DELIT IMPOSIBLE
الجريمة المستحيلة
الجريمة المستحيلة
يُتناقل في وسائل التواصل الاجتماعي عادةً فكرة الجريمة المستحيلة بصورة مجازية، مثل سؤال ماهي الجريمة التي لا يُعاقب عليها القانون، فتكون معظم الأجابات تشير إلى "الأنتحار"، لكن الأنتحار يُعتبر جريمة! أساسًا، نعم لا يُعاقب المُنتحر على قتل نفسه لأن العقوبة تحتاج نص والنص يحتاج جهاز تنفيذ وجهاز التنفيذ يحتاج لتطبيق العقوبة جاني، والجاني في جريمة الأنتحار هو ذاته المجني عليه، فلاوجود لجهة تقع عليها العقوبة، ولكن ما ينساه عامة الناس وبعض الدارسين أنَّ جريمة الأنتحار لا تتوقف عند المُنتحر فقط بل عند المُحرض أو المُسبب للأنتحار، أي الأشخاص الذين ضغطو او هيئو ودفعو الشخص للأنتحار، وهنا ندخل في جريمة التحريض على الأنتحار.
وبشكل خاص فإن كُل فعل مُباح حتى يُجرمه القانون، ولكل حكومة دستور ونصوص وقواعد ولكل شريعة قوانينها، وبشكل عام الجرائم تحتاج عدة اركان لحدوثها اركان مادية ومعنوية، المادية مثل نزوع الفرد وتحضيره ثم اقدامه على الفعل ماديًا، اي وجود مُستقبل مادي للنزوع المعنوي والتفكير في الجُرم، بحيث لا يكون القصد الجنائي فقط في ذهن الجاني بل يجعله واقع مادي، ثم في ذلك بحث يطول بيانه، وهنا يبقى الأستفهام بعد نفي جريمة او فعل الأنتحار، هل يوجد فعلاً جريمة مستحيلة؟
الجريمة المستحيلة، هي الجريمة التي لا يمكن أن تتحقق مهما بذل الفاعل من جهد في سبيلها.
كما لو اطلق شخص الرصاص على آخر بقصد قتله فظهر ان المجني عليه كان قد فارق الحياة قبل اطلاق الرصاص عليه أو ضغط على الزناد غير ان المسدس لم ينطلق لأنه كان خاليا من الرصاص، او سرق شخص حاجة وظهر انها مملوكة له.
والجريمة المستحيلة صورة من صور الشروع ( الجريمة الخائبة ) في الجريمة، حيث يأتي الجاني فيها كل نشاطه ومع ذلك لم تتحقق الجريمة، غير انها تتميز عنه بان خيبة الجريمة فيها مقررة وقائمة من قبل حيث من المستحيل نجاحها.
مما يعني أن الفشل يكون محتملا في حالة الجريمة الخائبة بينما هو اكيد في حالة الجريمة المستحيلة، وذلك لأن سبب عدم تحقق الجريمة في حالة الجريمة الخائبة هو ظرف عرضي طرأ بعد أن بدأ الفاعل في سلوكه فأدى الى خيبه اثره، بينما هو في الجريمة المستحيلة سبب معاصر لسلوك الفاعل منذ بدايته.
كما لو حاول شخص تسميم آخر بمادة غير سامة عالما خطأ بانها سامة.
أو بمادة سامة ولكن بكمية لا تكفي لاحداث الوفاة.
عقاب الجريمة المستحيلة:
اختلف الكتاب في العقاب على الجريمة المستحيلة مما أدى الى ظهور مذاهب متعددة في ذلك
المذهب الأول:
وقال به اصحاب المذهب المادي (الموضوعي) في تحديد البدء في التنفيذ في الشروع.
وهو اقدم الآراء في الموضوع، حيث كان سائدا في القرن التاسع عشر.
وخلاصته أن لا عقاب على الجريمة المستحيلة البتة.
