفض الاعتراف بمبدأ عدم التناقض ويرى التَّغَيُّر في كل مكان. يتهم أرسطو أيضا هرقليطيس بالخلط بين التَّغيُّر والحركة، وبأنه اِقترف أخطاء جسيمة "ضد الرياضيات".

#أفلوطين

بالنسبة لأفلوطين، هناك ثلاثة مبادئ أولى تُسَيِّرُ العالم: النفس، والعقل، والواحد. المبدأ الأخير يُذكر ببارمينيدس، وقد جعله منه أفلوطين، في مؤلفه "التاسوعات"، المبدأ الأول الذي يصدر عنه كل شيء: " الواحد ليس شيئا معينا، إنه سابق لكل شيء". هذا الواحد يجب أن يكون موضوع بحث الذات، وهي رحلة ميتافزيقية تحمل صاحبها نحو النشوة.

#هايدغر

ففي حين تتجه الفينومينولوجيا باهتمامها نحو الإدراك والوعي، يجعل هايدغر من الكائن مركز تفكيره. في نظر هايدغر، الحداثة مُتهمة بنوع من الغطرسة والعجرفة المتجسدة في نسيان الكينونة -تشهد على ذلك الطريقة التي نُخضع بها الطبيعة لحاجياتنا ونُعقلنها وبالتالي، فعلى الكائن، الدازاين (الوجود الحاضر)، أي الإنسان، أن يستعيد السيطرة على زمام الأمور، وإلا نسي نفسه ذاتها.

(المصدر المعتمد : مجلة philosophie magazine)

2
كامو وسارتر – الشِّقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان - الفيلسوف الجديد


عندما نُشِر كل من رواية «الغريب» وكتاب «أسطورة سيزيف» لكامو عام ١٩٤٢، كان جان بول سارتر مؤلِّفًا راسخًا ومعروفًا بالفعل. لكن كامو وسارتر لم يلتقيا بَعدُ. يُعزى جزءٌ من شهرة سارتر إلى نشر روايته الأولى «الغثيان» عام ١٩٣٨، التي يواجه فيها مُعلِّمٌ في مدينة ريفية لحظاتٍ عميقة من الشك الوجودي بينما يحدِّق في جذور شجرة. انتشرت الرواية انتشار النار في الهشيم في المجتمع الأدبي الباريسي. وتتشابه رواية «الغريب» مع رواية «الغثيان» في كثير من الجوانب، فهما تحكيان قصة رجل ساخط ومنعزل يشكُّ في كل شيء حوله: المجتمع ومعنى الحياة. ومع ذلك، فإنهما روايتان مختلفتان أيضًا: في رواية «الغثيان» تثير الطبيعةُ القلقَ الوجودي، لكن الفن — في شكل موسيقى الجاز — يداويه (أو يعطي أملًا)، بينما في «الغريب» تهدِّئ الطبيعة من قلق ميرسو الوجودي، ويغيب الفن.

في عامَي ١٩٣٨ و١٩٣٩ استعرضَ كامو رواية «الغثيان» ومجموعةَ القصص القصيرة بعنوان (الجدار) التي تبعتها. وكان النقد مزيجًا من المديح الواجب والانتقاص الحاذق. كتبَ كامو أنه أحبَّ نصف الرواية، لكن لم يحب الجزء الذي اعتبر أنه محاضراتٌ حول الفلسفة. فامتدحَ النواحي الإبداعية في الرواية لكنه لم يُعجَب بالتأملات الفلسفية؛ المزج بين الاثنَين جعل من المستحيل في رأي كامو النظر إلى «الغثيان» على أنها رواية أو عمل فني من أي نوع. فوق ذلك، رأى كامو إيمان سارتر بقدرة الفن على توفير أمل في إيجاد معنًى للحياة أمرًا يكاد يكون مثيرًا للضحك. من وجهة نظر كامو، لا شيءَ يمكنه أن يتسامى على عَبثية الحياة. وقد انتهت الفقرة الأخيرة في نقده الأول بنبرة عالية التناقض إلى حَدٍّ ما. حيث يمدح كامو «موهبة سارتر اللامحدودة»، مُعلِنًا أنه ينتظر بشغفٍ الأعمال القادمة، ومضيفًا — بسخرية — دروسَ سارتر أيضًا. من الواضح أن كامو كان يتسخَّط من شخصية البروفيسور الكامنة في سارتر.