وهم في ذلك يستندون الى تعليلهم للشروع بانه لا يتحقق ما لم يبدأ الجاني بتنفيذ السلوك المكون للجريمة، اي الركن المادي لها، وهذا غير متحقق في الجريمة المستحيلة وبالتالي فلا عقاب عليها.
ويؤخذ على هذا المذهب تطرفه الذي يؤدي الى افلات حالات كثيرة لها خطورتها من العقاب.
فليس من المصلحة عدم عقاب اللص الذي لم يستطع تحقيق سرقته لأن الجيب الذي وضع يده فيه كان صدفة خاليا من النقود او القاتل الذي لم يستطع قتل عدوه لأنه كان على مسافة بحيث لا تصيب الرصاصة منها، بل أكثر من ذلك أن قبول منطق اصحاب هذا المذهب يؤدي الى القول بعدم العقاب على الجريمة الخائبة وهذا لا يقبله منطق. لهذه الاسباب هجر هذا المذهب ولم يبق في الفقه الحديث من يؤيده.
المذهب الثاني:
حاول انصار المذهب المادي، المتقدم، التوسيع من نطاق العقاب على الجريمة المستحيلة، تلافيا لما اصاب مذهبهم من نقد، فقالوا بوجوب التمييز في ذلك بين نوعين من الاستحالة هما: الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية في الجريمة المستحيلة.
اما الأولى فلا عقاب عليها واما الثانية فان صاحبها يعاقب بعقوبة الشروع في الجريمة لانها صورة منه.
ويعللون ذلك بان المجني عليه في الأولي لا خطر عليه اطلاقا لأن الجريمة فيها لا يمكن أن تتحقق باية حال بينما هو في الثانية يكون معرضا لخطر جدي لا يقيه منه الا مجرد المصادفة.
والاستحالة سواء كانت مطلقة او نسبية، قد ترجع الى موضوع الجريمة او الى وسيلة ارتكابها: - فالاستحالة المطلقة من حيث الموضوع تكون اذا انعدم موضوع الجريمة كاطلاق عيار ناري على شخص بقصد قتله فاذا به ميت من قبل اطلاق الرصاص عليه، او اذا استولى شخص على مال بقصد سرقته فاذا بالمال مملوكا له.
والاستحالة المطلقة من حيث الوسيلة تكون اذا كانت الوسيلة لا تؤدي مطلقا الى الغرض الذي قصده الفاعل، كمن يهم باطلاق بندقيته على آخر ويتبين انها افرغت من الرصاص على غير علم منه، او يضع في طعام خصمه مادة يعتقد انها سامة وهي في حقيقتها غير سامة.
والاستحالة النسبية من حيث الموضوع تكون اذا كان موضوع الجريمة موجودا ولكن في غير المكان الذي ظن الجاني انه فيه، كمن يطلق الرصاص على سرير شخص بقصد قتله معتقدا أنه فيه فيكون الشخص غير موجود فيه في ذلك الحين او يكسر خزنة لسرقة ما فيها من اموال فاذا هي خاوية.
وتكون الاستحالة نسبية من حيث الوسيلة اذا كانت الوسيلة بصفة عامة صالحة لاحداث النتيجة ولكنها لم توصل اليها بسبب جهل الجاني كيفية استعما لها او لظرف طارىء، كمن يضع الآخر في طعامه قدرا قليلا من السم اقل مما يلزم لقتل انسان او من يطلق بندقية على آخر بقصد القتل فلا يخرج المقذوف لعدم اشتعال البارود.
ان هذا الرأي، وان كان يؤدي الى نتائج عملية مقبولة، الا انه غير منطقي في نظر بعض الكتاب فمن غير المقبول القول بأن الاستحالة لها درجات وانواع فالجريمة اما أن تكون مستحيلة او ممكنة ولا وسط بين الأمرين.
المذهب الثالث:
قال بهذا المذهب مجموعة من الفقهاء المحدثين وعلى رأسهم العلامة جاروا ومضمونه التمييز بين نوعين من الاستحالة هما الاستحالة القانونية والاستحالة المادية.