عندما كتبَ سارتر مقالًا نقديًّا عن رواية «الغريب» بعدها بأربع سنوات، كان ذلك من موضع قوة؛ إذ كان سارتر مؤلِّفًا متمكِّنًا. كان وضعُ سارتر أيضًا نابعًا من عمله الأكاديمي المرموق بعنوان «رحلات»: كان سارتر عضوًا في «المدرسة العليا للأساتذة» النخبوية إلى جانب رفيقة عمره سيمون دي بوفوار. وهذا على النقيض من كامو. من المفهوم أن سخط كامو تجاه النظام التعليمي الفرنسي كان سيُلقي بظلاله على سارتر، أحد ألمع نجوم هذا النظام.

ولذا، فمن دواعي المفارقة أن سارتر عندما كتبَ مقاله النقدي عن «الغريب» و«أسطورة سيزيف» لكامو في فبراير ١٩٤٣، كان نقده يبدو إلى حَدٍّ كبير تقريرًا مُفصَّلًا أو دَرسًا، حتى من العنوان «تفسير لرواية الغريب» نفسه. كان سارتر أشدَّ قسوة مع كامو فيما يتعلق بالفلسفة بالطبع. ففي صفحتَين من مقاله النقدي، أسدى سارتر نصائح إلى كامو فيما يتعلق بكتابته في «أسطورة سيزيف» كما لو كان تلميذًا، بل تلميذًا غير كفء في ذلك الصدد: «يريد كامو أن ينال الرضا باقتباسه نصوصًا من ياسبرس، وهايدجر، وكيركجارد، والتي يبدو على الدوام أنه لا يفهمها.» (ردَّدت دي بوفوار هذا النقد لاحقًا، حيث كتبت في مذكراتها أن كامو «كان يطالع الكتب، لكنه لم يكن يفهمها».) استمر سارتر على هذا المنوال بقوله إن كامو «يثرثر» في «أسطورة سيزيف» رغم زعمه ﺑ «حبه للصمت». ولم يعتبر كامو «الغثيان» رواية أصيلة بحق، وفي المقابل كان سارتر متشكِّكًا في إذا ما كانت رواية «الغريب» تستأهل هذا الوصف. واختتم سارتر بأن كامو لم ينجح في تحقيق مُبتغاه.

كُتِبَت هذه التقييمات عن كامو من قِبل ناقدٍ كان يفوقه في ذلك الوقت في معرفته الفلسفية ومكانته الأدبية. فكيف استجابَ كامو لذلك؟ شكا إلى معلِّمه جين جرينييه «النبرة اللاذعة» للنقد، لكنه أيضًا أقرَّ بنزاهةٍ بمقدرة سارتر الثقافية: «في كثير من المناسبات تساعدني على فهم ما كنت أحاول أن أقوم به». كانت الكلمات القليلة الأخيرة تلك شهادة تامة؛ إذ يعترف كامو بالفعل أن في مقدور سارتر فهْم أعماله أفضل مما يفهمها هو.


عندما التَقى الكاتِبان لأول مرة، في باريس المحتلة بعد شهور قليلة من نقد سارتر، سرعان ما أصبحا صديقَين، كانا عادةً ما يلتقيان في المقاهي أحد الأماكن القليلة التي كان بها تدفئة خلال الاحتلال النازي — فيتحدثان، ويشربان، ويمازحان بعضهما بعضًا. أُعجِبَ سارتر بكامو خصوصًا لِما وصفته بوفوار في مذكراتها ﺑ أساليبه « المشاكِسة» — على عكس نثره المتأنِّي. لم يكن كامو مُتكلِّفًا كصديقَيه الباريسيَّين الجديدين؛ على سبيل المثال، عندما يكونون في الشارع أو المقهى، ويرى امرأة يعتقد أنها جذَّابة، يقطع كامو الحديث على الفور، فيتوقف عن الحديث أو الإصغاء ويحدِّق بزهو في موضع اهتمامه. بعد ذلك بعقد من الزمن، سيعلن كلامنس، وهو الشخصية الرئيسية في رواية «السَّقْطَة»، أنه يفضِّل أن يحادث امرأةً جذَّابة على الحديث مع أينشتاين.


1
أرادَ كامو أن يُرى مثلَ شخصية دُون خُوان الأسطورية، وبالفعل كان يتصرف مثله؛ إذ كانت له علاقاتٌ غرامية كثيرة طوال حياته، وعادةً ما كانت مُتداخلة.
وهكذا في أيام الصداقة الأولى تلك، كان كامو شخصًا يستمتع سارتر بصحبته؛ كانا غالبًا ما يتواصلان معًا اجتماعيًّا، ولم يكن ثَمة محادثات طويلة عن أعمالهما. وفي عام ١٩٤٣، كان العديد من الكُتَّاب المشهورين الذين ينشرون أعمالهم عند الناشِر الفرنسي جاليمار والفنانين البارزين يذهبون معًا إلى الحفلات، التي كان أشهرها في بيت بيكاسو، حيث شاركوا جميعًا في مسرحيته.

قُبَيل انتهاء الاحتلال، طلبَ كامو من سارتر أن ينضمَّ إليه في جريدة «كومبات» مُراسِلًا صحفيًّا. وبعد انضمامه إلى فريق العمل، كتبَ سارتر العديد من المقالات عن المناوشات والعوائق التي حدثت خلال تحرير باريس، كما سافر إلى نيويورك ضمن دعوة للصحفيين الفرنسيين كانت ترعاها الولايات المتحدة لتقوية العلاقات بين الدولتَين المتحالفتَين. في تلك الفترة، كان سارتر قد ألقى محاضرته البالغة الشهرة عن الوجودية، وقد نُشِرَت تلك المحاضرة بعد هذا بعام واحد. كانت الوجودية رائجة للغاية في ذلك الوقت، وكان من الواضح أن سارتر ودي بوفوار في طليعة تلك الظاهرة الفلسفية.

كان ثَمة شيءٌ واحد واضح: لم يُرد كامو أن يظن الناس أنه كان أحدَ تلاميذ سارتر، فبذلَ قصارى جهده لتوضيح أنه لم يكن وجوديًّا. رغم ذلك، قلةٌ فقط من الناس هم مَنْ فرَّقوا بين عبث كامو ووجودية سارتر؛ إذ كان كامو عادةً (وما زال) يُوصَف بأنه وجودي، وكان هذا الوصفُ يزعجه إلى حَدِّ أنه كثيرًا ما أعملَ قلمه على الورق ليعبِّر عن رفضه لهذا الانتساب، أحيانًا بهزلٍ ومرحٍ لكن بحزمٍ وقوةٍ أيضًا بين الحين والآخر.

عندما كتبَ ناقدٌ يحظى باهتمام كبير أنَّ «مسرحية «كاليجولا» كلها كانت تصويرًا خالصًا لمبادئ السيد سارتر الوجودية»، ردَّ كامو يقول: «بدأتُ أشعر بقليل (والقليل فقط) من الانزعاج من الخلط المستمر الذي يربطني بالوجودية»، كان هذا تعبيرًا متحفِّظًا. فقد احتوى رده على ثلاث نقاط تفصيلية أوضحَ فيها أنَّ: (١) مسرحية «كاليجولا» كُتِبَت عام ١٩٣٨، قبل بزوغ نجم وجودية سارتر، (٢) وأن «أسطورة سيزيف» كُتِبَت لمناهضة الوجودية، (٣) وأنه في نهاية المطاف لم يكن يثق في العقل بالقدر الذي يكفي لأن ينتمي إلى نظامٍ فكري. وبالرغم من هذا التوضيح، بقيَ الخلطُ والالتباس، وظلَّت الأسئلة تتوالى.