الأولى لا عقاب عليها والثانية يعاقب عليها بعقوبة الشروع.وتتحقق حالة الجريمة المستحيلة استحالة قانونية فيما اذا انتفى ركن من اركان الجريمة الى جانب النتيجة، كحالة من يطلق الرصاص على ميت بقصد قتله وهو لا يعلم بوفاته او من يسرق مالا يظهر انه مملوكا له وكذلك من يحاول قتل خصمه بمادة غير سامة معتقدا أنها سامة.
اما الجريمة المستحيلة استحالة مادية فتتحقق عندما تتوافر كافة اركان الجريمة وعناصرها المكونة عدا النتيجة التي يحول دون تحققها ظرف مادي عرضي، كعدم وجود المجني عليه في المكان الذي توقع الجاني وجوده فيه او كعدم صلاحية الوسيلة لاحداث النتيجة.
ان هذا المذهب يؤدي الى التوسيع في نطاق العقاب على الجريمة المستحيلة اكثر من سابقه، ذلك لأن الاستحالة المادية تتضمن بالاضافة الى الاستحالة النسبية بعض حالات الاستحالة المطلقة.
المذهب الرابع:
وقال به انصار المذهب الشخصي الذين يرون ان الحكمة من العقاب على الشروع هي مواجهة الخطورة الاجرامية التي يكشف عنها سلوك الجاني، فما دام سلوك الجاني يكشف بوضوح عن اتجاه ارادته لارتكاب الجريمة، فهو يستحق العقاب سواء كانت النتيجة ممكنة او مستحيلة وايا كانت درجة استحالتها.
ولذلك قالوا بالعقاب مطلقا على الجريمة المستحيلة الا اذا دلت الحالات على سذاجة الفاعل، مما ينفي خطورته كمحاولة قتل شخص عن طريق السحر أو الشعوذة.
موقف القضاء:
استقر قضاء محكمة التمييز الفرنسية على التفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية والقول بالعقاب على الثانية دون الأولى.
ولذلك قضت بان محاولة اجهاض امرأة على اعتبار انها حامل ويظهر انها ليس كذلك لا تعد شروعا.
في حين ان القضاء الالماني يأخذ بالمذهب الشخصي، فقد قضت المحكمة العليا الالمانية بمعاقبة من حاول قتل شخص كان ميتا بعقوبة الشروع وكذلك من حاول اجهاض أمرأة غير حامل.
اما في مصر فقد استقر قضاء محكمة النقض على التفرقة بين الاستحالة المطلقة والنسبية والعقاب في الثانية دون الأولى.
في العراق:
نص قانون العقوبات العراقي على عقاب الجريمة المستحيلة في المادة (۳۰) منه قائلا: "... ويعتبر شروعا في ارتكاب الجريمة كل فعل صدر بقصد ارتكاب جناية أو جنحة مستحيلة التنفيذ اما لسبب يتعلق بموضوع الجريمة أو بالوسيلة التي استعملت في ارتكابها ما لم يكن اعتقاد الفاعل صلاحية عمله الأحداث النتيجة مبنيا على وهم او جهل مطبق...".
من دراسة نص هذه المادة يظهر لنا ان قانون العقوبات العراقي قد تبنى في العقاب على الجريمة المستحيلة المذهب القائل بالعقاب على الجريمة المستحيلة بصورة مطلقة، عدا بعض الحالات بعقاب الشروع، وهذا هو الرأي الذي تبناه اصحاب المذهب الشخصي.
والحق ان هذا الاتجاه يضمن حماية مصالح المجتمع العليا في الأمن والسكينة والحرية والنظام بعقابة على جميع صور الجريمة المستحيلة بعقوبة الشروع عدا الجريمة الوهمية.
ويراد بالجريمة الوهمية، الجريمة التي لا وجود لها الا في ذهن الجاني وتصوره ومخيلته خطأ.
كحالة الاعمى الذي يغتصب امرأة ظانا انها اجنبية فاذا هي زوجته وحالة من يحاول قتل آخر بالسحر والقراءة الغيبية وحالة من يسرق مالا ويظهر انه مملوكا له.