خلال رحلته إلى نيويورك في يونيو لعام ١٩٤٦، أجابَ كامو عن الأسئلة نفسها التي طرحَها عليه صحفيٌّ أمريكي بطريقة مازحة، لكنها لا تخلو من السخرية:
لا، أنا لست وجوديًّا. دائمًا ما نتفاجأ أنا وسارتر عندما نجد أسماءنا مجتمعة. ونفكِّر مليًّا في نشر إعلان مُفادُه أن الموقِّعَين أدناه يؤكِّدان ويُقرِّان بأنه لا يوجد شيءٌ مشترك بينهما …

كان الفرقُ بين الوجودية وعَبث كامو واضحًا من البداية؛ فالوجودية ترتكز حول الإنسان، وتهتم بالمسئولية الشخصية في عالمٍ جَمْعي، بينما العبث انفصالٌ عن الشئون البشرية، ورفضٌ ظاهري لكل النُّظم.

نقطةُ الخلاف هذه بالتحديد بين العبث والوجودية هي ما أدَّى إلى أول جدالٍ حقيقي بين الكاتبَيْن. حدثَ هذا في الأيام الأولى للحرب الباردة التي مثَّلت فيها الولاياتُ المتحدة والاتحاد السوفييتي طرفَي الصراع الرئيسيين، وكان من المستحيل تقريبًا عدمُ الانحياز إلى أحد الجانبَين. كان كامو بطبيعته تقريبًا مناهِضًا للشيوعية. وحتى عندما كان في الحزب الشيوعي فيما مضى، كان من الواضح من مزاحه مع معلِّمه أنه لم يكن شيوعيًّا. (تذكَّرْ أن سبب انضمام كامو إلى الحزب لم يكن لتمسُّكه بالمذهب الشيوعي، بل بالأحرى لمحاولة منع مُقاوِمي الوجود الفرنسي في الجزائر من العرب من إنشاء حزبهم.)

في إحدى أمسيات عام ١٩٤٦، في حفلٍ أقامه الكاتبُ والموسيقيُّ والمطربُ بوريس فيان، دارَ جدالٌ كبير بين كامو وبين موريس ميرلو-بونتي، أحد الفلاسفة المقرَّبين من سارتر، والذي كان قد كتبَ لتوِّه مقالًا أعلنَ فيه أنَّ على المرء أن ينحاز إلى أحد الأطراف في الصراعات الضخمة الدائرة في عصره، وأنه لم يكن هناك خيارٌ آخر. ورَفْض القيام بذلك يعني الانحياز إلى جانب القامع؛ إذ ينبغي للمرء أن ينخرط في شئون البشر. كان هذا درسًا من دروس المقاومة؛ لأنه ينطبق على الحرب الباردة، وحضَّ ميرلو-بونتي على الانحياز إلى جانب الاتحاد السوفييتي. أثارَ ذلك حفيظةَ كامو، الذي وازَن بين كفتَي هذا الموقف بالدعم غير المشروط لستالين (وعلى مستوًى آخر، بالالتزام بقضيةٍ ما، أي قضية)؛ تجادَل كامو مع ميرلو-بونتي جدالًا عنيفًا، ثم اندفعَ غاضبًا إلى خارج الشقة. حاول سارتر وصديقٌ آخر له دون جدوى أن يُعيداه لينضمَّ إلى الحفل مجددًا، لكن كامو رفض.


2
كان موقفُ ميرلو-بونتي بغيضًا بالنسبة إلى كامو، الذي كَرِه فكرة أنَّ عليه أن يؤيد جانبًا، مجبَرًا على ذلك بالأحداث التاريخية. كان كامو غاضبًا من الألمان «لإجباره على دخول التاريخ»، وكان يفضِّل أن يتنقل من قضية إلى أخرى، دون أي التزام دائم. ورغم أنه دافع عن مبادئ وأفكار عظيمة، فإنه لم يتقيَّد علانيةً قَط بإحدى القضايا أو الأيديولوجيات — وخاصةً الشيوعية؛ لأنها كانت مرتبطة تاريخيًّا بالصراع ضد الاستعمار. كما أن العلاقة بين الشيوعية ومناهضة الاستعمار أصبحت أكثر رواجًا وتفشِّيًا بعد الحرب العالمية الثانية.

كانت مسألة الاستعمار مسألة معقَّدة بالنسبة إلى كامو: لا يمكن اختصارها في مجرد القبول بها أو استهجانها. وبينما كان كامو يعي المظالم الواقعة على العرب ويدينها، كانت الجزائر الفرنسية هي مسقط رأسه، وموطن عائلته كلها وكثير من أصدقائه، وكان مخلصًا لها.

بعد هذه الفجوة، لم يتحدَّث كامو وسارتر إلا في السنة التي تلت ذلك، وكان لقاؤهما مصادفة. كانا يتعاملان بلطف عندما يلتقي أحدهما بالآخر في مناسباتٍ اجتماعية، إلا أن كامو كان يصرِّح بأن إعجابه بسارتر يقلُّ بمجرد أن يبتعد عنه.

بعد هذا الخصام بقليل، نشرَ سارتر مقالًا افتتاحيًّا غير موقَّع في مجلة «لي تمب مودرن» بعنوان «الجلَّادون والضحايا كلاهما». (أنشأ سارتر مجلة «لي تمب مودرن» في أكتوبر ١٩٤٥ بعد أن أُغلِقت مجلة «نوفل ريفو فرانسيز» بسبب تعاونها مع السلطات الألمانية خلال الاحتلال). كان هذا المقال الافتتاحي أولَ رد فعل علني لسارتر على الحرب الاستعمارية الفرنسية في الهند الصينية، ومثَّل نقدًا مباشرًا لمقالات كامو الرافضة للعنف «لا ضحايا ولا جلادون». فيها، قطعَ سارتر علاقته بكل الأحزاب البرلمانية، وأدانَ الحرب، وطالَبَ بانسحاب القوات الفرنسية من الهند الصينية. برَّر مقال سارتر الافتتاحي العنفَ الثوري، وشبَّه وجودَ فرنسا في الهند الصينية بالاحتلال الألماني؛ الأمر الذي أثار سخط العديد من المعلِّقين، وبالتأكيد حنق كامو. بعدها بسبع سنوات، أي عام ١٩٥٤، في يوم الهزيمة الكارثية للعسكرية الفرنسية في الهند الصينية، التي انتهت بانسحاب فرنسا من المنطقة، كتبَ كامو في مذكراته:
٨ مايو ١٩٥٤. سقوط ديان بيان فو. كما في عام ١٩٤٠، إحساسٌ مختلطٌ من الخزي والغضب. في ليلة المذبحة، كانت النتيجة واضحة. وضعَ ساسةُ الجناح اليميني أرواحًا مسكينة في وضع لا يُحتمَل، وفي الوقت نفسه راحَ رجال اليسار يُطلِقون النار عليهم من الخلف.

جاءت مقارنة شعب الهند الصينية بالألمان على النقيض تمامًا من موقف سارتر. أصبحَ من الواضح أنَّ سارتر وكامو كانا في معسكرَين متعارضَين فيما يخصُّ مسألة الاستعمار.

نشبَ بين الرجلَين خلافٌ آخر فيما يخصُّ مسألة العنف السياسي. في عام ١٩٤٦ كان كامو قد نشر مقالًا قصيرًا — بعنوان (القتلة الحسَّاسون) — يتناول فيه الإرهابيين الروسيين الذين حاولوا قتلَ أعضاءٍ من عائلة القيصر في فتراتٍ زمنية مختلفة من أواخر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين. كانت معضلاتُ وأفعالُ تلك المجموعات الإرهابية بالغةَ الأهمية لكامو. هل كان من الصواب قتل أعضاءٍ من عائلة القيصر؟ ماذا عن أطفالهم؟ هل كان القتل مبرَّرًا بأي شكل؟ ستكون تلك الأسئلة في صميم مسرحية كامو بعنوان «القَتَلة المنصِفون».

بالنسبة إلى سارتر كانت تلك المسائل رجعية وساذجة، أو مصدر إلهاء في أحسن الأحوال. وقد عبَّرَ سارتر ببراعة في مسرحيته «الأيدي القذرة» عن رأيه في اهتمام كامو بالإرهابيين الروسيين. حيث يناقش اثنان من قادة الأحزاب، هما لويس وهوجو، الإجراءات السياسية:

هوجو : في روسيا في نهاية القرن الماضي، كان هناك فِتية يضعون القنابل في جيوبهم، ويعترضون طريقَ الدوق الأكبر. انفجرت القنبلة، ومات الدوق الأكبر وذاك الرفيق أيضًا. ويمكنني أنا القيام بذلك.
لوي : لقد كانوا من دعاة الفوضى. أنت تحلم بذلك لأنك مثلهم؛ مثقَّف يدعو إلى الفوضى. أنت متخلِّف عن العصر بخمسين سنة. لقد انقضى عهد الإرهاب.
هوجو : إذَن فأنا غير كفء.
لوي : على هذا الصعيد، نعم.
سخِر سارتر باهتمام كامو، وحقَّر من شأن هوجو، الشخصية التي تعبِّر عن آرائه. لكن هذا الانتقاد الأدبي كان ضمنيًّا، يكاد يكون على الهامش.

رغم ذلك، أدَّى نشرُ كامو لمقاله «الإنسان المتمرِّد» إلى مواجهة شاملة لا مناصَ منها. ففي مقاله الطويل هذا، شبَّه كامو الشيوعية بالنازية، وأكَّد على أنها أدت دون استثناء إلى الاضطهاد والقتل الجماعي أنفسهما. وفي سياق الحرب الباردة، كان ذلك بمثابة وضع حدِّ فاصل. وبمعايير ذلك الزمان، كان هذا يعني الوقوفَ في صف الولايات المتحدة.

3
تتسم نظرة سارتر إلى الأمور بأنها أكثر عَملية. ورغم أنه أدانَ الأيديولوجية الستالينية — والاتحاد السوفييتي لاحقًا (بسبب غزوه للمجر عام ١٩٥٦) — فقد أيَّد الحزبَ الشيوعي خلال الفترة الأخيرة من حرب الجزائر. كما كان من أوائل الداعمين والمتحمِّسين للثورة الكوبية، وإنْ كان قد تراجعَ عن دعمه عندما سجنت الحكومةُ الكوبية الشاعِر المنشَق هربرتو باديلا. كان سارتر مصدومًا عندما صدر كتابُ «الإنسان المتمرِّد» عام ١٩٥٢، ولم يُرد أن ينقد كتابَ كامو بسبب صداقتهما، رغم ما كان عليه من عِلَّات. عِوضًا عن ذلك، تولَّى مسألة النقد فرانسيس جانسون، الفيلسوف الفرنسي المقرَّب من سارتر (الذي سيصبح لاحقًا داعمًا نشطًا لجبهة التحرير الوطني الجزائرية المؤيدة للاستقلال). ولم يكن لفرانسيس جانسون أيُّ وجه تقارب مع كامو، كما كان من الناقدين له في الماضي.

جاءَ النقدُ لاذعًا؛ إذ أبرز جانسون في البداية أنَّ الكتابَ لقيَ استحسانًا من أصحاب اليسار وأصحاب اليمين، وتساءلَ مجازًا عما إذا كان ذلك بسبب أن أفكاره طيِّعة، أو «قادرة على التطبُّع بأشكال متباينة». كما لامَ جانسون على كامو «إنسانيته المُبهَمة» وانتهى بالإشارة إلى أن كامو ركَّز في كتابه على نحو شبه كامل على ضحايا الستالينية. فماذا عن ضحايا الأنظمة الغربية، ماذا عن المسُتعمَرين الذين هم أيضًا من عُمَّال أوروبا، وماذا عن «عامِل المناجم، والموظف الحكومي الذي يعاقَب لدخوله في إضراب …»، والفيتناميين «الذين تجري تصفيتهم» بالنابالم، والتونسيين «المجموعين» في الفيلق الأجنبي؟ كانت هذه خاتمة دفعَت كامو إلى موضوع لم يُرد التطرق إليه.

استشاطَ كامو غضبًا. فكتبَ ردًّا في «لي تمب مودرن»، لكن ليس على جانسون، بل اختار عوضًا عن ذلك أن يُخاطب سارتر بوصفه الناشِر، ملمِّحًا بذلك إلى أن سارتر هو كاتِبُ النقد، أو أنه على الأقل يتحمَّل مسئولية سماحه بنشره. في رده، رفضَ كامو أن يناقش نقاط جانسون مباشرةً، وضاعَف نقده للستالينية، وتساءلَ لمَ لا يدين جانسون/سارتر «معسكرات اعتقال» ستالين، مُتحديًا إياهما أن يفعلا ذلك. وكتبَ أن من المستحيل الاستمرار في النقاش ما لم يُلبُّوا طلبه في الإدانة القاطعة. كما أدانَ كامو نبرة نقد جانسون، وشكا لاحقًا في يومياته: «مناظرة مع لي تمب مودرن. … باريس غابة، وحيواناتها المتوحشة بائسة.» وتبرَّم بطرقٍ شتَّى من «الإهانة»، والتشهير بأخيهم. وفي نهاية المطاف، زاغَ ردُّه عن مسألة الاستعمار التي طرحها جانسون، وشكَّل هجومًا معاكسًا بالنسبة إلى مسألة الاتحاد السوفييتي.

كان سارتر قاسيًا في ردِّه؛ إذ أسهبَ في ذكر النقائص القديمة الخاصة بنقده الأول لرواية «الغريب» التي كتبَها قبل ذلك بعشر سنوات. وبحيوية شديدة، كتبَ يتساءل إن لم يكن كتاب «الإنسان المتمرِّد» دليلًا كافيًا على عدم جدارة كامو كفيلسوف، وعابَ عليه «كُرهه الجهود الفكرية» ودأبه على عدم قراءة المصادر الرئيسية. كما ذكَّر سارتر كامو كيف أنه انتقد الستالينية، واستشهدَ بمقالاتٍ افتتاحية من مجلة «لي تمب مودرن» تدين الاتحاد السوفييتي دليلًا على ذلك. وأبرز سارتر أيضًا استخدام وسائل الإعلام الرئيسية والسائدة الإدانات ضد الاتحاد السوفييتي كوسيلة لتقليل محنة المستعمَرين، مكرِّرًا ما خلصَ إليه جانسون ومُسهِبًا فيه. وصرَّحَ سارتر أن بإمكانه انتقاد الغرب والشرق كليهما، وسألَ كامو مجازًا، لمَ لا يمكنك أنت ذلك؟ ولفتَ سارتر بعد ذلك الانتباه إلى موقف كامو الغامض في مسألة الهند الصينية، واختتم بأنْ نشرَ رد كامو النهائي، وأعلنَ في الوقت نفسه أن الأخذ والرد قد انتهى من جانبه.

كان هذا الصدعُ الثاني نهايةَ صداقتهما الغريبة. إذ لن يتحادثا بعدها أبدًا. ولكنهما ظلَّا يتواصلان تواصلًا غير مباشر عبر أعمالهما، وذلك طوال حياتهما. وبعد أزمتهما العلنية، أصبحَ الانتقادُ الموجَّه إلى المثقَّف اليساري البرجوازي أحدَ أركان أعمال كامو المكتوبة، بالإضافة إلى الهجوم على سارتر والوجودية في يومياته.

نتيجةً لتلك المخاطبات العلنية بخصوص كتاب «الإنسان المتمرِّد»، كان سارتر يُعد هو المنتصر، وذلك على نطاق واسع؛ إذ تفوَّقَ كتابةً ودهاءً على كامو الذي تُرِك معزولًا. حتى إن كامو فكَّر مليًّا — على طريقة الأقدام البيضاء الذكورية — أن يُوسِع سارتر ضربًا، لكنه تخلَّى عن فعل ذلك؛ لأن سارتر كان شديدَ النحافة. وتجنَّبَ كامو الحيَّ اللاتيني والمقاهي التي يجتمع فيها سارتر ودي بوفوار مع الأصدقاء، بل إنه عزلَ نفسه عن المجتمع بصفة عامة. وعلى الرغم من أنه توقَّف أيضًا عن الاشتراك في الجدال علنًا، فقد تطرَّق إلى جميع الانتقادات في ردٍّ مستفيضٍ بعنوان «دفاع عن الإنسان المتمرِّد»، الذي لم يُنشَر خلال حياته.

4
2025/07/01 18:19:54
Back to Top
HTML Embed Code: